تكريمات

قصة "الصرة" لفرج ياسين .. أبعاد نفسية لأسئلة ووقائع ملغزة / حسين سرمك حسن

يوكاستيه – لا تخف من فكرة الاقتران بأمك فكثير من الناس مَنْ اقترنوا بأمهاتهم في أحلام الليل، ومن ازدرى هذا الخوف الذي يصدر عن الوهم، كان خليقاً أن يحتمل الحياة في كثير من اليسر..

- سوفوكليس –

في أديب ملكاً

 

«عباس» بطل قصة «الصرّة»(1) للقاص «فرج ياسين» - هو من الذين وصفهم معلّم التحليل النفسي بـ( الرضعاء الدائميين )، الذين ثبتوا في طفولتهم على أمهاتهم مبتهجين بأحضانهن الدافئة . ولكن هذا التثبيت المبهج في الطفولة له ثمن قاسٍ يُدفَع في الكبر من خلال قصور الطاقات النفسية عن المهمات المطلوب إنجازهــا، وبشكل خاص في مجال الارتباطات النفسية بموضوعات حب جديدة من المفروض أن تحلّ محل الارتباط القديم بالأم . والفرد المثبّت على الأم أو «الرضيع الدائم» يظل يبحث، بعد فقدان الأم، عن بديل لها، أو يتعلق – بصورة غريبة – بأثر أو بقية من بقاياها، قد لا تعكس في النظر المباشر تلك الصلة . وها هو بطل قصتنا (عباس) وقد فقد أمه، يكتشف (صرة) صغيرة سوداء في صندوق أمه الخشبي بين أشياء كثيرة، فيضع الصرّة/اللقية في جيب معطفه، وينشغل بالتفكير في ما تحتويه هذه الصرة التي هي (أثر) من آثار الأم الأثيرة الراحلة، تلك الأم التي كانت تتعامل معه كطفل، وتسميه فوق ذلك بـ (الطفل)، على الرغم من بلوغه الخمسين من عمره . لقد كانت أماً مسيطرة احتفظت به في حضنها الدافئ طوال هذه السنوات، وجعلت ارتباطه بها مصيرياً فقد كان لا يحبها حسب، بل يعبدها :

«فقد حرم الحياة من أجل أن لا يفسد عليها نظامها».

وهو يتذكر إلى الآن يوم سألته أمه قبل موتها بأيام قلائل سؤالاً غريباً:

- هل صحيح أنهم يشيدون جسراً في المدينة ؟

وبعد نصف ساعة حملها (عباس) على كتفيه لترى الجسر، لكن الأم كانت تقول، وهي ترى إلى كل شيء عبثاً:

(- لا فائدة.. يا بني.. لا فائدة)

.. كما يقول (القاص) مشيراً ليس إلى إحساس الأم العميق بالموت وقرب الفناء والخواء حسب، بل إلى ترسيخ شعور الابن بخيبة جهوده في مبادرته الإيجابية لإسعاد أمه، وأداء دور الرجل القادر على الاستجابة الفورية لرغباتها . إنها من نمط الأم المعطلة لنمو ولدها النفسي :

(فالحجرة الوحيدة في البيت هي حجرة أمه وما شعر لحظة من عمره الطويل أن له مكاناً فيها .. من خزانة الملابس الخشبية القديمة، إلى صف المسامير على الحائط الذي تعلّق عليه الأشياء ) .

لقد كانت هيمنة الوجود الأمومي كاسحة وطاغية، جعلت الابن يتحول إلى قطعة أساسية لتأثيث ذلك الوجود، فقد كانت (أم عباس) كما يقول القاص :

«غاية في الترف وهي تحتض العالم الخالي الصغير بما فيه هو، ولم يكن يحسب لأمره حساباً، ولم يعترض فالحياة تسبح والأيام تمر ».

ومن الممكن أن تحمل الجملة الأخيرة إيحاءً بأن الحياة «تسبح» من قبل الابن في الرحم الأمومي، وكأن القاص يريد أن يرسخ في أذهاننا أن (بطلنا) قد ثُبِّت عند أكثر المراحل بدائية من مراحل نمو الولد النفسجنسي وعلاقته بأمه، وهي تعني أشد حالات الاعتماد السلبي على الأم كمعين ومصدر وحيد لإدامة أسباب الوجود من الناحية النفسية . فـ (عباس) لم يعترض لأن الحياة «تسبح والأيام تمر»، ولكن ليس بحكم قوانينها بالنسبة إليه، بل بحكم شبكة صغيرة من القواعد والأصول غاية في التعقيد وتتعلق كلها بصندوق متوسط الحجم كانت أمه تضع فيه كل تاريخها.

إن سلبية (عباس) وشلل إرادته من ناحية، وسطوة أمه وامتداد تأثيرها المعطل حتى بعد وفاتها من ناحية أخرى، تتضح في الكثير من المواقف التي حفلت بها القصة : فقد سلخ (عباس) عمره وهو يعمل حمّالاً في السوق، ولكنه غيّر عمله لمجرد أن طلب منه صاحبه أن يترك هذا العمل، ويعمل لديه في «المحلج». وهو يعلن ضجره من هذا العمل الجديد، رغم كونه (أرقى) من عمله السابق كحمّال يتحمل الكثير من الشقاء والتعب، ويتضمن موقفاً سلبياً خاضعاً تابعاً . وتظهر سلبيته، ووقوعه تحت سطوة أمه النفسية أيضاً، في تردده في فتح صندوقها الخشبي بعد وفاتها، وفي مشاعره وانفعالاته حين قرر أخيراً فتح هذا الصندوق . فلأول مرة في حياته وقف بكامل حريته يحوطه جلال الموقف ودقته كما يقول القاص . ومن خلال (لأول مرّة في حياته) و(بكامل حريته)، ندرك مقدار ثقل العبء الذي كان يرزح تحته (عباس) بفعل الارتباط المرضي بأمه . وبرغم ذلك، وبسبب من سطوة الأم على الرغم من موتها لم يُدرك (عباس) أن هذا الصندوق الذي لم يكن يتحكم بحياة أمه فقط، بل وبحياته هو أيضاً، من خلال الأفعـال المعقدة المتعلقة به، والتي ترسخت كطقوس تشبه الأفعال القسرية ؛ نقول لم يدرك (عباس) – بعد أن فتح الصندوق أن ما يحتويه لا يستحق التقديس، ولا يستلزم الرهبة، ولا يحمل القيمة التي تتيح له ذلك الدور المعوِّق، إلا بعد عدة أيام، وذلك بسبب سلبيته وخوفه من أن يكون قد شق عصا الطاعة على سلطة الأم المتربعة على عرش لاشعوره .

«الآن، وبعـد مضـي أيام قلائل لا يجد من الأسباب ما يكفي للتشبث بتلك الأشياء» .

ولم يلفت انتباهه – من بين تلك الأشياء – سوى صرة قماشية سوداء وضعها أولاً في ثقب حائط غرفة في المحلج، ثم وضعها في جيب معطفه، وسار نحو بيته، بعد أن سأل صاحب المحلج :

«قل لي لماذا تحتفظ امرأة مسنّة، مثل أمي رحمها الله، بمثل هذه الصرة»؟)

وهو سؤال غريب، لأن من المعروف والشائع في مجتمعنا، أن العجائز يحتفظن في صناديقهن بأشكال وأعداد من الصرات المختلفة . فلماذا يكون الأمر غريباً بالنسبة إلى أمه – أم عبّاس...؟

إن العامل وراء هذا التساؤل هو القاص – وهو سيد العمل الإبداعي وخالقه الذي لا يموت –، الذي أراد من بطله أن يزج طرفاً آخر في موضوع لغز هذه الصرّة التي حملت القصة اسمها، ودارت أحداثها حولها، ليزيد من شحنة التـوتـر في وقائع القصة . وهذا العامل نفسه، هو الذي يقف خلف مشاهد وحوارات أخرى منها – على سبيل المثال – ما قاله (عباس) لصاحب المحلج في البداية :

«ألست عاملاً عندك في المحلج ؟ ألم تطلب إليّ منذ أسبوعين أن أكف عن عملي القديم كحمّال في السوق – العمل الذي سلخت فيه عمري كله – لألتحق بعملك »؟.

(عباس) يشرح لنا – نحن القرّاء – بـ (دفع) من القاص المعلومات اللازمة لفهم خلفية العلاقات القائمة. أما العامل الثاني خلف هذا السؤال الذي طرحه (عباس) عن الصرة، فهو عامل نفسي، يرتبط بطبيعة تركيبه النفسي، فالمثبتون على الأم – وبسبب من سلبيتهم وتبعيتهم الأمومية - يكونون كثيري (الاستشارة)، ويفرطون في طلب النصح، ويترددون في كل شأن يتعلق بنيات التحرر من سطوة الأم، وفي كل فعل قد يتضمن – ولو بصورة غير مباشرة – نوعاً من الخروج على تلك السطوة . إنه يستشير أمه في كل شأن من شؤون حياته في أثناء حياتها فتوجهه كطفل – وهو حال (عباس) مع أمه قبل وفاتها – أما بعد موت الأم أو غيابها لسبب ما فإن اضطراباً شديداً يجتاح حياة المثبت على الأم، فيصيبه الارتباك والتشوش، فأما أن يتجه نحو العزلة، وتحديد مجرى حياته، وضبط علاقاته إلى أدنى حد – وهذا هو حال (عباس) – لكن لا يواجه مواقف تتطلب قراراً واتخاذ مبادرة، وما يعنيه ذلك من التصدي لأداء جانب من جوانب الدور (الأبوي) المستقل هو غير مؤهل له، أو نجده يتجه نحو البحث عن الأم البديلة، قد تكون زوجة كبيرة في السن أو أنها تشبه أمه في خصالها أو مظهرها، أو أنها قد تكون من نمط النساء الملوثات أحياناً ليلعب معها لعبة (الإنقاذ) الماكرة والمدمرة، أو أن المثبت قد يتعلق بآثار الأم ومخلفاتها حدّ الهوس أحياناً، وهذا الأمر حصلت أشكال منه لدى (عباس)، وهو يحاول فك لغز (الصرة) الصغيرة التي جلبها من البيت إلى المحلج، ووضعها في ثقب الحائط، ثم أخرجها، ودخل في نقاش طويل، قدمه لنا القاص مع صاحب المحلج حول ما يحتمل أن يكون في داخلها، وسبب احتفاظ الأم بها، ثم حملها في جيب معطفه، وسار بها تحت المطر نحو بيته، ثم عاد بها إلى المحلج من جديد، ليفتحها أخيراً بعد تردد. فلمَ لَمْ يفتحها في البداية وينهي الأمر وهي خرقة من مخلفات عجوز ماتت ؟.

نعود هنا إلى الفاعل الرئيسي وهو (القاص)، الذي أراد للعبته القصصية أن تسير وفق هذا المسار. أما الدافع الآخر فيتمثل في سلبية (عباس) وشعوره بأنه سيقترف إثماً جسيماً إذا ما قام بهذا الفعل، أي إذا (فضّ) أمراً يعود إلى الأم . وقد تأكد هذا الأمر من خلال ما قاله لصاحب المحلج :

«وجدت هذه الصرة بين الأشياء في الصندوق، الأشياء التي كنت أعتبـرها محـرّمة )) .

وقد قلنا إن القاص يقف وراء (عباس) بطله في سلوكياته وأفكاره، بل ويتلبسه أحياناً، وهذا يظهر في أكثر من أمر . فالقاص (متحمس) لبطله، وهذا الحماس والتعاطف الفائض – وهذا هو حال المبدعين الصادقين الذين يكون أبطالهم قطعاً من لاشعورهم – يجعل القاص يقع في أحد أمرين أو في كليهما : الأول هو أن القاص يندفع بفعل حماسه إلى تقديم أوصاف وانفعالات (خام) لا يدقق فيها وفي موضوعيتها وموقعها في القصة، وهذا الأمر يحصل بصورة تلقائية وغير مقصودة، أو لاشعورية . والثاني هو أن القاص يقع في (زلاّت) كتابة لاشعورية تكشف أسرار لعبته في المكان والزمان اللذين لا ينبغي أن يكشفها فيهما. فالقاص يقول عن بطله:

«أخرج الصرة الصغيرة السوداء التي أخفاها منذ الساعة الرابعة في هذا الثقب»

ولا يستطيع القارئ فهم أي مغزى أو دور لهذا التوقيت : الساعة الرابعة، حيث لا يوجد توقيت آخر نقوم بالقياس عليه، ولا يفسر هذا إلا أن القاص (وحده) يعرف معاناة بطله، وما يعنيه إخفاء الصرّة منذ الساعة الرابعة .

وهو يقول في موضع آخر من قصته إن بطله :

«دس يديه في جيوبه، وانتبه إلى أن الصرة لا تزال في قبضته، فأطلقها جاعلاً لها أن تستقر في ذلك القعر السحيق».

وبطبيعة الحال لا يوجد "قعر سحيق" لجيب معطف مطلقاً إلا إذا أخذنا حماسة القاص لبطله وتوتره النفسي بالحسبان. إن (القعر السحيق) هو توصيف للخلاص من إثم التعدي على (المقاطعة) الأمومية من خلال رمي شاهد الجرم في (القعر السحيق).

ويقول القاص عن (عباس) أيضاً :

«قبل بضعة أيام فتح ذلك الصندوق لأول مرة بيديه».

وقد يسأل القارئ بماذا يفتح الإنسان الصندوق عادةً ؟

إن القاص يعرف قبل غيره الجواب، ولكن (تلبّسه) لحالة بطله النفسية، وإدراكه لمشاعر الذنب التي تعتمل في داخله، وهو مقبل على (افتضاض) السر الأمومي، جعله يؤكد (فعلة) بطلـه بأنها وقعت بيديه، وليس بيدي غيره . وهذا التلبس لا يشفّ فقط بحماسة القاص بل يقدم مؤشراً – ولو بسيطاً – على أن القاص نفسه قد يكون مثبتاً – بهذا القدر أو ذاك – على الأم – أو بدائلها – في حياته النفسية اللاشعورية . وهذا ما لاحظته من خلال التحليل العميق والمتأني لثلاث مجموعات قصصية للقاص هي "عربة بطيئة" و "حوار آخر" و "واجهات براقة" .

والأمر الأكثر أهمية في هذا المجال هو هذا المقطع الذي اقتنصته من استهلال القصة لأهميته في تأكيد ما قلناه :

«قل لي لماذا تحتفظ امرأة مسنة مثل أمي رحمها الله بمثل هذه الصرة»؟

يقول القاص :

«خفّ الرجل – أي صاحب المحلج – حتى صار بإزاء (عباس) وهو يحدق في يده التي مازالت تحمل الصرة الصغيرة .. ومع أنه لم يرَ شيئاً همس لنفسه : إنّ (عباس) رجل عاشق ».

فهل هناك تفسير لما يقوله القاص عن همس صاحب المحلج (إنّ عباس رجل عاشق) غير أن هذا (استعجال) لاشعوري أفلت فيه القاص سراً يعتمل في داخله – هو العارف العليم بكل أسرار القصة – وقد حرّك هذا الاستعجال شعور القاص أو بطله، فنحن لا نستطيع تحديد من يروي قصة على هذا المستوى النفسي – بضغط عقدة المحارم .

حالة فرج ياسين تثبت بما لا يقبل اللبس أن المؤلف في النصّ هو الحي الذي لا يموت .

المهم أنّ (عبّاس) اتجه بعد هذا الحوار نحو بيته، في جو بارد يصف القاص حالته وقتذاك قائلاً :

«مع أن أحداً لا يمكن أن يخرج في هذا المساء البارد من بيته ليذهب لبعض شؤونه، إلا أنّ (عباساً) توقع مراراً أن يصادف أحدهم ))

ومن دون ضرورة (فنية) ظاهرة يتجه القاص ليشرح لنا السبب الذي يجعل عباس (يتوقع) لقاء شخص في هذا الجو البارد، وهذا الأمر – التوضيح والتفصيل – هي ظاهرة أسلوبية قائمة في مجموعاته القصصية الثلاث، وفي قصصه المفردة المنشورة في الصحافة الثقافية . إنه يشعر بالمسؤولية ليشرح للقارئ سبب كل ما يقوم به أبطاله من أفعال على الرغم من أن الناحية الفنية تقتضي منه تجاوز ذلك، وهو قد يعرف ذلك بعد أن تُنشر القصة ويتم تنبيهه إلى ذلك، ولكن يبدو كأنه يتلبسه هاجس الشعور بالذنب الذي يرزح تحت وطأته أبطاله فيسوغ تصرفاتهم، فيقول عن سبب توقع (عباس) ذلك :

«هو إنما يتوقع ذلك ليرمز بشكل يجل على الوصف لوحدته ويأسه».

تظهر (عقدة) عباس بصورة أكثر وضوحاً عندما يصل إلى بيته فيأنس :

«قرب الباب حركة خفيفة تبعتها همهمة مكتومة».

فقد كان هناك فتى وفتاة يتغازلان في بيته بجوار الباب بصوت مسموع. وهنا يقول القاص :

«الهمهمة غدت آهة خفيفة رقيقة حييّة، فعلم وسط ريح الدهشة التي راحت تملأ رأسه بالسلام إن ثمة شيئاً يحصل في بيته».

من جديد، كيف تملأ ريح الدهشة رأس (عباس) بالسلام، وهي مقترنة بأمر مفاجئ وغريب يحصل في بيته، ومن المفروض أن يملأ نفسه بالاضطراب والارتباك ؟

إنها من دون شك (نوايا) القاص، ودوافع بطله المسبقة، واستعداد الأخير لتقبّل أمر مُربك برد فعل مناقض، لأنه يداعب رغبة مكبوتة تعتمل في أعماق لاشعوره الذي تململت في زواياه المظلمة مباشرة – بحكم التثبيت النفسي – تلك الصلة القديمة والحيّة الضاغطة التي لم يعرف غيرها في حياته. فعادت معها،بطريقة الارتباطات الشرطية، صورة الأنثى الوحيدة التي عرفها، وارتبط بها، واستقر في أحضانها في أثناء حياته، فبزغت صورة الأم بإثارة المحفِّز الجنسي المتمثل في مغازلة الفتى والفتاة، وهمسهما المهيّج، حيث يقول القاص: «في حمأة بلواه .. كانت أمه تطل بوجهها الرهيب. لم تعد الآن ميتة، تلك المرأة التي كانت لها صلواته كلها». وهذا الوصف لوجه الأم : ( وجهها الرهيب )، يوحي إلينا أن الأم ذات وجه (ميدوزي)، أم متسلطة و«خاصية» في المعاني النفسية . فبدل أن تطل عليه وهو في حمأة محنته وبلواه بوجه ودود مساند وحانٍ يخفف من اضطرابه، نجدها تطل عليه بوجه مُعاقب على الرغم من أن صلواته كلها لها، وكأنه يطلب غفران إله متجبر . يتأكد هذا الأمر من خلال أصوات الغزل والقبلات التي حركت ارتباطه القديم، وجعلت مساً دافئاً يخترق الجدار ويدور «راعفاً في أقطار جسده جميعاً» جعلت – في الوقت نفسه – مشاعره المستثارة هذه تختلط مباشرة بمشاعر الخوف وبالإحساس بالألم . وها هو (عباس) يقف موقفاً غريباً، فبدلاً من أن يلقى اللوم على الفتى والفتاة لانتهاكهما حرمة بيته واستغلاله، نجده يحمّل نفسه المسؤولية :

( فخيل إليه أن هناك من يراقبه، وأحاطت به وفود الخوف وحدثته نفسه :

«قد يراني أحد ونسي تماماً أنه صاحب هذا البيت، وإنّ من حقه حمايته».

لقد بدأ بالتصرف وكأنه اقترف جرماً، بل اندفع إلى حد أبعد حين سأل نفسه :

«أما كان الأجدر بي أن أخف إلى حماية ضيوفي .. وارتاح لكلمة ضيوف».

إنه يضع نفسه طوعاً في موقع «المنقذ» والحامي، وهو الأمر الذي يحصل لدى المعصوبين أوديبياً، عندما تتحرك في لاشعورهم بذرة المحارم، فيندفعون نحو التستر على أنموذج أنثوي ملوث ومحاولة إنقاذه، ومنهم من يحاول إقناعها – وهو يشاركها سرير الخطيئة – بالتوبة، وترك طريق الشيطان، وإتباع طريق الفضيلة، لأن صورة المومس الفاضلة في لاشعورهم قديمة العهد وأصيلة. ويتصاعد هذا الشعور في نفس (عباس) عندما يشعر بممانعة الفتاة التي :

( كانت تدافع رغبة جامحة للفتى في أن يستبقيها وقتاً أكثر، وكان الفتى يسكب عليها أتوناً من قُبل مسموعة. وتراءى (لعباس) أنه أخذ يجد الطريق إلى تذوقها المرة تلو المرة وقد أرقصت قلبه كلمة «لا» التي كانت تتخلل حديثها وغدت بنظره لازمة الموقف بأجمعه) .

فكلمة «لا» التي تطلقها الفتاة بوجه قبلات الفتى المجنونة اللاهثة، ليست لازمة للإثارة الجنسية من خلال التمنع الراغب، بل هي علامة موقف للفتاة تعزز مشاعره الإنقاذية هنا – وثانية – تدخل «حماسة» القاص من جديد ليؤدي دوره المحتدم الصادق نفسياً، المربك من الناحية الفنية، فنجد الفتى يقول للفتاة التي تعلن له خوفها من أن يعود صاحب البيت، بأنه سوف لن يعود مطلقاً والسبب هو :

( لأنه رجل يتآكله الحزن، لقد ماتت أمه ) .

وليس كل رجل تموت أمه لا يعود إلى بيته، وليست لذلك صلة بمحاولة الفتى استبقاء الفتاة، ولكن القاص – المؤلف الذي لا يموت – يريد ذلك وهو شكل من أشكال «الزلات» اللاشعورية . ويتأكد ذلك بصورة أكبر حين ترد الفتاة على الفتى قائلة :

«أمّه، آه، لا، أرجوك وهل كانت له أمّ» ؟

وهو سؤال غريب لأن كل فرد له "أمّاً"، ولكن المقصود من السؤال يدركه القاص الذي اكتفى بمعرفته بقدرته الكلية – omnipotence وتركنا كقرّاء .

هنا، يبدأ الفتى بشرح طبيعة العلاقة بين (عباس) وأمه، وكيف كانت تسميه (الطفل) وهو في الخمسين. وهنا تسأله الفتاة سؤالاً غريباً آخر:

- «هل كان يحبها»؟

فيقول الفتى:

«يحبها؟ إنه يعبدها، لقد حرم الحياة من أجل أن لا يُفسد عليها نظامها، إنه رجل شهير» .

ثم تستمر الفتاة في طرح الأسئلة عن عباس وعمله واحتمال حضوره فجأة . وعندما يستخف الفتى بهذا الاحتمال ويقول لها :

«سنتظاهر بأننا جنيّان، وما علينا إلا أن نخرج بتثاقل وهدوء فقد يصدّق ذلك».

ويصر على أن (عباس) غير قادر على إخافة أحد، فيشعر الأخير – هنا – بأنه كان أبله بنظر الآخرين في تعطيل حياته خدمة لأمه . ولكن الغريب هو أنه بدلاً من أن يُستفز لكرامته، يعود ليصب عدوانه على نفسه محملاً إياها المسؤولية ومشاعر الإثم :

«يخيل إليه أن التصاقه بالباب، وتسمّعه على من في الداخل بهذا الشكل، أمر لا يغتفر، وحدّث نفسه : إني اقترف إثماً ».

ولا ينسى عباس هنا دوره «الإنقاذي» فيتمتم :

( استغفر الله.. قالها لخلاصه وقالها من أجلهم ) كما يقول القاص .

ولأن المثبت – كما أسلفنا – يكون متردداً ومضطرباً في كل شأن من الشؤون الأمومية المباشرة وغير المباشرة، فإن (عباس) يقع وسط دوامة عاصفة مدوّخة، فهو يجد أن من المفروض عليه أن يتخذ قراراً في هذا الموقف الشائك .

«وصار من المستحيل عليه أن يتبين ما إذا قد يترتب على ذلك قرار ما، كانت العاصفة تنـزف في نفسه وتزجي سحباً سوداً بثقل الليل، إنها تدوي في دمه والآن صار لها مطر..».

وهذه العاصفة التي تنـزف في نفسه ليست رد فعل على اقتحام بيته، ولا الاستهانة به حسب، بل هي نتاج لتلك العقدة التي حركها هذا الموقف في دواخله، تلك العقدة التي تعرضت للتشويه أيضاً في مسار حياته، والتي يعبّر عنها القاص من خلال مقطع هو من بين أروع ما قرأته في مجال تغليف العقدة الأوديبية في جنس القصة القصيرة حيث يقول :

«إن من المستحيل إدراك الرائحة التي تنطوي عليها حبّة قمح مخزونة لعشرات السنين عند سحقها بين الأسنان، إنها رائحة عصيّة على الفهم لأن أحداً لن يصدق أن هذه الرائحة إنما هي رائحة المطر الذي أنبت تلك الحبة، نفس المطر، وبمعرفة قوانين خاصة قد يتوصل إلى معرفة ما إذا كان الفضاء مغبراً تلك اللحظة، لحظة سقوطها».

هنا يصبح فرج ياسين فيلسوفا وصاحب "رؤيا" ولا يمكن للإبداع الكبير إلا أن ينطوي على "رؤيا" .

وهذه الرؤيا الأسطورية المحكمة تمت عبر عمليات (انتقال) نفسية بارعة – أدت فيها اللغة دوراً حاسماً – موّهت الأصول ونكّرتها تحت أغطية برّاقة وخادعة . إن الإنسان هو تلك البذرة التي تنتج عن عملية المزاوجة الخلاّقة بين الأب – السماء، والأم – الأرض، والتي تتحقق من خلال أداة الإخصاب الذكورية، ورمزها هنا المطر . ولكن هذا الإنسان – لا حبة القمح – لاحظ أن القمح هو من رموز الإله الشاب القتيل في الأساطير القديمة – التي هي تركيب أمومي أصلاً. – لظروف خارجية ضاغطة – كأن تُسحَق تحت تأثير عامل مهدِّد – فإن من المفترض أن تنبعث منها رائحة المطر- النسغ الأبـوي الـذي استوعبه ذلك التركيب الأمومي الأصيل . لكن هذه القاعدة الإنسانية الشاملة لا يخضع لها (عباس) لأنه «لا يخضع لأي وجه من وجوه التعريف»، فقد كان حبة القمح المغلقة على رائحتها الخاصة منذ عشرات السنين، ورائحة (عباس) الخاصة هي رائحة الأم التي ثُبِّت عليها. إنه تركيب أمومي (خام) لا تنبعث منه رائحة المطر /الأب المتوقعة على الرغم من أنه يُسحَق منذ سنوات طويلة، بفعل مواقف عديدة، آخرها المواجهة التي وضعته أمام اختيار حاد يستدعي المبادرة والفعل الأبوي . إن مشاعر الأنوثة والاستقبال السلبي المتأصلة في داخله جعلته الآن – وهو يستمع ويستثار بغزل وقبلات الفتى والفتاة اللذين اقتحما بيته :

«لا يناقش ما يستمع إليه، إنه يتلقاه فقط».

إن رد الفعل الطبيعي الذي نتوقعه في مثل هذا الموقف، من شخص يُستلب ويُهان، يُجهَض لأن «الفضاء كان مغبراً تلك اللحظة»، لحظة سقوط حبة (عباس) الذي أصبح نموه النفسجنسي مشوهاً لأنه تماهي – بفعل تثبيته – مع الأم فأصبح «لا يستطيع أن يتصور الحرّية بدون أم» كما يقول القاص. إن (عباس) عندما سمع في البداية الصوت الرقيق الشاحب المريض والآخر الحازم الدهش اللاهث قال مباشرة : آدم وحواء . وقد «أخجلته حرية الآخرين» هذه «ليس لأنها تخرج عن الحدود أحياناً فهو يعرف أن لا حدود – ولكن فقط - «لأنه لا يستطيع أن يتصور الحرّية بدون أم». وهذا الاقتداء بالأم وأمثلة نموذجها، جعل حتى هويته الجنسية مضطربة ومشوشة وغير محددة الملامح، فمع سماعه أصوات الغزل والقُبل قال لنفسه :

«على الإنسان أن يعتنق المشقة»

.. أي أن يستقبل الألم بروح مازوخية، كما «شعر لأول مرة أنه لم يكن مع مبدأ الاختيار أبداً، وقد أطلت عليه أمه بوجهها الرهيب . إن الاختيار الوحيد – الرائحة الوحيدة – الذي يعرفه هو الاختيار الأمومي، وحتى هذا الاختيار لا ينسرب في مسارب سليمة لأن الفضاء كان مغبّراً أصلاً . وهذا يظهر من خلال دليل بارز صارخ هو أن هم (عباس) الأساسي أصبح الآن : التأكد هل أن باب الحجرة الوحيدة في بيته – وهي حجرة أمه الراحلة – موصد أم لا :

«لأنه لا يريد لجسد الفتاة أن يتعذب : إنه يشفق على جسدها الرقيق الجميل من الأرض العارية، ويتمنى لو أن ذلك يحصل في فراش ما، وليكن فراشه هو ».

لقد بلغ الأمر بـ (عباس) – حين سقطت قطرة المطر الأولى على جبهته – أن فكر:

«قد تسقط القطرة الثانية فوق جسد أحدهم».

وهنا يستخدم القاص تقنية رائعة :

( فعباس يشم رائحة المطر .. والريح الخفيفة تنشج بهدوء .. والحديث بين الفتى والفتاة – آدم وحواء – غدا جاداً رزيناً يفصح عن شيء أكثر خطراً من مجرد الدعابة العابرة)

.. أي أن التزواج والإخصاب – مع تساقط المطر – أصبح وشيكاً . والفتاة تبرئ (أمّها) – اتساقاً مع مسار القصة وعقدتها المركزية – من معارضة زواجها من الفتى، وتلقي اللوم على عاتق أنموذج أبوي – الأخ الأكبر –. والفتى يقول عن نفسه إنه رجل يقدّس الماء .. و.. و .. "سقطت قطرة المطر الأولى" .. ولم ينتظر عباس كثيراً لأجل أن يحزم أمره ويقرر الذهاب عن المكان، متخلياً عن حقوقه وبيته لـ «ضيوفه» الذين اغتصبوه، وموجهاً العدوان نحو ذاته بدلاً من أن يرده إلى مصدره . ولكي يؤكد لنا القاص أن ما قام به (عباس) هو بدافع داخلي من جهة، وليرسّخ أمامنا خيبة وعقم جهوده من جهة أخرى، يقول عن عباس، بعد أن تخلى عن حقه وغادر المكان :

«عبر حلزون الأزقة الضيقة حتى بلغ باب المحلج، لم تسقط قطرة مطر واحدة..»

ويبلغ الإحباط أقصى مستوياته حين تلامس أصابعه الصرة في جيبه، وهو جالس القرفصاء في البرد لينام عند باب المحلج، فيحل عقدتها، ولا يجد شيئاً في داخلها :

« لقد كانت قطعة القماش تلتف على نفسها عدة مرات ليس إلا..»..

أي أن (عباس) أمضى عشرات السنين من عمره مثل صرة الأم، مثل حبة قمح تنطوي على نفسها، على سرّها.. سرّ رائحة الأمومة المقدّسة .. لكنه أيضا سرّ التثبيت والخواء ..

 

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2193الخميس 26/ 07 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم