تكريمات

بنية التكثيف والمفارقة .. قراءة في قصة قصيرة جدا للدكتور فرج ياسين (تصحيح) / د. احمد حسين الظفيري

كانا عاشقين . بينما ظلت أوراق التوت في أماكنها. لقد كانا يتنزهان في بستان أثّ يتسع لمرحهما، عندما شاهدا شجرة تفاح وجلسا تحتها. ثم حلت ساعة الشمس فلحظا الثمار البيض وهي تتعرى، وتحتضن الخيوط المذهبة المتسللة من بين الأوراق،وفيما جعلت الثمار تكتسي حمرتها الفاتنة، وتنوس فوق رأسيهما.دبت في جسدهما دماء الرغبة.إنهما روحان. مجرد روحين ضعيفتين، عندما مدا كفيهما في اللحظة ذاتها...وقطفا معا تفاحة واحدة!)

 

القصة القصيرة جداً هي خلاصة لتجربةسردية، لا بدّ أن يسبقها على وجه العموم باع طويل في كتابة كل من الروايةوالقصة القصيرة أو إحداهما على الأقل، بحيث تغدو هذه الكتابة ذات آليةجمالية مركزها المغامرة والتجريب على وفق رؤى إبداعية متمكنة وأصيلة في فنالسرد، لا رؤى مبتدئة ومستسهلة لهذه الكتابة الإبداعية أو غيرها.  وعلى أية حال، مازالت القصة القصيرة جداً لم تحظ باعتراف النقاد بها؛لأسباب كثيرة أبرزها ما يعود إلى هذا القصر الذي يعتريها، وإلى افتقارهاإلى عناصر فنية واضحة كما اتضحت كثيراً من خلال القصة القصيرة والرواية،ومن ثم قد تعد كتابة القصة القصيرة جداً في المنظور النقدي كتابة مجانية؛يستسهلها الكتاب المبتدئون كما استسهلوا كتابة قصيدة النثر أو نحو ذلك،وبذلك يعزف النقاد عن مقاربتها!!

ليس بوسع القصة القصيرة جداً إلا أن تتعامل مع اللغة من منظور التكثيفالحاد، فتغدو لغتها محدودة جداً من حيث عدد الكلمات. لكنها في الوقت نفسهلغة تحيل إلى عالم شاسع من خلال الإيحاءات والدلالات!!  إن اللغة الإبداعية هنا، لا تحتمل التفصيلات والشروح والحوارات كما هوالحال في الرواية أو القصة القصيرة أو المقالة أو ما إلى ذلك؛ فاللغة فيالقصة القصيرة جداً لغة إيجاز، وترميز، وإيحاء، وحذف إبداعي، وإيقاعاتمتعددة في عبارات محدودة... إلى حد أن تصبح اللغة في مجملها استعارة أومجازاً؛ بشرط ألا يخل هذا القصر ببنية القصة القصيرة جداً شبه المتكاملة!! ولا يعني هذا التكثيف للغة أن تغدو القصة القصيرة جداً مجرد عباراتمتناثرة؛ كأنها جمل مشتتة لا رابط بينها، أو أن تكون جملاً شعرية غيرقابلة للسردية؛ فمن يظن أن لغة القصة القصيرة جداً مجرد ومضة أو ومضاتمفضية إلى الخاطرة أو قصيدة النثر، أو النص الهذياني... فحسب، هو فيالحقيقة لا يكتب قصة قصيرة جداً، ولا علاقة له بكتابتها من قريب أوبعيد. ونلاحظ أن اللغة في قصة (تصحيح) تتميز بتدرج منطقي وسردي حيث يعمد القاص الى تهيئة مخيلة المتلقي ثم يبدأ ببث بعض الإشارات التي تحيل تفكيره إلى قضية الرغبة ( تتعرى/تحتضن/تكتسي حمرتها الفاتنة/دبت في جسدهما دماء الرغبة) هنا يكون دور القاص مهما في الاعتماد على الدلالات الإيحائية للغة حتى أن اختيار الزمان والمكان وظف بطريقة فنية ليعطي إيحاء واحدا.

ثم يعمد القاص لمفاجأة المتلقي فالمفارقة بناء تتكئ عليه القصة القصيرة جداً عن طريق منظومة من المفارقات السرديةالمتشكلة من خلال السخرية والترميز والأسطورة والهذيان وثنائية الدلالة... فنجد أنفسنا نقرأ عالماً يمتلئ بالمفارقات والتناقضات والثنائيات، ومن ثميمكن الحديث عن مستويات لتعددية القراءة أو اللغات أو الأصوات أوالإيحاءات، وحينئذ ما يظن أنه قد فهم بطريقة ما يمكن النظر إليه من زاويةأخرى لنجد المفارقة بين دلالتين فأكثر، فما يعتقد على سبيل المثال أنه وعييغدو تخلفاً، وما يعتقد أنه حب يغدو افتراساً، وما يعتقد أنه سلام يغدومهانة واستسلاماً، وما يعتقد أنه أمن يغدو رعباً..لذلك فقد حول القاص مجرى الإحداث من الرغبوي المنتظر إلى البرئ المفاجئ، وهذا التحول يحيل النص السردي من البساطة إلى الإبداع .

إن النص الإبداعي الذي يكتبه الدكتور فرج ياسين يخبئ للقارئ الخبير أكثر من مفاجأة، ففي هذه القصة حالة من الانتقاد الاجتماعي الذي يفرض على الأفراد...فلطالما فقدنا الإحساس بالآخر بسبب العادات والتقاليد حتى إننا صرنا نحاسب أنفسنا على كل نظرة بريئة.

وفي هذه القصة نجد هذه البراءة المغلفة بطعم الخوف والارتباك (لم يكن أي منهما قد لمس الآخر) إذن فهذا الارتباك هو وليد المجتمع على الرغم من (أن شهورا طوالا مرت منذ أن أزالا سدود الحرج بينهما) فما هي السدود التي أزالاها إذا كانا لا يجرؤان على لمس ولو يد بعضهما؟

إن القصة القصيرة تستطيع ببنيتها التكثيفية أن تعبر عن هذه الأفكار مهما كان حجمها...والقاص فرج ياسين يعرف كيف يوظف كل التقنيات الكتابية الإبداعية بطريقة تعطي فسحة للقارئ لان يحلق في عالم الفهم والتأويل حسب أدواته وإمكانياته القرائية.

والتكثيف اللغة الإبداعية هي لغة فوق اللغة، فإذا كانت اللغة تعنيالتعبير عن المعاني المباشرة التي لا تحتمل التأويل عادةً، فإن اللغةالإبداعية لغة مجازية من الدرجة الأولى، أي أنها تتكئ على الصورة الفنيةوالرمز والغموض الشفافين ، فتغدو بذلك لغة مكثفة، وهذا التكثيف هو ما يجعلالقصة القصيرة جداً تستحضر عند تحليلها أو قراءتها من فضاء المحذوف أوالغائب أو المحتمل أكثر مما هو حاضر في لغتها ودلالاتها المباشرة الكائنةفي لغتها الحاضرة!! التكثيف اللغوي، إذن ، عنصر حيوي في بناء حجم القصةالقصيرة جداً من حيث الشكل العام، ولكنه في الوقت نفسه، وبما ينطوي عليهمن تشبيهات واستعارات ومجازات وثنائيات ورموز... هو الأساس في كتابة هذهالقصة، وهذا تحديداً ما يفرّق من حيث الجوهر بين كتابتين: إحداهما جماليةتنتمي إلى عالم القصة القصيرة جداً، وألأخرى غير فنية ولا علاقة لهابطريقة مباشرة بكتابة القصة القصيرة جداً.

 

د.أحمد حسين الظفيري

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم