تكريمات

قراءات نقدية: المغامرة السردية وأزمة الوعي بالحرية .. قراءة في رواية (أقصى الجنون ... الفراغ يهذي) لـ وفاء عبد الرزاق

تيار الرواية العربية الجديدة التي استعارت تقنيات ووسائل مختلفة ومتباينة للتعبير عن قضايا وإشكاليات ومسائل مختلفة، فالرواية العربية الجديدة أعادت تشكيل أدواتها لتعيد في الوقت نفسه صياغة الوعي السائد المعبر عن قضايا تمس الإنسان والمجتمع من جهة والفن من جهة أخرى، فالرواية الجديدة (تعبير فني عن حدة الأزمات  المصيرية التي تواجه الإنسان، فالذات المبدعة تحس غموضا يعتري حركة الواقع ومجراها، كما تشعر بأن الذات الإنسانية مهددة بالذوبان أو التلاشي . وفي ظل تفتت القيم واهتزاز الثوابت وتمزق المبادئ والمقولات وتشتت الذات الجماعية وحيرة الذات الفردية وغموض الزمن الراهن والآتي وتشظي المنطق المألوف والمعتاد، في ظل هذا كله تصبح جماليات الرواية وأدواتها غير ناجحة في تفسير الواقع وتحليله وفهمه، وعاجزة عن التعبير عنه، وتصبح الحاجة ماسة إلى فعل إبداعي يعيد النظر في كل شيء، ويدعو إلى قراءة مشكلات العصر قراءة جديدة . ولهذا كله تسعى الرواية الجديدة إلى تأسيس ذائقة جديدة أو وعي جمالي جديد) (1) .

وتبرز السمة الثانية في هذا النص الروائي وهي اعتماد الرواية بالكامل على مجموعة من أنماط التعبير الفني التي تؤسس للشكل والدلالة، يقف في مقدمتها الاندماج والتداخل (وربما الاحتراب) بين السردي والشعري، ومن ثم شعرية العنونة، والجمل الافتتاحية ذات الطابع الشعري التي صدرت بها فصول الرواية، والطابع الرسائلي (من جهة واحدة) المتمثل بالطاقة التعبيرية العاطفية الإيحائية، والبنية الزمنية المتشظية التي تجسد رحلة غير متسلسلة من الموت والقمع إلى الوحدة والعزلة والغربة حيث فضاءات الحرية الكاذبة . فضلا عن الأجواء الغرائبية والعجائبية التي وسمت الرواية بسمتها، وتعدد الأمكنة وتنوعها، وبروز شخصية الأنثى وامتداداتها الواقعية والتاريخية والأسطورية والدينية.

2-

إلا أن القضية الأساسية التي تشتغل عليها الرواية على وفق رؤية فنية محكومة بالنأي عن تقنيات الرواية التقليدية والتشبث بالوسائل الحداثية المتعددة هي أزمة التعبير عن الحرية المفقودة ضمن جدلية جماليات الرواية وتشكلات الوعي (الفني والأيديولوجي) . فقد حاولت (المؤلفة الأنثى) أن تبرز هذه القضية المفصلية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر من دون ان يثقل النص الفني (الروائي) بالمقولات الفكرية والأيديولوجية وبما يضمن للسرد الحيوية في التدفق عبر التوفيق بين السردية والغنائية.

3-

والحرية مفهوم واسع وكثير التحديدات على وفق الرؤية التي تتعامل معه، فالحرية بوجه عام (حال الكائن الحي الذي لا يخضع لقهر أو غلبة طبقا لطبيعته وإرادته) (2) .

وترتبط الحرية بالإرادة وهي التي تميز الكائن الإنساني من حيث هو كائن عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو، وهي بذلك انعدام القسر الخارجي(3).

