تكريمات

إيقاعات متفردة على هامش المجموعة ألقصصيه "واجهات براقة " للأديب المبدع د/ فرج ياسين / منى عارف

أن أمر بقلمي المتواضع على هذه ألمجموعه القصصية المبهرة، وأن أحاول أن أضيف شيء من الضوء بصيصاً منه بعد إطلالة كل من الأديبة " سوسن البياتى " والناقد " مالك المطلبى " والأستاذ

" محمد صابر عبيد " وغيرهم من أفاضل النقاد الذين تناولوا هذا العمل الأخاذ ...

ابدأ معكم أطروحتي النقدية بعبارة للفيلسوف الألماني " نيتشه ": " أن مرماى أن أقول في عشره جمل ما يقوله غيري في كتاب " ... ويبدو أن قلم المبدع كان كذلك

أشار في بضعه أقاصيص إلى عالم أرحب لا تحده القصص والحكايات ..

هل أنا في جامع السيفانى؟ أم أمام دار الوالي في بغداد في رحله بحث عن ماضي الأسلاف ووجوه .. وأناس .. ووجه فتاه معينه قد تغير؟

امامى طفل يمسك طبشورة ويخط حروفه الأولى ... أم يحكى حكاية عمر ... يفك حروف الكلام ... يرسم زمن ... يسترجع ذاكره ليعيد تركيب كل ذلك مره أخرى في عبارات وصور وأسلوب حاضراً واعياً .

" يمسك بنا ليرينا هذه الأشياء كلها "

" يجعلنا نضع مثله الأشياء التي لا نريد أن نفقدها في الحقائب "

دمية، قنينة عطر، رزمه ورق، صور ألأحبه، سيف، ساعة، بندقية ...

نلهث في تلك الرحلة اثر حكاية تلك الحكاية: عن ثوب بنفسجي قصير الأكمام، وعندما نصل إلى السوق الكبير يهتف بنا الجد كما همس لحفيده: " لا تقل لنفسك أبدا إننا تجولنا في مدينه معينه، ولكننا لم نعثر عليها ... "

تختفي أقاصيصه داخلنا خلف تلك الستائر المسدلة يتسنى للنور وللحرية الخروج للقمه ..

نجد دروب وحواري وأمكنه أزيلت عناوينها وغامت ملامحها، لم تعد الشمس تسطع في السماء بل صارت تسطع في الغبار ...نجد كل شيء صار ناطقاً صوره وصوت ... في هذه الأقاصيص الشغوفة بلوعة المكان والتاريخ، تبحث عن الهوية الزائلة ...

ربما نجد أناسا طيبين، فراق، دخان و سراب خلف تلك الواجهات البراقة ...

تزامنا مع ما تعيشه القصة العراقية من حراك على مستوى الشكل والرؤية سعياً إلى تأثيث ذاكره المستحدث بشيء من الدهشة والمغايرة، كان شاغل المبدع " فرج ياسين " الشاغل طرح تجديد في القصة عن طريق التجريب والسعي إلى ابتكار وقفه خاصة أمام الواقع من أجل الإمعان في قراءته بشكل موضوعي وفني ...

افرد مساحه للنبض الحقيقي لقضايا باتت تشكل نسيجاً ساطعاً لواقع تاريخي يحاصر حياتنا ويعيد صياغتها .

أشد تأثيراً من الواقعية السحرية والخيالية أيضا ...

امتلك الأديب القدرة على التقاط المشهد الأنسانى بأرق تفاصيله بكل ذكاء وحساسية إنسانية وإبداعية رائعة.. يستحضر لتلك اللقطات شكلاً مغايراً للغة ... يجعل من أدواته ريشه دقيقه ليرسم الحالة الفكرية والذهنية والنفسية التي تمر بها شخوصه المختلفة ... والغريب أننا بصدد قراءه قصص معينه مبنية أول الأمر على فكره الثنائيات في الحكى:

المحكي عنه ... واللسان السارد ... الواعي ...

هو البطل في كل المحطات، في كل القصص تقريباً، هو الابن الذي يرافق والده ... الابنة التي تنتظر على عتبات البيت ... الأم ... المدرسة ... الخال ... الجد ... الحفيد ... وامتلك أيضا تلك ألبساطه في توظيف الأشياء، والأماكن المعتادة والرمز الأسطوري أحيانا ... لإخضاع قلمه بفكره المكاشفة الذاتية ... والبوح الفياض ... في رحله مضنيه اثر الوقت والزمن الراحل في عجالة متناهية يمسك بحبل الوقت المشاكس الذي يلفنا معه ويغتال سنواتنا البعيدة ... يعمل على استحضاره بشكل عجيب، ومفارقه مدهشه مثل طفل مشاغب لا يمل من اللعب والشقاوة .. في دهاليز الصمت .. والمسكوت عنه .. يسجل تاريخاً، وهوية لمكان كل حدوده نائية على صفحه خريطة زائلة .. يعبر بجد لا ينضب ومحبه لا تشيخ عن ما كان قائماً: الأمان .. العائلة .. الأفراح البسيطة والأزمنة الناعسة .. القباب العالية .. الوطن: الذي يظل قابعاً وماثلاً في كل صفحه من أقاصيصه الصغيرة وحكاياته المدهشة وعالمه السردي الفريد .

بداية من أول حكاية " تمرين " حتى آخر حكاية " الآن " حافظاً على سحره الخاص ... في اقتناء مفرداته المعجزة وتأويلاته البلاغية الملموسة .

جاء من هنا اختياري لعبارة " نيتشه " لأنه اعتمد في كتابته للقصة القصيرة على  الوحدة، الجراءة، التكثيف، المفارقة، استخدام الإيماء، التلميح و الإيهام أيضا واختيار العناوين المحيرة التي تأتى لحظه التنوير في نهاية كل قصه كسطر مكمل أو كخاتمه وآخرة محيرة .

 

دعائم البناء والنسيج في ألمجموعه:

1-   كما سبق أن ذكرت أن الكاتب قد اعتمد على " لعبه الثنائيات " وتتمثل في وجود عالمين، أو حالتين متقابلتين في النص القصصي (حلم / يقظة) (صور حقيقية / صور معكوسة) مثل: البطلة في قصه " الخال " كمثال على هذا التحليل النقدي .

2-   القصة عند المبدع " فرج ياسين " مثلها عند الكاتب الفرنسي الراحل " جيدرو موبسان " تتكون من لحظات منفصلة اى أنها تصور حدثاً معيناً لا يهتم الكاتب بما قبله أو بعده وإن كان لكل حدث دلالته التاريخية المعبرة عن زماننا المغاير والمتحول بشكل كبير ...وتحمل المواقف من المعاني قدراً كبيراً ... كل هم الأديب أن يصور تلك اللحظات وأن يستشف القارئ ما تعنيه هذه اللحظات الفاصلة في حياه شخوصه ... هذه هي دعائم البناء والنسيج في تلك ألمجموعه التي نحن يصددها اليوم: واجهات براقة .

3-   تعتمد على ألحبكه المفككة: أي يضعنا القاص أمام أحداث متعددة غير مترابطة برابط ألسببيه وإنما هي مواقف وحوادث وشخصيات لا يجمع بينها سوى أنها تجرى في زمان أو مكان واحد: السد ره، البيت، الحديقة ودائماً نحن في حاله بحث: البحث عن الأشياء القديمة في السطح، في دولاب الخزين، فوق الأرفف، تحت الأكوام في أعشاش القطط، نحن نبحث ونلوح معه في دهاليز صندوق الذاكرة .

4-   ينطلق الفعل الدرامي اى الحدث، تارة بلسان الحكاء المشاهد والمشارك في المشهد في آن واحد ... ودائماً وأبدا يكون الابن ... كما ذكرت يصف ما يفعله والده في لحظه خاصة مثل: قصه " واجهات براقة، المحرقة "صــــ 16

5-       لا يوجد شخصيه رئيسيه تستطيع أن تشير إليها ولكنها تلك المفارقة التي تجمع الابن، الأب، الجد، الحفيد، الفتاه، الخال، الضرير والمكشوف عنه الرؤية: الدرويش والعين الناظرة التي لا تجد ما تبحث عنه في حكاية: "سدوم"

 

خصائص السرد عند د / فرج ياسين:

اعتمد المبدع بشكل كبير على " المنولوج الداخلي ": تأتى مؤشراته عبر تلك الجمل الخبرية .. أفعال الحركة .. الفعل الماضي لسرد الأحداث ويأتي بالمضارع ليضعنا في خضم الأحداث .. مستخدماً أيضاً أدوات الربط ...

وان كان يغلب على أغلب القصص القصيرة الزمن الماضي .. والسرد المركب تكون فيه وظيفة الكلام أو الحوار إخباريه ...

 

النمط الوصفي:

أيضا اهتم الكاتب بشكل كبير بتصوير الرواية الداخلية التي بها الكثير من المجاز ... وهو يعبر عن وجهه نظره الذاتية أيضاً ... وعامة استخدام الأفعال الماضية أو المضارعة والوصف الانسانى كلها مؤشرات للدلالة على حيوية النص وحرارته ... كاتب يهدى لقارئه قصة تشجيه ولا تنتهي حيث تنتهي الحروف . صــــ 60

نحن بصدد فن قصصي ملتزم، سهل وممتنع .

الكاتب يصنع نصه: متناولاً النفس البشرية وسلوكها وأهوائها

اعتمد على تداعى المعاني النفسية ومعتمداً أيضاً على تلك اللقطات الفريدة لآلام البشر صــــ 55 ويسلط الضوء على ثغرات تؤثر فينا أو في كل قارئ بدرجهما، أشياء نفصح عنها ... وأحياناً لا نستطيع فهمها امتلكنا حجه البيان، وبلاغه البوح ...

تفرد السرد عند د / فرج ياسين: يكمن بتلك ألبساطه في تناول المواضيع، واختيار القصة ... أي الفن القصصي: ذلك الفن المراوغ الجميل، يحمل تكنيكاً جديداً في كل مرة، وهو مهتم دون إبراز ذلك بشكل كبير في صياغة نظرية فنية للقصة القصيرة .

 

محورها الأساسي:

1- وحده الانطباع .

 2- عدم تعدد الشخصيات والأمكنة .

غزل لنا أقاصيصه التي تؤكد على تلك الوحدة والعزلة لأنه فنان شديد التفرد ...

الشخصية الرئيسية عنده: تقوم بفعل الأحداث وهو الابن ... الحفيد ... المشاهد طوال الوقت ... منحه القاص: حرية الحركة ... والتعبير ... ثم تأتى الشخصية المعارضة: وهى الشخصية التي إما لعرقله مسعى ...أو فرض صوتها على الحدث وتشكيله أيضاً...

الشخصية الأولى: لا تتغير ... ولا تتطور ... تولد مكتملة على الورق وتتطور تدريجياً من الناحية النفسية حسب مجرى الأحداث في القصة من حاله نعسان إلى حاله يقظة، من حاله ألم أو شجن إلى حالة انفتاح و انشراح ...

غاية اهتمام القاص: تصوير هذه الشخصية من حيث البعد النفسي ويأتي عن طريق رسم الشخصية من الداخل في لمسات خفيفة وسريعة إثناء السرد .

يشرع القاص في عرض قصته من حيث لحظة التأزم ومن ثم يعود إلى الماضي ليروى بداية حدث لقصته اى يستخدم ما يسمى بتقنيه الارتجاع الفني ... بأسلوب السرد المباشر صــــ 67 (شمس في الغبار)

وأخيرا فيما يختص بالبناء السردي: كان لابد من التوقف أيضا إمام براعة الاستهلال التي تشد القارئ إلى متابعة الأحداث أحيانا يقوم عنوان القصة بدور ألمقدمة ... التي تثير التساؤل والدهشة، كأنها أضواء خافته تنير الطريق إلى مجهول يكتشفه القارئ كلما تقدم في القراءة ... مفاتيح النص كانت عتباته ...

والجدير بالذكر إن القاص قد قسم ألمجموعه إلى ثلاثة أقسام:

المجموعة الأولى: تصدرت عتباتها مقولة شاعره رومانية: " نتمنى أن نولد ... في ساعة ميلاد أطفالنا لكي نقول إنهم علمونا ... وهزوا مهدنا ... "

بداية لكل تلك الحكايات الحزينة، لكل هذا السرد الموجع: حكايات الأطفال

 كم هي رائعة وشفيفة ... ثم تأتى حكايات ألحكمه والخيال المجنح في:

ألمجموعه الثانية: يبدأها بأبيات شعر كتبها سنة 1975

 " أتسمى ما كان يولول في الأسحار غناءا ... أتناجى مجمرة تحت عريش ميت ... تحسب انك تلقى قمراً ... ثم يفاجئنا بتلك الأقاصيص الصغيرة جداً في:

ألمجموعه الثالثة: وتبدأ عتبات الحكى بهذه العبارة:

" هيا نرتب هذه الزهور ... في ذلك الإناء الجميل ... ما دام ليس عندنا أرز ... " " باشو "

العتبات النصية: تجعلنا نرصد بعض الملامح الخاصة مثل: انتماء بعض النصوص إلى الغرائبيه، والاعتماد على الخيال بشكل كبير ... وتخلص الكاتب من قيود القصة التقليدية وكتابة غير مألوف...

وتنتهي كل قصصه بلحظة تنوير ... ختام طريف ... مفاجئ ... في غاية الروعة والإحكام .

الإطار الدرامي المكاني:

1-                         وفق الكاتب في إبراز المشاهد المأساوية عن طريق وصف ملامح مكان ... أو أكثر لأنه في ذاكره الأبطال لم تعد هناك تلك الأماكن التي عرفوها: " ما عادت الأشياء تسكن أسمائها " تعد ذلك الإطار حدود البيت، أصبح الوطن بحاراته ودروبه ودكاكينه، والسوق، والمدرسة، وأجمل وصف لمكان افرد إليه الكاتب براءته، كان في قصه " الخروج " ... والتي تدور في جامع السيفانى ... الذي لم يعد كما كان ... صار الوصف هنا أحياءا مجازياً ... وصفاً القاً مزيداً ذاخراً ... نموذجاً مزيداً إذا ما أردنا يوماً العثور والتعرف على العراق في ذاكره التاريخ، فيكون في أوراق المبدع أي في سدوم صــــ 41 صــــ60 " خروج "

2-                         المكان يعكس على شخوصه حالتهم المزاجية أيضا، نجده في قصة "أمام الستائر المسدلة " صـــ 55: اهتم بوصف البطلة والمكان ... وشكله الآن ... وشكله الذي كان ... وما أصبح عليه ...وهما في حلبه رقص ... يرتشفان من كأس الذكريات المر ... عجزهما عن الرقص ... في مشهد تشخيصي حي بالمشاعر الفياضة بعد زمن الحرب: حوار البطل مع نفسه، واختياره للجمل الموحية ببشاعة المأساة وهول وقعها صــــ 55

" حسبه إن ما في حلقه من المرارة لا تغنيه رشفة عابرة ...فكيف بها ... وود لو يعرب لها عن رغبته في النزول إلى الحلبة ... يأخذ بيدها ... ثم يقوم بمخاصرتها أمام الجميع ولكنه قال لنفسه: عجباً ومن أين ستأتي بساقك الأخرى التي تناثرت عظامها هناك على أرض المعركة؟

الإطار الدرامي الزمانى:

من الممكن أن يكون ساعة زمن ... أو نهار بأكمله، ولكنه يعود بنا دائماً إلى زمن مضى، ولت أيامه وشخوصه ... يطول فيه الوصف ويعجز عن رصده الوقت الآن وكأننا في ساعة ورد يسجل فيها الكاتب مشاعره ومواقف البشر التي كانت، ويسجل بعدسة دقيقة تغير الزمن وتغير آليات المجتمع وأحواله ... صــ 41 " سدوم "

 

النهاية:

نجاح الفن القصصي عند د / فرج ياسين: اعتمد بشكل كبير على براعة الكاتب في أداره الحوار بين الشخصيات وجاءت العبارات قصيرة وسريعة، وكذلك أسلوبه الرائق في استخدام الألفاظ والجمل الشاعرية، واللحظات الخاصة المليئة بالدفء .

لا مجال للاستطراد أو التكرار، يضع دلالاته في أقل قدر ممكن من الكلمات ويكشف عن معاناة الإنسان الحقيقية وخوفه من الفقد ... والتوهة ... والنسيان ... صــ 37 " ثوب بنفسجي قصير الأكمام "

مما لا شك فيه أن ... أسلوب القصة هو الرداء الحقيقي المبهر لأي عمل فني جاء بعيداً عن الإسهاب العصري ... ووضع الألفاظ واختيارها في عبارات قصيرة نابضة، منسقه النغم

كأنها قطعه موسيقيه، عذبه الرنين ...

** كاتب له رؤية جديدة: يحمل نبضاً سريعاً وشاعرية متدفقة، تحمل كل قصصه صياغة فنيه مبتكره، تنبع من أسلوبه الأخاذ وحرفيته تتضح في السرد والوصف يضعهما كما لو كانا فاعلين في الحدث وليس زينه له ... والحوار بين الشخوص هو تلك النافذة التي نطل منها على ثنايا القصة ... استخدم العديد من الأساليب التقنية لتقديم شخوصه والتعريف بها ...

يكتب كأنه يرسم ثم يعاود الإمساك بالقلم ليسطر نهاية كل لوحة ...

 

منى عارف

مصر/ الإسكندرية

 

 

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم