تكريمات

المثقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين (4)

faraj yaseenخاص بالمثقف: الحلقة الرابعة من الحوار المفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين لمناسبة تكريمه، وفيها يجيب على اسئلة الأديبتين: سنية عبد عون، ورائدة جرجيس.

سنيّة عبـد عــون، قاصة / العراق

تحية للقاص القدير الدكتور فرج ياسين، وللمثقف الغراء على مبادرتها في فتح ملف الحوار المفتوح مع شخصية أدبية مرموقة، ساهمت في إرساء معالم وضّاءة في دروب السرد العراقي المعاصر . وتحية للقاصة والإعلامية القديرة الأخت رشا فاضل على رعايتها وإشرافها على الملف .

س43: سنية عبد عون: أتوجه بالسؤال إلى الأديب الكبير حول النقد الأدبي العراقي ومدى مواكبته لمسيرة الإبداع في القصة والرواية والقصة القصيرة جداً بعد عام 2003 . كما نعلم أن كثيراً من المباحث النقدية لم تتحدد ملامحها بعد، وهي بحاجة إلى بلورة مفهوماتها بحيث نستطيع أن نطمئن الى أن ثمة مدرسة نقدية عراقية راكزة .. (هنا نتحدث عن نقد القصة العراقية ) . السؤال، ما هو المدى الذي يمكن لنا فيه أن نعتبر أن النقد القصصي قد أسس مدرسة عراقية يشار لها بالبنان .. فعلاً؟

ج43: فرج ياسين: القول بأن هناك مدرسة عراقيّة نقديّة، قول خطير جداً، لأن هناك اتجاهات نقديّة مختلفة، البعض منها يشكل نفوراً عن أي تحديد يمكن أن يقرّبه من الآخر، فهناك ما زال يوجد من يدافع عن النقد التأثري الانطباعي وهناك من يسفّ في اتباع الاتجاه المدرسي التراثي وهناك من يرفض هذا وذاك ويدعو إلى الأخذ بالمناهج الحديثة السياقيّة أو النصيّة، ولكل من هذه الاتجاهات حضور واقعي حيوي، لكن الاتجاه الآن ينصرف إلى المشاركة المنهجيّة الحداثويّة بوصفها خلاصة معرفة إنسانيّة آخذة بالصعود . والتنوع وأعتقد أن نقاد اليوم ينطلقون من النظريات والمناهج الحديثة السائدة مثل البنيوية والتفكيكيّة ونظريه القراءة والتلقي انسجاماً مع التحوّلات الحضاريّة الجوهريّة .

س44: سنية عبد عون: معظم الدراسات النقدية العراقية ليست سوى انطباعات شخصية عابرة لا ترتكز على فحص البنية السردية والترميزات المصاحبة لها .. (ما مدى صحة هذا القول)؟

ج44: فرج ياسين: لا يا سيدتي، مُخطئ من يظن ذلك وأتمنى أن لا يكون هذا القول لكِ بوصفكِ قاصّة عراقيّة، لقد تحدثت في الإجابة السابقة عن اتجاهات النقد، وأقول الآن أن النقد العراقي ليس هكذا كلّه أي ليس هو مجرد انطباعات شخصيّة ( المنهج الذوقي ) بل ثمة كتاب ونقاد أخذوا بروج المناهج النصيّة الحديثة، وجعلوا يتعاملون مع النصوص على وفق أسس منهجيّة راقيّة، وباتت أصواتهم تشارك وتؤثر في مسيرة الثقافة والأدب والحياة الفكريّة في البلاد العربيّة أو خارجها وأقصد هنا نقاد الداخل ونقاد الخارج.

س45: سنية عبد عون: لكم نصوص مهمة في فن القصة القصيرة جداً قرأت منها (ثوار) .. ضمن مجموعة واجهات براقة والانكشاف .. لاحظت هناك إلماعات مكثفة تتماهى والوضع العراقي الملتبس المشحون بالغضب من تردي الوضع الأمني .. السؤال أستاذنا الجليل هل تناول اليومي المتناظر مع الواقع الذي تفرزه نشرات الأخبار يمكن أن يشكل رصيداً غنياً لك أم أن استحضار مكنونات قديمة .. هو الأوفر حظاً في تقديم نص مرموق؟

ج45: فرج ياسين: المشاهدة والاستماع والتأمل والمعايشة وخوض التجارب، كل هذه المصادر أو تلك مهيمنات ضاغطة تعمل على شحن طاقة الأديب بالرؤية، ثم تؤهل للانخراط في المعترك العملي، أي الكتابة، لكن كلَّ هذه ليست شيئاً من دون أن تمر بالمرشحّات الإبداعية في المشغل الخاص بالأديب، وأنت تعلمين يا سيدتي بوصفك تمارسين الكتابة القصصيّة بأن ملكة التقاط الحالة وسرعة الاستجابة، وقوّة التمثل، وتأمين المداخل، وهندسة البناء اللغوي، فضلاً على حكمة الاستحضار، كلّ ذلك يعد من خصوصيات التفرد، ومعه تغدو حتى الإشارة العابرة التي لا يشعر بها الآخرون مشروعاً لكتابة قصة جديدة .

س46: سنية عبد عون: في نصكم الرائع هبوط الطيور من الجنة . يمتزج التسجيلي بالخيالي . بما يمنح النص سحرية بديعة وساحرة .. هل يمكن اعتبار مزج التسجيلي بالخيال قفزة إلى أمام في مسيرة السرد العراقي؟

أكرر شكري واعتزازي ..

ج46: فرج ياسين: منذ أواسط الثمانينيات في القرن المنصرم، شهدت القصة العراقية تطورات كبيرة جداً تعدّت المضامين إلى الشكل الفني، وكان القصاصون الستينون يتسابقون للإفادة من منجز فن القصة في العالم من جيمس جويس إلى ماركيز، وأنا قاص سبعيني – ثمانيني، تأثرت بالزملاء وبمنجز القصّة العالميّة، ولا أدعي سبقاً في أي من هذه الفتوحات الفنيّة، لكن النقاد أشاروا إلى هذا المزج بين الواقعي التسجيلي والخيالي والسحري في قصصي وكانت قصتي (رماد الأقاويل) التي أنشرت في 1994 محط اهتمام خاص لأنها ألغت البناء الخيطي للحدث، واشتغلت على ثيمّة مبعثرة في ثلاثة عقود، وقدّمت شخصيّة إشكاليّة، لم تعرّف ولا سبيل إلى وصفها، ثم كانت تُفاجئ القارئ بظهور شخصيات ثانويّة تسند إليها أدوار في سياق القصة، بحيث بدا وكأن القصة لا تريد أن تنتهي وأن الأشخاص الجدد لا يريدون التوقف عن الظهور .. أما إن كان مزج التسجيلي بالخيالي يعد قفزة إلى أمام في مسيرة السرد العراقي، فأنا أقول لكِ سيدتي بأنه قفزة إيجائية حقاً ولكنني لست أول من قفزها ولست الوحيد .

رائدة جرجيس، شاعرة / امريكا

س47: رائدة جرجيس: كيف ترى المتلقي من جانب وكيف ترى صنعة الكتابة من جانب آخر، في زمنين ومظهرين .. الحداثويّة والتقليديّة .. الماضي والحاضر؟

ج47: فرج ياسين: الأمر كلّه ينصرف إلى المنطقة الثقافيّة، التاريخيّة والنفسيّة والمعرفيّة التي يحلّ فيها كلُّ من النص والمتلقي، لكن هذا مشروط بمدى استجابة كلٍ منهما للمثول في البؤر الحيويّة الدقيقة، المستوفيّة للاشتراطات والأصول .. لكن شرط التوازي بين النص والمتلقي – على نحو دقيق – غير موجود، لأن التقليد أو الحداثة حين يحلاّن في الثقافة لا يستأذنان أحداً، وسيكون من مسؤولية المتلقي أن يرتفع إليهما، أو يظل صافناً في مكانه، وإذا كانت الحداثة معطى ثقافياً فوقيّاً، فان المتلقي الاعتيادي قد لا يتفهم هذه الفوقيّة أو ينسجم معها .. وهذا يعد أحد هموم المثقف المبدع، لأن كتابته تتطلب أفقاً قرائياً ناقصاً بسبب عدم توازي معرفته مع معرفة المتلقي، ونحن – الكتاب – نشكوا من أننا غير مقبولين أحياناً، كما يشكو المتلقون من أن الكتاب غير مفهومين أحياناً .

س48: رائدة جرجيس: ما هو تأثير توظيف الأساطير والخرافات في القصص الحديثة؟

ج48: فرج ياسين: دخلتْ الأساطير والخرافات حقول التوظيف الأدبي منذ فجر الإبداع الإنساني، ولك في الملاحم الكبرى مثلاً واضحاً (ملحمة كلكامش والإلياذة والأوديسة) وغيرها وهي أعمال أدبيّة تعتمد على الأساطير واستمر ذلك في العصور الوسطى وفي عصر النهضة أما في العصر الحديث فقد شهد التوظيف تصعيداً واضحاً في الأنواع الأدبيّة – الشعر والقصة والمسرح – وقد اتخذ هذا التوظيف أشكالاً كثيرة على وفق ما تقتضيه طبيعة العمل الأدبي، ومن الغريب جداً أن أولى القصص المكتوبة في العراق في بداية العشرينيات وهي قصص (الرؤيا) كانت تتخذ من الأساطير القديمة ثيمة رئيسة لنسيجها السردي، والرأي النقدي الذي ناقش هذا الاتجاه آنذاك، أخذ يؤكد على أن كتاب القصّة كانوا يجعلون منها معادلاً رمزيّاً لأعمالهم، لأنهم لا يستطيعون التعبير صراحةً عمّا يريدون، ولكن هذا ليس كل شيء، لأن توظيف الأساطير والخرافات يعد حالة فنيّة جماليّة، وفي كتابي – توظيف الأسطورة في القصة العراقيّة الحديثة ذهبتْ إلى أن تقانات الأسطورة انتقلت إلى النص القصصي الحديث وتغلغلت في نسيجه، فهذه التقانات إذن لم تكن قد دخلت النص لمجرد الحلول الموضوعي بل الفني أيضاً، وكان الشعراء والقصاصون قد أدخلوا الأسطورة في النصوص على ثلاث مستويات هي : استعمال المفردة الأسطوريّة أو الطقس الأسطوري أو الحكاية أو الجزء من حكاية أسطورية . وقد كان تأثير هذا التوظيف كبيراً لأنه أتاح فسحة جديدة للتعبير الإيحائي والرمزي .

س49: رائدة جرجيس: يقول رسول حمزاتوف في كتابه البارع (داغستان بلادي) دخلنا الأكاديميّة الروسيّة للآداب 50 طالباً، فتخرجنا 45 ناقداً وثلاث قصاصين وشاعرين؟

ج49: فرج ياسين: على الرغم مما في هذا القول من سخريّة لاذعة لكنه حقيقة يعرفها القاصي والداني وهو أن التعلم لا يصنع من الشخص أديباً ولكني أريد أن استثمر هذه المقولة فأشير إلى أن النقد يشترط الموهبة أيضاً أسوةً بالإبداع، لأن المرء قد يتعلم كل نظريات النقد ودروبه ومسالكه لكنه يظل يفتقر إلى الحساسيّة العاليّة في التذوق التي قد لا تشفع لها المنهجيّة ولا النيّة المعقودة على التفاعل الملتزم . وهنا مكمن الفرق بين ناقد وآخر، وتجاوبا مع طرافة مقولة رسول حمزاتوف أتذكر قولاً نقل لي من قيل صديق أديب نجفي للشاعر الراحل مصطفى جمال الدين إذا قال : يوجد في النجف الأشرف أربعة آلاف ناظم شعر، لكن الشعراء الراسخين يُعدّون على أصابع اليد الواحدة .

س50: رائدة جرجيس: ماذا يقول د. فرج بخصوص النقد والنقاد في الساحة الأدبية عراقيّاً وعربياً؟

ج50: فرج ياسين: لستُ مولعاً بالحديث عن الأزمات، ولا أرى في النقد العربي ركوداً أو تخلفاً .. ثمّة حركة نقديّة مواكبة للمنجز العالمي في الطرح النقدي على صعيدي النظريّة والتطبيق .. ونظراً لاتساع آفاق التعليم الجامعي وانتشاره في العراق والعالم العربي فإن النقد الأكاديمي الذي يمضي على أسس منهجيّة يشهد تطوّراً لافتاً، فضلاً على أن الالتفات إلى المنجز النقدي العربي القديم ومحاولة وصلهِ بالمنجز الحديث صار من المؤشرات العميقة على الأصالة .. وأنتِ ترين الجهد النقدي في كل مكان الآن يفضل الانتشار الهائل الذي وفرّته وسائل الاتصال الحديثة .

س51: رائدة جرجيس: كيف برأيك تصل الترجمة إلى درجة مكافئة للأصل، وتحتفظ بقيمها إبداعاً وبلاغة؟ وكيف يكون التوازن بين الإدراك والمنظوريّة في ترجمة النصوص تحديداً؟ وما هي أسرار الاختلاف بين المحققين والمترجمين؟

ج51: فرج ياسين: الترجمة عمل صعب جداً واشتراطاتها معروفة، وقد يكون المترجم عارفاً أسرار اللغة التي ينقل عنها، لكنه يظل مفتقراً إلى موجهات أكثر أهميّة تتعلق بالمثاقفة، إذ قد تكون هذه ناقصة، وأرى أن المترجم الناجح هو من يتعايش عملياً مع الفضائيين الثقافيين اللذين يتعامل معهما، أي إذ كان مترجماً عراقيّاً لم يغادر العراق وكل ما يعرفه عن الفرنسيّة مثلاً جاء عن طريق المعاجم والموسوعات وكتب الأدب وعلم النفس والاجتماع .. إلخ فإن كفاءته تظل ناقصة، إذ يتعيّن عليه أن يكون حاضراً جسدياً في فرنسا، لكي يكون ضمن ما أسميّه بالمنطقة الثقافيّة التي يتنفسها الإنسان الفرنسي وأنت تعرفين أن المثل أو النكتة وحتى الشتيمة لا يمكن أن تثير من هو بعيد عن المعايشة اليوميّة للثقافة السائدة ناهيكِ عن تفهم المجازات والأنزياحات والنشاطات الأدبيّة .

أما الاختلاف بين التحقيق والترجمة، فإنه كبير جداً، لأن التحقيق يُعنى برد مفردات وأجواء النص إلى شكلها الأصلي. وهذا عمل آلي حرفي، أما الترجمة فإنها نقل نص إلى لغة أخرى اذ يكون كتابة ثانيّة للنص، لأن خيال وأدوات المترجم تتدخل في بنائه وتحريره .

 

 

يمكن توجيه الاسئلة عبر الاميل الاتي

 

[email protected]

 

 

للاطلاع

 

المقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع د. فرج ياسين

 

 

خاص بالمثقف

 

.................................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

 

في المثقف اليوم