والحرية (حالة يكون فيها الإنسان قادرا على مزاولة إرادته في الفعل أو عدم الفعل من دون ضغوط خارجية (جسدية) أو داخلية (نفسية) تحد من تلك الإرادة. ولهذا فقد رأى بعضهم أن للحرية جانبين : احدهما سلبي يشير إلى غياب العوائق والحواجز والضغوط التي تمنع الفرد من ممارسة إرادته، وهذا الجانب فردي. والآخر إيحائي يتعلق بإمكانية الفعل بحيث يتحكم الفرد في حياته أو يحقق أغراضه، وهذا الجانب جماعي، أي يتوافر لكل أفراد الجماعة) (4).

ومن المؤكد ان الحديث عن أزمة التعبير عن الحرية والوعي بها يفترض جدلا المرور على مسألة أساسية وإشكالية شائكة في الخطاب الروائي العربي، وهي القمع وانتهاك الحقوق الإنسانية . وهذه الثنائية المتلازمة هي من حاولت المؤلفة أثارتها في نصها الروائي قيد الدراسة.

 

?المغامرة السردية وشعرية الخطاب الروائي:

تميل (وفاء عبد الرزاق) وهي تعالج ثيمات القمع والحرية والغربة والاغتراب والهجرة القسرية عن الوطن إلى توظيف الشعري في السردي عبر الاستخدام الخاص للغة ذات المفردات الإيحائية العالية، ويمتاز هذا التوظيف بأنه يشكل سمة غالبة تطبع النص الروائي بأكمله بدءا من العتبات (العنوان/ الإهداء/المفتاح/ مقدمات الفصول) وصولا إلى البنية السردية المتكاملة.

(أقصى الجنون ..الفراغ يهذي) بنية لغوية أولية ترصد تحولا في طبيعة وإستراتيجية تشكيل العنوان المبنية على أقصى مراتب الغموض والإثارة على مستويات البنية والدلالة والمجاز(5) . ودلالية العنوان تنبع من كونه يمثل أعلى اقتصاد لغوي يقابل أعلى فعالية تلقٍ ممكنة (6) .

وشعرية العنوان في رواية (وفاء عبد الرزاق) واضحة وجلية في التركيب اللغوي الذي يأخذ شكل المقطوعات الشعرية القصيرة، لكن أهميته لا تكمن في ذلك فحسب، بل في العلاقة الجدلية بين العنوان ومتن الرواية، مما يجعل من العنوان بنية لغوية اختزالية تكثف المقولات الكبرى التي ينهض عليها النص الروائي ويمكن ملاحظة ذلك في خاتمة الرواية وفي المقتبس الآتي (ليس سوى الدم اليابس في العروق، وامرأتان تعدوان بسرعة مبهمة.الشمس قبرة عمياء..بعثرت بقية الرسائل في الهواء وبيدي خرساء لا اعرفها. كان الوقت ظهرا، وأجنحة الطيور، وكنت أنا احلق في هواء لا اعرفه وبأقصى الجنون والفراغ يهذي) (7) .

العلاقة بين البنية العنوانية والبنية السردية، علاقة تلازمية في بعدها التقني، وهي علاقة متوالدة في بعدها الدلالي، فثنائية الحضور والغياب تشتغل بفعالية وهي تعبر عن الخواء الروحي والاغتراب النفسي الذي تعانيه الشخصية الرئيسة (الأنا – المتداخلة مع المؤلفة) التي تدخل في جملة من العلاقات تتسم بالصراع الذي يبدأ مع (الأنا) وينتهي بالهجرة القسرية عن الوطن. فمتوالية الصراعات الخارجية والداخلية التي تعيشها الشخصية تدفع بها إلى البحث عن فضاءات تعيد من خلالها تقييم تجربتها ومن ثم إعادة اكتشاف الذات في رحلة البحث عن الحرية . تصدر الرواية بـ (مفتاح) اقرب إلى القصيدة ويحمل الطابع التاريخي الأسطوري الذي يختزل تاريخ القمع والاضطهاد في بلاد الرافدين ضمن متوالية زمنية تعيد إنتاج التاريخ بشكل دوري ومتكرر.

(التفاصيل تمتد منذ الألف مليون نبتة في أول حقول سومر، إلى عشتار العالم واكديات يتوالدن الألم، إلى تموزيين بعدد النخيل الشهيد في بصرة المياه والشناشيل وفتح الفتوح... والى كربلاء لا تزال، إذ تتحول العراقيات إلى زينب الأسى ولكن أيضا إلى سكينة الشموخ والتحدي .. إليهن، واليهم، وبأقصى الجنون، الفراغ يهذي) (8) .

يشتغل الخطاب المقدماتي بوصفه خطابا (نصا) موازيا يؤسس للمتن السردي ويعمل على تكثيف مقولاته ضمن طاقة تعبيرية إيحائية تتقصد التكثيف والترميز في الآن نفسه. فـ (مفتاح) وفاء عبد الرزاق يكاد يختزل خطوط اللعبة السردية عبر قراءة شعرية لتاريخ العراق المختصر في بضعة اسطر يتعالق من خلالها المتخيل مع الواقعي وهو يكشف عن تاريخ المقموعين والمظطهدين في العراق لذلك جاء نص المقدمة مشحونا بالرموز والدلالات.

ظاهرة بارزة في رواية (أقصى الجنون الفراغ يهذي) تتعلق بتصدير فصول الرواية بمقدمة ذاتية ذات طابع شعري، وهذه المقدمة تشتغل بوصفها فرشة تمهد لأحداث الفصل وتعبر عن أفكاره الرئيسة وتختزل بعض تفاصيل لعبته السردية ولا يكاد يخلو فصل من هذه التقنية الكتابية التي تمزج بين السردي والشعري عند رسم الملامح المأساوية لطبيعة المجتمع العراقي في السنوات الأخيرة.

نقرأ في مفتتح الرواية (لا يفتتح الشرفة إلا مداها ... لا يشرب الجرح إلا مخابئه) (9) .

الجملة الشعرية الافتتاحية تؤكد على التجربة الذاتية (الفردية) التي تعيشها الشخصية (الأنثى) وصراعها مع الذوات المختلفة وصولا إلى الحرية المفترضة. فرحلة البحث عن الحرية، هي رحلة فردية في الأصل، لذلك تميل الجمل الافتتاحية الشعرية الى بيان ذلك والكشف عنه

(أنا أسطورة لاحتراق الضوء

ادخل دون باب

اخرج دون نافذة

فقط احرس قلوبكم..

اعرف انك أسطورة، أي جدتي الغالية، وروحك تطل على النهر، لذا تعلقت بك من أول يوم حكت لي أمي عنك) (10) .

تكشف العتبات الشعرية الموجهة لنص (أقصى الحنون...الفراغ يهذي) عن إستراتيجية بنائية ودلالية توجه النص الروائي في افتتاحياته وتؤكد مقولاته وتحرره من رتابة السرد الحكائي الكرونولوجي.

 

?المغامرة السردية وفنتازيا الحكي :

الفعل الفنتازي خرق وتجاوز متعمد للأنظمة المنطقية والقوانين الطبيعية (وهو ظاهرة أدبية تثير الشك في ذهن المتلقي، حول انتماء الحكاية لهذا العالم المعيش، أو عالم مغاير تماما) (11) .

ويأتي الارتكاز على الفنتازيا بوصفها رؤية فنية مركبة تتعالق مع المؤلف والنص في سياق التعبير عن (رؤية مغايرة تقدم تحولا في العلائق مع الطبيعة ومافوق الطبيعة مع الذات الخفية ومع الآخرين ومع الواقع واللاواقع .. ومثل هذا التحول على مستوى بنيات المجتمع هو الذي يبرز التحول) (12)  .

وقد يبدو التصور الأولي للفعل الفنتازي بركونه إلى اللامألوف إلا انه ومع ذلك لا ينفصم عن الواقع أبدا، فإذا كان التأثير الأولى للفنتازيا بابتعاده عن الواقع فان التأثير الأهم هو صلاته بما هو مألوف والطريقة التي تسلط بها الضوء على عدم الاستقرار والتناقض او حتى اللاعقلانية التي ينطوي عليها المألوف (13) .

تميل وفاء عبد الرزاق في روايتها إلى استثمار معطيات الفعل الفنتازي لتمرير وإبراز أكثر من قضية بنائية وفنية، لعل من أهمها قضية الهروب من الواقع وفي الوقت نفسه التعبير عن هذا الواقع على وفق تصورات جديدة وغير مألوفة.

تلتحم المغامرة السردية عند المؤلفة مع الفعل الفنتازي عبر مسربين اثنين : الأول التأكيد على انشطار الذات عند الشخصية الرئيسة التي تحمل أسماء متعددة ذات مرجعيات مختلفة، والانشطار فعل مخالف للواقع وغير مألوف ويحمل دلالات سايكولوجية تبتعد عن منطق السببية لصالح أوهام وتوهيمات وربما (حقائق) تعيشها الشخصية (تمت إجراءات الدخول بطريقة فهلوية. فقط وقفت انتظر. لم تغوني الأشياء من حولي، جمال المكان وعيون المارة، وجوازي المزور الذي نقش على صفحاته اسم لا اعرفه ولم أتطلع إليه أبدا سوى أول مرة في الظرف، فقد اخبرني السمسار الأول إلا أهتم، فهناك من يقلني من سوريا دون عناء ويوصلني إلى الطائرة، وفي كل مرة هناك من يفتح لي الأبواب كلها وكل ما علي سوى أن أضع الجواز في حقيبتي..في مراكش استلمت جوازا آخر .راودني الفضول هذه المرة في تفحصه ..كان اسمي مريم الكاظمي، ماري، وماري لا تدري أين زينب؟ وزينب بقيت في سوريا، والتي ستتوسل الأقدار التي لا اعرف اسمها، كلها أوراق تتساقط مثل الأحلام، أسمائي أوراق حيف تنتهي إلى رعب الريح،لا يدركني إلا اليابس الذي بات منتصرا علي ويفصل بين جلدي وبيني) (14) .

يرتبط الفعل الفنتازي بالفعل الذهني للشخصية التي تعيش واقعا مرا ورحلة طويلة نحو الحرية في بلاد (العربية) تشابهت الوجوه والجغرافية فيها،   لذا يبقى الحدث معلقا مابين الواقع الخارجي وذهنية الشخصية التي تعيش انشطارا على أكثر من مستوى لعل ابرز تجلياتها التعدد في الأسماء.

المسرب الثاني الذي أسهم في تشكيل وبناء الفعل الفنتازي هو الصورة العجائبية التي رسمتها المؤلفة وهي تجمع بين الشخصيات الإنسانية وفعلها الحقيقي والشخصيات الحيوانية وفعلها المبني على اللامنطق واللامألوف (ياصاحبي الر.

حي..

... ل

احتسيني.

وأنا في الطريق اليوم رأيت احد عشر ضفدعا يتهامسون، وتوهمت ان الذي يلاحقني يقول لي:

- هل أنت قوية إلى هذه الدرجة؟ هل أنت فعلا قادرة على التحدي  كنت أبصر لك فقط واسمع كلماتك ترن في أذني .

- ماينبغي أن أقوله لكم هنا في صدري، ببساطة جدا ما انتم سوى مخلفات خنازير(...)

خرجت اشتري دفتر رسائل فقد أتلفت البارحة الأوراق المتبقية في الدفتر ومزقتها، لم أكن اعرف بالطبع انك ستفاجئني عند باب الدار، رأيت الأحد عشر ضفدعا الذين تهامسوا عني مخنوقين بحبل من النايلون (...) أزحت الجثث الدبقة ودخلت، لكني صدمت حين وجدت ضفدعة بحجم الكلب متربع على الأريكة بعينيها الجاحظتين تشير لي أن اصمت) (15) .

في موازاة السرد الواقعي المعبر عن الرحلة ينبثق السرد الفنتازي  على شكل مشاهد سردية تمثل أجواء الرعب والقمع وانتهاك الخصوصية الفردية التي تعيشها الشخصية الأنثوية في بلادها او ما يشابه تلك البلاد، وتبرز شخصية الضفدع بصورة فنتازية ادهاشية وهي تقترب من فانتازيا كافكا في (المسخ) عندما يتحول الإنسان (أو فعله) إلى حيوان مقزز في صورة إيهامية/واقعية أبدعت المؤلفة في رسمها عند ربطها مع المؤسسة  السياسية والأمنية وربما الاجتماعية.

ويأخذ الفعل الفنتازي في أحيان أخرى شكل الأحلام الكابوسية عندما يعبر اللامالوف في صورة فنية عن المألوف (دمي نشيدي..

 ليس على النخيل غيره..

جدتي..

على نافذتي سمعت طرق الريح، أسرعت لإغلاقها لكني فوجئت بعصفور مقلم الجناحين، وقبل أن أغلقها تهربا من رعب المنظر اخترقت ريشة ضلفي النافذة وعاندت حتى استقرت بين حديدة النافذة ورغبة الريح بمطاردتها .

بدأت أراقبها،مددت يدي نحوها لالتقط نصفها الخارجي، لكن ما أن فتحت النافذة تلاشت، تمنيت أن يلتقطها الرصيف،أي رصيف سيكون رحيما.

لست ادري لم تحولت جدران غرفتي إلى قلامة أظافر تحاول التهام كل شيء، هشمت المرآة الصغيرة على الجدار وخربشت الصبغ الهرم، بدت جائعة لا تكتفي بوجبة واحدة، ابتلعت المسجل الصغير والشريط الذي أحب سماع أغانيه، كل ما خشيته لحظتها أن تلتهمني قبل أن أكمل رسالتي إليك) (16) .

تتبلور فعالية الفعل الفنتازي من خلال الرفض الذي يعمم أحداث الرواية المتعالقة بالشخصية الأنثوية الفاقدة لحرية الفعل والإرادة وبذلك يدمج السرد بين وصف الوقائع المألوفة من جهة واستعادة الكوابيس والأوهام من جهة ثانية على الرغم من بروز شخصية الجدة بوصفها امتدادا للأمان والوطن والحرية المفقودة.

 

?المغامرة السردية وفضاءات التخييل :

تطرح وفاء عبدالرزاق إشكالية الحرية على وفق منظور أنثوي يعيد صياغة الواقع العراقي المعاصر بطريقة فنية تستثمر معطيات متعددة وتوفق بينها، وتتجلى أكثر من ثيمة عند هذا المستوى الذي لا يهمل جماليات التخييل الفني، وعند هذا الحد تتأكد فاعلية هذه الثيمات وهي (اسطرة الجدة) و ( صورة الموت وصدى مغالبته) و(تعدد الأمكنة وتحولاتها) و(أوهام الحرية) وتتداخل هذه الثيمات وتتشابك دلالاتها في الفضاء المتخيل.

      تتأسطر شخصية الجدة منذ الصفحة الأولى للرواية، وتشغل الحيز الأكبر من اهتمام الشخصية الرئيسة وهي توجه إليها الخطاب عبر الرسائل الأحادية الجانب . ولا تبقى هذه الشخصية أسيرة الدلالات الضيقة بل تنفتح على عوالم أرحب لتتماهى صورة الجدة مع صورة الوطن بأكمله وصورة مدينة البصرة وأشجار النخيل. (لمن ذلك المقعد الخشبي ؟ أتدرين جدتي انك تشبهين الشجرة الكبيرة التي في الجهة المقابلة لبيتي ؟ ككل صباح استيقظ من نوم يشوه راحتي (...) عيناي وقعتا على طول الشجرة المنتصبة وكأنني أراها للمرة الأولى، فجأة أحسست بقلبي ينتفض بقوة حتى كاد يخرج من صدري، صوت خفي يشبه المناجاة حاصرني ومعه صوت يهمس همسا ..بعدها توالت الهمسات ... الشجرة كلها أصبحت عيونا تحدق بي.. أذهلني جمال نظراتها،ذلك الجمال الذي له رغبة الاحتضان) (17) .

ونقرأ في مقتبس آخر تأكيدا لهذه الأسطورة ومن ثم ربطها مع مرجعيات تاريخية وواقعية مع التأكيد على البعد الرمزي لهذه الشخصية((استوي على سطح يديك جدتي كقطرة ماء على حافة نهر، وأتخيل إنني اقطف ثمار التوت أو العق بـ (قارب) يعلو مع الموج، وتمر أمامي جدائلك الموشاة بالذهب فشعرك مسكون بالسواد وبالذهب. (...) ماذا تقترحين على حين ازور المتحف البريطاني واجد تمثالك هناك؟ هل يكفي ان امرر أصابعي على وجهك واصرخ أمام الحشد كله : هذه جدتي التي راسلتها) (18) .

لا تشتغل هذه الثيمة لوحدها وهي ترسم إشكالية التعبير عن الحرية والحرمان منها في الوقت نفسه، بل تتعاضد معها ثيمة تعدد الأمكنة من العراق إلى دمشق إلى مراكش وصولا الى الجنة الموعودة حيث الحرية المفترضة في بريطانيا، إلا أن الشخصية الرئيسة تبقى تعاني من عقدة المكان الأول ولا سيما (البصرة) التي تمارس سلطتها على الرغم من البعد الجغرافي الذي تعيشه الشخصية (التسكع في الطرقات المتسخة المحفورة حيث عثرة هنا ورائحة نتنة هناك يطلق الاستذكار إلى شوارع البصرة القديمة . تجولنا بأزقة ضيقة،بيوت التصقت ببعضها تراص قادني إلى استحضار العلاقات الجميلة والجيرة النقية،مما جعلني أتخيل أن الأنات كانت مشتركة والأفراح تقتسم على أفراد الشارع فردا فردا) (19) .

إن تشظي زمن الرواية وابتعادها عن الطابع الكرونولوجي دفع بها إلى التعدد في الفضاءات ومن ثم تعدد الأحداث وفي بعض الأحيان عدم ترابطها المنطقي باستثناء أنها تعبر عن قضايا مركزية تهم الإنسان العراقي المعاصر في محنته المستمرة لعل أبرزها الغربة والاغتراب الداخلي وتكرار الموت وسيادته على الحياة في مسيرة الفرد العراقي والقمع والانتهاك المتكررين لإنسانيته مما جعله يحلم بالهجرة إلى فضاءات جديدة تؤمن له العيش الكريم بعيدا عن أهله ووطنه (كانت الرحلة غيابا يخنق الصوت .. بعد أن عجزت عن معالجة ولدي في البصرة، أرشدني اغلب الأطباء للذهاب إلى بغداد، قصدت ساحة سعد ..الحافلات مزدحمة بالمسافرين والجنود والأشياء الخالية من الحياة.(...) ولدي يئن ..والصورة لا تبتعد عني فرددت :

- سيئن الماء يا أمي إن لم يكتشف همسك) (20) .

وتبقى إشكالية حدود الحرية وفوضى الحرية والاختلافات الجوهرية التي تعيشها المرأة الشرقية وهي تنتقل من أقصى تقييد الإرادة إلى الإنفلات الكامل والانقلاب الأخلاقي على مفهوم الحرية مما يسبب غربة إضافية تعيشها الشخصية على أن هناك ثلاثة حدود رئيسة لحرية الفرد:

1-   حرية الفرد تحدها حريات الآخرين .

2-   حرية الفرد في الاختيار محدودة بقدراته الذاتية، الفكرية والمادية.

3-   حرية الفرد محدودة بالأوضاع الاجتماعية والقوانين وغيرها. (21)

لذلك يمكن للقارئ أن يتابع في نص الرواية أكثر من شاهد يدل على بزوغ هذه الإشكالية ومنها (قصدت غرفتي لأجلب حقيبتي اليدوية ومعطفي. عصف بي ضجيج المترو، أصوات الناس المبهمة تتطاير متشابكة وتصدر دويا خاطفا، وصار كل ما في المكان رائحة خمر منبعثة من مخمور،تجشأ معتوه يهذي ويشير بيده كأنه يخاطب أحدا، حتى طلوع الشمس الذي غطته الغيوم لا يراهن على البزوغ .وفي هذا الخواء راحا يقبلان بعضهما، صبيان يرتديان ملابس نسائية، تشبثت بنفسي كي لا افقدها، لجأت إليها . داعب شاب شعر صبية فبدت الحرية الزائفة حمق أعمى والعفة جنة بربرية) (22) .

وبعد فلا يمكن لهذه الدراسة أن تدعي أنها أحاطت بهذه الإشكالية الكبيرة في الفكر العربي والتي وجدت صداها في الكتابات السردية وهي أزمة التعبير عن الحرية والوعي بها ولا سيما في الخطاب السردي الأنثوي الذي بالتأكيد له خصوصية في التعامل مع هذه الإشكالية، لكن حسب هذه الدراسة المحاولة في تسليط الضوء على هذه الإشكالية.

 

د. فيصل غازي محمد النعيمي

العراق/جامعة الموصل

 

....................... 

الهوامش:

1- أنماط الرواية العربية الجديدة/شكري عزيز الماضي/15.

2- المعجم الفلسفي /مجمع اللغة العربية/71.

3- مشكلة الحرية / زكريا إبراهيم/ 18.

4- النور والعتمة/علي القاسمي/10 -11.

5- ينظر : في نظرية العنوان / خالد حسين حسين / 373.

6- سيمياء العنوان / بسام قطوس/ 36.

7- أقصى الجنون... الفراغ يهذي/وفاء عبدالرزاق/234.

8- الرواية/5.

9- م.ن/9.

10- الرواية/271.

11- أدب الفنتازيا(مدخل إلى الواقع)/ت.ي.ابتر/ت :صبار السعدون/10.

12- هوية العلامات /شعيب حليفي/189.

13- أدب الفنتازيا/191.

14- الرواية /76.

15- م.ن/58-59.

16- الرواية/17-18.

17- الرواية /68-69.

18- م.ن/168-169.

19- الرواية /42-43.

20- م.ن/189.

21-النور والعتمة/45.

22- الرواية/174.

 

مكتبة الدراسة:

1- أدب الفنتازيا(مدخل إلى الواقع)/ت.ي.ابتر/ت:صبار السعدون/دار المأمون للنشر والتوزيع/بغداد/1989.

2- أقصى الجنون...الفراغ يهذي/وفاء عبدالرزاق/دار كلمة/القاهرة/2010.

3- أنماط الرواية العربية/شكري عزيز ماضي/سلسلة عالم المعرفة/(355)/المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/الكويت 2008.

4- سيمياء العنوان /بسام قطوس/منشورات وزارة الثقافة/عمان /ط 1/2001.

5- في نظرية العنوان/خالد حسين حسين/التكوين للتأليف والترجمة والنشر/دمشق/2007.

6- مشكلة الحرية /زكريا إبراهيم/مكتبة مصر/القاهرة/د.ت.

7-المعجم الفلسفي /مجمع اللغة العربية/الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية/القاهرة/1983.

8- النور والعتمة(إشكالية الحرية في الأدب العربي )/علي القاسمي/دار الثقافة للنشر والتوزيع/الدار البيضاء/ط1/2009.

9- هوية العلامات (في العتبات وبناء التأويل)/شعيب حليفي/دار الثقافة للنشر والتوزيع/الدار البيضاء /ط1/2005.

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)

 

في المثقف اليوم