تكريمات

(حبل الطغيان الرقيق) .. فرج ياسين يكشف جوهر سيكولوجية الطغاة / حسين سرمك حسن

حول «سلطان» الرجل التقي الورع الذي يضفي عليه القاص مسحة الزهد بالدنيا وملذّاتها وبالناس، فهو «يحمل إبريق وضوئه أوقات الصلاة كلّها تقريباً، ويسير مسافـة لا بـأس بها بعيداً عن البيوت حتى لا ينتهي إلى سمعه صوت ما يذكره بالناس والدنيا الزائلة». وهنا – ومنذ البداية – سوف يثور التساؤل في ذهن القارئ عن سّر هذه «المسافة»، وعن حال الآخرين الذين يصلّون في بيوتهم التي تتسلل إليها – بل تقتحمها – أصوات الناس وضجيج وصخب الحركة اليومية .

ومن الواضح أن بإمكان «سلطان» أداء فروض صلاته في البيت أو في مسجد الحيّ – مثلاً – بدلاً من أن يسير كل تلك المسافة خمس مرّات يومياً بعدد أوقات الصلاة لكي لا ينتهي إلى سمعه صوت ما يذكره بالناس والدنيا الزائلة كما يقول القاص .

ومن الأمور التي قد تثير الإرباك والتناقض – في الظاهر – في تحليل سلوكيات النفس البشرية هي أن شدّة ابتعاد الفرد عن عوامل الغواية والإغراء، وخصوصاً إفراطه في هذا الابتعاد، يمثل في حقيقته دفاعاً لاشعورياً من الفرد، ومحاولة للجم عوامل الدفع التي تعتمل في داخله وتضغط دفعاً في اتجاه العامل المغوي . تزداد مسافة ابتعادنا عن تلك العوامل طردياً مع قوّة سطوتها وفعلها الجاذب من ناحية، ومع تنامي شدّة خشيتنا من الوقوع في براثنها من ناحية أخرى، لأنّ هناك خائناً في داخلنا مستعد دائما ليتواطأ ويفتح الأبواب. وكلّما كان هذا (الخائن) نزقاً ومنفلتاً، كلما أرّقنا وفرض علينا التحسّب المستمر . وقد يأخذ تحسبنا هذا شكلاً وسواسياً تسلّطياً (Obsessive – Compulsive) يتجسد في شكل طقوس قد تبدو غريبة وغير مفهومة للناظر أحياناً، ولكن يعدّ الخروج عليها – أو محاولة الخروج عليها – وكأنه أمر مهدِّد لمن يقوم بها، وينذر بكارثة رهيبة وشيكة الوقوع . ولكن ما يظهره التحليل النفسي في كلّ مرّة يتصدّى فيها لواحدة من هذه الحالات هو أنّ أصلها يعود إلى محاولة الفرد المستميتة للسيطرة على الدوافع الغريزيّة الممنوعة التي تغلي في أعماقه. و(سلطان) الذي يخرج خمس مرّات يومياً، ويسير مسافة لا بأس بها بعيداً عن البيوت لمجرّد أن لا يسمع صوتاً يذكره بالدنيا وبالناس، هو في حقيقة الأمر يمارس طقوساً قسرّية تسلّطية . فهو لا يكرّر طقوسه هذه خمس مرّات يومياً بدقّة حسب، بل يحرص على الجلوس في المكان نفسه كل يوم:

 «وكان وهو يمارس عملية الوضوء يبسمل ويكبّر ويدعو ويذكر الله...»

ومن المفروغ منه أنّ لكل طقس أسبابه (المنطقية) الظاهرية التي تجعله مقبولاً على مستوى الشعور، فجلوسه في المكان نفسه يومياً يعود إلى أنه:

«اكتشف عَرَضاً أن ماء الوضوء في البقعة التي يجلس عندها دائماً أخذ يؤثر في تلك الأرض . فقد نبتت بعض الأعشاب، ولعلّه وهو يشاهد الأوراق الخضراء الدقيقة وهي تناضل الشمس، استهوته فكرة إبقائها حيّة . وهكذا اعتاد الجلوس في المكان نفسه كلّ يوم بحيث أنّ خيط الماء المتدّفق من فوهة الإبريق، ظل ينتشر بين يديه فيرش الزرع ».

ومن الممكن للاّشعور أن يتصافق ويقيم التسويات التي يمرّر تحت غطائها دوافعه ومكبوتاته في الوقت الذي يرمي فيه «طُعماً» للشعور يشتّت من خلاله انتباهته نحو أهداف «واعية» تحقّق له مُثلاً ترضي (الأنا الأعلى) من ناحيـة، وتعزّز نرجسيّة (الأنا) من ناحية أخرى . فـ:

«بعض شباب الحي لا يفتأون يردّدون، أن (سلطان) لا يذهب خارج الحي كل يوم لمجرد الوضوء والصلاة، بل يذهب من أجل أن يخلق الربيع الدائم في البريّة » .

وقد تسرّب في نفسه أنه إنّما يقوم بواجب كبير على الرغم من أنه شعر في بداية ممارسته هذه أنه عاجز عن جعل البريّة كلّها خضراء ... لكن اكتشافه العرضَي لفعل الماء المنصّب من فوهة إبريقه الكبير المصنوع من النحاس في إحياء بقعة الأرض الجرداء جعل (أناه) ينتفخ لهذا الدور الإخصابي حتى صار:

«مفتوناً بتوجهه الخالص وبفضله على أرض الله التي تُخرج نبات الشتاء في الصيف» .

ويبدو – وحسب تصميم القاص – أنّ (سلطان) ليكون (سلطاناً) لابدّ من أن تتوفر له شروط ذاتية وموضوعية . أمّا الشروط الذاتية فيأتي في مقدّمتها الامل اللاّشعوري الذي تستر – لحد الآن – تحت أغطية الدوافع (المنطقية) الشعوريّة التي تأسست على ركيزة وجود (دور) للفرد، وفسحة للتعبير عن (موقف) يباركه الضمير الاجتماعي حتى لو كان هذا الدور والموقف (تشكيلاً ضدياً) (Reaction Formation) ، لدافع مضاد لا تقرّه الأعراف المجتمعية، فـ(سلطان) كان بإمكانه إنجاز (دوره) في محله الأصلي ووسط الناس ولا داعي لهذه (المسافة) الطويلة التي يقطعها يوميّاً . أمّا الشروط الموضوعية اللازمة كي يكون الـ(سلطان) (سلطاناً)، ففي مقدّمتها أن تكون له (سلطنة) أو (مملكة) أو (مقاطعة) صغيرة يحكمها ويتحكم بمقدراتها مهما كانت بسيطة، فـ:

«كانت الدائرة الصغيرة الخضراء، زاهية وجميلة ومتوحدّة في منخفض محاط بكومة من الأحجار، تُركت منتشرة هنا وهناك..»

ثم يعمد (القاص) إلى (تأنيث) المكان/السلطنة/المملكة، لإعداده للمقبل من الحوادث:

«أُحدث ثقب في الأرض من قبل أحدهم، بحيث صُنعت مغارة صغيرة إذا ما دقق النظر في داخلها، شوهد في عمقها طوق جصّاني، ربّما كان في الأصل قوس أو شباك أثري »..

 المهم – الآن – أن نعيد القول: إنّ (الانتقالات) التي تحصل في مسار عملية نشوء الطقوس القسريّة، تجعل الصورة النهائية غريبة وبعيدة عن أصلها، وصعبة على الفهم . والأهم من ذلك أنّها تبدو «بريئة» و«مفيدة» في الوقت نفسه . ولنقل – أيضاً – إنّ ما قلناه عن سوء طويّة (سلطان) هي فرضية، وإنّه يدافع ضغوطاً غريزية غير سويّة هي فرضية ثانية، ولنحاول الآن الإمساك بدليل أو بأدلّه تثبتهما.

في المنخفض الذي اعتاد (سلطان) الجلوس فيه، كان ينظر باستمرار إلى الثقب الذي يشبه المغارة:

«حتى جاء أحد الأيام حين شاهد في داخل المغارة جرواً صغيراً أبيض»..

فتلفت (سلطان) في جميع الاتجاهات علّه يجد أمّاً أو أخوة للكلب فلم يَلُحْ له شيء، فأحسّ بخطورة وجود نفس ما في مكان مقطوع، لكنه اقترب منه، وسكب بعض الماء من إبريقـه علـى حجارة مقعرة وجدها هناك، فطفق الحيوان يلغُ بسرعة وشهية، فقال سلطان:

(لا حول ولا قوة إلا بالله..»

لقد بدأ بالعناية به بحماسة، وفي هذا أيضاً (دور) و (موقف) يعزّز النظرة إلى ذاته . لكن المشكلة أنه:

«لم يشأ أخذه إلى الحي معه عندما عاد، بل آثر أن يبقيه، ويجلب له الطعام إلى المغارة، فهو يعرف كم سيعاني حينما يغدو لعبة بين أيدي الأولاد الصغار إذا ما وقعت أنظارهم عليه ».

ومرّد المشكلة يعود إلى أن (سلطان) يستطيع رعاية الجرو وحمايته في بيته هو نفسه إذا كان لديه هذا القدر من الشفقة والرحمة على هذا الكائن الصغير، لكنه ولأسباب سوف تتكشّف لاحقاً آثر تركه في المغارة، وعاد قبل صلاة الظهر ، ومعه كِسرة خبز كبيرة غمسها في مَرَقٍ ثخين، ولفّها في كيس ورقي، وجعلها في جيبه . وهكذا ظلّ يفعل في أوقات الصلاة الأخرى من ذلك اليوم وخلال الأيام اللاّحقة . ولم تعد «المسافة» التي يقطعها كل يوم في أوقات الصلاة مفروضة بفعل عوامل طاردة (الهرب من الناس والدنيا الزائلة) حسب، بل بفعل عوامل جاذبة أيضاً:

«البقعة الخضراء والرأفة بالجرو الصغير» .

ولم يكتفِ (سلطان) بسكب الماء أو إحضار الطعام للكلب فقط، وإنّما كان يربت على فروته البيضاء بحنّو ورقة، وهو يصغي إلى صوت العرفان يخرج من مكان ما في جسده الصغير، والأخير:

«الذي استطاب المكث في هذا المكان على ما يبدو، وأخذ يقدّر بمداركه البدائية ما لهذا الرجل من أيادٍ عليه، صار إذا لمح سلطان بقامته المعتدلة وأكمامه العريضة، وإبريقه الضخم، يهرع إليه ملوّحاً بذيله الصغير، وهو مستريح إلى طلعته التي لابدّ أن تجرّ عليه ما يطفئ ظمأه ويسد رمقه».

لقد تأسست رابطة نفسية و«مصلحة» متبادلة بين الاثنين . فبالنسبة للحيوان الصغير لم يشبع (سلطان) حاجاته الفيسيولوجية (الجوع، العطش، المسكن ..) فقط، بل كان ينعم عليه بالعطف والرحمة والحماية . أمّا بالنسبة (لسلطان) الذي اعتاد سابقاً:

«النظر إلى الثقب كلما جلس للوضوء، لكن مشاعره تجاهه ظلت محدودة وبسيطة » ..

فقد غدا أمر العناية بهذا الجرو يضفي لوناً فريداً من الحب لتلك البقعة بالنسبة له، وبدأ يعتبر الجرو واحداً من لوازم التقليد الخاص بالوضوء . وهو مثل البقعة الخضراء الصغيرة . وهكذا صارت عند سلطان (مملكة). لقد اكتمل شرط موضوعي مهم آخر من شروط مملكة (سلطان) – لقد أصبح (سلطان) – ولا نعتقد أن اختيار (القاص) لهذا الاسم الذي يعني التسلّط والتحكم كان اختياراً بريئاً – (سلطاناً) فعلياً على مملكة مكوّنة من بقعة خضراء صغيرة وجرو صغير، أرض ورعيّة من نوع خاص، رعيّة عزلاء تابعة وممتنة لمنقذها:

«أخذ الجرو يزداد صحة وقوّة، وبدا (لسلطان) أنه كان ينمو، وراقب ذلك خلال أيام عدّة، فأصلح مأواه داخل المغارة، بعد أن أزال الحجارة الصغيرة عند الفوهة، وتحت القوس الجصاني، واحتاط للمستقبل، فاهتّم بتوسيع المكان وتوطئته، لأنّ الحيوان ينمو ».

وهنا طرح (سلطان) على نفسه سؤالاً خطيراً هو: ما عسى أن يصير إليه هذا الجرو بعد أن يشب وتبدأ غرائزه الأخرى باليقظة؟ . وهو سؤال حاسم يعكس الآلية التي نمّته وصاغته في ذهن صاحب السؤال – يحمل ضمناً افتراض «سلطان» وجود غرائز مهدِّدة ومؤذية لم تستيقظ حتى الآن - فما هي تلك الغرائز التي يريد (السلطان) أن يحتاط منها، بعد أن تمّ إشباع غريزتي الجوع والعطش، ونمت العلاقة بينه وبين الجرو الذي أصبح له مسكن ومطعم حامٍ؟.

لم يبتقَ بعد ذلك غير غريزتين أساسيتين يمكن أن تغيّرا في طبيعة العلاقة بين السلطان والجرو سلباً وتخربها وتنهيها وهما: غريزة الجنس، وغريزة العدوان . هاتان الغريزتان يمكن أن تتدخلا في (إدراك) الجرو لشكل العلاقة مع حاكمه، الأولى عن طريق إقامة ولاء جديـد لشـريك مغاير ؛ والثانية عن طريق (المقاومة) وتوجيه الأذى إلى من يمسك بزمام الأمور . لكنّ الأولى لا تخيفنا لأن الكلب يمكن أن يختار له شريكاً وهو مطمئن بعد أن توفرت له مستلزمات الاستقرار والطمأنينـة، وفي ذلك تكاثر لسكّان المملكة/المغارة لنافذة فعل الخير التي يتحصن بها (سلطان) ضد غدر الدنيا الزائلة . أمّا إذا كان تحسّب (سلطان) هو من الثانية – أي غريزة العدوان – فمن المفروغ منه أنّها لن تُوجّه ضدّ (سلطان)، لأنه أنقذ الجرو وأحسن إليه، وسيحتفظ له الأخير بأسباب الوفاء الغامر، خصوصاً أننا نضع الوفاء الكلبي في حياتنا اليومية مؤشراً تُقاس عليه درجة الوفاء البشري . إذن، فقلق (سلطان) وتحسبّه يتأتى من دافع قد يجعل هذا الحيوان يتركه ويغادر مكانه، أي الخوف من أن يبحث الحيوان عن «حرّيته»، ويغادر (المملكة)، فيصبح (سلطان) (سلطاناً) على بقعة صغيرة خضراء من دون رعيّة، وبذلك يجرّد من أهم شروط السلطة .

لكن هل من المنطق أن نتوقع مغادرة هذا الحيوان الصغير لمكانه الآمن الذي وفّر له الرعاية والغذاء والماء؟ إنّ التفسير الأكثر قبولاً يتمثل في أنّ هذا التحسّب هو (إسقاط) لمشاعر يختزنها (سلطان) نفسه على الجرو الأعزل، وإنّ خشيته تنبع من غرائزه اليقظة هو ذاته، من ذلك (الخائن) المستعد أبداً لفتح أبواب القلعة الداخلية . يقول القاص:

«خيّل إليه أنّه لا يرحّب به، وهو يحمل تلك الغرائز، فما له طاقة ولا له صبر على مثلها، وأرداه هكذا، صغيراً بائساً طيِّعاً ».

إنّ موقفه في أبسط المقاييس (الإنسانية) المباشرة، هو موقف نفعي واستغلالي، فقد:

« أوقف ذهنه عن التساؤل، وشغل بصاحبه . فهو لا يزال نضواً محتاجاً إلى أن يتبادل معه المنفعة، يعطيه الطعام والشراب، والحيوان يعطيه الحسنات التي يُؤمل أن تفتح له أبواب الجنة ».

ولكن كيف سيضمن (سلطان) عدم إفلات فرصة فعل الخير هذه، والتي لا تعوّض، من بين يديه، هو الذي أمضى شوطاً من عمره يقطع تلك «المسافة» المضنية خمس مرّات يومياً وَرَعاً وزهداً في الدنيا الغرور؟ كيف سيطمئن إلى أنّ هذا الكائن – وما هو إلاّ حيوان نزق – والذي سوف تستيقظ غرائزه الغادرة قريباً، لن يخرق المخطط المبدئي الذي رسمه لصالحه، ويضيّع عليه فرصة إكمال معروفه الذي يرضي ضميره الفردي والجمعي، لاسيّما وأنّه قد بذل الكثير من الجهد في إطعامه وحمايته وتوفير شروط (إنسانية) ملائمة لحياته؟ أليس من المفروض منطقياً أن يتخذ (سلطان) الخطوات التي يراها مناسبة وضرورية للحفاظ على مصلحة هذا الكائن الذي لا يمتلك النضج والمقدرة العقلية الكافية لإدارة مقاليد حياته وتسلّمها من وليّ أمره ونعمته؟

هنا، وبضربه رؤيا مبدعة، يضعنا هذا المبدع الملهم في مركز ملتهب لواحدة من أهم وأخطر معضلات الوجود البشري برّمته، ألا وهي صلة العقل بالغريزة من ناحية، وصلة الغاية بالواسطة من ناحية أخرى . هل الإنسان هو كائن منطقي أم كائن تبريري؟ هل الضربة التي وجّهها التحليل النفسي إلى نرجسيّة الذات البشرية حقيقية، الضربة التي أثبتت أنّ ليس الشعور الظاهر المتمنطق (أو العشر الظاهر من جبل الجليد الطافي) هو الذي يتحكم بحياتنا ويرسم سياساتها، بل اللاّشعور المكبوت المستتر (أو التسعة أعشار الغاطسة من جبل الجليد الطافي) الذي لا (ندركه) في الكثير من الحالات؟ هل غاياتنا هي التي تبرّر وسائلنا أم العكس؟ أم أنهما مرتبطتان فتكون الواحدة من جنس الآخر؟

وقبل أن نمضي مع وقائع القضية ينبغي علينا القول إنّه ليس من واجب المبدع أن يكون (فيلسوفاً) أو (منظِّراً) في إبداعه . في بعض الحالات يعود هذا الأمر بآثار سلبية على المبدع نفسه . لكن من واجب المبدع أن يمتلك مجسّاً فائق الحساسيّة لالتقاط أبسط نبضات المعاناة الإنسانية، وأن يتسم بالجرأة والجسارة على الغوص بمبضع فنّه في أعمق طبقات لحم اللاّشعور الحي . وهذا ما يقوم به «فرج ياسين» هنا، فها هو يعلن لنا أنّ صاحبنا (سلطان) قد قرّر الحصول على ثواب رعاية الجرو حتى لو ألزمه ذلك استخدام وسائل القسر والإكراه و«اضطهاد» الكائن الصغير - من أجل مصلحته طبعاً - على الرغم من أنّ لا حول ولا قوّة له . وبعبارة أخرى يمكننا القول إنّ الرجل قرّر تعبيد الطريق المؤدية إلى الفردوس بأشواك المعروف إذا جاز التعبير . ولذلك:

« فوجئ الكلب الصغير ذات يوم بطوق جلدي ضيّق يعصر عنقه، وبحبل طويل خشن يتلوى أمام ناظريه فوق التراب إذا ما نقل جسده مـن جـانب إلـى آخـر في المغارة أو غادرها قليلاً، وبالرجل يمسك بطرف الحبل الآخر، ويلفّه إلى مسمار حديد كان قد ثبته عند مدخل المغارة قبل قليل .. » .

إنّه لأمر عجيب، أنّ كون (سلطان) (سلطاناً) على (مملكة) كاريكاتيرية من منخفض وكلب صغير، جعله لا يستطيع لجم غرائز العدوان لديه، وضبط توقه إلى السيطرة والتوسّع، فقد كبّل هذا الحيوان المسكين، وسلبه حريّته، بمجرد أن أصبحت لديه القدرة على التحكم بمصيره . وفي مجال الغرائز العدوانية يكون الإنسان هو الحيوان الأخطر، والأشدّ شراسة في توجيه الأذى، فكلّما وجد المسار مفتوحاً والرقابة ملغاة أو ضعيفة، اندفع في ممارسة أفعال الموت والدمار حتى النهاية، ليس نهاية الآخر فحسب بل نهايته هو نفسه . وهنا يقدّم لنا القاص لمحة نفسية هامة جداً، حيث يشير إلى أنّ الجرو – بعد أن ربطه (سلطان) بالحبل -:

«لمح في نظرة الرجل ذلك اليوم أثراً للشهوات أقرب منه للتقوى» ..

فيقدم عن هذه الطريق مفتاحاً لفهم سلوك الرجل، فحتى الحيوان أدرك شهوة العدوان والتسلّط لدى الإنسان . هذه الدفعة التدميرية هي التي يحاول (سلطان) إطفاء نيرانها الملتهبـة بالابتعاد والهروب من الناس والدنيا . ولأن الطقوس تأخذ طابع عادة آلية تُنجَز – بحكم التسلّط – من دون أن تثير أيّ ردود فعل نفسيّة، فإن المقارنة التي طرحها (القاص) تبدو ذكية جداً، فالحيوان الذي (يهمهم) مغموماً بعد أن رُبط بالحبل الطويل، ودلف إلى داخل المغارة، أعلن احتجاجه على سلوك (سلطان) الذي احتاج إلى أن يدني الطعام من فمه مراراً، قبل أن يُشرع في ازدراد لقمته، إنه يحتج على مَنْ سلبه حريته وأثقله بالقيود، في حين نجد أن (سلطان) لم يتأثر لهذا الفعل، ولم يحصل لديه أيّ شعور بالذنب . وأيّ حساب عقلي يجريه بصورة مستقلة وواعية سيدفعه إلى رفض مثل هذا التصرّف الجائر، لأنه إذا كان – في البداية – يخاف من قسوة الأطفال على الجرو إذا ما نقله إلى الحي، فإنه – الآن – قد سلبه كل شيء، وأثبتت أنه أكثر قسوة منهم، ولم يشعر بأيّ قدر من تأنيب الضمير، وهو يضطهد هذا الكائن الأعزل، ويمارس العدوان ضده . والأكثر من ذلك – كما يقول (القاص) – هو أنّ سلطان بدأ « بعد قليل بوضوئه وصلاته كالعادة، ولم يثر فيه ذلك أيّ شيء..».

...ثم وقعت (الكارثة) التي صمّمتها أصابع المثكل القاسيّة، حيث أصيب (سلطان) بالحمى بعد عدة أيام ومـات، تاركاً الكلب يواجه الأقدار العمياء، بعد أن قيّده، وشلّ قدرته على أي بادرة للخلاص و(تقرير المصير)، أي أنّ (سلطان) لم يحسب أيّ حساب لمثل هذا الاحتمال المسلّم به، أي احتمال أن تُقرّر الإرادة الإلهية قبض روحه في أي وقت، وتصرّف على طريقة الدنيويين الذين يعتقدون أنّهم باقون في ممالكهم الشخصية إلى الأبد . ولم يخبر (سلطان) أحداً بأمر الكلب، وكان يطعمه سرّاً كل تلك الأيام، أي أنه تصرف بأقصى درجات التكتم والقسوة، من خلال اعتباره ذلك الكائن الصغير ملكاً صرفاً له، وسرّاً من أسراره احتفظ به حتى وفاته، فـ:

« قبل موته بقليل هذى بصحراء يريد أن يجعلها خضراء، وبكلب صغير أبيض أيضاً، لكن أحداً من أهله أو مـن زواره، وهـو على فراش الموت، لم يفهم بالضبط حكاية ذلك الكلب التي ظلّ يرددها، وهو محموم، فقد كانت الكلمات تخرج مترنّحة شاحبة تعبة محمومة هي الأخرى ».

لكنّ (فلسفة) القاص لم تنته عند هذا الحد، ولا ينبغي لها أن تنتهي عند هذا الحد . فبعد موت (سلطان) اكتشف تلميذ صغير، يحمل كتابه المدرسي، ويطالع خارج البيوت – أي أنّه يقطع «مسافة» أيضاً، بعيداً عن صخب الناس وضجيج الدنيا – اكتشف المكان الذي يجلس إليه (سلطان) للوضوء . لنتصوّر الآن، أين يقع هذا المكان الذي يذهب إليه هذا الرجل بحيث أن لا أحد استطاع اكتشافه طوال تلك المدّة؟ وكم هي درجة التحسّب والقلق التي كانت تحكم سلوكه؟

... شاهد هذا التلميذ:

«منظراً لا يُنسى، دائرة صغيرة صفراء ذات عشب حديث الذبول، وجرواً صغيراً أبيض مربوطاً إلى حبل، والحبل متوتر إلى أقصاه، والكلب، لولا أنّه تأكد من موته، لظنّ أنه متحفّز للانقضاض على فريسة .. والحبل يلامس فروة ظهره، مشدوداً حتى لكأنه عصا ».

وما يستوقفنا بقوة هي عبارة القاص التي سطرها قبل ختام القصّة بقليل، والتي قال فيها:

« وقد دُهش التلميذ الصغير لطريقة نزاع الجرو مع الموت، وهو يتخيل لها مشهداً معيناً لها ».

هذه العبارة تحقّق انفتاحاً واسعاً في الفكرة المركزية للقصّة . فإذا كان الكلب قد استلبت حريته من قبل الإنسان، الذي أثبت أنّه أكثر وحشية وظلماً من الحيوان، فإن هذا الحيوان الصغير لم يستسلم وصارع من أجل حرّيته محتجاً على تعسف وجبروت آسره بقوة « متحفز للانقضاض على فريسة» . لقد صارع الكلب إرادة الموت بإرادة الحياة لديه، فكانت تجربة الصراع هذه – كما نعتقد أنّ القاص يريد ذلك – هو تعبير عن الإرادة الإيجابية للحيوان في مواجهته لهذا القاتل الصامت الساخر الذي قضى على الاثنين: المـوت، في حين أن الإنسان ممثلاً (بسلطان)، واجه تجربة الموت بإرادة مستكينة خاوية، بصورة سلبيّة عبّر عنها القاص بصورة بليغة بقوله: «حمّ الرجل ومات» ... هكذا بسرعة واختصار . مات وهو يهذي على فراش الموت . لقد كان الكلب إيجابياً وفاعلاً في حين كان (سلطان) سلبياً وهامداً . وإذا كان الإنسان قد مات بفعل حتمية مرسومة تحكم الحياة وفق آجال معينة محدودة، فإنّ الحيوان قد مات بفعل شراسة الإنسان، ولكن في وضع احتجاج شديد، يتضمن موقفاً مبادراً ضد الموت . فهل يزيح الإنسان عدوانه المكبوت واحتجاجه ضد تلك الحتمية التي تحكم الحياة، ويوجهه نحو هذه الكائنات البائسة الضعيفة؟ وهل أنّ أعلى أشكال هذا العدوان المزاح – وهو قتل تلك الحيوانات أو أكلها- هو صيغة عدوان على الأب الذي صاغ تلك الحتمية، التي لا مفر منها، ولا منفذ للاحتجاج عليها؟ ولأن أيّ عدوان مختزن أو معلن على الأب يعقبه عادة إحساس لا شعوري شديد بالإثم، فإن الفرد سيندفع نحو التكفير وفق أشكال مضخمة من الطاعة والخضوع والتقديس قد تتصاعد لتأخذ شكل طقوس إلزامية متكررة ذات طبيعة تسلطية – أو ببساطة، أنّها تتحول إلى " ديانة " فردّية ثم عامّة . ومن الضروري الإشارة – بدرجة أوسع وأدق الآن – إلى أنّ عمل (سلطان) مع الكلب تضمن نوعاً من «التسوية»، فقد قدّم الأول فروض التقوى وشروط التكفير من خلال رعاية الثاني، ولكنه في الوقت نفسه نفّس عن دوافعه المدانة، المكبوتة . و(التسوية) هي سمة من سمات الكثير من الأعراض العصابية، ولكنها لا تُميّز بوضوح كافٍ في الممارسات الدينية المناظرة لها . ومع ذلك فإن ثمة شيئاً ما يذكرنا بسمة العصاب هذه حينما نرى بأمّ أعيننا كيف أنّ جميع الأفعال التي تشجبها العقائد الروحية – تظاهرات الغرائز المكبوتة من قبل تلك العقائد – تَفعل باسمه في كثير من الأحيان ولصالحه على ما يُقال، فـ(سلطان) – لو فرضنا أنّه لم يمت بتلك الطريقة المفاجئة – فإنه يستطيع (تبرير) ربطه للكلب، والذي أودى بحياته، بذرائع وحجج عقيديّة وفكرية ذات طابع روحي مختلف، مثلما كان يبرّر هروبه من الناس وملذات الدنيا الفانية، وقطعه تلك (المسافة)، بالزهد والورع . وهذا المنفذ – وضمن حدود معيّنة – هو منفذ صحّي للنفس الإنسانية، ولكنّه يمكن أن يتحول إلى عرض عصابي مرضي حين يتجاوز تلك الحدود:

« إنّ الطقس يمثل جملة الشروط التي تبقى فيها أشياء أخرى – غير محرّمة بعد تحريماً تاماً – مسموحاً بها تماماً، كما أنّ معنى طقس الزواج الديني، هو السماح للشخص الورع بالمتعة الجنسية التي تصبح في غير هذه الحال ملطخة بالخطيئة . وعندما نقول إنّ قمع بعض الدوافع الغريزية ونكرانها، يشكل جانباً من الأساس الذي قامت عليه الممارسة الدينية، فإنّ هذا لا يعني أنّ هذه الدوافع جنسيّة خالصة كما في العصاب، وإنما هي غرائز أنانية ضارة بالمجتمع، علماً بأن المساهمة الجنسية فيها ليست في أغلب الأحيان مستبعدة، ولقد اعتدنا أن نعزو الشعور بالذنب المنبثق عن إغواء لا تنطفئ جذوته أبداً والحصر المرتقب في شكل خوف من القصاص الإلهي، اعتدنا أن نعزوهما إلى مضمار الدين قبل أن نعزوهما إلى العصاب . ويبقى قمع الغرائز في مضمار الحياة الدينية ناقصاً وغير مكتمل أبداً ربّما بسبب المركبّات الجنسية المختلطة بها، وربّما بحكم الصفات العامّة للغريزة، بل إنّ الانتكاسات الشاملة والعودة إلى ارتكاب الخطيئة أكثر تواتراً لدى الشخص الورع مما لدى الشخص المعصوب، وهي تشترط نوعاً جديداً من النشاطات الروحية: أفعال الندامة والتوبة التي يعسر علينا أن نجد نظائر لها في العصاب (وبشكل خاص العصاب الوسواسي)(2) . وحالة بطل قصتنا (سلطان) هو صنيعة مخفّفة ومتنكرة تنطبق عليها جوانب كثيرة مما ذكرناه سابقاً.

بقي لدينا شيء هام آخر يتمثل في العبارة الأخيرة التي ختم بها القاص قصّته، والتي يصف فيها موت الجرو الصغير حيث يقول:

«لقد كان ظلّ الحبل طويلاً ورفيعاً ينسكب فوق صفحة العشب الذابل، عالقاً كالغيمة بالذوائـب الـدقيقة الصفراء...» .

فنحن مقتنعون بقوة بأنّ المبدع مسؤول بصورة مباشرة وكاملة عن كل ما يسطره في النتاج الإبداعي، وأنّ كلّ ما يجري فيه من أحداث وشخوص وحوارات وأوصاف – مهما كانت بسيطة – يعكس جوانب من دوافع المبدع اللاشعورية في محتواها الباطن العميق، ودوافعه الشعوريّة في محتواها الظاهر، على الرغم من أنّ الأخيرة لا يمكن فصلها عن الأولى، وتكون معبّرة عنها ومصبوغة بطابعها، ولا يمكن فهمها في أحوال كثيرة جداً من دون فهم الدوافع الأولى بدقة . وقد تجنبنا القول – حتى الآن – إنّ بطل قصّة «الحبل» يمثل جانباً من دوافع (القاص) المبدع «فرج ياسين» وبنائه اللاّ شعوري، لكن القاص قال لنا في لقاء خاص معه أطلعناه فيه على جانب من مضامين هذه الدراسة ؛ إنّ الإثم الوحيد الذي ارتكبه في حياته خلال مرحلة الطفولة كان «قتله» لهذا الكلب الصغير، فقد ربطه بحبل ونساه حتى مات . كما أشار إلى أنه بدأ بعد ذلك اليوم بطقس غريب عليه، لم يستطع تفسيره، وظلّ شيء بسيط منه يلاحقه إلى يومنا هذا، وهو غسل يديه بكثرة ولمرّات عديدة كل وقت . وإذا تأملنا تلك العبارة الختامية فسنجد أنها تصف مشهد موت مرير بلغة شعرية هادئة وجميلة تُشعر القارئ بأنّ القاص يتحدث عن هذه اللحظة بارتياح بالغ .. وهو أمر يتكرر كثيراً في المنجز القصصي لـ«فرج ياسين» حيث يصف لحظات الموت المأساوية بطريقة مؤثرة، تجعل الألم والأسى الذي تحمله لحظة الثكل، يمتزج بلذة عجيبة، يوحي بها الأسلوب واللغة المستخدمة التي تصبها في إطار سادومازوخي أخّاذ . فهل يفرّغ المبدع مشاعر العدوان المختزنة لديه وينفّس عنها؟ أم يكفّر عن مشاعر الإثم بالألم الناتج عن استعادة التجربة؟ وبعبارة أخرى: هل يعكس الأسلوب المؤثر للقاص في هذه القصة (إصراراً) لا شعوريا من (فرج ياسين) على إعادة قتل الجرو الصغير؟ أم أنّه تفريج عن مشاعر الذنب التي ترسّخت في أعماقه بفعل تلك الجريمة (الصغيرة)؟ وهل أنّ تلك الجريمة (الصغيرة) تكفي لتفسير كل ذلك الشعور بالذنب إن لم تكن حلقة ومظهراً لعملية نفسية أعمق وأكثر تعقيداً، لم تكن عملية (النقل) و (الإزاحة) التي جرت في هذه القصة كافية لكشفها وتعليلها؟

 

 

.................

هوامش:

(1) من المجموعة القصصية: «حوار آخر» للقاص «فرج ياسين» - دار الرشيد للنشر – بغداد -1981.

(2) إبليس في التحليل النفس – سيجموند فرويد – ترجمة جورج طرابيشي – دار الطليعة – بيروت.

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم