تكريمات

المثقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين (7)

mayada aboshanab2خاص بالمثقف: الحلقة السابعة من الحوار المفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين لمناسبة تكريمه، وفيها يجيب على اسئلة الشاعرة والاعلامية ميادة ابو شنب.

ميادة ابو شنب: شاعرة واعلامية / كندا

س69: ميادة ابو شنب: إنّ متابعتي لحوارك الشيّق في ملف التكريم زادني شوقاً لقراءة صفحات أخرى من مذكراتك . هل تصحبنا لأروقة رحلتك الأكاديمية؟ واختيارك لأطروحة الدكتوراه؟ وتأثير هذهِ الرحلة على نتاجك الأدبي؟

ج69: فرج ياسين: أبدأ بإزجاء الشكر لك لمناسبة هذهِ الانتباهة الذكيّة يا سيدتي .. استأنفتُ الدراسة الأكاديمية متأخراً، قبلها كنتُ قد أمضيت قرابة العقدين في التدريس الثانوي، لكنّ فرصةً أتيحت لي في عام 1994، إذ شُرّعَ قانون ينص على السماح للمتميّزين بالدراسة العليا يصرف النظر عن العمر أو معدّل درجات التخرج، فتقدمتُ وفي جعبتي مجموعتين قصصيتين، وعدد من القصائد والمقالات المنشورة فضلاً عن أنني كُنت آنذاك رئيساً لإتحاد أدباء وكتاب محافظة صلاح الدين، وأشغل عضوية الهيئة الاستشارية للثقافة والفنون في المحافظة، وعند شروعي في الدراسة، اخترتُ دراسة توظيف الأسطورة في القصة العراقية لسبب أن هذا التوظيف دُرس في الشعر كثيراً أما في القصة فلم يدرس على نطاق واسع وفي الأقل لم يدرس على مستوى الرسائل والأطاريح الجامعيّة، وعند نشر الدراسة من قبل دار الشؤون الثقافية العامَة في العراق عام 2000 نال الكتاب استحساناً وقبول بتقدير لافت في الصحافة الأدبية .

 وخلال جمعي للمعلومات في مرحلة الدراسة، لاحظت أن الحديث يجري عن أسطورة أخرى تتخذ أسماء كثيرة منها: الأسطورة الجديدة أو المصنّعّة أو العصرّية أو المدّنسة أو المضادة أو البديلة أو المستمرة .. فعنّ لي أن أبحث في الوسائل والمهيّمنات التي تؤدي إلى ظهور هذه الأسطورة، وكتبتُ بحثين في هذا الاتجاه، توخيّت فيهما إظهار هذه المهيمنات التي تجعل الواقع المعيش يرتفع عن طريق الخلق والابتكار إلى مرتبة الأسطورة، ما حثّني على تسجيل موضوع الدكتوراه بعنوان (أنماط الشخصيّة المؤسطرة في القصة العراقية الحديثة) وفي هذهِ الأطروحة تحدثتُ عن الأسطرة بوصفها القوّة الإجرائية التي من شأنها نقل الواقع إلى مرتبة الأسطورة، وأقصد الأسطورة الجديدة، وقد بادرت دار الشؤون الثقافية التابعة لوزارة الثقافة العراقية إلى طبعة عام 2010 أيضاً .

 أما تأثير هذهِ الدراسة الأكاديمية على نتاجي الأدبي فإنه أمر طبيعي، لأنني وجدتُ نفسي في بجوحة من المصادر والقراءات والمعلومات الجديدة التي أثْرت مشغلي وذائقتي، ولكنني أود الإشارة إلى أن قصتي (حافات السنين المدّببة) التي شهدت أوّل نزوع أسطوري (أسطرة) كُنت قد كتبتها في ربيع عام 1994 أي قبل أن تتبلور أفكاري التي سبق لي طرحها هنا .. وكان الدكتور الناقد محمد صابر عبيد قد أشار إلى ذلك في مقال شارك فيه في أحد المؤتمرات آنذاك ثم نشره في كتبه .

س70: ميادة ابو شنب: الشعر عند العرب هو رمز البلاغة . وهو أكثر الأجناس الأدبية رواجاً . هل كان التحّول من الشعر إلى القصّة القصيرة في تاريخ الأدب العربي، تأثراً بالغرب أم إنه امتداد طبيعي للإبداع العربي؟

ج70: فرج ياسين: أسمحي لي أن أتخطى موضوع التحّول من الشعر إلى القصّة، لأن أحداً ما لم يتحول، فالشعر ما زال قائماً بآفاقهِ وألقه ومريديه، والقصة وُجدت في الأدب العربي . وجعلت تسير في خطّها المتوازي مع الشعر ومع غيره من الأنواع الفنيّة، ومع أننا دأبنا على القول أن القصّة حديثة وعمرها لا يتجاوز إلا قليلاً القرن من الزمان ؛ الأ أنها كانت معروفة في تراث العرب الأدبي من الخبر إلى المقامة . لكنّ شكلها الفني المعاصر هو ما يجعلنا نعدّها نتاجاً حيوّياً للمثاقفة، والاتصال مع الغرب منذ ظهور الطباعة وتوافر الصحف وانتشارها، وعلى وفق ذلك فإن القصّة اليوم لا تتنكر لجذورها العرّبية ولا تتنكر أيضاً لتأثرها بالغرب .

س71: ميادة ابو شنب: وماذا وجد الإنسان المبدع الذي يسكنك في القصّة القصيرة، ولم يجده في الشعر؟

ج71: فرج ياسين: صحيح أن الجو الأدبي في أواخر السبعينيات لم يشترط على الشعراء الجدد إجراء القرعة بينهم، لكي يفدوا واحداً منهم لأجل خلاص مطلوب، لكنني فهمتُ الأمر هكذا، وقبل القرعة أثرت الفداء . وما كان لقلمي أن يتسكع عاطلاً وقد أتيح له وقت أرحب في ظلال الخلاص، لذلك صادفني النثر، وبدا وكأننا أصدقاء إذ كتبتُ القصص الأولى بخفّة وصفاء ومسؤوليّة، لقد أذهلني أنني كُنتُ أقول ما أود قوله حقاً، ثم إنني وجدت قارئاً لأول مرّة، وفي الشارع كُنت مضطراً لشرح قصيدتي فأصبحتُ أتلقى شروحاً مُختلفة لقصص، ولكنني ما زلتُ استدعي الشعر إلى مائدة القصّة، كلما استطاع أن (يتشطّر) ويفلح في إقحام نَفَسَه الدرامي أو حتى النغمي في عملي . من قال أن الفنون الأدبية لا تتساقى عناصرها .

س72: ميادة ابو شنب: الإبداع وليد طبيعي للمجتمع، هل تشعر أن حرمانك من السفر حرمك من إثراء وجدان الأديب الفضولي، وبالتالي انحصرت تجربتك في الحياة في بقعة واحدة ومجتمع واحد، كان هو المنهل الوحيد لإبداعك؟

ج72: فرج ياسين: في واحدة من قصائدي الأولي، ثمة مقطع صغير يقول: (تظلّ المحطاّتُ في أفق لا يُطال، ويسعى بنا خاطرٌ لا قدم) ولا غرو أنك تلمسين بوادر الشكوى في هذه الجملة الشعرّية ؛ ولكن فيها أيضاً أن (السعي) يتحقق في الخاطر وليس في القدم أي أن المشاعر والتأملات والحلم ووازع الترقب والحدس، كل أولئك يمارس هذا السعي وهذا الخروج إلى العوالم الغيبية والخفيّة، ونحن الحكاّئين ننتمي إلى مملكة الخيال الشاسعة، وهنا: أود الإشارة إلى أنموذجين . الأول شكسبير الذي كتب في حياته عن مجتمعات وأشخاص ومعالم بعيدة جداً عن بلاده من دون أن يغادرها وأجاد فيها كتب، والآخر هو بلزاك الذي جعل من مكان إقامته الطبيعي ومجتمعهِ بؤرة وحيدة لعمله، وعلى الرغم من كل ذلك فإن الخسارة التي تعرّض لها جيلنا بحرمانه من السفر كان لها أكبر الأثر على نقص التجربة وبالتالي على محدودية الأداء .. ولكن الإبداع نفسه يؤشر حالةً ثأرية من ذلك القدر المفروض .

س73: ميادة ابو شنب: إن الأدباء وأهل الفن أكثر صدقاً وعمقاً من المؤرخين في توثيق التاريخ . هل تعتقد أن نخبةالادباءالعراقيين تسير على الدرب الصائب لتوثيق وتجسيد ما عاناه الشعب العراقي وما زال يعاني منه؟

