تكريمات

تجربتي في كتابة رسالة ماجستير عن أدب فرج ياسين القصصي / ثمار كامل سلمان

وأنا شاكرة وممتنة لهذا التعامل والتواصل. القاص فرج ياسين أهل لهذا.

  

الحمد الله قبل كل شيء، والصلاة والسلام على من اسمه في السماء أحمد وفي الأرض محمد نبينا الكريم وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيرا

وبعد . . .

لايسعني أن أحصي في سطور المكانة المتميزة لهذا القاص المتفرد،لذلك سأبدأ الحديث عن تجربتي الشخصية مع عالم فرج ياسين القصصي متناولة رؤيته السردية وشاعريته التي محضت النصوص الكثير من التميز،وإن دلّ ذلك على شيء فإنما هو دليل على اختمار مزايا معرفته بعالم القصة الذي جعله أكثر تعبيرا وصدقا بما يؤمن به وما لم يؤمن .

فرج ياسين،نوع فريد من الأدباء الذين تتطابق حياتهم مع فنهم،كل هذا وغيره كان دافعي في دراسة أعمال هذا الكاتب ولي الشرف في أن تقترن مسيرتي العلمية باسم هذا الكاتب لتكون أولى ثماري عنوانا لرسالتي في الماجستير "الطفولة بين الواقعية والغرائبية في قصص فرج ياسين" لما بعثت بي نصوصه من الدهشة والتحدي أمام هذا المنجز غير التقليدي بآلياته السردية الإبداعية ورموزه الدلالية،فضلا عن قابلية هذه النصوص على القراءة المتعددة.

 من خلال استقراء أعمال الكاتب فرج ياسين تبرز الطفولة صورة ذات دلالات فنية مكثفة وكان تناولها المستمر في المجاميع جعل منها ظاهرة تغري بتتبعها وإحصائها، شكلت الطفولة حضوراً متميزاً في المجموعة القصصية (حوار أخر) المطبوعة سنة 1981 بنسبة 80% من القصص توزعت في السرد كشخصية رئيسة أو إشارات لذكريات مسترجعة غائبة عن الحاضر كان لها الأثر في البناء السردي .

 أما الطفولة في مجموعة (عربة بطيئة) المطبوعة سنة 1986 فقد ازداد حضورها بنسبة 90% من مجموع القصص كشخصية رئيسة وثانوية وجاءت بإشارات مهمة أسهمت بشكل لافت في البناء السردي.

 ثم انخفضت قليلا في مجموعة (واجهات براقة) المطبوعة سنة 1995 فوصلت نسبتها 70% لكنها تميزت عن سابقاتها من المجاميع باستخدام الطفل كشخصية رئيسة في أكثر من إحدى عشرة قصة من قصص المجموعة.

 وأما في مجموعة (رماد الأقاويل) فانخفض الحضور الطفو لي فيها حيث وصل 60% بسبب ميل الكاتب لتقنيات احدث من استخدام شخصية الطفل بشكل مباشر وان جاءت شخصية رئيسة في قصة (حافات السنين المدببة، غداً في الصدى، وسرداب الخفاش، واللقلق الأصلع الحزين، ورعب القربى، واعتصام، وكابوس أبوي، والموجة) إلا أنها امتزجت باللأسطرة في رسم أحداثها فجاءت معمقة تنطوي على إشكالات نفسية واجتماعية .

 ولابد من الإشارة إلى أن هناك مقتضيات سردية ورؤى فنية أثرت في الحضور الطفو لي ونسبته من مجموعة إلى أخرى على وفق طبيعة الأفكار الموظفة في القصص وظروف كتابتها زيادة على تطور التقنيات السردية .

وبما أن تكرار الصوت المتشابه لا يعطي إيقاعاً لافتاً بل لا بد من تنوع لتشكيل ظاهرة إبداعية، فكما كانت الطفولة حاضرة ومتكررة في أعمال الكاتب فرج ياسين جاءت متنوعة أيضاً حيث ظهرت شخصيات هذه الأعمال بأنماط مختلفة حملت في طياتها أبعاداً فنية كان لها الأثر في نسق البنية السردية،ولأن الكاتب ينتقي شخصيات قصصه من مخزونه البيئي والاجتماعي والفكري فهو ينقل الواقع الـمعيشويحوله واقعا فنيا ملوناً فشخصية الصبي جاءت بأنماط وسلوكيات مختلفة فمنهم المشاكس والمتحدي والعفوي والاجتماعي المضياف والانهزامي المنعزل.

وتغرينا الإشارة هنا بطريقة تنويعية أخرى لافتة لاسم البطل (علي) الذي تقاسم أغلب القصص حيث جاءت شخصية هذا الصبي بأشكال وفعاليات وهيئات مختلفة .

 وعلى هذا كانت الطفولة الهرم السردي الذي استند إليه القاص في رسم عوالمه الواقعية والغرائبية. مما خلقت أثرا على أمكنة السرد وشخصياته وزادت من تعقيد أحداث النص وأزمنته، وكذا الحال لتقنياته الفنية.

فجاء التوظيف الطفو لي للتنفيس عن المشاكل الواقعية ومعالجتها ومن ثم التطلع إلى العوالم اللامرئية داخل كل إنسان التي تتسم بالغرابة والتجذر.

ومن الجانب الفني أسهمت الطفولة في خلق جرأة في تناول النصوص حيث منحت الكاتب الحرية في ملامسة العوالم المسكوت عنها نفسيا واجتماعيا وسياسيا كون التوظيف الطفولي لا يعرف الممنوعات لأنه عالم واسع يضم البراءة والعفوية ويشع غموضا ووضوحا في الوقت ذاته.

الهيمنة الطفولة في أعماق القاص منحت نصوصه تشويقا فنيا وموضوعيا كونها صبغت

السرد بلمحة تجديدية تمنحه هوية محددة.مما أدى إلى تسرب هذه الظاهرة إلى عوالم أخرى زاد في شد القارئ ومغنطته لاكتشاف درر طفولية نادرة في نفسية الكبار وسلوكهم كما تعكس حس العالم الطفولي وشاعريته مما يتطلب المزيد من الحذر والتاني في القراءة.

وعلى صعيد الجانب الفني نجد تنوعا ملحوظا في البناء السردي فعلى سبيل المثال احتاج بناء الشخصية أنماطا متجددة منها التشابك الذي طال تركيب الشخصية الطفولية وصعوبة تميزا لرئيسة منها وتحكم الدفعات السردية في تنامي مسار الشخصية زيادة على دور الأفعال

اللغوية في تشكيل الشخصية واستحضار شخصيات أخرى لإضفاء الأهمية على شخصية الطفل وكذلك تلون زاوية النظر وصعوبة التواصل مع منظور السرد. وهذا كله ناتج من المرحلة العمرية المتغيرة التي يتمتع بها الطفل أسهم ذلك في إعادة صياغة ماهو ملائم للواقع الذي يعيشه.

وحتى المكان احتفى بكثير من الأهمية وهو متأرجح بين الخيال والواقع واستطاع القاص أن يستخرج منه كل ما هو مدهش وأصيل وغريب. كما دونت النصوص المشاعر الإنسانية من زوايا متعددة فلم نجد إغفالا لأي موضوعة من موضوعات الحياة الإنسانية الواقعية فهناك مشاعر الإنسان في الحرب والسلم وفي التعلم والجهل وفي نجاح الأسرة وفشلها، وفي الدين والغيبيات، وفي الفروق الاجتماعية والطبقات وحتى في الجنس والمحرمات.

من خلال طرق العوالم الغرائبية الذي جاء بطريقة تعبيرية أقصت الهموم الواقعية المستعصية وأبعدت السرد عن الإطار التقليدي فاللون ألغرائبي الذي تمتعت به مكونات السرد لم يكن نصا لأسطورة من الأساطير أو حكاية شعبية أو خرافية أو غيرها وإنما هناك توظيف أسطوري مختلف مبني على المحاكاة وإعادة صياغة وترميز الرمز.

 

أما علاقة النصوص مع الواقع فكانت فلسفة واقعية متنوعة مبنية على التقاطع بين النصوص والواقع بابتعادها عن النقل الحرفي والتصوير المباشر واعتمادها إعادة التشكيل للظواهر الحياتية بصيغ فنية وإبداعية. مما أثر ذلك على نهايات النصوص فلم تكن تقليدية والسبب (الطفولة) حيث جاءت نهايات مفتوحة خطية ونهايات مفاجئة فعلى الرغم من صغر العالم الذي يقابل العالم الكبير بالضدية فانه يخرج منتصرا دائما وأما نهاية النصوص الغرائبية فلم يجعلها نصوصا حلمية بعيدة عن الواقع سابحة في الخيال وإنما غالبا ماتعود للواقع وفي الوقت نفسه تحقق توازنا حيث تبتعد النصوص عن الأكاذيب وتغادر اللامألوف وتستقر في العقول.

وعلى هذا جاءت النصوص مكتنزة فكريا وفنيا بسبب التوظيف الطفولي والغرائبي حيث أمكن هذا التلاعب بها وعرضها بصور متجددة كما يراها مؤلفها. وبذلك لا يتشابه التوظيف الطفولي لنصوص القاص فرج ياسين مع نصوص أقرانه كون النصوص بنيت بوعي الكاتب باختيار هذه المرحلة العمرية في أكثر قصصه بقصدية واضحة.

 فالطفولة في هذه الإعمال أخذت حيزاً كبيراً وواسعاً على الرغم من صعوبة هذا العالم وتعقيده لكنه جاء مثمراً على يد فرج ياسين، وبهذا المعنى نستطيع تفهم هذا التنوع الثري في شخصية الطفل في مجاميعه القصصية كلها.

فشخصيات الأطفال في قصص فرج ياسين مركب لافت من الأفكار الطفولية المختلطة بوقائع الحياة كما هي في عين الطفل وغرائبية أفكاره الناجمة عن تلك الرؤيا، فالطفل يفسر الظواهر الوقائعية تفسيراً مبنياً على خياله ومنطلقاته المعرفية التي ربما تكون مصادرها حكاية شعبية أو أحلاماً .

وعلى هذا شكل القاص فرج ياسين طرازا مميزا،أبعده عن الكتابة التقليدية بعد أن اختط له ملامح واضحة لوعيه القصصي الذي جعله فاعلا وجادا في طرح الأزمات الواقعية ومعالجتها الأمر الذي أسبغه بكثير من الانتماء المجتمعي والوطني.

وهكذا عندما يمتلك الكاتب ثقة كبيرة في ذاته كمبدع وقدرة بارزة على استبطان العالم الخارجي من خلال رؤيته الشخصية،فإنه حينئذ يمتلك شجاعة البوح وكشف ندوب الروح لأبناء مجتمعه وهذا ماتحتاجه الساحة الأدبية.

 

ثمار كامل سلمان

  باحثة اكاديمية

  واسط

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم