تكريمات

المثقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين (13)

fatima alflahiخاص بالمثقف:الحلقة الثالثة عشرة من الحوار المفتوح مع القاص المبدع فرج ياسين لمناسبة تكريمه، وفيها يجيب على اسئلة الشاعرة فاطمة الفلاحي.

فاطمة الفلاحي، شاعرة / فرنسا

قد تأتي فكرة النص، من عبارة تستدعي الذهن لخلق عوالم كاملة من الصور والرحلات والذكريات، والحنين إلى أماكن وأحداث، تلاشت واختفت بفعل الحروب والزمن، سواء كانت حقيقية، أم من الأخيلة، وأنت في رحاب فنجان قهوة، لتضمّن المشهد الكثير من التأمل وملامسة أعمق وتر في الروح.. أو نتلقف الصور المقهورة نتيجة بعض العوامل الاجتماعية، والحروب. فنبدأ بتحويل تقنياتها وقواعدها وطرائق بنائها إلى معايير نعتمدها عندما ننشئ النص.. وقد يطول معنا فنرافقه إلى باب الرواية، وقد يقصر ويأخذنا إلى أعتاب قصة ما، وقد نطلسمه بنكهة الشعر، فنوسمه بالقصة الومضة، وقد نختزله أكثر فنسقطه في تجنيس ق.ق.ج.. ممكن يكون ذاك النص مشرعة نوافذه، لأفاق سطوة النقاد في قراءاتهم وتوقعاتهم وتقويمهم له... وقد يكون نصاً مغلقاً، وقد يكون نصاً متقدماً أو نصاً خاملاً.

س128: فاطمة الفلاحي: بناء على هذه التوطئة إلى أي مدى تصح تلك المسميات من أدوات النقد على نصوصك الثرّة وما مساحتها عليها؟

ج128: فرج ياسين: جئت إلى عالم القصّة من بوابة الشعر، حرضتني على الولوج إلى هذا العالم قضيّة ما زالت تشحذ موجهاتها في دخيلتي.. إنها تتلخصّ في أن الشعر والقصّة ليس بينهما إلآ خيط إجناسي دقيق على الرغم من حدّيته وصرامته الأكاديمية غير إنني كُنت انطلق من إرادة حُرّة لا تعوّل الآ على الهواية لذلك لم أعنِ بالقوانين والتأسيسات، ولم يفت في عضدي هاجس عدم التطابق مع المقولات النقديّة، يوم أشرعت قلمي وكتبتُ قصة قصيرة، كُنتُ أراقب حركة الأدوات الخيالية والنفسيّة والإجرائية حسب، وكلها تنتمي إلى عالمي الداخلي، كان ذلك قبل أن انزلق إلى غوايات النقد. لذلك يصعب عليّ وضع ما كتبته على مدى ثلاثة عقود في جدول ما على وفق مقترحات النقاد وتصنيفاتهم، فأنا نشرتُ في مجموعة حوار آخر وهي أولى كتبي، قصة قصيرة عنوانها الأفول ثم عنّ لي أن أتبعها بملحق سردي أسميته الكتابة الثانتّة، أذكر أنني كتبت هذه القصة عام 1979 وكنتُ غي بداية الطريق مع فن القصّة . ولم أفكرّ لحظة واحدة بأنني كتبت قصة قصيرة جداً ضمن قصة قصيرة ولم أعاتب مؤرخي هذا الفن لعدم ذكر هذه القصة في مجموعتي الأولى.. لم أكن أعرف .. وحين كتبتُ قصة (ذهاب الجعل إلى بيته) ونشرت في ست وستين صفحة في كتاب من القطع المتوسط ضمها مع قصتين أخريين . لم استطع الإجابة عن سؤال ظلَّ يتردد حتى اليوم وهو هل أن هذه القصة، رواية قصيرة أم أقصوصة (على رأي الدكتور علي جواد الطاهر) أم قصة قصيرة . لا أعرف .. ولست منشغلاً بهذا الأمر.. وحين صدرت (واجهات برّاقة) عدّها الشاعر سامي مهدي وهو يتحدث عن تجربة خالد حبيب الراوي... عدّها مجموعة قصص قصيرة جداً، لكن الدكتور عبد الآله أحمد.. قال هذا نوع قصصي يتوسط بين القصة القصيرة والقصيرة جداً (هذا الكلام قاله لي هاتفياً) .. وهناك رأي قيل في قصصي القصيرة جداً وهو أن ميزتها الوحيدة هي الحجم أي أنها قصيرة جداً، أما بناؤها الفني فهو لا يختلف عن بناء أية قصة قصيرة أبداً.. وأنا لا أعرف، ولا يهمني أن لا يعرف المتلقون ما اعرفه لأنهم لم يدخلوا معي في الحجرة السرديّة الخاصة بي التي أسجن فيها نفسي أياما من أجل أن أخرج عليهم بنص جديد، والتي لا أدري من الذي يتحكم بتغيير أثاثها وألوان جدرانها وإضاءتها في كل مَرّة وكما يليق باستقبال مَردة الخيال الصاخبين .

أول مَرّة أطلعت فيها على كتاب (حكايات حارتنا) لنجيب محفوظ قلت يا لهذا الرجل العبقري .. لأنني عرفت مصادر ومرجعيات رواياته وقصصه أنها أخبار بسيطة يوميّة وعابرة، وحين علمنا جميعاً أن رواية ماركيز الهائلة(الحب في زمن الكوليرا) مصدرها خبر صغير نشر في جريدة أخذنا العجب.. والعجب طبعاً يحيل على صنعة الروائي وحدّة مخيلته وسحر أدواته ..

النقاد يا سيدتي الشاعرة يصنفوّن ويجدولون ويرتبون ليس لنا، إنهم يفعلون ذلك للقراء وللدارسين لذلك يستحيل عليهم ملامسة منطقة المصهر النووي في إبداعنا .

س129: فاطمة الفلاحي: يقول أ.د. خليل أبو ذياب إن القصة القصيرة / الأقصوصة هما " مصطلحان لنوع أدبي واحد ينبغي ان يقوم على أقل ما يمكن من الأحداث / حدث واحد يتنامى عبر شخصيات محدودة أو شخصية واحدة حاسمة، وفي إطار محدود جداً من الزمان والمكان حتى يبلغ الصراع ذروته عند تأزم الموقف وتعقيده لتأتي من ثمَ لحظة التنوير المناسبة معزولة عن المصادفة والافتعال دون اشتراط الحجم أو الطول الذي ينبغي أن يكون محدوداً بطبيعة الحال..

كيف ستسلسلون أولوية التجنيس في القصَيْصَة، القصيْصيصة، القصَيْصيصَة، القصة، القصة القصيرة، القصة الطويلة، القصة النصفية، الأقصوصة، الأقصوصة الصحفية، والأقصوصة الذاتية، الرواية المزدوجة، الرواية القصيرة، الرواية . خلافا عما سلسله البقاش، وما مدى صلاحية هذه المسميات في القص؟

ج129: فرج ياسين: بعض هذهِ الأنواع السرديّة موجود ومتداول، وبعضها لا علم لي به وإنما يدل على التزيّد والتمحّل والإبهام ولسنا بحاجة له ثم أن (القصصيّة) ليست نوعاً من أنواع القصّة بل هي مصطلح نوعي يشبه الشعريّة والسرديّة، ولفت نظري ورود مصطلح الأقصوصة والذي أعرفه أنه النوع السردي الذي يتوسط من حيث الحجم بين القصة القصيرة والرواية، وهو يرادف عد البعض القصة الطويلة . وبعض التسميات ذات علاقة بجهة النشر أو بذاتية الأديب .. ورأي الدكتور خليل أبو ذياب .. رأي تقليدي معروف لأن القصة الحديثة تخلّت عن الكثير من عناصرها ولاسيما لحظة التنوير وغيرها، أما طلبك مني بإجراء تسلسل لهذهِ الأنواع السرديّة، فأنا لا أجرؤ ولا أفعل لسبب أني أرى في مثل هذهِ العملية تمحّل وتزّيّد، وأنها تثقل المصطلح وتجعله ينحرف إلى أجناس أخرى كالشعر على سبيل المثال .

س130: فاطمة الفلاحي: هل الأقصوصة، كما يقول البعض هي قبل القصّة؟

ج130: فرج ياسين: دعينا نتفق على هذهِ الأوليّات . ثمة جنس اسمه جنس القصّة . ولهذا الجنس عدّة أنواع المعروف منها والمتداول هي هذهِ الأنواع : الرواية، الرواية القصيرة، الأقصوصة، القصة القصيرة، القصّة القصيرة جداً .

س131: فاطمة الفلاحي: هل هذهِ المسمّيات وعملّيات التصغير (الاختزال) التي تجري على النصوص مشروعة لغوّياً؟

ج131: فرج ياسين: التصغير مشروعٌ لغوياً، لأنه يشمل جميع الأسماء، أما الاختزال فهو تقانة سرديّة .. وهو من الخصائص المهمة لأسلوب القصة القصيرة جداً .. أو الومضة لكنني أتحفظ على هذه اللفظة لأنها حين ظهرت أول مرّة وصفت بها القصيدة وليس القصّة، والذين يقولون بها الآن ربما أخذوا بالاعتبار أن بعض القصص القصار جداً تشبه الخاطرة الشعريّة . أي لا تحتوي على مقوّمات السرد، بل على الصورة والموقف على نحو سريع وخاطف كأنه يومض ايماضاً ..

س132: فاطمة الفلاحي: كيف سترتبون حوار آخر (في) بريد الأب، وواجهات بّراقة (لـ) عربة بطيئة، و(اندياح) رماد الأقاويل (عند) ذهاب الجعل إلى بيته . على وفق مشروعيّة التجنيس أعلاه؟

ج132: فرج ياسين: أولاً أود أن أعرب عن إعجابي بطريقة طرح هذا السؤال، ولا غرابة فالعزيزة فاطمة شاعرة، تعرف قوانين الإثارة والجذب ..

أكتب قصصي في فترات متباعدة، وتظهر كتبي على الناس قبل أن يوشكوا على نسياني بقليل .. ما بين مجموعة وأخرى خمس سنين في الأقل لذلك ليس لدّي مجموعة تختص بموضوع معيّن لكن الروح الخاص الذي يَشف من وراء السطور هو الجامع الأكبر فيما كتبت، بين أول قصة كتبتها وأخر قصّة هناك انحياز جلي إلى الإنسان، وإلى القيم والمبادئ التي بشّر بها الأنبياء والمصلحون وقادة الفكر الإنساني، يوجد ظل للنبي محمد r والمسيح وكونفيشوس وغاندي وجماعة الصوفيين، وأوصياء الأمة كعلي وعمر وأبي ذر ويوجد أثر ما لجمهرة الفقراء والمظلومين في الحياة، ويوجد الخير والجمال والعدل .

هذه كلها تتداخل في قصصي وتسلك طريق البشارة .

س133: فاطمة الفلاحي: وصف ماركوبولو الطريق من بغداد إلى الصين، بأحاسيس من دهشة وإثارة . لما رآه في العالم الجديد، حيث كان فيه كل شيء مختلفاً وغربياً.. وكتب ترحاله عبر الصحراء بروح شاعرية قائلاً: " عندما يكون الإنسان مسافراً في هذه الصحراء ليلاً ويباغته النوم لسبب ما وينفصل عن رفاقه، فإنه يسمع أصواتاً لأرواح تتحدّث بألسنة رفاقه وأحياناً تناديه باسمه . وكثيراً ما تستدرجه هذه الأصوات بعيداً عن الطريق الذي قد لا يهتدي إليه أبداً بعد ذلك. والكثير من المسافرين ضاعوا وماتوا لهذا السبب. وفي الليل قد يسمع المسافر ضوضاء من بعيد وربّما يخيّل إليه أنها أصوات رفاقه الذين أضاعهم . وعندما يتوجّه إلى مصدر الأصوات لا تتبيّن له فداحة خطئه إلا عندما يبزغ نور الصباح . وبعض الذين كانوا يعبرون الصحراء ليلاً، رأوا جماعة من الرجال يأتون باتجاههم . وبدافع الخوف من أن يكونوا لصوصاً، هربوا ليجدوا أنفسهم وقد ابتعدوا عن الطريق وتاهوا . وحتى في ضوء النهار قد تسمع أصوات الأرواح ويُخيّل إليك كما لو انك تستمع إلى أصوات آلات موسيقية أو إلى قعقعة سلاح . "

والنص " أمام الستائر المسدلة " كانت جملة الوصفية للأماكن والأحداث بنكهة الشعر ..

ج133: فرج ياسين: في العمل القصصي تتضافر العناصر والمكوّنات الأخرى استناداً إلى الأرضيّة الأيديولوجيّة والذوقيّة والفنيّة، وفي بعض القصص يتغلب أحد هذهِ المكوّنات فيطفو على سطح النص ولا يصح الادعاء بأن الكاتب يستطيع أن يوازن على نحو دقيق، إلاّ إذا لجأ إلى مرقاب هندسي مقصود، ولا يخفى عليك أن الاختلاف بين قصة وأخرى في الأسلوب يعود إلى طبيعة المحفّزات، وفي قصة أمام الستائر المسدلة توجد مفارقة الفقدان والافتقار، وتوجد مفارقة المكان، هو فقد ساقه في الحرب فلا يستطيع الرقص، وهي فقدت زوجها وبدأت من جديد على خجل وريبة، وهما في مرقص ولكنهما لا يستطيعان الرقص، أي لا يستطيعان مواصلة الحياة، وإذا كان التصوير الوصف هما مّيزتا هذهِ القصّة فلأن الفضاء بحب أن يُشحن بما يتلاءم مع محنة الفقدان والافتقار .

وفي أكثر قصصي تلوح عناية واضحة بالوصف، وصف الملامح الخارجيّة ووصف الدواخل المتأزمة أيضاً . وتتبارى شطحات زخرفيّة وشعريّة وامتدادات وتهويمات وأحلام في أعمالي كافة .

س134: فاطمة الفلاحي: هل يتوجب على القاص أن يكون مثقفاً وذا روح شاعريّة ليجيد تجسيد براعته في رسم الأحداث وشخوص القص، من دون أن ينوبها خلل ما، فتفلت منه متانة النص؟

ج134: فرج ياسين: هذان شرطان مهمان جداً، فمن دون الثقافة الواسعة المتنوعة التي تلامس مفاصل الحياة كلها لا يستطيع القاص أن يخرج نصاً يمتلك حيويّة وديمومة، لأن صفة القص أي رواية الأخبار والحكايات موجودة لدى جميع البشر، والعودة إلى مقولة الجاحظ المشهورة مفيدة في هذا المجال، أمّا الروح الشاعريّة فهي – فيما أرى – شرط نوعي لممارسة الكتابة . القصاصون والروائيون بدأوا بالشعر، وأنهم لم يتخلوّا عنه إذ أن أعمالهم لم تتخلّ عنه، غير أنني أشير إلى أن البعض ذهب إلى الاستغراق في (الشعرنة) أي أن الشعر أخذ يظهر بكثرة على حساب عناصر السرد أو مكوناته ويكثر هذا في الأدب النسوي، وعند هذهِ المساحة تصبح المخاوف التي أشرت إليها في السؤال واردة حتماً ..

س135: فاطمة الفلاحي: هل فكرّت أن تكتب نصاً فيه مزيج من الأجناس الأدبيّة؟ .

ج135: فرج ياسين: أظن أنك تقصدين الأجناس الفنيّة يا سيدتي، لأننا لا نستطيع أن نكتب رواية (تمتزج) مع القصّة القصيرة أو القصيرة جداً، بل قد تحل في الرواية قصة قصيرة أو قصيرة جداً على سبيل التضمين أو التداخل، وأنت تعلمين أن هذا موجود في المسرح أيضاً أقصد الحبكة الثانية التي ترد على سبيل المضاهاة أو الاستشهاد ...الخ .. أما مزج الأجناس الفنيّة فهذا وارد تماماً، إذ أخذنا نرى الشعر والتشكيل وتقانات المسرح والسينما تظهر على نحو جلي في الأعمال القصصّية، وبما أن السؤال يستهدف تجربتي فأقول لك أن كل هذا موجود في قصصي إذا تم استقصاؤه وقد أشار بعض النقاد إلى ذلك لمحاً والمقالات المكرّسة قليلة في هذا المجال لكنني اعتقد أن من يبحث سوف يجد هذا التداخل .. إذ لدي قصتان أخذت عنوانيها وأجوائهما من أغنيتين . وقصة (البسوس) تعتمد على صورة فوتوغرافية وكذلك (شمس في الغبار) وغيرها ...

س136: فاطمة الفلاحي: هل كان لأخيلتك دور في تقمص شخصية ما، أو حدث ما، لم يكن من الواقع كما يفعل البعض (أهمسك والأمر بيني وبينك كثيراً ما أفعلها) لتعيش معه الأحداث وترسمه روحك وفكرك؟

ج136: فرج ياسين: الكتابة الأدبيّة – كما هو معروف – انحراف عن التعبير الحقيقي ودخولٌ في المجازي الذي هو بوابة مشرعة على الرمزي والخيالي والإبداعي - (الذي هو خلفٌ على غير مثال سابق) وبما أنني أعلنت في هذا الملف بأنني كاتب واقعي ولكي لا يذهب الاعتقاد إلى الاستنساخيّة والفوتوغرافية – فإن واقعيتي كانت تراهن على أن في الواقع يوجد ما هو أغرب من الخيال وأن وجودة في الحياة وجود مسامي ومجهري وأن اكتشاف هذا الواقع، بعد فتحاً يكاد يضارع إن لم يفوق طاقة التخيّل التأليفي، أي الذي لا ينسج من صور متداولة معلنة أو مستقرة في الذاكرة، فهو ليس خيالاً استعادياً بل ابتكارياً ..

وأرى أنك حتى لو ظننت أنك تتخيلين عوالم جديدة فإنك في الحقيقة رهينة الواقع الحي ولكن ليس المرثي فقط بل المتواري والعصي أحياناً على الظهور .. في مجموعتي القصصية (رماد الأقاويل) ثمة قصة عنونتها بــ (حكاية) هي (الأميرة والحائك) .

في هذه (الحكاية) جميع العناصر مبتكرة .. فالمكان مدينة افتراضية اسمها     (كبريا) وإحدى الشخصيات الرئيسة أميرة أسمها (راب) وطوطم المملكة (شجرة التين) والقصة فيها مفاصل متخيلة كثيرة (أتمنى أن تطلعي على هذهِ القصة – الحكاية) .

وكُنت اعتقد أنني ابتكرت أحداثها ومسمّياتها إلى أن اكتشفت لاحقاً أنها تعقد تناصات عديدة مع وقائع ومسمّيات متوارية في أعماق تاريخيّة وأسطوريّة وفكريّة ويوميّة .

س137: فاطمة الفلاحي: هناك الكثير من الكتاب الكبار الذين يثمنون حياتهم الأدبية والفكرية عالياً، فقدوا حضورهم مع بدايات حقبة الثقافة الحديثة، فتخلى عنهم بعض النقاد وبعض الأوساط الثقافية، تماشياً مع موجة الحداثة وما بعد الحداثة، والتي أنجبت الكثير من المثقفين والكتاب المهمين، لكن هذا لا يمنع من ظهور موجة أخرى مصاحبة تكتب النصوص الفوضوية، والآيروتيكية الإباحية، ونصوصاً رخيصة لإثارة القارئ، تستخدم كمادة تسويقية لبعض المسلسلات والأفلام التجارية تسعى إلى إزعاج وتخريب وانتهاك بعض المسلمات والقوانين الأخلاقية .. أجازها البعض وتم تطبيعها لتغدو سمةً جمالية ..

هل تتصورون أن هناك حاجة لبعض الرقابة على مثل هذه النصوص قبل النشر سواء إعلامياً أم في التلفزة، تسعى لإنقاذ الفنّ والأدب الحديث من الإدمان على القبح ؟

ج137: فرج ياسين: ذات مَرّة كُنتُ أدرّس لطالباتي موضوع علم الجمال وبالتحديد النظرة الأرسطيّة للجمال، أردتُ أن أوصل إليهم فكرة أن الجمال عند أرسطو هو في الكتلة والحجم كما يقول ، أي أن الجميل هو المتناسق والمتناغم وما يسود في أجزائه التناسب والتنظيم، وأخذني الاستطراد إلى القول بأن القبيح، ذاته قد يكون جميلاً في العمل الفني على وفق هذهِ النظرة ثم استشهدت بقصيدة (جيفة) لبودلير . إذ ان القصيدة من حيث الموضوع مقززة وتقطر قبحاً، لكنها جميلة على الصعيد الفني .

صحيح أن الأدب يحمل رسالة إنسانيّة وانه يسهم في التربية والإعداد النفسي، وإن المزالق الأخلاقيّة كثيرة وخطيرة الآن، لكن الأدب الرفيع هو الأدب الذي يعرف كيف يقدّم مادته الموضوعية والفنيّة بحيث يحقق مستوى جلياً من الإقناع والإثارة الجماليّة، وكذلك الأمر في السينما والمسرح واللوحة التشكيلية .

في السبعينات عرض في صالات العرض السينمائية في بغداد فيلم ((أبي فوق الشجرة)) وما زلت أذكر كيف أن الشباب أولعوا بإحصاء عدد القبلات التي تبادلها عبد الحليم حافظ مع نادية لطفي وكان الفيلم قبيحاً لأنه لم يوظف التقبيل للسياق الموضوعي والفني، وفي المقابل شاهدت فيلماً تمثل فيه ميريل ستريب عنوانه    (السقوط في الحب)، يحقق الانشداه والجذب والإثارة الجمالية عبر النظرات واللفتات والحركات الصغيرة وكان جميلاً وجاذباً من دون أن يكون للملامسة الجسديّة أي أثر ناشز حين حصلت في نص الفيلم بعد ذلك .

س138: فاطمة الفلاحي: في نصوص القاص فرج ياسين، كثيراً ما تجده يترك الأحداث تتدفق بحريّة، لتأخذ حقها في السرد، وأحياناً يُضمن النص ملاحظات وتفسيرات، فيخلق رؤية سينمية تربطه مع القارئ، وكأنه يناقش معه تطورات القصة، ويسمح للقارئ أن يفكر مع نفسه بأنه كاتب لذلك النص ليجد الحلول والمبررات، ويحزن ويفرح معه ... الآن تجد النصوص مثقلة بالرمزية والإيحاءات، والفلسفة المبهمة ...

إلى ماذا تعزون سبب تلك المثقلات للنص، وابتعاد القاص عن جذب القارئ؟

ج138: فرج ياسين: القصّة الحديثة غادرت أسلوب الحكاية منذ مدّة طويلة، وهي لم تعد مكرّسة لتسلية المتلقي أو تذكيره أو وعظهِ، ومنذ أواسط القرن العشرين حصلت التفاتة قويّة إلى تحوّلات كثيرة في العالم بعضها يخصّ المجالات الاجتماعيّة والتطوّرات العلميّة والإيديولوجية وبعضها الأخر يخص التطوّرات الفنيّة والأسلوبيّة في فن القصّة والرواية نفسه . والقاص المعاصر يتعامل مع التحولات بوضعه مُنتمياً وليس غريباً أو معزولاً .. لذلك ليس من الصحيح القول بأن النص إذا كان متضمناً ملاحظات أو تفسيرات أو رؤية سينمائية أو يسمح للقارئ أن يفكر أو يزخر بالرمزية والإيحاءات والفلسفة المبهمة... كما ذكرت ليس من الصحيح القول بأنه يبتعد عن جذب القارئ . لأن القارئ إذا كان قارئاً ضمنيّاً يفترض به أن يمتلك الآليات الإجرائية للسيطرة على (مثقلات النص) . فهو أبن زمنه مثله مثل الكاتب وهما يتنفسان هواءً ثقافياً ومعرفياً واحداً فمن باب أولى أن تكون بينهما أرضية مشتركة للتفاهم .. أما إذا كان القارئ مُتلقياً اعتيادياً، بعيداً عن الشراكة فإنه – بلا شك – سوف يجد صعوبة بالغة في استيعاب هذه (المثقلات) لنصّه، التي ليست مثقلات ولا هم يحزنون .

س139: فاطمة الفلاحي: ليو تولستوي وعائلته . كانت كتابة اليوميّات شيئاً عادياً ومألوفاً لكل منهم . تولستوي كان يحتفظ بمجلدات من اليوميّات واستمر يدوّن يومياته حتى يوم وفاته تقريباً . يعبّرون عن أفكارهم ومشاعرهم من خلال الكتابة . أنا أيضاً ما زلت اكتب يومياتي على شكل قصّة أو خاطرة، أو كلمات مبعثرة تحمل بعض التوجع والمعاناة . هل لك يوميات تكتبها بشكل قصّة أو رواية قصيرة؟

ج139: فرج ياسين: أبارك لك اهتمامك بهذا الجانب السيري المهم . وأعرف أنّ عدداً كبيراً من الأدباء والأشخاص الاعتياديين يمارسون هذا اللون من الكتابة .. ولكنني للأسف الشديد لم ألامس هذهِ المنطقة السرديّة أبداً .. وكان الراحل الكبير يوسف الصائغ قد نصحني وأنا طالب في المرحلة الجامعية الأخيرة بممارسة كتابة اليوميات .. وقبل أيام التقيت الناقد العربي الكبير عبد الله إبراهيم فأخبرني بأنه يمتلك الآن (مجلدات) من اليوميات والمذكرّات وأشار إلى أهمية هذهِ الممارسة ..

س140: فاطمة الفلاحي: هل تجاهلت يوماً بعض الأحداث، ونزعتها من يومياتك، فلم تحسبها على زمنك . ولم ترغب بكتابتها؟

ج140: فرج ياسين: نعم حصل ذلك . وهو أمرّ يحدّ من الانطلاق في رحاب الرؤية الشخصيّة، المرتكزة على معرفة نوعية وثقافة وقراءة عميقة تخترق الأسوار وتذهب إلى الأسرار في الحياة الاجتماعية والسياسيّة . وعلى الرغم من ذلك فإنني حين أعود إلى موضوعات قصصي أجد أنني كُنتُ جريئاً في الطرح والمماحكة .. ففي قصص الحرب لم أكتب للتكريس التعبوي ولم أمجد البطولات عدا ذلك النوع من البطولة الذي يجعل من الإنسان أنموذجا للفضيلة والنبل والخير .. وحين يستوجب الأمر تحرّشاً بأحد التابوات الثلاثة المعروفة، السياسة والدين والجنس، فإنني لا أتورع عن الخوض فيها ولكن على نحو مقتصد، لأن الحذر والتخوف يظلان قائمان، ومع ذلك فقد كتبت قصصاً وضعني بعضها في دائرة الريبّة والمساءلة .. وعلى كل حال .. فمن العدل القول بأن أي كاتب يعيش في المتن العربي لا يتمتع بالحرية التي يتمتع بها الكاتب أو الشاعر في المجتمعات الحرّة .

س141: فاطمة الفلاحي: لكل منا لونه المفضل في ملبسه أو في كتاباته – أحب – الأزرق بكل أطيافه واشتقاقاته وظلاله المختلفة من الأزرق الكحلي، النيلي، اللازوردي، البحري الغامق، التوركواز إلى الأزرق الحر ... واتخذ منه سمة لروح كتاباتي ومداداً لتنسيق ما اكتبه، أو اجعل منه خلفية لنصوصي .. ولون قصّي هو الأزرق المسالم، والحزين، لكثرة أحلامه العصية ..

وهناك إشارة فلكية وتاريخية عن الأزرق ومسمياته مثلاً:

" القمر الأزرق " : يشير إلى الظاهرة الفلكية التي تحدث كل ثلاث سنوات تقريباً والتي يظهر فيها الهلال مرّتين في الشهر، واحدة في بدايته والثانية في نهايته .

و" الدم الزرق " : يدل على انتماء الشخص إلى طبقة اجتماعية رفيعة .

- فما لون قصك ؟ .. وكيف تصف قصصك على ضوء نظريّة الألوان ؟

ج141: فرج ياسين: اللون الذي أفضله هو الرمادي، الرصاصي، الأزرق في أدنى درجاته أي حين يبدأ بالزحف نحو الأبيض . وزوجتي توصيني حين أذهب لشراء بدلة أو قميص أو دشداشة بأن لا أتورط في شراء الرصاصي، لأنها تعرف أن غشاوة تصيب عيني فلا ترى الآ هذا اللون لحظة الشراء .. أم لون قصصي على وفق قوّة التجاوب النفسي مع هذا الاقتران اللوني .. فهو الحيادي والبارد في كل الألوان، وهذهِ السمة تنتقل إلى المشغل الفني لحظة العمل وهي المسؤولة عن التروي والدقة والتناسب والإجادة وتوخي الاحتراز والكمال الإجرائي .

ومن الصعب القول أن خبرة ثلاثة عقود من العمل .. تتبدل فيها الأحوال وتحترب الموضوعات ويكتسي الزمن فيها بما لم يحسب حسابه – كانت بلون واحد .

\وأشكرك جزيل الشكر يا سيدتيJ

يمكن توجيه الاسئلة عبر الاميل الاتي

[email protected]

للاطلاع

المقف في حوار مفتوح مع القاص المبدع د. فرج ياسين

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم