تكريمات

المثقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين (8)

faraj yaseenخاص بالمثقف: الحلقة الثامنة من الحوار المفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين لمناسبة تكريمه، وفيها يجيب على اسئلة د. سعد الصالحي، ود. عامر هشام.

د. سعد الصالحي، أديب ومترجم / العراق

 بعد مطالعتي لكافة الحوارات المفتوحة مع شيخي الأستاذ فرج ياسين والمساهمات الأخرى في ملف تكريمه، وبما أعرفه حق المعرفة في شخص أستاذي الكبير، وما يجمعني به من مشتركات عمرها أكثر من ثلاثةً وعشرين عاماً لا يتقاسمها معي شخص آخر، فقد آثرتُ توجيه أسئلة حاولت فيها فتح مكامن لم يتطرق لها غيري من الأساتذة والزملاء الكرام في ما نشر من لدنهم، متمنياً أن أكون قد وفقتُ في إضافة جديد لملف تكريمه القيّم .

س79: سعد الصالحي: كيف تعاملت قصصك مع المكان؟

ج79: فرج ياسين: منذ أول عهدي بكتابة القصة وأنا أحاول قياس علاقتي بالمكان، بمقدار نجاجي في التفلّت منه، لأن ذاكرة القاص لا تقول الثابت ولا تخاطر في استنطاقه، إنها تبدأ معه من نقطة ما تقع بينه وبين النص، ففي حين تبدو الأمكنة الواقعية في غاية الألفة تضجّ بعض الأمكنة الأخرى بغرائبيتها، والقصة تضع المكان وتحاول إبرازه ثم تعمل على تقويض مصداقيته الواقعية، من هنا يبدأ سؤال الإبداع، من فضيحة نسبية المكان، ومن أسطرته وتحميله دلالات لم تكن له، أو أنها ستكون له بفضيلة الاشتغال على طاقة التوليد الدلالي وليس بإسقاطات عابرة يقترحها القصاصون لأمكنتهم الأثيرة، فلا تغدو الكتابة القصصية – حينذاك – إلاّ مشاريع تبجيل . تأسيساً على كل ما سلف، سأقول أنني لا أنتمي إلى البيت الأول ولا إلى الحارة أو الزقاق أو ملاعب الطفولة، إلاّ لأنني نجحت في تقويضها ونبذ طابعها التاريخي الواقعي من ذاكرتي، وأن كل قصة أكتبها أنمّا هي إعادة لبناء هذهِ الأمكان ولكنِ بعمارة وحجارة جديدة، لذلك فقط ظلّت تحتفظ بشبابها وعطائها ودلالاتها المستمرة .

س80: سعد الصالحي: بعض الأشخاص الذين عشت بينهم في تكريت أصبحوا مادة لقصصك هل لك أن تذكر لي أنموذجاً مّعيناً؟

ج80: فرج ياسين: أما أن نتخيل أشخاصاً فتكتب عنهم، وهؤلاء هم الذين نسجّل أسماءهم في براءات اختراعاتنا . وأما أن ننقل أشخاصاً من الواقع فنزجهم في قصصنا ؛ وهؤلاء أيضاً يُسلبون حضورهم المبعثر في الدقائق القسرّيّة فيبنى لهم وجود آخر كثيف ينفي عنهم صفة العادّية والتسطّح واللاتاريخيّة، وأنت تعرّف قصة الحَمال التكريتي المعروف (أحمد اللوحة)، الذي كان رجلاً طيباً عصاميّاً قريباً من البلاهة، وتعرف قصته حين اكتمل بناء جسر تكريت في أواسط السبعينيات فحمل أمه العمياء على كتفه وذهب بها لكي يريها الجسر . لقد أصبح أحمد اللوحة شخصاً فائضاً عن الحاجّة منذ أن كتبت عنه قصّة (الصرّة)، وأسمه في القصة عباس . وحين كُنت أشاهده – قبل وفاته – أقول لنفسي ما الذي أبقى هذا الرجل حّياً حتى اليوم، ألم يغدُ علامة سردّية لازبة في تاريخ الفن، أما تمّت إحالته على ما فوق الواقع منذ سنين؟ علينا أن نكتب عن الأشخاص الذين نعرفهم وعن الأخطاء التي نرتكبها وعن الأمكنة التي تتغيّر .

س81: سعد الصالحي: بوصفك باحثاً أيضاً، ودرست موضوع الأسطورة على نحو خاص، هل ترى أن الحداثة ترتبط باستخدام الأسطورة والموروث الشعبي؟

ج81: فرج ياسين: تبرز الحداثة موقفاً حضارياً، معرفياً وفنياً وأخلاقياً ؛ لكنها تنهض على واقع الاستجابة بالنسبة للباحث، أما مفرداتها الجاهزة للتوظيف فهي تقف خارج الفن، أنها في الأشياء وفي الصراع وفي الآيديولوجيا؛ لذلك فإن الحداثة لا ترتبط بمفردة واحدة أو بحزمة معّينة، أنها تنتعش في الحاضنات الكليّة، وتجذب إلى لوحتها الجديد والقديم، المثير والاعتيادي، الثابت والمتحّول، الأسود والأبيض و (الأخضر واليابس) . أمّا استخدام الأسطورة والموروث الشعبي فإنهما يقعان في حيّز الخيارات الحداثويّة الكثيرة . فكما يمكننا القول أن ثمّة كتابة متأثرة بالصراع اليومي على نحو واسع، فإنه يمكننا القول، أن ثمّة كتابة قصصيّة تعتمد على أدبيات التراث أيضاً . والحداثة تحتضن كل هذهِ الاتجاهات . وتصدر عنها .

س82: سعد الصالحي: أذكر أنك أجبت عن سؤال مغادرة الشعر إلى القصّة، وبتنويعات ومواقف مُختلفة ؛ لكنني ما زلت أذكر أيضاً حديثك عن واقعةٍ معّينة تخص قصتك (الخراب) المنشورة في مجموعتك الأولى حوار آخر .

ج82: فرج ياسين: في أواخر السبعينيات خيّل إليّ لآخر مرّة أنني سأفلح في التكيف مع الفن الذي اخترته، لأكتب قصيدة صغيرة عن طائر حقيقي مقتول . تخيّل عدداً من الأطفال يداعبون لقلقاً برمي حصيات صغيرة على عشّه، وهو يرف بجناحيه ويبتسم لهم، ثم يأتي شاب بطر غليظ يرتدي سترة عسكرّية فيصوب إليه حجارة مقلاعه ويرديه قتيلاً . كُنت حتى ذلك الوقت قد كتبتُ ثلاث قصائد عن ذلك الطائر واحدة منها فقط لم تنشر غير أن تلك القصائد كانت تخلو من الكوميديا التي أردتها، الكوميديا في القتل، القتل منظوراً إليه بحواس طفل يلهو، وفي مرحلة من النكوص وعصاب الفشل جرّبتُ النثر، لقد كُنتُ قلقاً يتناهبني رُعب المحاولة . أول الأمر رويت القصّة على شريط تسجيل، فأسرّت كلماتي ما لم يكن في الحسبان . وحين نقلتها إلى الورق، لم أشأ أن أعترف بان ما كتبته يختلف كثيراً عن الشعر، في البداية كان هذا بسبب المكابرة، أما بعد ذلك، بعد أن كتبتُ المزيد من القصص، فقد اتسع لي إدراك أن الشعر لا يمكن له أن يغيب في خطاب النثر الفني والقصّة خاصةً، المبدعون يذهبون إلى معابر الشعر ومن هناك يصدرون، إنّنا نقيس حياتنا اليوميّة بمقدار ما فيها من لحظات شعرّية .

س83: سعد الصالحي: ثمة أسماء في ذاكرتك، كانت جزءاً من ذاكرة تكريت الثقافية من هؤلاء؟

ج83: فرج ياسين: اسمح لي أن ألوي عنق السؤال قليلاً، فأتحدث عن من كان لهم تأثير عميق على تشكل مسيرتي الأدبية على نحو عام .. وأبدأ بشقيقتي (محروسه) التي أصبحت طالبة في معهد إعداد المعلمات في بغداد منذ عام 1957، وكنتُ – وقتها – على مشارف المراهقة، كانت حين تأتي في الإجازات تجلب لي معها كتباً، وهي قارئة جيدة، وأبرز ما أثّر فيّ هو كتاب ألف ليلة وليلة، إذ زودتني بأجزائه الأربعة تباعاً، وفي صفحات لاحقة، جعلت أطلب الكتب من الأقارب والمعارف الذين كانوا يمتلكون مكتبات صغيرة فضلاً على مكتبة الأسرة، قبل أن تقفز شهيتي إلى مكتبة تكريت العامّة، وفيها تعرّفت على عالم الكتاب الرحيب، وفي مرحلة الدراسة الثانويّة انضممتُ إلى جماعة صغيرة تتكون من ثلاثة أشخاص هم مخلص خليل (شاعر يقيم الآن في هولندا) وفاروق سلوم شاعر (السويد) ومحمد طيّب خطاب (مهندس) بقي في حدود الهواية ولم يمارس الكتابة .

 وبعد تخرجي في الجامعة وعملي في التدريس، وجدتُ نفسي بين عدد من الشباب، صاروا يجالسونني في احد مقاهي تكريت، بقي منهم على خط التواصل ثلاثة هم القاص جمال نوري والشاعر طلال الغّوار والشاعر صباح خطاب (يقيم الآن في استراليا) وبعد تأسيس جامعة تكريت 1989، نشطت الحياة الثقافية، وشهدت علاقاتي تنوعاً وثراءً، ولاسيما بعد تأسيس إتحاد أدباء صلاح الدين، إذ دخل في الصورة الدكتور محمد صابر عبيد والدكتور سعد الصالحي، والدكتور سليم الكتبي وكفاح الآلوسي وعدد كبير من الأدباء الشباب وهواة الأدب، وكان الشاعران الرائدان علي الغّوار ورشدي عطيّة موجودان في صلب المسيّرة النوعيّة للحركة الثقافية .

 وعلى صعيد العلاقات العامة في المدينة، كُنت أنعم بصحبة عدد من الأصدقاء المثقفين أخص بالذكر منهم عالم اللغة والنحو عمر وهيب ورضا العجيل وصالح حمودي ومولود وهيب والدكتور مهند ماهر والدكتور رياض عبدالله وسمير طه وسعدي حمّاد والدكتور حسام طه وآخرين، رحم الله من انتقل منهم الى دار البقاء .

د. عامر هشام، أديب وكاتب وطبيب استشاري / بريطانيا

س84: عامر هشام: ما رأيكم بكتابة السيرة الذاتيّة أو المذكرات، وكم في قصصك ما يعكس نفحات النفس – الذات .. ثم هل تخططون لإصدار كتاب مذكراتكم، وأنا أقرأ في أجوبتكم السابقة عبر حوار (المثقف) الكثير الممتع من الذكريات .

ج84: فرج ياسين: منذ أن قرأتُ كتاب الأيام لطه حسين، وأنا في مرحلة الدراسة المتوسطة، تولّد لدي شغف عارم لقراءة كتب السيرة . وفي حوزتي الآن عدد من هذه الكتب، بعضها في السيرة الذاتية وبعضها الآخر في السيرة الغيريّة، وهذه الأخيرة ذات نكهة إبداعيّة من نوع خاص، وإذا كنت قد قرأت كتاب (حياتي مع بيكاسو) لــ (فرانسواز جيلو) آخر زوجاته – لخرجت بحصيلة مذهلة .. وبما أن سؤالك عن السيرة الذاتية، فقد سبق لي أن ذكرتُ جواباً على أحد الأسئلة بأن مشروعي السيري – الآن في الأقل – يؤكد على موقف محدد يتجلّى في العودة إلى قصصي ودراستها بغية استنباط الأحداث والموثّرات   والدوافع والمقبّلات التي دفعتني إلى كتابتها، وأنا إذا فعلتُ ذلك فلأنني أبغي تنحيّة ما يفرضه البناء الفني عبر السورة الخياليّة، والإبقاء على المتن الحكائي للقصص، والمتن الحكائي كما تعلم – هو المادة الحكائيّة البكر المبرّأة من اللعبة الجمالية .. وكثيراً ما وعدتُ أصدقائي هنا بإعداد محاضرة خاصة بعنوان (قصص القصص) أو (حكايات القصص)، لأني أشعر أنني كتبت حياتي في قصصي . وهذا القول معروف جداً فالكاتب لا يكتب إلا قصة حياته .

س85: عامر هشام: يهمني أن أعرف رأيك بمسألة تجنيس القصة القصيرة جداً ثم أن المؤتمر العربي الأول للقصة القصيرة جداً والذي عقد في المغرب خلال شهر شباط الماضي أثار موضوعة القفلة في القصة القصيرة جداً، فما رأيكم بضرورة ذلك .

ج85: فرج ياسين: أما فيما يخص التجنيس فقد استقرت القصة القصيرة جداً بوصفها نوعاً فرعياً مضافاً إلى الرواية والقصة القصيرة في جنس القصة، ولا أظننا بحاجة الآن إلى ذكر مسرد تاريخي يستقصي ظهورها وانتشارها في الوطن العربي، وأنا مطلّع على تاريخ ظهورها في العراق إذ أنه يعود إلى الثلاثينيات من القرن المنصرم . وأول قصة قصيرة جداً نشرتها شخصياً – كانت في مجموعتي الأولى حوار آخر وهي الجزء الثاني من قصة (الأفول) 1979 .

أما موضوعة القفلة أو ضربة النهاية، أو الخاتمة أو لحظة التنوير كما يطلق عليها أحياناً فإنها في القصة القصيرة جداً تكون شبه ضروريّة لسبب أن عنصر التكثيف يوجب الاحتكام إلى صياغات لغويّة دقيقة ومؤدية على نحو يخلو من الاستغراق البلاغي، وإن قصدية الدلالة تنصرف إلى المفارقة والإدهاش وجلب انتباه المتلقي إلى غاية معينة وهي تشبه ما يعرف بالتوقيع الذي كان سائداً في الرسائل الديوانية في العصور العربية القديمة إذ تقول جملة مكثفة ما يمكن أن تعبر عنه رسالة مطوّلة .

وأرى أن القفلة تكون ضرورية في القصة القصيرة جداً المتكونة من عدد قليل من الجمل أو السطور وتكون ذات شعريّة مكثفة، أما القصص التي أقوم بكتابتها أنا على سبيل المثال فهي قد لا تحتاج إلى هذه القفلة أحياناً لأن كنزها الدلالي متضمن في حركيّة بنائها السردي، ففي هذا النوع من القصص قد لا تختلف القصة القصيرة جداً عن القصة القصيرة إلا في مسألة الحجم، مع أنها تحتفظ بكل المؤشرات السردية الأخرى كالاختزال والتكثيف ومحدودية الفضاء والمفارقة وغير ذلك من التقانات .

س86: عامر هشام: أراكم تهتمون بعنوان القصة القصيرة، فما أهميّة العتبة العنوانية عندكم، وهل تفضلون لمجموعة قصصية ما أن تعنون بعنوان منفصل غير مكرر، أو مأخوذ من أحد عناوين القصص التي تضمها مثل هذه المجموعة؟

ج86: فرج ياسين: يقال أن للعنوان أثر تكثيفي وتجميعي، وأن العنوان بوابة النص وثرياه التي تضيء ما تحته، أما التفاتتك حول اهتمامي بالعنوان فإنه يتصادى مع ملاحظة ذكرها الناقد الدكتور محمد صابر عبيد في حديث تلفازي، إذ ذكر أن من مميزات قصصي تخيّر العنوانات اللافتة المصنوعة بدقة ودراية .. وأنا حين أضع عنوان القصة لا يكون هدفي الإشارة إلى التطابق مع دلالات القصة، بل إطلاق مقترحات قرائية جديدة . ففي قصة (غدا في الصدى) على سبيل المثال، يبدأ اشتغال العنوان بعد الانتهاء من قراءة القصة في حين لا توجد أية إشارة إلى علاقة العنوان بملفوظ القصة السردي .. وأذكر أن عثوري على عنوان (هبوط الطيور من الجنة) بعد عناء وكد لأيام طوال، جعلني أهتف بكلمة أرخميدس المشهورة : وجدتها وجدتها .. وكثيراً ما تقرأ قصصي فلا تجد أثراً لعتبة العنوان في جسد النص . أما تجربتي مع عناوين مجاميعي القصصية فإنها – كلها – اعتمدت على تخيّر عنوان إحدى القصص لتكون عنواناً للمجموعة، وذلك لسبب أنني أكتب قصصي في فترات متباعدة بعضها يمتد إلى أكثر من عام كامل، وليس معنى هذا أنه لا توجد تجربة مشتركة فالكل يعرف أن مجموعة واجهات براقة ضمت سبع قصص محورها الأب والفتى أو الصبي أو الطفل .. ولا أدري إن كنتُ سأختار مستقبلاً عنواناً مشتركاً، وأستغني عن عادتي القديمة في العنونة .

س87: عامر هشام: كيف تقيمون نتاج السرد العراقي بعد 2003، وهل تعتقدون أن الكاتب العراقي في الداخل أو الخارج قد كان بمستوى الحدث؟

ج87: فرج ياسين: لا أكتم إعجابي بما يتحقق الآن في حركة السردية العراقية وتكاد الماكنة لا تتوقف عن إنتاج الأصوات الجديدة في مجالات الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جداً، ولا يكاد يمر يوم دون أن تسمع أن نشاطاً أدبياً يقام في مكان ما في بغداد أو المحافظات . وقد أتاح لنا النت والفيس بوك التعرف على إصدارات الأدب، في الداخل والخارج وأرى أن الكاتب العراقي استطاع مجارات الأحداث بحلوها ومرّها من خلال عطائه المتواتر .

يمكن توجيه الاسئلة عبر الاميل الاتي

[email protected]

للاطلاع

المقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع د. فرج ياسين

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم