تكريمات

المثقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين (3)

wafaa abdulrazaghخاص بالمثقف: الحلقة الثالثة من الحوار المفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين لمناسبة تكريمه، وفيها يجيب على اسئلة الأديبة وفاء عبد الرزاق.

وفـاء عبـد الرزاق، شاعرة وروائية / المملكة المتحدة

س28: وفاء عبد الرزاق: ألم يمر عليك حديث مُمل من صحفي تجد نفسك خلاله غير قادر حتى على المجاملة، وكيف ستتصرف بمثل هذهِ الحالات؟

ج28: فرج ياسين: بلى، تعرّضتُ مرّة إلى موقف من النوع الذي لم يكن لك فيه أيّ خيار، سؤلتُ سؤالاً يفترض الإجابة بالإيجاب مع التبجيل . وقد أجبت بما يُرضي (السائلة) لعلمي بأنها تمثل جهة لا تتوقع مني ومن غيري إلاّ الإجابة بما يرضي، لكنني نجحتُ في تجنب التبجيل الذي هو من لوازم الإجابة تلك الأيام .

س29: وفاء عبد الرزاق: الكاتب أُمثِّلهُ كالبحر، تُرى هل تكتب وأنت على السطح أم حين تنزل إلى الأعماق؟

ج29: فرج ياسين: لو كان الجهد ينصرف إلى تصوير السطوح دون الأعماق لما أصبح عملنا سائغاً أو متميّزاً، ونحن في القراءة وفي النقد نبحث عن البنى العميقة وليس السطحيّة والعابرة، وعلى الصعيد الشخصي، لا أتورط أبداً في كتابة العمل البسيط والمواتي، لذلك كثيراً ما نُعتَتْ قصصي بالخشونة والصعوبة ولاسيما في لغتها، ولا يسعني في هذا المجال إلاّ الإشارة إلى نقود الدكتور حسين سرمك الذي اشتغل على البنيّة النفسيّة العميقة في قصصي، فضلاً على نقاد كثر عمدوا إلى تسليط أسلحتهم المنهجيّة بقصد تحبيب القارئ التوقف عند الخطاب المباشر .

س30: وفاء عبد الرزاق: حين تدخل عمليّة الكتابة، متى تشعر بأنك طفل ومتى تنضج وتشيخ؟

ج30: فرج ياسين: فهمت من هذا السؤال مستواه الرمزي، أي هل أنك تدخل في حمأة الكتابة وأنت خالي الوفاض من عدّة الكتابة ومرجعياتها، وتتعامل مع الكتابة وكأنك تمارس ذلك لأول مرّة، ثم مع تقدم العمل تشعر أن الطفل الذي بدأ من الصفر أخذ ينضج ويشيخ، أي أن الكتابة نفسها تمر بهذه الدورة من التطوّر المتدرج، فأقول نعم، ولعلني أجبت عن لا مثل هذا السؤال سابقاً، حين أنتهي من كتابة نص أصبحُ مثل أرض محصودة وبعد مدّة وفي ربيعها الخاص تنبت شتلات صغيرة، يمر الزمن فتتحول إلى حقل سنابلهُ جاهزة للقطاف، فتولد القصّة .

س31: وفاء عبد الرزاق: هل شعرت يوماً بأنك عدوّ لنّصك، أو تنصلت عنه؟

ج31: فرج ياسين: لا، أبداً وأنا أعترف بكل حرف كتبته وأعتز به وأدافع عنه، لأنني أكتب برؤيّة ومنهجيّة وأصدر عن مواقف أأمن بها .

س32: وفاء عبد الرزاق: أسمح لي بسؤال غريب بعض الشيء، هل تقرؤك اللغة أم تقرؤها؟ ومتى ترى أنكما تشطحان إلى عوالم صوفيّة؟

ج32: فرج ياسين: أفهم من هذا السؤال هل أن اللغة تظلُ طوع البنان وتخضع لقصد المؤلف وتمضي على خطط هندسيّة، مستجيبةً لإرادة الكاتب الواعيّة، أم تُفلت الزمام، وتخترق قصديه المؤلف وتبدأ بالتصرف من داخل قوانينها الخاصّة في حالة الكتابة : فأقول أجل .. اللغة وهي تدخل في ساحة التوظيف الأدبي تأخذ بالتصرف من دون استشارة الكاتب، إننا من خلال العمل نضطر إلى الإصغاء إلى دمدمتها وهزيمها وجيشانها، فنقف منبهرين لأنها أخذت تكتب نفسها وكثيراً ما تستدرج اللغة مناطق مهجورة في اللاوعي الفردي أو الجمعي، وفي هذه النقطة الاستثنائية يتحقق الشطح، فنذهب ليس إلى العوالم الصوفية فقط بل إلى اللامعقول والغرائبي، وكل ما يقع خارج التصميم الأساس لعمارة النص .

