تكريمات

قراءات نقدية: وفاء عبد الرزاق .. للشعر الحقيقي سبعة أرواح

 كـُلُّ شيءٍ يصبح طفلاً

حتى الأطياف الراحلة

تفرد أُمّي ذراعيها

يَخرجُ وجهي منْ جـيبِ قلبـِها

ليسبقني إلى العتبة

لكنّ الرصاصةَ تفتح عالمَ الحبر .- - قصيدة "البحر ليس طفلا " 

 

فور قراءتي لعنوان ديوان الشاعرة "وفاء عبد الرزاق": "من مذكرات طفل الحرب " قفزت أمام عيني فورا صورة الطفل العراقي المغدور " علي " الذي يمثل خلاصة فاجعة العراق التي سببها الخنازير الغزاة والذي أرفق صورته مع هذه المقالة وكنت أتمنى على وفاء أن تكون صورته غلافا للديوان، هذا الطفل البائس قطع الغزاة ذراعيه وقتلوا كل أفراد عائلته ؛ أمه وأباه وأخوته، ثم ركبوا له ذراعين معدنيتين في أرقى مستشفيات الكويت ثم وجدوا له أبا بريطانيا يقال أنه يتاجر بمأساته الآن .. وهكذا خططوا للعراق .. يقطعوا ذراعيه مثل العباس عليه السلام ويغربوه عن ذاته ثم يجدوا له طبيعة "عائلية" هجينة ومشوهة جديدة . وقصائد هذا الديوان تعبّر عن روح وطنية غيور من جانب وعن إيمان راسخ بدور المبدع في الشهادة على وقائع تأريخ مخاتل يزوّر بلا رحمة لبلاد تمزق شر ممزق من جانب آخر . ولعل أخطر قطاع من قطاعات الشعب العراقي عانى من عواصف الخراب الشامل هو قطاع الأطفال . لقد أصابهم اليتم .. مزّقوا عائلاتهم بمخالب الثكل .. جعلوهم شهودا على الموت ؛ موت أقرانهم خصوصا، لا شهودا على البراءة والبياض :

   

أكتبُ بأصابعي

عن مدرسةٍ تعرّت للهواء

وانتقي من النجوم امرأة ًواحدة ً

تتـّسعُ لـِمناخِ استهزائي ببطاقةٍ رعناء

مخدعُها جيبُ أ بي الـَّذي كساني بالجراح

كما كسته الحروق

هلْ سبقَ انْ شبعتم بـِدُخـانٍ

أو رقصتم على قفزاتِ الشظايا ؟

هكذا رقصت زينبُ بنت جارنا

وأهدتني عينـَها الممتلئة بالدخان لأشبع- قصيدة " امرأة واحدة لا تكفي " . .

وبدلا من أن يصحو الطفل العراقي على هدهدات الأمومة الحانية .. على أصوات الطمأنينة والأمان .. صار يفتح عينيه على زعقات اليتم والخسران .. مخلوعا من رحم طفولته الفردوسي ومرميا في عوالم الدخان والخراب والخسارات تنهش لحمه الحي وتسحق وجوده الهش أصلا .. حتى دمى الطفولة .. الحلوى .. الهدايا التي يتنعم بها أطفال الغزاة حرم منها الطفل العراقي .. تذكروا أن الأمريكان قتلوا بالحصار مليون طفل عراقي .. والآن يريدون بناء مستقبل سعيد لهم :

 ضيّقٌ ولئيمٌ

هذا الذي يُدعى الفضاء

الذي يلتهم قطعَ ا لحلوى

لم يدرِِ بأنـّي ضَممتُ يدي

حتى أدميتُ قبْضتـَها

وأنا أتخيـّلُ

أن الخشبَ المغروسَ في راحتها

قطعة ُ حلوى

سأغمِضُ عيني لأتخيـّلَ

أن الجـُرذ المتهوّر

أخي الصغير

يالفظاعةِ الفضاء

الفضاءاتُ السود لم تترك

للزنابقِ رغبة أن يـُطاردها أخ

كي تتفتّح -صيدة "أغنية البرتقال" .

جعلوا العالم المحيط بالطفل معاديا تماما .. خرابا مختنقا بأنفاس الدمار السود .. في العادة نعتقد أن عالم الطفولة هو عالم ملائكة .. ونصف الأطفال بأنهم ملائكة الله على أرضه .. ومرجع كل ذلك إلى براءتهم وصفاء سرائرهم .. فماذا يتبقى عندما نخلع من الطفولة براءتها ؟ وأي امتياز يبقى لها؟:

 

الفضلُ للبساتين

المـُطرقةِ الرؤوس

وللأشجارِ التي نـَسِيـَتْ الكلام

بعيداً بعيداً

العيون الراحلة

لنوارسَ أكـَلـَتْها الكواسج

بعيداً بعيداً

بعيدا ًبراءتي

كطفلٍ بلا أذرع

رحـَلـَتْ

تلوّحُ لي بالصمت –قصيدة "أغنية البرتقال" .

ولعل أخطر المضاعفات النفسية والاجتماعية المدمرة التي يمكن أن تصيب أي طفل هو أن ينفض يديه من الحياة .. من الآخرين .. من المستقبل .. والأشد هولا هو أن ينفض يديه من رحمة السماء .. وكلاسيكيا يرسم الأطفال دائما كملائكة صغار تتجه أنظارهم نحو السماء .. فما الذي فعله بهم تجار الحروب بحيث جعلوهم ييأسون حتى من الله :

أُعطي نفسي طينها

أنفخ ُفيها صورتكَ

كي تـُحاذرني الدبـَّابات

718ألقتلُ يصرخ

والدبـَّاباتُ كلام

ماذا أقول حين تمحوني أنت؟

أفتحُ صدري أدعو مياهكَ

فيفقس بعوضُ الدبـَّابات

دون حذر يحصدك

ربّاه

حين صلـّى الموتُ لآلات الحرب

خشيتُ عليكَ

خشيتُ ان يَلبسكَ قبـَّعة ً

ويقولُ اهتد يت

كلّ شيء لا محالة زائلٌ

ربّي هل منحتَ الموتَ ألوهيتك؟

فظيع أن يشعر طفل ما، وفي أي مكان أن الموت هو الحي الذي لا يموت .. وهذه القناعة هي النتيجة النهائية التي توصلنا إليها غولة الحرب .. الحرب تحول الموت إلى شيء مصنّع تشكله يد الإنسان بعد أن كان قدرا مرسوما من الله :

رصاصٌ

ورصاصٌ بصحن ِ رصاص

مـُثقلٌ بقـناديل الخلاص

خُـذ صحنكَ الرصينَ

يا عليّ

وغـُص بتواضع

بتواضع ٍ يا علي

كيْ لا يباتَ الرفضُ جامحاً .- قصيدة " باتجاه الله " .

وكما توقعنا ورغم أصوات البعض الناشزة التي تنادي بإحراق أدب الحرب، فإن النص العراقي سيبقى، لدى المبدعين الأصلاء أمثال وفاء، متسربلا بسواد الثكلان .. وتزخر لغته، ولزمن طويل بمفردات الحرب والموت . في نصوص وفاء هذه تتكرر مفردات : الرصاص، القنبلة، الألغام، الطائرات، القصف، الدبابات، الجراح، الدناء، العكازات، الأطراف المبتورة، الأشلاء، الجثث، الجماجم، التوابيت .. وغيرها :

إجهرْ

قّذيفتكَ نذيرٌ

قالت الأشجارُ كفرتَ

قال النخلُ

وسمّيت نفسكَ إلهاً؟

بل صوّرتني كما قال على صورته

وقلتُ اعطني يديكَ

كنتُ على يقين بأنـّي قِبلة ُالقنابل ِ

وأنّ الإله الصغير

يسبّح بالشظايا

وحين يستنفد

أشلاءً قطرات

ألعاباً قطرات

مطرَ أصابع

تسجدُ الحربُ لإلهٍ قتيل .- قصيدة " صلاة الموت " .

المؤسف أن عددا لا يستهان به من المبدعين العراقيين – ومنهم مبدعون كبار – صمتوا أما الشدة الفاجعة التي تجتاح بلدهم او أنهم يسمّون كارثة الإحتلال – ويا للخيبة – تغييرا .. ناسين أن المبدع في كل زمان ومكان مع التراب ومنه .. تراب الأوطان الطهور .. وأن الشعر دائما وأبدا هو عدوّ المحتلين والغزاة والذئاب الخنازير التي تنهش أحلام الطفولة .. وأن الشاعر مع الطفولة المغدورة .. هو الشاهد على أحلامها وبراءتها المهدورة .. و " المؤرخ " الذي يسجل مذكرات حيواتها السود . لنذكر هؤلاء بما قاله (بابلو نيرودا) :

(إن المشعلين، والحربيين، والذئاب، يبحثون عن الشاعر، لحرقه، لقتله، لعضّه . عربيد يجيد الضرب بالسيف ترك (بوشكين) جريحا جرح موت بين أشجار غابة مظلمة . أحصنة عدت محمومة فوق جثة ( بيتوفي ) – شاعر من هنغاريا -، مصارعا ضد الحرب مات بايرون في اليونان، الفاشيون الأسبان بدأوا الحرب في اسبانيا باغتيال أحسن شعرائها ... لكن الشعر لم يمت . إن للشعر لأرواح القطة السبع . قد يزعجونه، قد يجرجرونه، قد ينفونه، قد يحبسونه، قد يفرغون فيه أربع طلقات، لكن الشعر يخرج من هذه الحوادث العرضية بوجه نقي وبابتسامة من أرز) .

و"مذكرات طفل الحرب " هو واحدة من تلك الأرواح السبعة المقاومة التي يتحلى بها الشعر ..

تحية للشاعرة " وفاء عبد الرزاق " ..

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1588 الجمعة 26 /11 /2010)

 

 

في المثقف اليوم