تكريمات

اقتناص / هيثم بهنام بردى

هي تبدو كلقطة تتقاطر أمام الموق الدهشة المصلوبة على هامات وجوه صافنة، وكتصوير بطيء مركز على دفقات اللحظات المهومة تتتالى الصور، بدءاً بذلك البدن الجامد الصاغر المكدود المتآصر بحميمية مع المقعد الخشبي الحائل المشرف من علٍ على خط سكة القطار الذي طال انتظاره، الذي –ربما- مرّ دون أن يوقظ هذه الهامة المقنّعة بالقبعة العريضة السوداء، بحيث لا يبدو من الوجه سوى الحنك الحليق المدبب، وعنق مطمورة بالياقة المتقصفة لمعطف مطري بلون الرصاص، أو ربما لم ولن يمر القطار، تاركاً المدى يغرق في وهج لحظة مأزومة مختنقة بصفير ريح مبحوحة هوجاء تقلع جذاذات أوراق عشيبات تعامل معها الخريف المتأخر فجعلها مومياءات تتقاذفها أقدام الريح، فتنزع الأوراق البنية العريضة أبدانها عن الساق وتلعب -بحرية سجين أعتق بغتة- بتباه آني، ذات اليمين وذات الشمال، حتى تلتصق بثنيات بدن عربة قديمة تفرش أقدامها الوسنانة على فولاذ السكة، والأنكي هو تضامن الريح والمطر، مطر ناعم غزير دافق بارد يتكاتف مع الريح المعولة في دوامات مسعورة تعبث بأطراف معطف  الرجل المكدود فتتسلل شآبيبه إلى أذيال البنطال الممزق، فما تند عن الرجل المتعاضد والمتآصر مع المقعد الخشبي أية نأمة تدل على أي ردة فعل، بل يبدو للناظر من غير بعيد كأي ديكور مكمل لمحطة قطار قفراء،  أشجارها باسقة شبه جرداء تتنتحب مأزومة متألمة بفعل الخريف وغائلته التي لا ترحم، وفي الطوار البعيد بناء قديم بآجر عتيق مكشوف ونوافذ مغطاة لا تفصح عن أي شكل من أشكال الحياة، ما لا يمكن تصوره قط هذه الفرصة المفتقدة لمشهد خريفي نادر يتمنى أي رسام اقتناصه وهو مجبول بالاضمحلال والزوال: البناية ، الأشجار، الرصيف، الليل، العربات، والمصاطب الفارغة العديدة، باستثناء تلك التي يجلس عليها رجل انزاحت مقدمة قبعته فبان في فيئها سمات ناحلة ناصلة بلحية سوداء حنيّة غامقة، وعينين عسليتين وتفاحة آدم صافنة جامدة على غير العادة، وفي حضنه الذي انكشف في فسحة طرفي معطفه كتاب مفتوح على آخر صفحة، تصفعه الريح وتطّهرة أو تدنسه مزن مطر مدرار، فيشعر المحظوظ القانص لهذه اللحظات النفيسة أن ريشته استوعبت كل شيء، وعندما يتأبط الرسام لوحته ووجدانه مغتسل بفيض الشعور الدافق الذي يترجم نجاح افتضاصه كنه حياة ساحرة غريبة هاربة، فاتته الثيمة التي تجعل اللوحة مكتملة، لو... فقط، رفع طرفه وعانقت عيناه الغراب الهاجع في قمة عمود شاهق، وهو ينظر بفجيعة ومحبة ولوعة وحنان إلى جسد الرجل الذي سيكون السبب في تفرده وزهوه وتألقه وعنفوانه،.... وربما لديمومة إنواجده في طوايا الكتب وفي الذاكرات لقرون قادمة. 

 

قصة قصيرة جداً     

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

            

في المثقف اليوم