تكريمات

فرج ياسين .. شهادات من الذاكرة / حكمت مهدي جبار

فلم نجد فسحة الا وقد شغلها ناقد أو كاتب أو باحث وربما فنان تشكيلي وشاعر متناولا جانبا من فرج ياسين (القاص). ونحن هنا لسنا بنقاد، انما قراء متمعنين كثيرا لرحلة القصة العراقية ومتفحصين للمنجز الأبداعي العراقي في فن القص. وقد كان فرج ياسين واحد من القصاصين الذين كنا نقرأ لهم قصصا منذ أن أغرتنا القصة القصيرة وأوقعتنا في حبائل فنها وألاعيبها.

عندما عرضت صحيفة المثقف الألكترونية مشكورة مشروعها لملف تكريم القاص العراقي الكبير (فرج ياسين) عادت بنا الذاكرة الى زمن (الطليعة الأدبية) تلك المجلة التي كانت تعنى بأدب الشباب والتي خصصت أحد أعدادها لنشر نصوص قصصية ودراسات نقدية عنها. فكان فرج ياسين واحدا من الذين نشرت لهم المجلة نصوصا قصصية ومعها قراءات نقدية بأقلام كتاب عراقيين.

كان ذلك في العقد الثمانيني من القرن العشرين. عندما كنت طالبا في كلية الفنون الجميلة. وكنت خائضا في مجال التشكيل أكثر منه في فن القص. الا أنني وجدت نفسي قريبا من القصة شيئا فشيئا فأغرتني فمددت لها يد اللقاء فعشقتها الى جانب الرسم.

كنت أقتني كل كتاب أو مجلة تتضمن شيئا عن فن القصة وكانت المجلات العراقية في الثمانينات رغم ويلات الحرب وقهر الأيام ورعب اللحظات تزخر بالأبداع القصصي وفي مختلف المستويات بغض النظر عن اتجاهاته المعبئة للحرب آنذاك. ولا أدري كيف انزلقت عيوني في تلك الصفحات الناعمة لمجلة (الطليعة الأدبية) وهي تنشر ملفا شبابيا لمجموعة من القصاصين الذين وضعوا في خانة الشباب. وكان من بينهم (فرج ياسين) ولا أدري هل هي الصدفة أم هو الأختيار أو حب الأطلاع عندما وقع نظري على الملف الخاص لكاتبنا ومرافقته في قصصه، حتى أستغرقت في قراءتها كوني قاريء نهم أقرأ كل ما يقع تحت نظري.

خطف فرج ياسين مني أعجابي بنصوصه. فرحت متابعا له في كل قصة يكتبها الى جانب قصاصين آخرين. غير انني وجدت فيه شيئا يختلف، عندما أستوقفتني مفرداته وعباراته والتي كنت أرى فيها وأنا لم أزل طالبا جامعيا الموضوعية ودقة الألفاظ، فضلا عن حسن الجمل في وصف الطبيعة لاسيما القرية وأجواء الريف.. كنت أشعر بقربه مني وقربي منه ، أنا القادم من ذلك البيت الطيني من احدى قرى محافظة ديالى فضلا عن تأثري بأسلوبه المحبوك المتداعي الى الماضي. وهكذا أعجبت بتجربة فرج ياسين القصصية عندما شعرت بأنها كانت نتاجا لجهد حقيقي له. كنت أقرأ قصص فرج ياسين وأنا أحمل (باليت) الألوان متهيأ لتنفيذ مشروعي الجامعي للتخرج للعام الدراسي 1986- 1987حتى أمتزجت رؤيتي التشكيلية مع مفردات قصصه يأخذني الأعجاب بوصفه اللغوي وتشابيهه الصورية. حيث وجدت فيها الصدق في نقل تعابير وملامح الوجوه العراقية، حيث كنا نحن الجيل الثمانيني نتتلمذ على يد عمالقة الفن العراقي ومنهم الرواد فائق حسن وفرج عبو وحافظ الدروبي وكاظم حيدر ومحمد صبري ووليد شيت ومحمد غني حكمت وغيرهم. فقد تعلمنا منهم كيف نحاكي ونستكنه الروحية العراقية عبر واقعيات تفوح بالألوان عبر ضربات الفرشاة وبقعها الزاهية. فمثلما كنت منذهلا بوجوه فائق حسن الغارقة في العفوية الريفية المستغرقة في الأحزان وقهر السنين كنت أقرأ توصيفات فرج ياسين لنفس تلك الوجوه عبر نصوصه اللغوية القصصية..

farajyaseen8

لقد أوقعني القاص فرج ياسين وأنا لم التق به بالمرة ولم اراه ولا حتى اعرفه معرفة كبيرة الا من خلا ل نتاجه القصصي أوقعني في عالم القصصة اللذيذ والصعب بنفس الوقت.. لقد تعلمت منه بناء الشكل القصصي المتجانس مع الموضوع المنتخب كوني رساما واقعيا وقاصا مبتدأً. بغية التأثير في المتلقي. وكنت كلما أكتب نصا قصصيا كنا نتناقش فيه داخل قاعةً المحاضرات أنا والزميل الفنان التشكيلي عبد الصاحب الركابي شقيق الكاتب الكبير عبد الخالق الركابي. حيث يشاركني آراؤه ويبادلني مازحا : ها ماذا فعل بك فرج ياسين؟ ولأن العقد الثمانيني كان مشتعلا بحرب ضروس وكنا نمارس حياتنا تحت وطأة سلطة سورت الأبداع وسعت لأدلجته وحاصرت وعي المثقف فنانا كان ام شاعرا ام كاتبا أم مسرحيا. فكان الوعي المبدع رسما وقصة وعيا ملوثا بدخان المعارك. وكنت أقرأ وعي الحرب في وعي النماذج القصصية لفرج ياسين مستعينا بها في رسم ملامح وجوه نماذجي التشكيلية عبر الخطوط وألألوان وعناصر اللوحة الأخرى.

وفي تلك الفترة المشحونة بالقلق والترقب كانت أكثر المواضيع انشغالا في المساحة الفنية والأدبية هي موضوعة (الشهادة) فكنا نتعامل مع ذلك الحدث الواقعي تعاملا فنيا تشكيليا ولكن بحدود ضيقة من حرية التعبير تحت ترصد الرقيب. كشكل فني ونص قصصي للحدث المؤلم والمحزن معبرين عن وعينا المليء بأوجاع الحرب وشدة وطأتها لاسيما ونحن قادمين من البيئة الريفية والقروية. كنا أنا والزميل عبد الصاحب الركابي نتهيأ لتنفيذ لوحة عن الشهيد فكانت مفردات العمل متأثرة بأحدى قصص فرج ياسين بل أعتمدناها كمصدر لموضوعنا التشكيلي وعلى ما أذكر كانت قصة ضمن مجموعة (عربة بطيئة). حيث أعجبنا التجسيد الفني اللغوي للكاتب وهو يمزج فيها أحزان أبن القرية مع مأساته وهو يتلقى نبأ أسشهاد ابنه أو أخيه أو أبيه أو يستقبل نعشه الملفوف بالعلم.

لقد وجدت في قصص فرج ياسين رغم قلتها في زمن الحرب أن هناك مقاربات بيني كرسام وبينه ككاتب. فكنت أرى مثلما يكون فن الرسم انعكاسا عن الواقع وليس تصويرا له وأن مساحة اللوحة المنجزة لاتمثل عالم الشكل وأنما ابعاده المتوزعة في اللون والخط ومساحة التضليل لأبراز معالم الشكل وقراءة تفاصيله وملامحه الفارقة في حالة معينة. فأن فن القصة لم يكن نسخا للواقع ليكون مطابقا للأصل وهذا ما رأيته في قصص فرج ياسين (مجموعة عربة بطيئة) و(حوار آخر) تلك التي كتبت أبان الحرب البشعة، ليحفز من خلالها المتلقي لأيجاد صلات ووشائج مع منجزه الأبداعي في فن القص..

وأذا ما أردنا أن نجاور النقد ونجرأ في قول كلام نقدي بعد أن يسمح لنا السادة النقاد بأمكاننا ان نقول وعلى قدر ما نمتلك من رؤية نقدية في المجال القصصي الى جانب كوننا رسامون أن ما قرأناه من نصوص فرج ياسين القصصية انما هو محاولة للكاتب نحو التجديد مع تمسك في أصالة اللغة وألأسلوب. والحقيقة كنت أراني قريبا منه الى حد ما لاسيما في تناوله النماذج الأجتماعية الممثلة للواقع العراقي وهو يبلور وعيا ريفيا أختلط بوعي المدينة في سني الحرب.

فعندما التحقت في كلية الفنون الجميلة قسم الرسم شابا يافعا قرويا بكل ما ما يحمل ابن الريف من سمات وطبائع الحياء والخجل والهيبة ازاء بعض المواقف في المدينة ووقوع نظري على قصص فرج ياسين صدفة مع تأملي لصورته الشخصية التي أشعرتني بقربي من ملامحها الهادئة والوديعة أحسست بذلك التمازج القلق بين وعيي الريفي ووعي المدينة. الا أنه وبمرور الزمن بدأ ذلك الوعي بالتغيير تدريجيا من خلال التعرض للوعي الآخر. لقد تعلمت من فرج ياسين كيف ابلور وعيي القروي الخجول أزاء وعي المدينة الجريء. حتى بدأت أتطور في كتابة القصة ألقصيرة وأنا أحمل فرشاتي أرسم الواقع الذي عشناه تحت وطأة المعارك والحصارات النفسية في ثمانينات القرن الفائت.

كنا ننظر الى صورة القاص فرج ياسين وهو يطفح شبابا بمسحة ريفية بتسريحة شعره السبعينية وشاربيه الموحيتين بالفتوة القروية. فرحنا كعادتنا نسرح في تضاريس مفرداته وعباراته من خلاله معماره القصصي ذو السمة العراقية ذات القالب الواقعي الرمزي. وقد تناول الأستاذ الناقد( علي عبد الحسين مخيف) مجموعة فرج ياسين القصصية (عربة بطيئة) ليقدم لنا بعض من سماته وملامحه في هذا الجنس الأدبي.

أما نحن فقد ذهبنا لزيارة مجلس فرج ياسين الكاتب الشاب. ورحنا نقرأ قصصه القصار والتي وضعها تحت عنوان واحد (هو الذي خسر كل شيء) معتمدا ترقيم النص.

وبعيدا عن دروب النقد القصصي ومناهجه وأساليبه فقد كنا قد أستمتعنا بحكايات فرج القصيرة. فوجدناه جادا يتميز بسمات معينة. رغم علمنا باللمسة العراقية المعروفة بالتجريب والبحث. فهو لم يحدد صورة نهائية وحاسمة لهويته، وقد اتضحت المتنافضات في القيم في الرؤية للواقع. متناولا الصراع بين القرية والمدينة بأطر واقعية مرمزة.

لقد بدى فرجا منهمكا بالقرية وبحياة الريف في مجموعة قصصه القصار (هو الذي خسر كل شيء). رغم انه ليس قرويا على حد قوله (*) اذا تم القياس على الولادة والنشأة والأقامة فهو مدني وعائلته عائلة موظفين كانت تنتمي الى النخبة القائدة للحياة الأجتماعية ) وأنهماكه في حياة القرية والريف جعله كمنتم له من خلال تجسيده لأحزان أبن القرية وهمومه. ولأنه مديني ومتعاطف مع القرية فقد دعى الى مشاركة المدينة القرية بهمومها وأحزانها عبر تلك القصص.

لقد تعلمت فن القص من فرج ياسين كما تعلم هو من قصصه وجعلها أبلغ معلما له.

 

........................

* لقاء له مع مجلة (أمضاء) في عددها الأول – آذار -2012

وقد قمت برسم بورتريت لفرج ياسين بقلم الحبر الجاف مرفق مع المقال كمشاركة من في ملف تكريمه المستحق

 

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)


في المثقف اليوم