تكريمات

زمان الفرسان

رآه يرفع عصاه البيضاء ليشعر مستعملي الطريق أنه يريد العبور.. حركة المرور في أوجها.. إنها ساعة الذروة.. السيارات تتدفق كالسيل ولا تتوقف.. لم يشعر به أحد.. تقدم خطوة .. تراجع خطوات.. تعثر في الجادة حتى كاد أن يسقط.. يا إلاهي كم تقسو الحياة على المنكوبين .. ترددت في داخله.. أسرع إليه.. حيّاه.. أمسكه من زنده..

- حركة المرور على أشدها.. علينا الانتظار

- يظهر أن الجماعة مستعجلون حتى أنهم لم يروني !؟

- حتى وإن رأوك فإنهم لا يستطيعون التوقف خشية التصادم.

- لعن الله العجلة ورحم أيام زمان؟!..

- عن أية أيام تتحدث وأى زمان

- أيام الفرس وزمان الفرسان!..

- لقد حلت السيارة مكان الفرس وحل السواقون مكان الفرسان؟!

- و دخل الفرس المحرك وأثقل الحديد الفرسان ! !..

- كلامك يحمل عدة دلالات ويقرأ على عدة مستويات..

- وهل يعيد ذلك الفرس إلى الفارس ويكفكف دموع الفراق.. فراق الحياة ما مره.. غناها كما في الأغنية المشهورة وأضاف.. كم تتحمل قلوب الرجال!.. خرجت من فمه كما اللهب من فم التنين..

كان يسمعه وهو يجد في خاطره عبارة "كل ذي عاهة جبار" يبدو أن لديه جرحا قديما لم يندمل.. وهل يخلو أحد من جرح قديم أو جديد..؟ ! إنه رجل ملغوم لديه ثأر غير معلن.. وهل يخلو أحد من ثأر معلن أو غير معلن..؟ ! يمين البكّوش1 في صدره كما ورد في المثل الشعبي .. العاهة تستثير القوى الكامنة في النفس .. كالتيار الذي يحرك مياه البحر من القاع.. تُحوّل اتّجاه البصر إلى الداخل وتزيد في قوى بقية الحواس والملكات.. السّمع واللّمس والشمّ والتخيّل والاستذكار..

- إني أجد فيك شخصا استثنائيا..

- إنك تجاملني وترفع معنوياتي .. هذا غاية ما في الأمر..

- أنا لا أجاملك .. أنت بالفعل استثنائي ويسعدني أن أتعرف عليك..

انفرجت أسارير وجهه وتبسم قائلا:

- لا يعرف الاستثنائي إلا الاستثنائي.. إن الطيور على أشكالها تقع.. أخوك العثماني.. مربّ بمعهد النور وعميد حلقة الأنس فيه..

- غازي متخصص في علم نفس الطفل ملحق بوزارة الطفولة والشباب.. فرصة سعيدة يا سي العثماني.. أوصله إلى باب الإدارة ووعده بالزيارة ليتعرف على بقية أعضاء حلقة الأنس..

 

2

ظل يفكر فيه بقية يومه.. سبق له أن قرأ دراسة عن حياة المكفوفين وانعكاس الإعاقة على نفسيتهم وسلوكهم والكيفية التي يستجيبون بها للمواقف والوضعيات التي تعترضهم.. كما زار معرضا أقامته مصورة فوتوغرافية بابانية زارت معهد النور للمكفوفين بالضاحية وقامت بتصوير حياة الطلاّب والمربين وطرحت عليهم أسئلة ذات بعد فلسفي واختارت أجمل الصور وأعمق الإجابات كانت مادة المعرض.. ويذكر أنه صدم بعمق الإجابات وصراحتها.. حتى أنه مازال يحفظ بعضها الذي استوقفه بجمال الصدق النابع من المعاناة..

فقد أجاب طفل كفيف على السؤال: ما هو تصورك للفضيلة؟.. بقوله: لست أدري إن كانت هناك فضيلة !.. إن وجدت فهي في نظري الحنان.. كما أجاب طفل آخر على السؤال: كيف تتصور الجمال؟ .. بقوله: الجمال بنظري هو الأعراس التي لم أشاهدها والربيع الذي لم أقطف زهوره والأمواج التي سمعت هديرها ولم أرها..

و أجاب مرب كهل على نفس السؤال بقوله: الجمال بنظري هو المرأة التي نحب.. وقد بحث عن السر الواقف خلف هذه الإجابات المتميزة فتوصل إلى أن الكفيف يغيب عنه العالم ويحل فيه معناه.. وقد قرأ لأحد المفكرين قوله: "عجبت كيف يبصر هؤلاء الذين عيونهم أبدًا مفتوحة؟! أغمض عينيك تر.."و كتب مقالا عبر فيه عن إعجابه الشديد بفكرة المعرض وشكر لصاحبته مجهودها وختم مقاله بالعبارة التالية: "كم من مبصر أعمى وكم من أعمى يرى بألف عين وعين.. هؤلاء هم المبصرون حقا.. "قال لنفسه: إن سر العثماني لا يخرج عن دائرة هذه الإجابات.. إبحث عن المرأة .. إنها العلبة السوداء كما يقولون .. وفتش عن الولد إنه أبو الرجل..

 

3

بعد يومين وجد غازي صديقه العثماني في الحافلة فاقترب منه وحياه وجلس بجانبه.. فاستبشر به وأقبل عليه..

- غازي: أعجبتني غيرتك على الفروسية كقيمة أخلاقية أصبحنا نفتقدها..

- العثماني: لَوْ كَانَ يَعْلَمُ مَا المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى

وَ لَكَانَ لَوْ عَلِمَ الكَلاَمَ مُكَلِّمِي

- غازي: أنت تذكّرني بمشهد ينطبق عليه هذا البيت الخالد لأبي الفوارس عنترة..

- العثماني: كلي آذان صاغية لسماع أخبار الفرس وأحوال الفرسان..

- غازي: شاهدت في إحدى المناطق السياحية فرسا محمولا فوق عربة.. الفرس الذي وقع بسنابكه صحف التاريخ صار نزهة للسياح.. الفرس الذي كان صهيله لحن الإباء سمفونية الكبرياء صار يحمل فوق العربات وأي عربات؟!..

أقسم لقد رأيت دمعته تسيل وعلامات الحزن بادية على وجهه النبيل!..

- العثماني: إرحموا عزيز قوم ذل بذلهم وما ذل في نفسه.. الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة .. هكذا قال النبي العربي عليه الصلاة والسلام..

 

4

في نهاية الأسبوع كان غازي في الموعد.. وجد صديقه العثماني في انتظاره صحبة بقية أعضاء حلقة الأنس.

ألقى السلام فهب إليه العثماني ورحب به بحرارة ثم أمسكه من يده قائلا: "إخواني أعضاء حلقة الأنس بمعهد النورللمكفوفين بالضاحية يسعدني أن أقدم لكم صديقي الأستاذ غازي .. متخصص في علم نفس الطفل ملحق بوزارة الطفولة والشباب.. ثم قدمهم بأسمائهم وصفاتهم .. سي جمال فيلسوف الجمال بحلقتنا ولكل امرئ من اسمه نصيب .. سي البشير أديب الحلقة .. سي عبد الكريم مطرب الحلقة .. الشيخ عمر قارئ الحلقة .. سي الهاشمي منشط الحلقة ومحركها.. هذه حلقتنا التي نرجو أن يلتحق بها مزيد من المستوحشين.. أحاطوا به وصافحوه مرحبين ومعبرين عن فرحهم بوجوده بينهم..

- العثماني: باسم أعضاء حلقة الأنس بمعهد النو ر للمكفوفين بالضاحية أعلن منح الأستاذ غازي العضوية والانتساب الفخري . عبر غازي عن شكره وامتنانه..

- الهاشمي: إننا كلنا أطفالك يا أستاذ وأصغرنا سي العثماني إنه أكثرنا براءة ونقاوة وقلبه أصفى من اللبن الحليب ..

- عبد الكريم: ولذلك فهو عميدنا المحبوب على وزن علي بلدي المحبوب ..

(ضحك جماعي..)

- غازي: للصغار صداقات كبيرة وللكبار صداقات صغيرة..

- البشير: حكمة تكتب بماء الذهب بخط خير من كتب..

- الهاشمي: دعونا من الحكم والكتابة واسمعوا آخر وقائع الرجل البصير..

- البشير: هاتها يا أبا النوادر..

- الهاشمي: أمس وأنا انتظر قدوم الحافلة اقترب مني رجل يظهر من صوته وطريقة كلامه أنه في العقد الخامس من عمره.. حياني ثم قال: عفوا أخي، هل تسمح لي بسؤال؟.. قلت تفضّل.. قال اغفر لي جرأتي .. إنه سؤال يخالجني كلما رأيت كفيفا.. ولا أقصد به الإساءة.. قلت: تفضل لا حرج عليك يا أخي.. أفرغ ما في جرابك..

قال هل تحبون كما يحب غيركم من الناس؟!

- العثماني: وماذا أجبته يا فصيح؟..

- الهاشمي: قلت له: تقدمنا بطلب في الغرض إلى الجهات المختصة ونحن ننتظر الإجابة ؟!..

- ماذا تعني بالجهات المختصة؟ لم أفهم منك!..

- الهاشمي: أعني غيرنا من الناس الذين تعنيهم أنت المسموح لهم بالحب من دوننا.. ولعلك منهم.. وعندما يمنحونا التأشيرة سوف أجيبك !..

- البشير: البلاء موكل بالمنطق.. لم يخطئ عميدنا عندما سماك "فصيحا".. وكيف كان رد فعله؟..

- الهاشمي: قال مرتبكا: إغفر لي تطفلي.. المعذرة.. وانطلق لا يلوي على شيء .. ويظهر أن هناك من كان يسمع حوارنا.. فقد سمعت ضحكات مكتومة ذات رنة أنثوية حركت شرايين قلبي المتعب..

- جمال: أعجبتني هذه اللايلوي على شيء وسحرتني هذه الرنة الأنثوية التي حركت شرايين قلبك المتعب.. وحركت فضولي الجمالي لأتصور كيف عساها تكون؟!..

- البشير: لا فض فوك يا فصيح ولا حرمنا طرائفك ونوادرك..

- عبد الكريم: كان يمكن أن تجيبه على لسان القرآن الكريم أحسن الحديث.. إستعاذ وبسمل ورتل بصوت مؤثر:"فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"

- الجميع: صدق الله العظيم

- العثماني: أقترح على مطربنا سي عبد الكريم في هذه الجلسة الممتازة واحتفالا بالعضو الشرفي أن يسمعنا بعض الأغاني والأدوار..

- عبد الكريم: اقتراحك مقبول يا عميدنا وسوف أبدأ بأغنيتك المفضلة .. وانطلق يغني.. صوته يختزن شحنة من الحزن والأسى وفيه رعشة حنين تذيب الصخر..

لَيَّامْ: والمَكْتُوبْ   لِثْنِينْ بِيَّ غَرُّوا2

و بعاد عَالْمَحْبُوبْ   أَيَّامْ دَهْر يغرّوا

لَعْيُونْ يَالَصْحَابْ صَبَّرْتُهُمْ مَا صَبْرُوا

عَلِّيَ عْلِيهُمْ غَابْ   فْرَاقْ الحَيَاة مَا مَرُّه!..

ثم وصلها بالإنشاد المعروف:

يَا بَابَا عَلَيَّ وَحْشِكْ طَاااااااالْ

يَا بَابَا عَلَيَّ ودَمْعِ العِينْ

عَالخَدِّ سخيَّة وَحَشِكْ طَاااااااااالْ!..

كان ينشد ودموعه تسيل فوق خده تسح سح غروب ..

- عمر: لقد تذكر والده الذي توفي منذ شهرين..

كان شديد التعلق به .. لا حول ولا قوة إلا بالله..

- حقا إنها جلسة ممتازة .. جلسة تضج بالحنين والوجد..

 

5

آه ما أقسى الجدار

عندما ينهض في وجه الشروق

..............

ربما لو لم يكن هذا الجدار ..

ما عرفنا قيمة الضوء الطليق.. !

أمل دنقل

 

من الغد رأى غازي سيدة تمسك ولدها الكفيف من يده .. تبدو على وجهها علامات التأثر لمصابها فيه.

ولدها جميل، ظاهر النظافة، يحمل نظارات سوداء مكتمل الخلقة لولا.. جلست فوق مقعد في المحطة المقابلة لمعهد النور للمكفوفين و أجلسته بجانبها .. كان يتلمس وجهها بيده البيضاء الجميلة وهي تقبلها.. ثم تحضنه فيغرس رأسه في صدرها كأنه نادم على خروجه إلى العالم.. يريد العودة إلى حيث لا قسوة ولا ظلام .. مشهد لم يصوره أعظم المخرجين.. اقترب منهما .. حياهما بتودد .. ردت السيدة تحيتة بكل لطف .. يظهر أن الألم طهرها داخليا وأكسبها حكمة .. لكأنه مدرسة عريقة.. قال لها وهو يشير إلى ولدها ..

- يبدو شديد التعلق بك..

- إنه لا يطيق فراقي.. حتى أنه يحرجني أحيانا .. يصر على تقبيلي في وسائل النقل أمام الناس ولا يرتاح إلا ويده تتلمس وجهي .. إني حريصة على أن أبدو أمامه متماسكة قوية فلا تعثر يده على دمعة.. إنه أجمل أبناء الحي.. لكنها إرادة الله..

- ما اسمك أيها الفتى الجميل؟..

- إسمي وليد ..

- أهلا وليد .. (مد غازي يده ليصافحه..)

- الأم لولدها: وليد مد يدك لعمك إنه يريد أن يصافحك..

مد يدا آية في الجمال والنظافة.. فصافحه قائلا:

- إسمي غازي .. هل يمكن أن نصبح أصدقاء يا وليد؟..

- وليد: هناك إجراء يجب أن يتم وبعدها نقرر!..

- غازي: هل تتطلب الصداقة إجراءات يا وليد؟!..

هنا تدخلت الأم قائلة: من عادته أنه لا يقبل شخصا ما لم يتلمس وجهه ولعلك رأيته وهو يتلمس وجهي

- غازي: بسيطة.. إنها فرصتي لأتلمس يده الجميلة بوجهي !..

تبسمت أم وليد وبدت على وجهها علامة الرضا..

أخذ وليد يتلمس وجه غازي وهو يعابثه بتحريك أنفه تارة وفمه وأذنيه تارة أخرى ووليد يضحك وأمه تراقب المشهد بتأثر بالغ وهي ترى وحيدها وقد دخله الفرح بعد أن شعر بالأمان والأنس .. وليد يعانق غازي فيضمه إليه ضمة الوالد الرحيم لولده ويقبله وهو يحس كأنه يحضن العالم.. يا الهي إلاهي كم تكون خسارة الإنسان فادحة عندما يقصي ذاته التي في الآخرين فيقصي أجمل ما فيه..

6

كان العثماني يدخن بشراهة حتى أنه كان ينهي السيجارة في أنفاس قليلة.. حدثه غازي في ذلك قائلا:

- ألا تخشى على صحتك يا صاحبي؟!..

- و ماذا أفعل بالصحة بعد أن فقدتها!؟..

- من هي ؟!..

- إنها الغالية .. إنها منجية.. !

حدثه عن ابنة عمه التي قضى معها أحلى أيام عمره وكانت ستكون من نصيبه لو لا أنه فقد بصره وهو مازال يذكر كيف كان يردفها على فرسه الأبيض فتتمسك به تطوقه بذراعيها وتضع خدها على ظهره .. عندما كانت تلهو وتقفز ويقفز معها قلبه..

قال: عندما مرضت وعجز والدي عن مصاريف علاجي ولازمت البيت وتعذر علينا اللقاء سمعت أنها كانت تبكي تريد أن تزورني وتبقى إلى جانبي.. لكن أمها كانت تمنعها مخافة العدوى .. وكم وددت لو أكحل بها عيوني أو أسكنها جفوني فيعود إليها النور.. لقد كانت نور عيني وقلبي ومذ فقدتها انقطعت صلتي بالعالم.

جبل الثلج بدأ يظهر .. إنه يعيش حالة انجذاب لكل ما هو جميل في طفولته: الحب الأول ولعله الأخير، زمان الفرس والفرسان، الربيع كأنه بساط من السحر، الليالي المقمرات.. إنه منشد إلى طفولته .. مسكون بحنين عجيب إلى زمن الصفا والرؤى، زمن النور والألق حينما كان في نضارة العمر الجميل..

حدثه كيف عثرت مرة وهما يجريان وسط حقل قد علت سنابل قمحه.. فتمدد بجانبها وظلا ينظران إلى السماء برهة ثم عانقها وضمها إليه ورشف أول رشفة من ينبوع الفرح.. قال ومنذ تلك اللحظة وأخوك في حالة توحد بها.. أجد حرارة أنفاسها على وجهي وعطر طفولتها يملأ صدري..

7

كانا يقضيان الساعات وهما يتنزهان في الغابة الواقعة خلف المعهد.. إنها غابة الحلم والذكرى.. غابة الحنين والأنين .. كان يحس أن الأشجار تطرب لحديثهما وتباركه بطريقتها حتى أنها نمت وصار ظلها وارفا واتخذت الطيور لها أعشاشا فوق أغصانها.. كأن الربيع زارها باكرا أو أنّ حلم الخصب والانبعاث سكنها فصارت في ربيع دائم .. مرة وهما يتجولان

قال له العثماني: الطقس جميل يا صاحبي والطبيعة ترفل في حلتها وتحتفي بنفسها.. أكد ملاحظته وتساءل في سره: بأي عين رأي كل هذا؟!.. لك الله يا عثماني .. لك الله يا صاحبي..

في آخر نزهة جمعتهما في الغابة لاحظ غازي على صديقه العثماني حالة غريبة لم يعهدها فيه من قبل.. إنه لم يكن يمشي .. بل كان يدور كما يفعل أتباع الطريقة المولوية في شطحاتهم الصوفية..

ولم يكن يتحدث بل كان يتواجد.. يعيش حالة انجذاب فريدة ويردد بيت ابن الفارض:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة

سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

و حدثه وهو في حالة التجلي عن آخر لقاء جمعه بابنة عمه منجية وكان ذلك في يوم ربيعي

كانت فيه بعبارته السراج الوهاج .. عندما جاءته في ثَوبٍ أسود جميل مذهب الصدر والأكمام ..قال: لو رأيتها في تلك الهيئة العجيبة.. وبياض جسدها الناصع يصرخ في سواد ثوبها الداكن ووجهها كفلق الصبح .. وهي تعدو خلف الفراشات.. يا عثماني انظر هذه ما أجملها.. ما أحسن لونها .. إن كنت ابنة عمك.. أمسكها لي ..

لو رأيتها وهي تقطف الأزهار وتغرسها في شعرها..

- لو رأيتها وهي تصنع الزوارق وتطلقها في النهر محملة بالأزهار والرياحين.. لو رأيتها وهي تجلس فوق الصخرة ترفع ثوبها وتدلي رجليها في الماء كأنها أميرة كل العصور أو كأنها حورية خرجت من النهر تتجفف.. كان الربيع مملكتنا .. كان فردوسنا المفقود .. أين أنت يا غالية؟ .. أين أنت يا طاهرة ؟ .. أين أنت يا فراشتي الأجمل ؟.. أين أنت يا زهرتي النادرة؟.. أين أنت يا من كنت شمس نهاري وقمر ليلي؟ .. ليتني مت يوم أن غبت عن ناظري.. إني بعدك لا أهتدي سبيلا يا عين عيني..

كان ينتحب على صدره انتحاب طفل حرم ثدي أمّه.. فيحضنه ويجهد نفسه ليستحضر كلاما يواسيه به فيقول: هون عليك يا رجل لعل الله يجمعك بها في جنة الخلد فتكون بعض أزواجك.. ويذكره بالحديث الشريف: "من عشق فعف فمات مات شهيدا" ويبكي معه بلا دموع ويتفطر قلبه رقة ورحمة ويتذكر زفرة اللقاء الأول: فراق الحياة ما مره!..

كم تتحمل قلوب الرجال!.. إنها أول سطر في سفر الحرمان والعذاب .. عجبا كيف يصبر الحبيب على حبيبه؟!..

حقا إن الموت أهون من فراق الأحبه..

لك الله يا عثماني.. لك الله يا صاحبي..

بعد هذه الواقعة شغل غازي عن صديقه العثماني أسْبُوعًا أو يزيد وقد ظل يفكر فيه أثناء هذه المدة.. وأول ما سنحت الفرصة ذهب لزيارته وهو يتوقع أن يكون قد تجاوز تلك الحالة.. صادف أن وجد مدير المعهد عند مدخل الإدارة .. كأنه كان في انتظاره .. دعاه إلى مكتبه.. قال: يظهر أنك جئت لزيارة صديقك سي العثماني ويؤسفني أن أحمل لك أخبارا غير سارة عن رجل كان مثالا يحتذي.. فقد لوحظت عليه في الأيام الأخيرة بعض الأحوال الغريبة والتصرفات الشاذة.. فقد كانت تنتابه نوبات بكاء يدخل بعدها في غيبوبة.. كما أنه عمد إلى تقبيل رأس تلميذة من تلميذاته وهو يمسكه بيديه قائلا: أين أنت يا غالية؟.. أين أنت يا طاهرة؟.. لمن تركتني يا شمس نهاري وقمر ليلي؟.. والتلميذة المسكينة تقول: أنا لست الغالية ولا الطاهرة أنا فاتن يا سيدي!.. وقد تكررت هذه الحالة مع عدة تلميذات.. فأحضرته إلى المكتب وطلبت منه بكل لطف أن يعرض نفسه على مختص في الأمراض النفسية ودعوته إلى ملازمة بيته حتى يأتيه إشعار من الإدارة وإن أردت زيارته فهذا عنوانه..

توجه غازي مباشرة إلى بيت العثماني ولم يجد مشقة في الوصول إليه.. استقبله شقيقه..

- لقد انتقل فجر اليوم وسنشيعه بعد صلاة العصر إن شاء الله.. وانفرط عقد الأنس برحيل واسطته لعله هناك وجد من يكفكف دَمْعَتَهُ.. وَلَعَلَّ أَنِينَهُ قد سَكَنْ..

رحم الله العثماني فقد عاش شاهدًا ومات شهيدًا.

 

.........................

1- بالدّارجة التونسية وهي تعني الأخرس أو الأبكم

2- بالعامية التونسية وهي قريبة جدّا من العربية الفصحى

 

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم