تكريمات

قراءات نقدية: الشعر خارطة الجمر والوفاء

 (بعد) مجال واضح من التفرد الذي يبتغيه الشاعر من نصه الشعري، والعنوان هو إقليم المواجهة الأول للداخل صوب جغرافية الشعر الجميل والحقيقي والرائد في حدود الرغبة في أن يكون كذلك.

الخارطة في عوالم النفس رمز لتنوع المتاهات، وهي علامة على الدال والمدلول الشعري، أليس النص في وحدته الأثيرة جزرا ومدنا و انهارا وبحارا ؟ وبالتالي جمرا ووفاء، والخارطة في إشكاليتها الأخرى حدود وموانع وجوازات سفر ورغبة في مستويات الأرض أو الروح، والشاعرة تريد الخارطة بعد امتلاك النفس، وهي في كل هذا التماهي تحاول إثارة كوامن الروح ولواعجها القائمة خلف لغة النص، والنص لم يُكتب بعد، ووفاء عبد الرزاق تطلق - على حد تعبير كوليرج - روح الإنسان فينا بقوة كاشفة عن قوة متوازنة في اشتراطات الصفات المتنافرة، وحين ذاك يتحول الوجود إلى أسئلة محيرة ..؟!

 أهرب ممن ؟

من هيئة البحر؟

من مثلث المعصية ؟

البيت، المدرسة، الدولة

 

هذا النص يدمي القلب، ويُمطر الذاكرة بدموع كل الأجيال التي مرت مسرعة، حاملة همومها الأزلية صوب الفاجعة واللاشيء، والهروب ممن؟ من لغة غادرتها الروح والحماسة ؟ أم من زمن هو في نهايته باطل وقبض ريح ؟ الهروب من أصابعنا التي شهدت ولادة أول الخطايا ؟

 

يرافقني نقصي

يتبرج زهوي فيك

وأنت تصوب ذاكرتك نحوي

ولساني مقطوع من ألف سنة

 

الجمر والوفاء وتاريخها السري، وتاريخنا العلني، يفضحون مصادرة الحرية من إنساننا، حتي ضاعت من قواميس اللغة لدينا، حدود الحلم والحرية والقدرة على إيصال المعنى واللامعنى إلى الآخرين .. تاريخنا نفق مظلم، الإنسان فيه مسلوب المعنى والجرأة والرغبات والإرادة، واللسان فينا رمز لتطور البيولوجيا ومصادرة الفكرة، وضياع الحب وسط زخات الرصاص، ونصال السيوف في بداياتها الأولى، وحين يغيب الحب، تغادرنا قوافل الحزانى والثكالى، لتذكرنا – أبدا- بجمر الخسارة وحضور الموت على وجه السرعة، وتلك مفارقة يقدمها لنا جابر عصفور في رؤاه لعالمنا الرحيب والصغير في خارطة الضياع، مثل محطات السفر وغربة الروح، والشاعرة هنا تعرض تجربتها المألوفة في نص غير مألوف، وهذا يعزز قناعة الآخرين بها .  

 

حينما تبرد نحلة خرساء

تحوم حول كأسي وردة

يخرس النهر في يوم ماطر

وتلتصق بانزلاق الوقت

جامحة الزفير

فهلا انتبهت إليها ؟

ايها الضوء

قم ضد الرجاء

 

هذا النص (ضد الرجاء) يقدم جملة اعتبارات، ولا يُقدم بنفس سهولة نصوص كثيرة، تنقذف كل ساعة على عيون قارئنا ولا تتركها إلا وهي متخمة بصحارى حارة من المصطلحات والشعارات والمفردات الميتة قبل ولادتها، لكننا في نص كهذا نفاجأ بمواجهة صعبة من شعر يحفر تجربته المتمردة والمقترنة بالجرأة، ولتؤكد الشاعرة من جديد قدرتها على نقل تجربتها هذه من الخاص إلى العام، دون ان يفقد كلاهما نواميس التفرد والقوة، وننتقل معها بعد ذلك من زمن حاضر إلى مستقبل، بعد ان تم فهم معطيات الماضي بعيدا عن (الماضوية ، وهنالك فرق كبير بين ان نكتب عن الماضي ليعمق الحاضر، وبين ان يشكل هذا الماضي عبئا على أقاليم الحاضر ومناخات القادم من الأيام .

 

(فضاء مسموح)

 ذات مساء

حزمت متاع العاشرة

وتجمعت كخيط الضوء بشمعة

غمزت شتائي وتوحدت

كي انشق وجوها

فمحوت فضائي، رسمت

فتشت عني بذاتي

 

هنا ومن خلال هذا النص، تحاول الشاعرة إعطاء البعد الرمزي لنصها أكثر من قيامها بعملية التعبئة الظاهرية لمفرداتها، ويتجسد مفهوم التعبئة من خلال لغة شعرية توحي بقيمة الإنسان في تفجره واندفاعه واختلافه مع الآخر، ولكل إنسان / نص متوهج وتفرد وتغاير (ادونيس / الشعرية العربية ص31).

ولما كانت اللغة سابقة على الفكر، وذلك لان اللغة تمتلك بعدا صوتيا وشكلا موسيقيا جماعيا، ومن هنا كان لها تاريخ ماضوي يمارس سطوته على الشاعر من خلال جملة معايير من اهمها : - 

 

1-   صياغة مفرداتية .

2-  قوة السبك.

3-  هكيلية بناء النص.

4-  قوة الإيحاء.

 

والنص / الاستحالة عند وفاء عبد الرزاق، لم يكتسب شكله الخارجي، بل هي أودعت أحاساسيها عند النظام اللغوي - سالف الذكر - لكنها تعاشره في كل نص تكتبه، وهنا يمكن القول بان اللغة وعاء استدعائي لجملة معطيات منها:-

- هموم الفكرة

- قوانين اللغة

- لعبة الشعر، التي تستوعب التجربة الإنسانية عموما، وتجربة الشاعر خصوصا في الغربة والاغتراب، العشق، الأنا الضائعة، المرأة، ظلال القصائد التي تنوء تحتها روح الشاعرة الحائرة في حبها، غربتها، ولعها بالأشياء الأثيرة على روحها، الطفولة والمنافي والوطن مثل صفاء عيون أمنا الحانية يسافر معنا إلى نهاية المطاف / نهاية العمر .

 

 (خارطة)

 لأني قريبة من راحتيك

لملمت احتراقي

وابتسمت سيدة للفرح

بيني وبينك تورد الفصول

وخطوط الحزن في شمس الحقول

 

النص هنا يحير متلقية، وتلك الحيرة تستند على معرفة واسعة بالحياة والآخرين، ولان المعرفة تنتج إشكالها القلقة وتلك وظيفتها الرائقة، أليس المعرفة سفيرة للأحزان في تفسير رامبو الاعجازي ؟ وجمرة وفاء عبد الرزاق متوقدة بتوهج يقودنا من الماضي الى المستقبل .

 

وحين نقرأ ونحاكم النص، نجدها – الشاعرة - تسافر في متاهة الاسطورة، وهاجسها ليس في الجسد فقط ، وانما في دوامة التيه في أقاليم الروح، والروح عندي اكبر القارات وأكثرها احتفالا بالمناخات، وهي واحدة في سلة الأكاديميا، الا انها  لذيذة في بلادنا، والشعر هو احدى الطرق التي تفسر معنى الحياة حين يقول شيئا شيقا، وهذا انجاز مهم قدمته وفاء عبد الرزاق لقارئها، لان شعرها أثار فينا الكوامن في عملية الكشف للعالم، اضافة الى انه كشف عن خزين معرفي مهم من خلال أصالة رائدة ونظرة عميقة لما حولها والعالم .

 

(حكاية)

 سألت الذاكرة

عن نهر يهذي

ونورسة العاشرة

أهذه حيرة قلبي ترحل ؟

أم رائحة المطر تلبست غصة بابي؟

........

إن الفراغ فضاء الروح

 

النص محكوم باعتبارات جاهزة سلفا، ولكنها اعتبارات قد تغادر منصاتها في بعض الأحيان بحثا عن قارة جديدة من القناعات الأخرى، يكون الاحتمال في جاهزيتها لحزمة احكام مثارا للتوتر النفسي الذي يصاحب عملية إصدار تلك التقييمات في مرحلة لاحقة، وينبري الاستطراد ما بين مبدع النص / وفاء عبد الرزاق وبين القارىء الذي تحوله صاحبة النص الى شاعر وقت قراءة نصها المنطوي على جملة مستويات الاقتران في :-

1- البعد الرمزي للاشياء ومنها الانسان،الليل، الحب، الوطن .

2- رمزية الشوق الى الابدية .

3- لقاء الذكرى بالنسيان كمسرح لبدء الحياة ونهاية الانسان .

 

ايمم وجهي لزهرة

مر عليها اربعون

يهدمني معول يحتفي بمدينة

لا النشيد يسقط في حنجرتي

ولا النواحي التي هبطت على قدمي

تصبح مدينة

وفي ضاحية الحلم

وجهك

وزنبقة الاماني

خارطة عاشقة       

 

وتعود بنا معاناة النص الى الخارطة في معادلها الموضوعي الداخلي، ليكون مستوى الاداء الشعري عندهما – دالة - ذات ايحاءات جمة وغير محددة، ورؤية آلام الماضي بعيون، وخارطة الحاضر بمفاتيح شديدة التشابه، لكن لكل منها قفل خاص بها، اي اننا جميعنا بشر بمشاعر مشتركة وعواطف متناظرة، الا اننا على مستوى الشخوص، قارات متفردة، منها القطبي ومنها المعتدل ومنها القائظ والشديد الحرارة، وكذلك التجارب الشعرية، فلكل واحد منا مفتاحه الاثير ، فوفاء عبد الرزاق تكتب قصيدة الانسان في كل زمان ومكان، ولا تنسى نفسها وتجاربها وهي لا تبالي بالداهم من المواجهات، بقدر ما تكون سعيدة، لان الشعر يقدم وهجه وسط ركامات الموت، والإنسان في موقف حائر يتخطفه المصير المجهول، ومع كل هذه المكابدات نجد الشاعرة بنصها الريادي الأصيل يقف روحا ونبعا للآخرين .   

 

(ليس لي)

 هذه الكتف ليست لي

وهذه الكف تغمر قداسة الطفولة بالدخان

صعب دحرجة الدمع على سفوح الكهولة

وبحيرة الفضة

تغتال الهواء وتنحني

مناجم الصبر 

طلقة الترقب

هذه المتسلحة بلؤلؤتي

ترتد لي

 

ليس لها نص مفتوح عن الابعاد الثلاثة للزمان والمكان والأنا، لهذا ليس بمقدور القارىء ان يرفع مفردة ليحل بدلها مفردة اخرى، انه بناء هندسي متكامل الابعاد مثل بقية النصوص، فالتجربة عميقة واللغة متجانسة والاستعارة مهيأة لأن تكسر رقبة اللغة في حال تمرد الاخيرة عليها، والفعل متواتر من درجات الايحاء حتى اقصى مدائن الحلم، الدحرجة، الاغتيال، الارتداد، الرقص، حصارات التراب الذي يحاصرنا منذ بدء الخليقة حتى الرجعة الاخيرة، وكلنا للتراب عائدون، ونواح الرجال يفض بكارة الغفلة والحلم الذي لا يتبقى على شرفا ت العيون، الليل، الطفولة، وفي اعماق كل شاعر يقبع طفل، ومن منا لا يمتلك طفلة القابع في مغاليق كهف الضجر الانساني ؟ الغربة والغريب منا (من لاحبيب له) على حد قول فرقد السبخي في عرفانية الاغتراب، والحب نقيض الغربة، فالليل عند وفاء عبد الرزاق مسارات عدة .

1- مساحة اللاوعي، وفيه الليل كئيب .

2- وجه آخر للأنا، وفيه الليل وسيط .

3- وجه الايحاء الجمعي، وفيه الليل جميل .

 

تلك مفارقات صادمة للقارىء، فهو يتساءل عن أي ليل نستنشق مفرداته ؟ وعلى ميناء اي ليل ترسو سفائننا ؟ اين يقف مجازنا الذهني اسلوبا شعريا، وخطابا في ظاهرية عالية الجودة والاداء الرائع ؟ تاريخ المكان هو تاريخ الانسان بما يختزنه من تجارب وارهاصات وحركة، فالمكان احتواء مكثف للزمان وذاكرته، ونحن نصوص منذورة للذاكرة عند الشاعر (بورخس) وهنا يقفز النسيان معادلاً موضوعياً للذاكرة، والإنسان في بحثه الدائب مجبر على التذكر .

 

(أسطورة العشق)

 

قبل أن تنشطر المياه من نطفتها

كان وجهك يبتكر الزمان

يخصب قلبي

ويرتفع منزلا للفقراء

وعلى عتبة دارهم يفرش راحة يد

قبل ان تترنح السماوات ناضجة

تفتح ثغرك لي وهدأ الخائفون

اليوم

اناجيك من منبعي

 

تبقى البشرية في جوعها الازلي للرغبة والجنس باحثة عن مساحات الامان وليل الهدوء، وقمر الاحبة المسافر الى غابات الانا – الأنت – الاخر والحدس الموجع . والناس عند وفاء عبد الرزاق، استعارات، مكابدات ، فزع من خوف كامن خلف أسوار الوهن والاحباط ، والقصيدة التي لم تولد بعد، والاجمل من الاطفال الذي لم يولد بعد ايضا، والخبز المعجون بالرماد .

اخيرا أود القول، ان المنجز الابداعي عند وفاء عبد الرزاق رصين ومثابر يستحق الثناء وسط الركام من الكتابات، التي استسهلت وظائفية الشعر ومخاطبة الاخر بنص غير متكامل وناقص التجربة، ومبتور الوعي، وبالشعر الجيد تسعد البشرية .

فالشاعرة تؤسس نصا مستقبليا راسخا في مقاربة شديدة التكثيف، ووجود بعدين اصيلين هما النص وعلامة النص، وهي تنبري لمواضيع غاية في الخطورة وتلك مخاطرة لم يقترب منها الا القلائل في كتابة الشعر .

إن النص في مجموعة (امنحني نفسي والخارطة) يتلازم وبقوة مع المعنى، من دون تكلف مع جرأة تجسدها الموهبة، ولغة بارعة وقدرة في الافادة من مزايا البلاغة اللغوية وطاقة المفردة في ثلاثيتها المهمة ، الدال والمدلول والعلاقة بينهما، وكذلك أبعاد النص، التي يتميز بها شعرها .

 

المجموعة الشعرية (امنحني نفسي والخارطة)

للشاعرة والروائية المغتربة وفاء عبد الرزاق

اصدار القاهرة / 2010

دار الكلمة نغم للنشر والتوزيع

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

 

في المثقف اليوم