س33: وفاء عبد الرزاق: للكاتب رغبات مشحونة ورغبات متناقضة ومتوافقة، منفصلة ومتلاحمة .. بالنتيجة هي رغبات تشحن اللغة كي تتقد .. هل تراها ضغوطات خارقة أم هناك ضغوطات أخرى تجدها تستفزك ولا ترغب في دخول عوالمها، لأنها ليست منك أو لا تنتمي إليها؟

ج33: فرج ياسين: كل ما ذكرتهِ من ضغوطات تمتلك طاقة هائلة لشحن اللغة بمحرضات الأداء الدلالي، والرغبات توّلد الانفعال، وليس بوسع الكاتب التنبؤ بأي هذهِ الرغبات سيصل الانفعال إلى درجة التفجّر، في أحيان كثيرة، تكون الشحنة قوّية جداً ولكن الإلهام يُبطئ أو يتراخى، فنقول حين ذاك أن التجربة الانفعاليّة لم تكتمل بعد، وبهذا يتم أحياناً قياس الجودة، فليس من الصواب افتعال التجربة، بل الخضوع لاشتراطات الملكة الخياليّة، ولذلك فأنني لم أكن يوماً ما أسيراً لضغوط مُعينة لأن فعل الكتابة يخرج من منطقة الصدق الاعتباري والفني في ذاتي .

س34: وفاء عبد الرزاق: الكاتب أو الشاعر يدافع عن نفسه وعن مجتمعه من خلال نصّه كيف ومتى كان ذلك، وفي أي نص ترى أنك انتصرتَ فعلاً على ذاتك؟

ج34: فرج ياسين: بما أنني أكتب نصوصي بعد الاقتناع الكامل بأنها تصدّر عن مشغل حر ومتحرر فإن ما نشرته لحد الآن من نصوص قصصية، يشكّل سيرة أدبية ناجزة، فلم أداجي ولم أنافق ولم أسر في ركاب أحد، ولم يثنني شيء عن قول ما أود قوله، وأفضل آيات انتصاري ما قمتُ بنشرهِ من قصص لا تخلو من الجُرأة في زمن الحرب ؛ حين قدمتُ قصصاً كانت تنتصر لنوع خاص من البطولات إذ تعلي من شأن البطولة على صعيد الحياة الاجتماعية واليوميّة وليس البطولة في المعارك.

س35: وفاء عبد الرزاق: لكل إنسان حالات ضعف تعتريه . أجد أنها بطولة منه حين يدونها في نص ما؟

ج35: فرج ياسين: كل ما يمر فيه الأديب يكون عرضةً للدخول في محترفهِ الإبداعي، لحظات القوّة ولحظات الضعف، لحظات الإخفاق ولحظات الانتصار، وليس من شأن الأديب أن ينتقي حالات معيّنة لكي يعبّر عنها لأنه في هذهِ الحال يعزل جانباً مهماً من حياته، فتعدُ خاليّة من الصراع، وتقترب من المثاليّة المفتعلّة، وأرى أنه ليس من قبل البطولة إذا عبّر الإنسان عن حالاته المتصارعة أو الشاذة أو الغرائبيّة أو تلك التي يخجل الآخرون من البوح بها .

س36: وفاء عبد الرزاق: الفكرة والحكاية واللغة تتصارع في النص، أيّها يبدأ الصراع، وأيّها ينتصر في النهاية؟

ج36: فرج ياسين: ج30: فرج ياسين: هذهِ العناصر الثلاثة تتواشج مع بعضها لكي تُنتج النص السردي، وليس بالوسع عزلها والحديث عن كل واحد على حدة إلا في حالات القيام بتوضيحها في الصفوف المدرسية ؛ أما في النص فإن الحكاية لا تعطي الفكرة إلاّ من خلال اللغة .. والحديث يطول عن متعلقات هذا السؤال لأنه سوف يجرّنا إلى الشرح المطوّل عن أساليب السرد ووسائله وعناصره .

س37: وفاء عبد الرزاق: هل ورّطك نص من نصوصك في خسارة ما، وشعرت وقتها أنه غريب عنك؟

ج37: فرج ياسين: ثمّة نصان هما (بيوت الأخوة العرب) و(الزّوان) كادا أن يضعاني في زوايا حرجة، يوم نشرا أول مرّة، في بيوت الأخوة العرب استدعي رئيس تحرير مجلة عراقية مهمة إلى القيادة القوميّة وعوتب لأنه نشر لكاتب يسخر من جميع الأنظمة العربيّة، وقيل له أنه مُعرّض للسؤال من قبل جهة أعلى، و(الزّوان) قدم عنها الناقد سلمان البكري ورقة نقدية فضحت خطابها الرمزي، في قاعة اتحاد الأدباء، وأذكر أن القاص عبد الستار ناصر خشي عليّ من مغبّة تلك الورقة وسألني إن كان لي عداوة مع الناقد ؛ لأنه لا يعقل أن يُعلن عن سخريتي من القاعة الثقافيّة الساندة آنذاك وعلى هذا النحو، لكنّ هذين النصين وغيرهما لم يورطاني في خسارة ما ولم يكونا غريبين عني أبداً .

س38: وفاء عبد الرزاق: ألا ترى أن النقد الأدبي العراقي غير قادر على صناعة نجم أدبي كما يحصل في عوالم أخرى؟

ج38: فرج ياسين: النقد الأدبي ليس هو الذي يستطيع أن يصنع نجماً أدبيّاً بل التداول، أقصد وسائل الإعلام التي تضع نصوص الأديب وأخباره حتى التافهة منها في التداول، أما النقد الأدبي فإنه يستطيع صنع نجم في دائرة محدودة هي فئة المثقفين والأدباء، وعبر وسائلها المحدودة أيضاً، الفرق بين النجمين أن الأول مصنوع يتمّ تكريسه لغايات سوقيّة غالباً ما تتعلق بالأنظمة السياسيّة أو الاديولوجيات الحزبية والطائفيّة والقوميّة، أما الثاني فإنه أصيل يتم تكريسه عبر مؤهلاته الإبداعيّة .

س39: وفاء عبد الرزاق: الهاجس الأيديولوجي أم الهاجس الإنساني اليومي هو ما يتمحور في أعمالك؟

ج39: فرج ياسين: الهاجس الإنساني اليومي هو ما يحرضني على الكتابة، والكتابة لدي تنطلق من رؤيّة براجماتيّة لا تحيل على أيّة مقدمات أو مهيمنات مفروضة من قبل . صحيح أن الإنسان والكاتب على نحو خاص هو مستودع معرفة وتجارب ؛ إلاّ أن العمل الأصيل هو الذي يستطيع أن يصنع من الخبرة قوّة محرضّة، إذ لا أحد يقوى على إنكار ذلك . والعمل الأدبي يعد احتفاليّة جماليّة ودلاليّة وأن الفكر المسبق يجب أن يشّف في الجماليات والدلالات من دون أن يفرض نفسه بوصفه حقيقة مائلة .

س40: وفاء عبد الرزاق: هل تفكّر بالكتابة وأنت تقرأ؟ هل يحرضّك نص ما على كتابة قصة جديدة؟

ج40: فرج ياسين: شكراً لك يا سيدتي، فهذا السؤال لم يطرح عليّ سابقاً، لكن الوقائع تفرضه على مشغل الأديب حتماً، وأنا أجيب بنعم . ولكنني اعمد إلى جعل الدائرة أكثر رحابة فلا أجعل الأمر يقتصر على القراءة، بل المشاهدة والحوار العادي والتقاط الأخبار والتأمل، وقصصي لما فيها من التقاطات وتناصات تدل على ذلك، بعض قصصي تأخذ عناوينها أو جمل التصدير فيها أو يعض نسيجها من هذا التنوع، فأنا حين أضع تصديراً لقصصي نصاً صغيراً للجاحظ أو للشاعر الياباني باشو أو جملة مأخوذة من مسلسل الحسناء والوحش أو فيلم غاندي، أليس هذا دليل على أن عمليّة الكتابة هي عمليّة اتصال معرفي وفنّي، وإن السرود كلّها تتساقى الحضور في معترك الأداء .

س41: وفاء عبد الرزاق: العيش بلا أمان وإنتاج أدبي، أم العيش بأمان ولا نص تقترب منه ليكون ذاتك، أيّهما أفضل؟

ج41: فرج ياسين: الكتابة تباغت الأديب تحت أي ظرف كان، وخيار من هذا النوع الذي أشرت إليه يتراجع أمام إرادة الإبداع، وبعد مرور زمن من احتراف الكتابة والتفاعل معها تصبح في الطليعة من أولويات الكاتب، وتصبح هي مسوّغ الحياة بالنسبة له، وربما عند البعض تغدو مسوّغ الحياة الوحيد، ألم يدفع كثير من الكتاب حياتهم ثمناً لإبداعهم وتأريخ الأدب العربي والعالمي يزخر بهؤلاء، وعلى الصعيد الشخصي كانت أيام التسعينيات المحرجة مادياً من أغزر العقود في مسيرتي الأدبيّة إنتاجا إذ كتبتُ في أيامها القاسيّة مجموعتي القصصيتين (واجهات براقة) و(رماد الأقاويل) وكذلك قصتي الطويلة (ذهاب الجعل إلى بته) .

س42: وفاء عبد الرزاق: ما رأيك بجهود مؤسسة المثقف العربي وهي تقدم في كل عام مشروعاً جديداً للثقافة والمثقفين، الأمر الذي لم يقم به الآخرون؟

ج42: فرج ياسين: ما تقوم به مؤسسة المثقف متفرد ولافت ويستحق الإشادة والتقدير، وهي بهذا الصنيع سوف تفعّل الركام المعرفي،الذي بشرّت به وعقدت العزم عليه؛ مراهنة على رؤية صافيّة محفوفة بالآمال اللائقة بمستقبل مزدهر، لا يخصها هي وحدها بل يتخطى ذلك فيعم أثره الحركة الثقافية في عموم الوطن العربي، وشكراً لكِ يا سيدتي .   

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم