تكريمات

قراءات تنقدية: لا اعرف إذا ما ... نقطة .. من وحي المجموعة القصصية "نقط" لوفاء عبد الرزاق

حتى قبل أن يعرفوا مظهره، ولذا تجدهم قادرون على عرك جذور الإبداع وصولا إلى فهم من نمط محاكاتي للنص يمتص منه رحيقه ويحوله إلى عسل من كلمات أو إبر وخز مؤلمات، ليس تبعا لنمط النص أو جماليته أو حبكة لغته أو مضمونه أو قدرة تأثيره على المتلقي فحسب، وإنما تبعا للحالة النفسية التي كان عليها الأديب ساعة كتابته لنصه كذلك، وتبعا إلى نوع العلاقة التي أنشأها الأديب مع قاريء النص ومتلقيه، فالمعادلة لا تكتمل إلا بتوافر هذه الأركان كلها وألا ستبقى ناقصة ، بدون نقط، أو ليست عميقة الجذور، وإذا لم ينغرز الجذر في عمق المعاناة يتحول النص إلى ريشة تتقاذفها الرياح العاتيات بدون رحمة.

مزالق وتعرجات كثيرة ترفع وتخفض الكاتب والناقد والقاريء وهم يحثون السير في طريق الفهم في جنة أو صحراء النص، أملا بالوصول إلى باب مخرج المتاهة، وفي هذه الرحلة الفكرية مزالق كثيرة تبعث بعضها المتعة في النفس وتنتشي الجوارح عند المرور بها، وفيها أيضا سكاكين حادة تعترض طريق السائرين فتدمي فكرهم وتستنزف قواهم، تجردهم من معناهم، تمتصهم، تعصرهم، تصادرهم أيضا، وتستبيح وجودهم بالكامل، فتجردهم منهم!

 أنا (المتلقي المستقل) لا أعدو كوني كيانا مبهم الملامح مجهول السحنة مشتت الفكر، يتمطى كسلا في أروقة النص بروح لا أبالية أو قليلة الاهتمام،سالب التأثير، ما دمت أقف بين الاثنين (الكاتب والناقد) وأؤشر بكلتا يدي إلى كلا الجهتين في وقت أنظر به إلى الخلف بعينين غائرتين مثل عيون الخفافيش في النهار، فأبدو وكأني ممزق العواطف، بل أبدو كالأبله، أو كمن يجالس قوما يتحدثون بلغة لا يعرفها، وفي أحسن الأحوال أبدو كشاخص تهديف صنع لتلقي الإطلاقات وتحديد الهدف وتصحيح مسارات الرمي، يلقى به في مخزن الخردة بعد انتهاء العرض، فينسى ولا يعد هناك من يتذكره!

لكن إذا وضعت النقاط وبرزت الأحرف بكامل أبهتها ورونق صورتها، وتحدثت بما أفهمه وأجيد التحدث عنه، والحديث به، فلا يدانيني أحد من هؤلاء لأن الحقيقة حينها ترتسم أمام ناظري مثل قرص شمس تموزية في قيض صحراوي ملتهب، يستفز في داخلي كل الهوس البدوي الذي أحمله إرثا غائرا في عمق التاريخ، متجذرا في عمق الحياة، وحينها أترع من كأسي بأمان، بنشوة المنتصر بعد طول هزائم، فما أصعب أن يجلس المرء منزويا وهو يرى كأسه فارغا ينهار قدامه، ويده لا تصل إليه!

تأتي النقاط لتعطيني حرية التوصيف ببذخ لم أكن أحلم به

صحيح أن النقط لا تضيف للمسدس أو للسم  شيئا ولكنها بالتأكيد تترجم قدرة هذين الجبارين على الفتك والذبح والموت والتفخيخ والتهجير، فهذه المسميات ما كانت لتعرف لو  تعرت عن نقطها، بخلاف مسميات الموت تلك التي صنعها الإنسان بدون نقط، ربما لأنها استفزت عنفوان هواجسه وخوفه فأراد تجريدها من أبهة النقط لينتقم منها!

النقطة هودج سفر في صحراء بحر لجب يمتطيها الكاتب بحثا عن ساحل يجد فوق رماله الأمان.

النقطة قاموس بلا كلمات لا تصلح الكلمات بدون محتواه.

النقطة جرس يدق فوق رأس الضمير ليوقضه من غفوته، ليعيد إليه الحياة، ويترجم له معنى الوجود، معنى أن يكون نقطة!

النقطة . . . . نقطة .... مجرد نقطة

 ولكنها لا كما يفسر الماء بعد الجهد بالماء

النقطة مفازة يلبد الموت في بوهيميتها، ويلعلع صوت الحياة في كينونتها، فينتشي الوجود من عبقها، وتتنسم الحرية أريجها، وتتكسر قيود الفكر، وتذوب الثلوج المترسبة حوله فيشعر بالدفء .ز دفء أن يكون حيا.

النقطة انعتاق . . تحرر . . تجبر .. صرخة، وأي صرخة.

النقطة صراع التاريخ مع التاريخ . . صراع النفس مع النفس . . . . مع الأنفس والثمرات، فالثمرات لولا النقطة ما طابت روائحها ولا لذت مآكلها.

النقطة صمت المجهول .. المعلوم .. الموت .. الحياة .. الأمل .. الأمس .. الغد .. البعث .. النشور .. الأنا واللاأنا أيضا !

أما أولئك الذين لا يعرفون معنى النقطة .. الذين صمتوا ولم يخرجوا نقطهم

وحدي استمع لصمتهم

وحدي أفهم ما لم يتكلمون به

وحدي أعرف .. أعرف أنهم

لا يجيدون استخدام النقط

 ولذا بدت حياتهم عارية

 من الحياة لأنها بدون نقطة!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1570 الأثنين 08 /11 /2010)

 

في المثقف اليوم