تكريمات

المثقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين (5)

 

عمـار يوسـف ألمطلبي، شاعر وكاتب / كندا

مضتْ على آخر مرّةٍ رأيتُ فيها فرج ياسين سنين طوال .. فجأةً رأيتُ لهُ قصّةً في (المثقّف) .. كتبتُ تعليقاً، فجاءني الجواب .. لمْ يزدْهُ تعاقب السّنين إلا كما يزيد مرُّ الزمان الدرّ جَمالاً !!

كنتُ و ما زلتُ مأخوذاً بسحرِ شخصيَّتَينِ في عالم الأدب .. تشيخوف الروسي، و إكزوبيري الفرنسيّ ..

مثّلَ لي إنطوان تشيخوف صاحب (بستان الكرز) النبلَ الإنسانيَّ والتواضع، أمّا إكزوبيري، صاحب (رياح، رملٌ و نجوم) _ أرض البشر بحسب الترجمة العربيّة، وكتاب (الأمير الصغير) الذي لا أفارقهُ، فقد مثّل لي تلكَ القدرة الفائقة على فهم الطبيعة البشريّة، و التعاطف الذي لا حدود له مع البشر ..

أستطيعُ بكلِّ ثقةٍ أنْ أضيف إليهما القاصّ فرج ياسين، الذي جمع بين النبل والتواضع و حبّ الناس، فضلاً عنْ عطاءٍ أدبيّ يضعهُ بسهولةٍ في مكانةٍ عالميّة بين كتّاب القصّة القصيرة الكبار.

لم أتخيل يوماً أني أوجه أسئلة لك .. المحبّة لا تحسن توجيه السؤال .. لكني سأحاول، وأرجو ألاّ أثقل عليك .

 

س52: عمار يوسف المطلبي: يقول الفرنسي انطوان أكزويري في (أرض الشر)، إن المرء لا يعيش إلاّ في شبكة من (خيوط) العلاقات الاجتماعية، مشبّهاً إيّاها بشبكة العنكبوت .. أظن أن كثيراً من الخيوط قد انقطع بالتغيرات الاجتماعية العميقة، وبرحيل الأصدقاء .. هل تشعر بنوع من الغربة، وأنت تعيش داخل الوطن .. وما تأثير ما حدث عليك قاصاً وإنسانا؟

ج52: فرج ياسين: لم أعد أذكر من الذي أطلق هذا القول (لقد كبرتُ وأصبحت ذكرياتي مملوءة بالقبور)، وكنتُ في كل صفحة تطوى من كتاب الزمن أفكر بشيء واحد وأمعن في مراقبة قدر التناقص المأساوي الهائل، أنه أمر يتعلق باللغة، اللغة في مستويين: الأول بوصفها شمّاعة العقل والفكر والذوق التي جعلت تنحسر وتضيق وتتبلّد كلما أهملتُ مصافحتها مدّة طويلة، والثاني أنها فقدت كثيراً من مفرداتها ومصطلحاتها وألقها الخاص مع فقدان كل صديق أو قريب أو زميل، وأنت تعرف يا صديقي أن العلاقة الخاصة مع إنسان تنهض على مساحة لغويّة تداوليّة، وبرحيله تنمحي هذه المساحة من معجمك الخاص، وبعد زمن إن لم تجد علاقات جديدة قادرة على إنعاش هذا المعجم فإنك تظل (مثل السيف فرداً)، وأنا كذلك لقد عشت حياتي كلها لا أجد في مجتمعي أواصر لغويّة كفوءة تستطيع أن تبني جسوراً حقيقية لتفعيل حياة نشطة على المستوى الثقافي  إلاّ فيما ندر ؛ لذلك عشت في غربة من نوع خاص مع أنني أعيش داخل الوطن .

 

س53: عمار يوسف المطلبي: لأخي المرحوم الدكتور عبد الجبار المطلّبي بحث بعنوان (الشاعر وتجربة الشعر) يتحدث فيه عن طقوس الشاعر العربي القديم بما فيها طقوس اختيار المكان، قبل كتابة القصيدة، هل ثمة طقوس لابد  منها حين تكتب قصصك؟

ج53: فرج ياسين: رحم الله أستاذي الدكتور عبد الجبار الذي درّس لي مادة الأدب العربي القديم في كليّة الآداب، والذي كان يقلني بسيارته حين يراني أقف على رصيف مدخل جسر الصرّافية والذي كتبتُ عنه مقالاً استذكارياً بعنوان (والامتداد والاستقامة) .

أما فيما يخص طقوسي الخاصّة فليس فيها ما يلفت سوى أنني أكتب بالقلم الرصاص في دفتر أتعمّد أن يكون ورقاه عادياً وأفضله أسمر اللون، وأنني كتبت ست مجاميع قصصيّة وكتابين نقديين هما رسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه وعشرات القصائد الشعرية و البحوث والمقالات والعروض ومقدمات الكتب والمقالات،من دون أن أجلس إلى مكتب أو منضدة كتابة. كنتُ أضع الدفتر في حجري وأنحني عليه ثم أبدأ الكتابة، أما النسخة المبيّضة فإنها كانت تشق عليّ لأنها تضطرني أحياناً إلى الجلوس إمام المنضدة وذلك كل شيء .

 

س54: عمار يوسف المطلبي:  لا أملك نفسي حين أتذكرك، أو حين أقرأ لك بعض قصصك، إلاّ أن أقارنك بالروسي الكبير أنطون تشيخوف .. البساطة العميقة، التواضع، الحسّ الإنساني، والأسلوب الواقعي المؤثر ..؟

ج54: فرج ياسين: في الإجابة على هذا العرض التبجيلي لا يسعني إلا أن أزجي لك آيات شكري الجزيل، ولكنك ذكرتني بإجابة كان قد أطلقها علي جوابا على سؤال صحفي، قريبك الراحل العزيز محمد شمسي رحمه الله، حين سؤل عن فرج ياسين فقال (تشيخوف في قفص) وكان يقصد ابتعادي عن أجواء بغداد وذهابي إلى (قفص) المدينة الصغيرة آنذاك تكريت .

 

س55: عمار يوسف المطلبي: أرى أن النص الأدبي لا يحتمل الشراكة، لكنك كتبتُ فيما مضى نصاً مسرحيّاً مشتركاً مع صديقك غالب المطلّبي، هل كانت تجربة ناجحة، وبماذا خرجت منها؟

ج55: فرج ياسين: أنا وغالب - قرين الروح - من تلامذة مقهى البرلمان ومؤتمرها العامر الذي كان يعقد صبيحة كل جمعة في أوائل السبعينيات إذ كنّا نجالس أعلام الأدباء الستينين . خالد علي مصطفى وما لك المطلبي وسامي مهدي وموسى كربدي وموفق خضر وغازي العبادي وفوزي كريم ويوسف الحيدري وعبد الأمير معلة وآخرين، ممن أحزن لعدم تذكرهم هذه اللحظة، وكان خالد علي مصطفى أقرب الجميع إلينا، كان قد أوحى لنا بأهمية المسرح اليوناني وحثنا على قراءة المسرح الفرنسي عند جان جير ودو وجان أنوي، الذي أعجبنا بمسرحيته بكت أو شرف الله، وصادف أن عرضت هذه المسرحية فيلماً في بغداد من تمثيل بيتراوتول وريتشارد برثون، وكنا أنا وغالب مولعين بالسينما . وذات يوم أحضر غالب نصاً من كتاب نشوار المحاضرة للتوخي يتحدث عن أميرة حمدانية كان عضد الدولة البويهي قد طلبها للزواج فأبت عليه، ثم أنه غلب قومها وجاء بها سبيّة فطلب الزواج منها لكنها رفضت، فأمر أن تعمل في دار القحاب في بغداد، ثم يستوفي هو أجور عملها، لكنها وجدت فرصة للانتحار فرمت نفسها إلى دجلة من مرتفع في محبسها وماتت .

غالب وأنا كتبنا مسرحيّة عنوانها (المسد) مستوحاة من هذه الواقعة، نشرتها مجلة الأديب المعاصر ونعمنا بعض الإطراء، وتمّ حثّنا على كتابة النثر، إذ كنتُ حتى ذلك الحين أكتب الشعر وأنشره .. وأظنني ذكرتُ كثيراً أن ما عددته نجاحاً لي في تلك المحاولة هو الذي حثني على كتابة القصّة، وربما كان لغالب الذي كتب قصصاً رائعة بعد ذلك رأي يشابه ما ذهبتْ إليه .

 

س56: عمار يوسف المطلبي: مَن مِن النقاد العراقيين ترى أنه اقترب من عالمك القصصي؟

ج56: فرج ياسين: سوف استثني كتاب الدكتورة سوسن ألبياتي عن مدونتي السرديّة الكتاب الفائز بجائزة الشارقة لأنه كتاب أكاديمي، واستثني كتاب مزاحم مصطفى (رماديات) لأنه كتب بمحبة تلميذ وصديق، واستثني رسالة الماجستير للطالبة ثمار كامل، وبحوث الطلبة، ولاسيما بحث الطالبة كوثر محمد علي الفائز بجائزة أفضل بحث تخرج في الجامعات العراقية في حقل الدراسات الأدبيّة، أو استثني مقالات النقاد العراقيين جميعاً لأنهم كتبوا مقالاً أو مقالين أو ثلاثة عن تجربتي، وأركز على تجربة الناقد الدكتور حسين سرمك الذي تناول عدداً كبيراً من قصصي واشتغل على منهجيّة معروف بها وهي تحت عنوان (علم نفس الإبداع) ؛ إذ ذكر لي مرّة أنه أنجز الجزء الأول من كتابا أختص بدراسة قصصي،وما زلت أذكر كيف أنه تعقب رائحة القرنفل في قصة أو أكثر وتوصل إلى كشوفات نقديّة ذكيّة وممتعة .

 

س57: عمار يوسف المطلبي: ما رأيك بمصطلح (أدباء الداخل وأدباء الخارج) ألا تعتقد أنه مصطلح إقصائي؟

ج57: فرج ياسين: ربما يبدو الأمر لأول وهلة وكأنه شبيه بمصطلح الأجيال أي أنه مجرد وسيلة مدرسيّة للتصنيف بقصد تسهيل النظر إلى المشهد، ولكن الحقيقة يا صديقي عمار ليس كذلك، إذ ألقيت ذات مرّة نظرة على قائمة أدباء ومثقفين يعيشون في الخارج وقد كوّنوا لهم منزلة واسماً فلم أعرف  الأ القليل منهم . كانوا قد نشأوا هناك وتأثروا بثقافة أخرى وربما بعضهم تعلم لغة البلد الذي يقيم فيه وأخذ ينتج أدباً، لابد أن تلوح فيه بوادر اختلاف ما .. وهذا طبيعي وسائغ جداً .. وأنت لا تستطيع أن تقول أن كاتب ياسين أو الطاهر وطار أو أمين الريحاني أو حتى جبران خليل جبران ليس كاتباً، كما أنك لا تستطيع أن تقول أن يحيى السماوي أو عبد الرضا علي أو عمار المطلبي انفصل عن ثقافته . لكن كل واحد من هؤلاء يختلف عن عبد الخالق الركابي وعبد الرزاق المطلبي وسامي مهدي .

لدي صديق فنان تشكيلي يعيش في فرنسا، يزور أهله كل عام شهرين بعد التعبير، أخذ يكتب القصة وأصدر مجموعة قصصيّة بمباركتي وإشرافي، أنك لو تقرأ قصص  الصديق (بديع الآلوسي) لقلت هذه قصصج مكتوبة بتأثير سافر من الثقافة الأوربيّة، في وهي الموضوعات والبناء الفني . وليس في ذلك خللاً أو عيباً .

وأشكرك يا صديقي ..

 

 

يمكن توجيه الاسئلة عبر الاميل الاتي

 

[email protected]

 

 

 

للاطلاع

 

المقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع د. فرج ياسين

 

 

 

خاص بالمثقف

 

.................................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم