تكريمات

كنتُ ومازلت مغرماً بشاعرية وبوح شاعر العراق (يحيى السماوي)

فهو بحق يجبرك على متابعته سواء كان شعراً أو نثراً أو إلقاءً

وحتى نقترب أكثر من السماوي ونطبب جراحاته الدامية ونستنشق عبير شعره الزكي .. دعونا نتعرف عليه عن قرب :

 

يحيى السماوي الشاعروالكاتب العراقي الجريح أومجنون الوطن..لايعرف إلآ أن يمطرنا بوحاً صادقاً يصاحبه الحزن الدفين والشوق المتعطش الذي أضناه الانتظار وحرارة البعاد !!

السماوي..الذي تغلغلت في دمه مياه دجلة والفرات..لا يعرف إلآ أن ينزف  جرحاً باتساع الوطن..وألماً لايداوى ..وحُبّاً لو قُسّمَ على القلوب الغافلة لاشتعلت شوقاً

فالحب عنده موروث منذالقرون الأولى فهو عاشقٌ بالوراثة :

 

الحب ميـراثي فامـيّ " عـبـــلةٌ ٌ "

وأبي كثيرٌ " والشقيق "جميلُ"

 

"وابن الملوّح " كان صنو صبابتي

وجـمـيعنا فــي عشقه مخذولُ

 

ولكنَّ الحب الحقيقي عند شاعرنا المجروح..لايقتصر إلآ على الوطن المجروح

ومن أجله تهون الصعاب حتى غربته التي أحالتهُ إلى أشلاء مبعثرة :

 

وطني هو الطللُ القديمُ وليْ بهِ

 أهل ٌ وحقل مودة ٍ وخليلُ

 

يمشي معي أنىّ مشيتُ خياله

فكـأنه بين الظلوع نزيــلُ

 

وبين حبه لوطنه وخوفه وحزنه الدائم عليه ..ينزف السماوي أنهاراًمن كلمات الحنين

وشلالاً من البكاء المرير ..كيف لايفعل ذلك وهو الذي يكتب العراق بالف جرحٍ وجرح

ويُسّطرُ على مياهه أحرف الغربةِ والعشق الذي لايموت..فلنستمع إلى صوته المبحوح:

 

عقدتُ على أرض العراق قِرانيا

.فمهري وفاءٌ والعفافُ صِدا قيا

 

"يقولون ليلى في العراق مريضةٌ"

وما عرفوا أنَّ المريض عراقيا

 

ولاغرابة أن يُطلق على ذلك المجروح " المجنون " فكما كان

قيس ٌمجنوناً بليلى وعنترة بعبلة ها هو السماوي يُجنُ بوطنه..ولولا أننا نعرف أن الشاعر (حسيب غالب) قائل البيت:

 

قالوا جننت بليلى قلت ويحكمُ

مالذةُ العيش الا للمجانينِ

 

لتبادر إلى أذهاننا جميعا ًأن قائله (السماوي) لاننا ندرك تماماً من هى (ليلى)عنده

وهانحن نستمعُ إلى صوته القادم من مسافات الغربة ومن دهاليز الوحدة القاتلة ينادي وبأعلى صوته أريد وطني:

 

(أيّها الناس أريد ُوطني ..

إنّ الورود لا ترحق عطرها ..

فكيف سأغني إذاكنتُ مثقوب الحنجرة..

ويداىّ صادرهما الحرس الليلي..)

 

ورغم بُعد المسافة فإنَّ صوته يُلامس فروع النخيل وأكواخ قريته الصغيرة وسجادة أمه وخبزها فيجعلها تتراقصُ شوقاً وتبكي ألماً..فلنستمع إليه عندما يُصاب بحمى العشق:

 

(أريد لي عشرين يداً..

وورقة بمساحة غابة استوائية ..

وقلما ًبحجم نخلة..

مع بئرمن حبر أسود..

فأنا أريد أن أكتب قصيدتي الأخيرة

عن العراق)

 

ويستمر(السماوي) في حالته التي يُصاحبها الشعور بالرغبة في تفريغ الألم المكبوت

في داخله من ألم البعاد ..والأمل المتأرجح بين الحقيقة والخيال بل الخوف من المجهول

ما أجمل بوحه عندما يكون ثائراً:

 

(لاتغمضوا عينيّ حين أنام نومتي الأخيرة ..

فأنا أريدهما أن تبقيا مفتوحتين كأبواب أكواخنا ..

دعوهما مفتوحتين ..

كي أعرف أيهما أكثر ظلامًا : قبري أم العراق؟)

 

ويأتي صوته من المنفى من الوحشة التي أثخنته بأمراض العصر..وعذاب الاشتياق ..

وبعد أن تعالت أصواته في كل اتجاه مازال صوته العذب يصل إلى

تجاويف أذاننا.. فيجعلنا نصرخُ آهاً..ونمسحُ دمعاً..ونترقبُ أملاً لا ندري أين هو؟!

نستمع إليه وهو يهذي كما يهذي الصغير على صدر أُمه :

 

 (خذوا قصركم الفخم..

وأعيدوا لي كوخي الصغير..

أخرجوني من قاعاتكم الرخامية

 فقدمايّ الحافيتان تريدان التجول بين الحقول)

 

ورغم أن الغريب لا تهدأ أنفاسه ولايغمض له جفن ..ولا ترتوي حنجرته المتعطشة إلاعندما

يحضن كلَّ رملةٍ من رمال وطنه الذهبية..ويرتشفُ كلَّ قطرةٍ من ينابيعه الصافية

هاهو مجنون العراق يحسُّ بالدفء قليلاً..رغم بعده..وينشدُ (لجازان) التي طببت جراحه عندما زارها قائلاً:

 

 

 لا تلمسي جازان نبضي إنني

من قبل يوم ولادتي مقتولُ

 

صُبّي على طيني مياهك ربما

ينمو ببستان الشريد نخيلُ

 

وبعد ذلك الاعتراف..يرنُّ صدى صوته المدّوي..صاعداً إلى عنان السماء

وبنبرة المظلوم ونداء المستغيث هاهو يرفع كفه قبل صوته قائلاً:

 

(اللهم اجعلني عشبةً ً في وطني..

لاغابةً ً

في منفى..

اللهم اجعلني عكازاً للضرير

 لاصولجاناً في يد قيصر بغداد)

 

أو قوله مخاطبا المحتل:

اخرجوا من وطني ..

وأرفعوا- قبل العقوباتِ- أياديكمْ

عن الشعبِ المضامْ

 

حَرّرونا منكم الآنَ. .

ومن زيف الشعاراتِ. . .

وتجارِ حروبِ - النفطِ والشفطِ-

أدِلاّءِ جيوشِ الإحتلالْ

 

فاخرجوا من وطني. .

وأشربوا نخبَ أنتصارِ القائدِ الَسَجَّانِ

في الحربِ على الشعبِ السَجينْ

 

نحن مهزومون حتى قبل أن تبتدئ الحربُ :

حقولٌ تشحذُ القمحَ

وطينْ

 

سال منه الدمُ من بوابة القصرِ

إلى النهر الحزينْ

فاخرجوا من وطني ..

وأمنحونا فرصةَ الدفنِ لموتانا

وأنْ نَخْرِجَ من تحت الركامْ

 

جُثَثاً ما بلغتْ عُمْرَ الفِطامْ

 

فاخرجوا من وطني

من قبل أنْ يَنْتَفِضَ النخلُ العراقيُّ

ويستلَّ سيوفَ الإنتقامْ

           **

 

مختارات  من شعره

 (لا تذبحوا حبيبنا العراق)

 

نعرف أن طينه معاقْ

وماءه معاقْ

ونخله معاقْ

وأن كبرياءه تُداس كل لحظة

بـ"جزمة" القائد

أو سنابك الرفاقْ

نعرف أن الناس فيه

يطبخون إرثهم

ويشربون أكؤساً دهاقْ

نعرف أن سادن البستان لصٌ

.. قاتلٌ .. مخاتل ..  وعاقْ

نعرف أن الوطن الجريح

يستحمُّ في بحيرةٍ من الدم

المراقْ

لكننا

نعشقه عشق ضريرٍ للسنا

وأننا

نرضى به هراوة ً.. مشنقة ً ..

جوعاً .. أسى ً ..

طاحونةً ً .. أو مرجل احتراقْ

نرضى به سوطاً على ظهورنا

أو

شوكة ً  تنام في الأحداقْ

لا تذبحوا حبيبنا العراقْ

نصرخ باسم طينه ..

باسم يتاماه .. مشرديه ِ ..

جائعيه ..

باسم نخله ..

وعصرنا المثكل

في مكارم

الأخلاقْ..

باسم عروبةٍ غدت

دون يدٍ وساق ْ:

لا تذبحوا حبيبنا العراقْ

فلتتركوا مصيره

لأهله العشاقْ

 

اخرجوا من وطني (من قصيدة)

هذه الأرضُ التي نعشقُ

لا تُنْبِتُ وردَ الياسمينْ

 

للغزاةِ الطامعينْ

 

والفراتُ الفَحْلُ

لا ينجبُ زيتوناً وتينْ

 

في ظلالِ المارقينْ

 

فأرحلوا عن وطني المذبوحِ شعبا ً..

وبساتين َ ..

وأنهاراً..

 وطينْ ..

 

وأتركونا بسلامٍ آمنينْ

 

نحن لا نستبدل الخنزيرَ بالذئب ِ

ولا الطاعونَ بالسُلِّ

وموتاً بالجُذامْ

 

فاخرجوا من وطني ..

 

هذه الخوذةُ

لا يمكن أنْ تصبحَ عشاً للحَمامْ

فاحرجوا من وطني ..

والدمُ المسفوحُ لن يصبحَ أزهارَ خَزامْ

فاخرجوا من وطني ..

والبساتينُ التي غادرها النبعُ

وما مرَّ عليها منذ جيلين الغمامْ

 

تصرخ الآن : اخرجوا من وطني

 

من قصيدة ( وجدان)

ذُهِلَ البهاءُ ... فقال : مـا أبهـاكِ

وتسمّرَتْ عينـايَ فـوقَ لُـمـاكِ

 

خرساءُ تجهـلُ مـا تقـولُ لِذُهْلِهـا

 شفتي .. ولكـنَّ العيـونَ حواكـي

 

هذا هو جريح العراق..

وهذه هى أحرفه المثخنة بآهات الثكالى وصراخ اليتامى ولهيب البعد  وعناء الروح الظامئة وبكاء الجسد الذي انهكته مرارة التنقل ..

وهذه هى كلماته التي تأتينا من قاع روحه وتسري إلى أعماق مشاعرنا فتحولنا إلى نسمةٍ هادئةٍ تعانق  الوطن وتبعث فينا الحنين إليه والولاء له مدى الحياة .

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تركيم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم