تكريمات

ملف: الوطن مَنْشُودًا ومَوْجُودًا في شعر يحيى السَّماوي

إذا انقطع الحلم وَقَعْنَا في العَدَم .. والإنسان مدعو إلى أن يبقى طول حياته وحتى آخر لحظة بحالة حُلْمٍ أو على قيد الحلم.. الحُلْمُ هو الحقيقة التي ستأتي .. إن لم يكن هنا فَهُنَاكَ.. وإن لم يكن في هذه ففي تلك.. أَحْلاَمٌ تَتَحَققُ وأُّخرى تسقط ُ وتُسْتبدل بغيرها .. ويبقى الحُلْمُ..

المدوّنة الشّعريّة للشاعر العربي الكبير يحيى السّماوي تُؤكّد هذا التوجّه وتُزكّي هذه القراءة.. فقد ظلّ الوطن لديه حُلْمًا ماثِلاً في مخيّلته أكثر مِمَّا هو حقيقة على الأرض وواقعًا.. صرْخَتُهُ المُدويُّة المُوجعَة في قصيدته "لا تذبحوا حبيبنا العراق " لا تُفِهَمُ إلاّ على هذا الأساس.. العراق مَنْشُودًا ومَأمُولاً.. العراق /الحلم.. لا العراق / الواقع..

لا تذبحوا حبيبنا العراق

نصرخ باسم طينه

باسم يَتاَمَاه..

مشرّديه.. جائعيه..

باسم نخله..

و عصرنا المثكل في مكارم

الأخلاق..

باسم عروبة غَدَتْ

دون يد وساق

لا تذبحوا حبيبنا العراق

فلتتركوا مَصيرَهُ

لأهْلِهِ العُشّاَق

مِنْ منطلق العراق/ الحلم .. يتحوّل الوطن المنشود / العراق بنظر الشّاعر إلى أَمير يُقابَلُ بالسَّمْعِ و الطَّاعَةِ ويُبْذلُ في سبيل رضاه كُلُّ غَالٍ ونَفِيسٍ وإن كان مُتَطَلِّبًا مُتَعَسِّفًا كما جاء في قصيدته "خُذْني إليك...! "

سَمْعًا – أميري ما فرَضْتَ – وطاعة

فلأنت عندي يا عراقُ أَميرُ !

كَمْ قيلَ إنَّك آمِرٌ مُتَعَسِّفٌ

و أنا – برغم رُجُولتي - مَأْمورُ !

حبّبت لي ما لا أحبّ، فخيمتي

جُرحي، وأَحْزَانُ السّنين عشير !

كم بتّ مَذْبُوحًا بسيف صبابتي

وَ سَألتُ بَرْدًا فَاسْتَجَابَ سَعِيرُ !

قرّت بك الرّوح التي أرخصتُها

فَأَنَا بِحُبِّكَ ما حيَيْتُ - قَرِيرُ !

و قصائِدٌ عَذْرَاءُ لم يَعْرِفْ لها

بَوْحا يَرَاعٌ مُلْهَمٌ وسُطُورُ

و في قصيدته "وَطَنِي.."  ! التي جاءت أَشْبهُ بِغِنائيَّةٍ تترجم – تعلَّق الشاعر بالعراق الوطن / الحلم الذي يرضى منه بالذي قلّ ودلّ نقرأ:

 

سيّدي يا ناسك النّخل ويا                   خاشع الطّين وعذريَّ القبلْ

أنا أدري أنّ بي من شغفٍ                   لبساتينك بعضًا من خَبَلْ

فلمن أفتح أحداقي إذا                         لم تكن كحل جفوني والمُقَلْ ؟

سيّدي..  مولاي..  فامنحني ولو          زَبَدًا منك وصَحْناً من غَلَلْ

و من الأرض ذِراعًا واحِدًا                 أَنَا أَرْضَى بالذي قَلَّ وَدلْ !

إنّ هذا الارتباط الحميم بالوطن وهذه  الذاكرة الحيّة المتوهّجة وتلك العلاقة المتينة على البُعد تجعل من خروج الشّاعر من العِراقِ أَشبَهَ شَيء بالخروج من الفردوس وتُحَوِّلُ هذا الخروج إلى مُرادفٍ للجنون أو البَطرِ وهو ما يدفعه إلى ممارسة طقس اسمه تربية الأمل ومُرَاكمة الحنين للعودة إلى أحْضاِنه.. يقول في قصيدته "على مشارف الستّين"

حيران..  لا أدري أَمِنْ بَطَرٍ              غَادَرْتُ أرض النّخل أم خَبَلِ؟

و يطرح تساؤُلاً حاول أن يجيب عنه في قصائد كثيرة سابقة..

تِلْكَ الدِّيارُ عَلاَمَ أَعْبُدُهَا؟                  لاَ نَاقَتِي فيها ولاَ جَملي !

يتكثّف الإحساس  بالشوق والحنين لدى الشّاعر إلى درجةٍ تتحوَّلُ معها العودةُ للوطنِ/ الحلم إلى هَاِجسٍ يقض مَضْجعهُ.. كما جاء في قصيدة "خذني إليك ..  ! "

خذني ... سَأَرْضَى لو أَتَيْتُكَ جُثةً

تَغْضُو بحضنك كي يطيب مَصيرُ !

لا بدّ للشّاعر داخل هذه الدّوامة والدّائرة الجهنّمية من استراحة هي أشبه باستراحة المقاتل.. حينما يتحوّل قلبه إلى طائر يمضي  - أو يسري - به  إلى الوطن الحبيب.. العراق مَسْقَطُ الرّوح كما جاء في قصيدته "طَيْرٌ أنا قلبي"

طَيْرٌ أنا قلبي، إذا سكن الدُّجَى

يمضي به نحو العراق جَنَاحُ

و نجدُ الشّاعر في ذات القصيدة يناجي دمع دجلة والفرات وهو يُعزّي نفسه ويعلّلها من خلال ذلك قائلاً:

يا دمع دجلة والفرات لنا غَّدٌ

مهما استبدّ بكفره السَفّاحُ

السّيف ما ذبح العبير، ولا الهدى

تحدو به لجحيمها الأشباحُ

سنعود تحمِلُنا هوادجُ ثأرنا

و إذا سقطنا فالجنان رباحُ

يتخضَّبُ الجَسَدُ الشهيد لترتقي

نحو السّماء سَنَابِلٌ وأَقَاحُ

المرأة والحبيبة مُرادِفُ  الوطن والأرضِ وأعلى وأظهر العلامات على طريق الهويّة والانتماء تماما كما أنّها عنوان الحميميّة والخصوصيّة والدفء الإنساني والأصل المشترك والشاعر عندما يخاطبها فإنما يخاطب فيها ومن خلالها جميع هذه المعاني والأبعاد .. فنراه يتوجّه إليها بهذه  المناجاة  الشّفيفة والبوح البديع الآسر والغنائية الحزينة الموجعة  والشكوى الرقيقة قائلاً في قصيدة "يا هند... !" :

أسألت كيف الحال يا هند                   يَسُرَ السؤال وأعسرَ الردُّ !

حالي بدار الغربتين خطى                  مشلولة فاستفحل البُعْدُ  

يا هند منذ طفولتي وأنا                     راعٍ خرافي الشوق والوجْدُ

يا هند واحتالت على مطري                يدٌ إذا زرعت فَلاَ حَصْدُ

يا هند أعيادي محنّطةٌ                        فَصِلي لتغدو ظبية تَعْدُو

أنا أمة في الحزن لا نَفَرٌ                     أما الهوى فأنا به الفرد

بحري بلا جزر.. وأخيلتي                   كالبحر لكن كلّها مَدُّ

إن تصدقي وَعْدا  فقد ضحكت              شمسي ومدّ بساطه الودّ

عطش المنافي شلّ أوردتي                فأمطر .. كفاك البرق يا رعدُ

زهدي بجاه التّبر حبّب لي                 طين الفرات  أنا ا مرؤ زَهْدُ

 

•الرحيل نحو.. الوطن

التماهي بين الشأن الخاص وهمّ  الوطن مَدْخلاً للشأن العام ظاهرة تَشدُّ انتباه الدّارس لشعر يحيى السماوي.. فلا تكاد تجد قصيدة تخلو من ذكر الوطن والشأن العام تلميحا وإشارة أو تصريحًا وتدقيقا حتى وهو مُنْصَرِفٌ إلى خاصة نفسه وشؤون قلبه وعالمه الدّاخلي الحميم... الأم والأب والحبيبة والأهل والأصدقاء والرفاق والجيران والذكريات والوجوه والأماكن والوقائع.. جَميعُها وأكثرُ تقع في قلب الوطن وتنصهر في بوْتَقَتِهِ .. وقلب الوطن لا يعترف بالحدود والتّخوم وهو يجمع الكلّ في سويدائه.. والشاعر عندما يستحضر الوطن يستحضر جميع رموزه ومتعلقاته القريبة والبعيدة .. وليس جارك من جاور دارك ولكن جارك من جاور قلبك..كما يقول ميخائيل نعيمة .. الرحيل نحو الوطن طقس يومي يمارسه الشاعر منذ أن فارق العراق.. يقول في قصيدته "ثلاث زهرات بريّة":

هو والترحال في مُشْتَجَر                         ورفيقاه الضنى والسغَبْ

فإذا   شدّ    لأرض خيمة           شدّه   نحو رحيل  سبب !

وهو يخاطب دموعه قائلا فى القصيدة ذاتها:

مُلامٌ من يَلُومك يا دموعي            فما عرفوا مكابدة الفجيع

 

تركت  الطيّبين وأرض طيب                  وقبلهما – على رغمي – رُبوعي

و أهلا لا  يفارقهم      خريف                   و كانوا    كل يوم   في  ربيع      

و عشت الغربتين فَمًا وعَيْنًا                   فكيف يُسَرُّ ذو قَلبٍ صَديع؟!

و نجد الشاعر في قصيدته "على مشارف الستين" التي نُشرت على موقع المثقف بتاريخ 03 نوفمبر 2009 يستحضر الوطن ولا يقتصر على التفجع والبكاء على الذات التي شيّعت جثمان الشجرة التاسعة والخمسون من أشجار بستان العمر..

 

•    سببٌ آخر:

"شاهدة قبر من رخام الكلمات" مرثيّة بديعة ذات جمالية عالية وفريدة جاءت كأنّها غمامة من نور تُظلّلُ وتُنوِّرُ وتُؤْنِسُ ضريح الفقيدة والدة الشاعر رحمها الله برحمته الواسعة ... صَدّرها بالإهداء التّالي ( إلى روح أُمّي طيّب الله ثراها) جعله الله من بقيّة عملها الصّالح.. مرثيّة تترجم وتبرز بطريقة أقلّ ما يُقال فيها أنّها غاية في الصّدق والشفافيّة وجماليّة البوح والبثّ.. ذلك التّماهي الذي أشرنا إليه آنِفًا بين الشأن الخاصّ الحميم والشأن العام الجامع لرموز الوطن ووجوهه وقد ورد في القصيدة الرّائعة:

 لي الآن /سَبَبٌ آخر يَمْنَعُني من خيانة وطني / لحاف تُرابه السّميك / الذي تدثّرت به أمّي  في قبرها أمس! / قبل فراقها / كنت حيًّا محكومًا بالموت.. / بعد فراقها / صرت ميّتا محكومًا بالحياة /

 

•لستُ ثمِلاً..

يُمعن الشاعر يحيى السماوي في ترجمة أحاسيسه ومَواجيده وهمومه بطريقة تَمثيليّة ذات قدرة تعبيريّة عالية تُصوّر الوجدان وكأنّه مشهد حيٌّ يقع أمام عين البصر والبصيرة ويتوغّل في البيان والتبيين لدرجة يكاد يقول عندها القارئ:

حسبك فقد بلّغت!؟.. يقول في ذات القصيدة:

لست ثملا ../ فلماذا تنظرون إليَّ بازدراء / حين سَقَطت على الرّصيف ؟/ من منكم لا ينزلق مُتَدَحْرِجًا / حين تتعثّر قَدَماهُ بورقة أو بقطرة ماء/ إذا كان يحمل الوطن على ظهره / وعلى رأسه تابوت أمِّهِ؟/

 

•الوطن الجريح يستحمّ..

يصل حبّ الوطن مَنْشُودًا ة مأمولاً بالشّاعر يحيى السماوي إلى درجة الفداء والتّضحية ونُكْرانُ الذّات وهو بحبّه اللاّمشروط واللاّمحدود لمسقط روحه يَسمو فوق جميع الاعتبارات والحسابات التي لا تتماشى مع منطق القلب والوجدان الذي عبّر عنه  شّاعر بقوله:

بلادي و إِنْ جَارتْ عَليَّ عَزِيزَةٌ        وأهلي وإن ضَنُّوا عَلَيَّ كِرَامُ

موقف الشاعر من وطنه مَوقفٌ نبيلٌ وأصيل يَصْدُر عن قلب كبير وشُجاع يقدر على الغفران ويأبى أن يتخلّى عن وطنه أو يخذله وهو في أمسّ الحاجة إليه.. يقول في قصيدته

"لا تذْبَحُوا حبيبنا العراق":

نعرف أنّ الوطن الجريح

يستحمّ في بحيرة من الدّم

المراق

لكننّا

نعشقه عشق ضرير للسّنا

و أنّنا

نرضى به هراوة.. شنقة..

جوعًا.. أسًى..

طاحونة أو مرجل احتراق

نرضى به سَوْطا على ظهورنا

أو

شوكة تنام في الأحداق

يُعيدنا الشاعر يحيى السماوي إلى الشابي حين قال في قصيدته / العلامة.. "تونس الجميلة":

أنا يا تونس الجميلة في لجّ       الهوى قد سبحت أيَّ سباحهْ

شرعتي حبّك العميق وإنّي         قد تذوّقت مُرّهُ وقراحهْ

لا أبالي وإن أريقت دمائي         فدماء العُشّاق دَوْمًا مُباحهْ

ضيّع الدّهر مجد شعبي ولكن         ستردّ الحياة يومًا وشاحهْ

 

•لي ما يبرّرُ وحشتي...

في قصيدته "وحشة صباح" يبسط الشّاعر يحيى السماوي صفحة قلبه لقارئه بكلّ الكرم والحبّ.. فهو يتواصل معه من أقصر وأقرب طريق.. طريق الوجدان، ويتوجّه إليه بعد أن اعتبره وليًّا حميما وصفيّا قريبا ونَجيًّا لا يُخفى عليه أخصّ مشاعره قائلاً:

لي ما يبرّر وحشتي هذا الصباح / كأن أغضّ الطرف عن ورد الحديقة / وابتهاج ابني بأفراخ الحمام / لي ما يبرّر  وحشتي هذا الصباح / فإنّ أمّي تشتكي صَمَمًا وقد عشيت/

 

لماذا لا أكف عن اتّصالي الهاتفي بها/

و إرسالي المزيد / من التصاوير الحديثة/

هل يرى الأعمى من القنديل أكثر من ظلام/

مرّة أخرى يتوحّد الشأن الخاص بالشأن العام وتتوحّد الأم بالوطن ورموزه ومتعلّقاته .. فكلاهما رحِمٌ وصلة وانتماء وهويّة .. يقول في نفس القصيدة مُحدّثًا القارئ عن ابنة الجارة حسيبة التي مات خطيبها الذي جاوز السّبعين وعن نهلة .. قائلاً:

فإنّ  (نهلة) كانت القنديل في ليل الطفولة

ضاحكتني مرّة .. فكبرت!

أذكر أنّني .. في ذات وجدٍ.. / قد كتبت قصيدة عنها/

و حين قرأتها في الصفّ / صفّق لي المعلّم / غير أنّ بقيّة الطلاّب / أَضْحَكَهُمْ هُيَامي/

و يَسْتَرْسِلُ في البوْحِ لقارئه مُبرّرًا وَحْشَتَهُ وحُزْنه النّبيل.. فهذا محمود بن كاظم / الذي يطنب في الحديث / عن التقدّم للوراء / أو / التّراجع للأمام / وهذا حمادة الحمال / الذي كان أشهر في (السماوة) من وَزير الخارجيّة / غير أنّ حكومة  (البطل المجاهد) عاقبته / لأنّه / ترك الحمار يبول تحت منصّة / رفعت عليها صورة (الرّكن المَهيب) ويختم القصيدة بالحديث عن البون الشّاسع بين الخطاب المُروّج والواقع المعيش قائلا:

لي ما يبرّر وحشتي/

بغداد تطنب في الحديث عن الرّبيع/

و نشرة الأخبار تنبئ عن خريف /

قد يدوم بأرض دجلة ألف عام

و أنا ورائي جثة تمشي /

و مقبرة أمامي!

وَ يَوحَّدُ مَصيرُ الوَطن ومصير الشاعر تمامًا كما توحّد من قبل الشأن الخاصّ بالشأن العامّ وإن كنَّا نَرْجو للشّاعر الكبير وللعراق الحبيب الحياة الكريمة والخير الوفير والعزّ الدائم والمستقبل الزاهر وفسحة الأمل..

 

•اِبتهال ومُناجاةٌ ..

كما يتوحّد الشأن الخاص بالشأن العام في شعر السّماوي ، يتوحّد نثره وشعره في ترجمة التزامه بالعراق والإنسان فيه وارتباطه به وطنًا مَنْشُودًا .. يقول في مقال له تحت عنوان دالّ:

" أيّها النّاس أُريد وَطَني" "

اللهم اجعلني عشبة في وطني.. لا غابة في منفى..

اللهم اجعلني ذرّة رمل عربيّة، لا نجمة في مدن الثلج والنّحاس..

اللهم اجعلني عِكّازًا للضّرير لا صولجانًا في يد قيصر بغداد..

اللهم اجعلني شريطًا لضفيرة طفلة قرويّة ، لا سَوطًا يحمله الجلاّد..

اللهم اجعلني حِصَانًا خَشَبيًّا لِطِفْلٍ يَتيمٍ، لا كَوْكَبَةً ذهبيّةً على كتف أثقلته الخطايا..

فلقد أرهقتنا مهنة القتل، وهوايات المارقين.. ومن أجل ذلك.. أعلنت عن تضامني مع الحفاة في حربهم العادلة ضدّ "المماليك" ومع البرتقالة ضدّ القنبلة.. مع الأرجوحة ضدّ المشنقة.. ومع أكواخ الفقراء ضدّ حصون الطّواغيت !

كما نقرأ له خواطر نثرية في قصيدة له تحت عنوان:

"المدينة القصيدة" نقرأ منها:

"نحن لَسْنَا أَسْماكًا.. فلماذا نَمُوتُ إذا لَمْ نَغْرِقْ بحُبّ الوَطَن؟"

إنّ هذه  الابتهالات والخواطر النّثريّة مِمّا يزيدُ في توضيح الخلفيّة الفكريّة التي يتأسس عليها اِرتباط الشاعر بالعراق وطنًا مَنشودًا مثلما هو وطن موجود تألّبت عليه الخطوب والمحن والشّدائد .. واللاّفت في موقف الشاعر يحيى السماوي أنّه توحّد وتلبّس به حتّى أنّه أصبح يرى في خَلاص وطنه خَلاصَهُ الشخصيّ ..كما يَستوقفنا موقفه الأخلاقي المنحاز للإنسان والمبدأ والقيمة والجدوى واحتفاؤه بزهرة الحقل البريّة تلك التي تهب شذاها وعطرها وجمالها من غير أن تحمل الآخرين جميلة أو مزيّة ومن غير أن تصاب بالغرور.. على النقيض  من الطّاوُوس ذاك الذي وقع في نرجسيّته القاتلة الغبيّة الفاقدة لكلّ قيمة ومَضمون..

 

•دَمعي أحرفٌ..

المحن التي تتالت على العراق كان لا بدّ أن تترك أثرها البالغ على شاعر أسكن وطنه بين الأحداق حتّى صار لا يرى إلاّ من خلاله ولا يحسُّ شيئا إلاّ  عبر وجدانه فنجده في قصيدته "خذني إليك... !"

يبكي أوْجَاعَ الوَطن ومَصائبهُ ويًشخّص الدّاء ويسلّط الضوء الكاشف على العلّة مؤكّدًا على تعلّقه بالعراق المنشود الذي يهُونُ في سبيله كلُّ غَلِ ونفيسٍ..

أهدي السّلام إلى الفرات ونخلة                 ما أشرقت شمس هنا، وبدُور

للنّائمين على الطّوى  لمّا  كبا                      صَبْحٌ فغادر خبزه التنّور!

لِطُفُولةٍ شُدّتْ لصحْن  شَحَاذة                      وكُهُولةٍ فيها  الإباءُ  كَسيرُ!

و الباسطات على الرصيف أمومة             ذلّت فأوحل في الزّهور عبيرُ!

لمآذن    بُحّ  الأذان  بها  فما                     لثم الصّباح    وليله التكبيرُ!    

معذورة إن خاصمتني مُقلتي                    ليْلاً، وجفن تسهّدي معذور!

أنا أوّل الباكين.. دمعي أَحْرُفٌ                 وصدى نحيبي - في القصيد - شعور

و نراه يُصَدِّرُ قصيدته "وطني.. !" بالعبارة التالية:

"بحلول العيد لهذا العام، يكون قّد مر  اثنان وعشرون عيدًا، على خيمتي، بعيدًا عن وطني العراق"  وكأنّه صار يُؤرّخ بخروجه من وطنه واغترابه عنه وقد جاء فيها:

يا هلال العيد هل من خبر                     عن فراتين وسَهْلٍ وجبَلْ؟

مرَّ "عيدان وعشرون" وما                عادني جَارٌ.. ولا الهمّ ارتحلْ

و أحلّت كبريائي غربة                        نبشتْ رُوحي بِأشواكِ المَلَلْ

 

•يا صابرًا عقدين إلاّ بضعة.. 

نشر الشاعر يحيى السماوي قصيدته "ما أحل الوطن" في العدد 320 من المجلّة العربيّة الصّادرة بالمملكة العربيّة السعوديّة بعد عودته إلى وطنه العراق ليقبل ناسه وأرضه.. كما ذكر في تصدير القصيدة..ثم أعاد نشرها تحت عنوان آخر "يا صابرًا عقدين إلاّ بضعة" وذلك بالعدد 605 فيفري/ مارس 2007 بمجلّة المنهل الصّادرة بالمملكة العربيّة السّعوديّة... وقد ورد فيها:

ألقيت بين أحبّتي مرساتي                        فالآن تبدأ .. يا حياة.. حياتي !

الآن أبتدئ الصّبا ولو أنّني                      جاوزت "خمسينا" من السّنوات!

الآن أختتم البُكاء بضحكة                         تمتدُّ  من قلبي إلى حدقاتي!

..........

النّخل نفس النّخل .. إلاّ أنّه                           مُسْتَوْحش الأعذاق والسّعفات

الله ! ما أحلى العراق وإن بدا                       مُتَقَرّحُ الأنهار والواحات

يا صابرًا عقدين  إلاّ بضعة                         "ليلى "  مكبّلة   بقيد "عُزاةِ"

ليلاك ما خانت هواك وإنّما                        "هُبَلُ الجديد" بزيّ "دُولاراتِ"

إنّ "المريضة" في العراق عراقة                  أمّا الطبيب فمبضع الشهوات

غادر الشاعر العراق مرّة أخرى وعاود الاغتراب وكأنّه أخلد إلى العراق المنشود واختار الإقامة في القصيدة مشيّعا بَصَرهُ باتجاه الوطن.. فهل تحوّل الشعر إلى وطن بديل مؤقت للشاعر؟ على كلّ حال يظلّ الشعر مُرتبطا بحبل سريّ بالوطن منشودًّا وَموجُودا .. مُفرداته منه وصُورُهُ وأجْواؤه.. وطن مؤقت مشدودٌ إلى الوطن الأصلي ..

 

•مقابلة بين الوطن منشودا وموجودًا..

"من رماد الذاكرة " قصيدة للشاعر يحيى السماوي ذات نكهة خاصّة وملمح فريد فهي تأتي وكأنها مقابلة بين الوطن منشودا أو..على ما يذكر الأجداد.. كما يبدو في الذاكرة الجماعية والمخيال ..و الوطن موجودًا / موجوعًا..

 

على ما يذكر الأجداد..

إنّ الأرض كانت غير / ضيّقة / وكان الماء أعذب../ والرغيف ألذ../ والأعشاب / أكثر خضرة../ و"الخيش".. و"الكتّان"/ أنعم من حرير اليوم../ حتّى فاتنات الأمس / كنّ أرقّ../ والخيل القديمة؟/ لم تكن تُرخى اللجام/ لغير فارسها/ ولا كان الجبان يصول/ في الميدان../ والأغراب/ لا يتحكمون بقوت / ذي سغب / ونبض رقاب../ ويقنع بالقليل من القطيع الذئب / لا كذئاب هذا العصر! / أذكر أنّ أمّي../ حدّثتني عن بيوت دونما/ أبواب/ وتقسم أنّ جارًا/ قد أضاع شويهة يومًا/ فعادت بعد عام خلفها / حَمَلٌ/ يقودها فتى سأل المدينة / كلّها/ عمّن أضاع شويهة/ يومًا!/ على ما يذكر الأجداد/ كان الناس / لا يتلفتون إذا مَشَوا / في السوق / أو خرجوا من المحراب/.

إذا كان الفتى قد سأل المدينة كلّها عمّن أضاع شويهة يوما.. فكأنّي بالشاعر يحيى السماوي يسأل العالم بأسره عن وطنه الذي أضاعه وتكاد كلّ قصيدة أن تكون بَلاَغ ضياع ودعوة للبحث والتفتيش عن وطن ضائع يجدّ في البحث عنه أبناؤه وأجياله.. ويتابع الشاعر المقابلة... /على ما سوف يذكر / بعدنا الأحفاد.. / إنّ الأرض / أضيق من حبال الشّنق../ والماء النمير له / مذاق الصّاب / وأنّ الجار يخشى جاره/ وتخاف من أجفانها / الأهداب.   

  

•هذه خيمتي فأين الوطن؟

إنّ الدارس لأعمال الشّاعر يحيى السماوي لا بدّ وأن يتوقف عند ظاهرة  لافتة وهي كثرة الدّواوين التي خصّ بها وطنه العراق بشكل مباشر..

-     قصائد من زمن السبي والبكاء عام 1971

-     قلبي على وطني 1992

-     من أغاني المشرّد 1993

-     جرح باتّساع الوطن 1994

-     عيناكِ لي وَطَنٌ ومنفى 1995

-     هذه خيمتي فأين الوطن 1997

-     نقوش على جذع نخلة 2005

-     الأفق نافذتي 2003

-     البكاء على كتف الوطن 2008

-     شاهدةُ قبرٍ من رخام الكلمات 2008

  بقطع النظر عن الجوائز التي استحقها الشاعر بجدارة  لقاء  بعض أعماله الشعريّة فإنّ جائزته الحقيقيّة  الكبرى وتتويجه هي إقبال القرّاء والباحثين والدّارسين على أعماله وهذا الاحتفاء الذي يقابل به حيثما حلّ والحالة الوجدانيّة  التي أنشأها وجعلت القلوب والعقول والعيون تّتجه نحو العراق وتتعاطف معه بفعل الحبّ الذي زرعته نُصُوصه وحوّلته إلى رمز من رموز بلاد الرافدين تماما كالنّخل والجنائن المعلّقة ..

شعر يحيى السماوي قلادة على صدر العراق لم تصنعها أكبر دور المجوهرات في العالم ولا يمكنها أن تفعل .. إنّها قلادة حبّ وجمال وولاء وفداء..و هنيئا للعراق .

 

محسن العوني - أبو عزيز -

كاتب وباحث من تونس

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

في المثقف اليوم