ج73: فرج ياسين: بعد التغير الذي حصل في عام 2003 انطلق المخبوء الأدبي والفني وشهدت الساحة الثقافية نوعين من المنجزات، الأول تمثل في نشر ما كان منجزاً أصلاً وكان هناك تخوّف من نشره، والثاني تمثل في إعادة قراءة الحقبة المنصرمة، ورافق ذلك عودة النص والمادة الفنيّة المنجزة في الخارج فضلاً على الأشخاص المبدعين لها أنفسهم . وكل ذلك أسهم في التوثيق التاريخي من دون شك، غير أن العقبة التي تواجه المثقفين الآن تتجلى في مساحة الحرّية المتاحة، إذ إن الممنوع والمحرم بات يشكل مشكلة كبيرة في ظلّ التصعيد الطائفي والاثني والحزبي ولاسيما وأن الأسلحة المستخدمة في القمع لم تعد هي المحاسبة أو المعاتبة أو الاستنكار أو الشجب بل التصفيّة الجسدية، وببساطة متناهية غالباً ما تسّجل ضد مجهول، لذلك لا يمكن الوثوق بقوّة التمثيل الواقعي الذي يطرحه الفن أو الأدب . ومعاناة الشعب العراقي يكتنفها الرعب اليومي، وربما يستطيع من هو في خارج العراق أن يعبر عما يريد قوله أفضل بكثير ممن هو في داخل العراق .. ولك أن تتخيلّي طبيعة التمثيل الذي يطرحه الأدب الآن .

س74: ميادة ابو شنب:  قصّة " المبجّل شاليط " تعلن للعالم كم أن ثمن المناضل العربي الحي زهيد مقابل الثمن الباهظ لجثة جندي إسرائيلي مأمور .

 كانت القصة التفاتة لمأساة الشعب الفلسطيني، فهل أتيح لقلمك الباذخ قصصاً أخرى تتفاعل مع هذا الشعب المقهور أو أن هناك مشروع قصّة لم يلامس أوراق الواقع؟

ج74: فرج ياسين: كم أتمنى أن تكوني قد اطّلعت على قصتي (بيوت الأخوة العرب) المنشورة في مجموعة (رماد الأقاويل) والموجودة أيضاً في بعض المواقع الالكترونية، ولا أذكر إنْ كُنتُ قد نشرتها في صحيفة المثقف الغرّاء أم لا . وهذه القصّة كادت أن تلحق الضرر بي لأن رئيس تحرير المجلة (استدعي إلى القيادة القومية وقتها وعوتب بشأن نشرهِ قصةِ تُسيء إلى العرب كلهم بدون استثناء .. وفي القصّة يتعاور شبّان من الطلبة العرب، يسكنون في بيوت متجاورة، جسد فتاة فلسطينيّة مُغرر بها، ولا أذكر في هذه العجالة إن كان هناك قصص أخرى تناولت هذا الموضوع .

س75: ميادة ابو شنب:  الأدباء الفلسطينيون يسيرون مع صليب مثقل بهموم الوطن العربي رغم حصارهم في (جيتو) ومعاناة الغربة والحرمان من التواصل مع أدباء الوطن العربي، الذي يردعه الخوف من تهمة التطبيع، مما يؤدي بشكل غير مباشر إلى تجريدهم من عروبتهم . رغم ذلك يشاركون الوطن العربي بوجدانهم وأقلامهم التي تمر بمقصلة الرقابة الإسرائيلية .

 الحلم لا يذوي بل يتناسخ ويتعاظم لتحقيق اللقاء، ما هي مقترحاتك لتمهيد الدرب لهذا الحلم الكبير؟

ج75: فرج ياسين: هل تذكرين – يا سيدتي – السؤال الأخير الذي أطلقه أحد العجوزين في قصة المبجل شاليط، بعد أن تعاظم خجله من مجرد عرض الصحيفة التي تنقل خبر استبدال الجندي الإسرائيلي شاليط بأكثر من ألف أسير فلسطيني لقد قال (وماذا بشأن الحلم؟) والاستفهام هنا لم يخرج مجازيا الى النفي بل هو ينطوي على دلالة مصيريّة ، أي أن الحلم موجود على الرغم من أن العجوزين يعرفان أنهما لن يشاركا في شحذهِ وإدامته، وعلى مدى أجيال عديدة لم تتوقف ماكنة الأداء الفلسطيني عن تغذية هذا الحلم مما جعل اللاوعي الجمعي العربي والفلسطيني على نحو خاص يحتشد بأسباب القوّة والصمود، فضلاً على أن الذاكرة لم يصبها العطب والتراجع، وأنا تثيرني كلمة حلم لأنها تحتوي على طاقة الاستشراف المستقبلية ؛ ومن دون الحلم لا يستطيع المناضل أن يسدّد خطوته اللاحقة .

 ولا خوف على الأدب الفلسطيني لأنه – فيما أرى – يمتلك خصوصيته وشخصيته المميزة . بين الآداب العربية ولاسيما وأنه يعمل على صيانة واستنفار هذا الحلم .

س76: ميادة ابو شنب: ما هي أهم القيم والمعايير الإنسانيّة والفلسفية التي تتبناها في مسيرة العطاء والإبداع، والتي تدعو إليها من على منبرك القصصي؟

ج76: فرج ياسين: ألخير والحق والجمال . هذا الأقانيم القديمة، هي التي تشكل قوام مرجعياتي النفسيّة والاعتباريّة، وما عليك الآ أن تستحضري جميع الثنائيات الضديّة في الكون والحياة ثم تعزلين الجانب السلبي وتبقين على الجانب الإيجابي، فإذا كان ثمة أسود وابيض فأنا مع الأبيض، وإذا كان ثمة ظلم وعدل فأنا مع العدل وإذا كان ثمّة، بناء وهدم فأنا مع البناء وإذا كان ثمّة محبّة وبغضاء فأنا مع المحبّة ...الخ . هذهِ المنطلقات تشكلت عبر مسيرة كدح طويلّة، وفرّتها تربيّة منزليّة حكيمة، واتصال معرفي قصدي توخّى أنظف المصادر واسلمها وأثراها، وعلى الرغم من أن ثقافتي الأولى شهدت تنوعاً واختلافاً الآ أنني كُنت أتنفس ببركة مُرَشِّحة تعمل بطاقةٍ هائلة، ولها قدرة خارقة على نبذ كل ما ينأى بي عن القيم الإنسانية النبيلة، التي لا أتبنى غيرها في مسيرة العطاء والإبداع .

س77: ميادة ابو شنب: كيف ترى مستقبل اللغة العربيّة في ظل اجتياح وتسلط اللغات الأجنبيّة والتقنيّات الالكترونيّة، وما مدى تأثيرها على مستوى الإبداع وعلى الإصدارات الورقيّة؟

ج77: فرج ياسين: لا خوف على مستقبل اللغة العربيّة، لأنها لغة ثقافة وأدب، وها هي تحاول أن تجسّر علاقاتها مع المصطلح العلمي في كل مجال، لكنّ الذين يعيشون خارج البؤر الحاضنة لهذهِ اللغة ربما يساورهم الشك والخوف، لأنهم محاطون بهيمنة اللغة الأجنبية التي يضطرون إلى تعاطيها ؛ ولكن حتى هؤلاء لا يستطيعون التفكير بغير اللغة العربيّة لأنها منغرزة في لا وعيهم الفردي أو الجمعي . وثمّة حقيقة لا يمكن التغاضي عنها وهي أن العربيّة موجودة وجوداً قدريّاً تاريخياً بوصفها لغة القرآن وأدبيات الدين الإسلامي فضلاً على أنها لم تعط أيّ مؤشر على الوهن أو الضعف أو التراخي . وهذا يفضل أبنائها الذين يعيشون بعيداً عن موطن تعاطيها القياسي، أما صعود واجتياح التقانات الالكترونية فإنه لم ينفِ اللغة ولم يهدد موقعها . الحضوري . وان كلّ اللغات سواءٌ أمام هذا الاجتياح، وأرى أن الكتاب الورقي سيظل حاضراً ومطلوباً وضرورياً لسبب أن التعامل معه تعامل جسدي، شيئي، بورقة وحبرهِ ورائحته، وأتذكر هنا وصف الجاحظ له إذ يقول (الكتاب بستان يحمل في رِدن).

س78: ميادة ابو شنب: لدى المبدع الحقيقي خزين لا ينضب، وما يختلج في صدره أكثر مما قد يولد من رحم محبرته ويعانق الورق . هل هناك طيور حبيسة في وجدانك تودّ لو تطلق سراحها في فضاءات هذا الملف؟

ج78: فرج ياسين: بالتأكيد، مع تقدم العمر، وتنوع التجربة، وتغيّر المشاهد الحياتيّة اليوميّة يوجد الكثير مما يجب أن يضعه الأديب في حسبانه، أو يلحّ على مشغله . وفي بلادنا أو في العالم تُطرح آلاف الأسئلة وتجهض الأحلام، وتنقض المواثيق وتكذّب الحقائق في كل لحظة وفي جعبتي شخصياً مخططات لقصص لم تكتب بعد . إذ ليس بالوسع القول . أن المشروع قد أكتمل أو أن الخزين قد نضب، لأن الحياة نفسها لم تكتمل ولم تنضب .

وشكرا لك ياسيدتي

 

يمكن توجيه الاسئلة عبر الاميل الاتي

[email protected]

للاطلاع

المقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع د. فرج ياسين

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم