تكريمات

ملف: يحيى السماوي شاعر يتشوف الوطن في ينابيع اللغة

 به اللعنة وغابت عنه حركة الحياة، والوطن المتمثل هو الذي يبنيه الشاعر بحلمه وخياله وتصوراته الذهنية، وما بين الواقع والحلم، والحسي والمتخيل، نستشعر حالة الشاعر وهو يعود إلى حالات الخلق المجهد وهو يحاول أن يخلق من الطين الموات، والماء الموات حياة جديدة، ولكنه في الأثناء يشعرنا أن موت الحركة بدوره تصور خيالي بما أن الطين والماء منهما تبدأ الحياة وإليهما تعود، وأنهما يلازمان الانسان في حالة الحياة وحالة الموت، ومن ثمة تغيب مفردات العدم وتحل محلها مفردات الموت الذي هو قابل للتحول، ككل عناصر الحياة .

 

نعرف أن طينه معاق

وماءه معاق

ونخله معاق

وأن كبرياءه يداس كل لحظة

بجزمة القائد

أو سنابك الرفاق (من قصيد لا تذبحوا عراقنا الحبيب)

 

ويرسم الشاعر صور الموت من خلال إدراكه الذاتي بانعدام حركة الحياة، وانسيابها، في وطنه العراق، فإذا بالطين والماء والشجر كائنات غير قادرة على توليد الحياة، فإذا كان الطين والماء، الأرض والفرات، ما إن يمتزجا حتى يخلقا الحياة، تبدوعناصر الحياة في العراق غير مكتملة ويشوبها النقص، والنقص غالبا ما يشوب تصورات أهل الشر الباحثين عن الأرض الكاملة، فالشاعر يرجع عدم الاكتمال إلى أساطير غير واضحة بجسدها بل بما تحيل إليه مفردات القصيدة . و عبر الطين والماء يرجعنا إلى قولة لعلي ابن أبي طالب : " الناس من جهة التمثال أكفاء، أبوهم آدم والأم حواء، فإن يكن لهم من أصلهم شرف، يفاخرون به فالطين والماء" . لذلك يذكر الشاعر بعد عناصر الخلق النخل العراقي، نظرا لتجذر النخيل في طين وماء العراق، ونظرا لأن النخيل الذي رسم على التماثيل والجداريات، مربوط ببدايات الخلق في العراق، وكأنه ثمة ربط لصورة الإنسان الذي خلق من طين وماء وزرع النخلة المباركة ورسمها على التماثيل، ما يحقق شرف الإنسان العراقي و ذهاب هذا الشرف وحل الذل محله، هو حالة موت مؤقتة، الحياة فعلا يتشوفها الشاعر في عذرية البدايات، و حب الشاعر لوطنه يتجاوز صورته المأسوية .

 

هذه الأرض التي نعشق

لاتنبت ورد الياسمين

للغزاة الطامعين

والفرات الفحل

لا ينجب زيتون وتين

في ظلال المارقين

فارحلوا عن وطني المذبوح شعبا

 

الوطن داخل قصيدة الشاعر هو الوطن كما تتمثله الذات المقاومة لا ينبت الياسمين للغزاة وماء الفرات لا يسقي الزيتون والتين، ويرفع الشاعر الذات المقاومة إلى مرتبة الذات القدسية وهو يستقي مفردات التين والزيتون الذين اقسما بهما الله، فالتين والزيتون الذين يمثلان الحياة في الآيات المعجزة، يمثلان الموت للغزاة، وبذلك يستبدل الشاعر الحياة بالموت والمقدس بالمدنس، ويفتح ثنائيات داخل القصيدة وهو يشير إلى الأرض الأنثى الخصبة والفرات النهر الفحل، وينزع عن الأنوثة والذكورة سمات التلاقح والخلق والولادة، ليصور عالم عبثي، عالم الغزاة والمارقين . وقصيدة الشاعر تقوم على مفردات المعجم الديني الذي تتجلى فيه ثنائيات الخير والشر والخصب والموت . ويتوعد فيه المارقين بالعقاب . ثم يتوجه الشاعر بالخطاب إلى الآخر للرحيل عن وطن  ينزف دماء الاحتضار، ولكنه قابل لعودة الحياة برحيل أسباب الموت المضمر لهذا الوطن، هذه الموت الذي نكب مرتين، واستبدلت فيه صور الموت بصورتين مأسويتين . ولكن صورة الوطن الحقيقية في التكشف على بدايات الخلق، وإحلال صور الحياة والوئام والتناغم والتآلف بي عناصره .

 

لا تذبحوا حبيبنا العراق

نصرخ باسم طينه

... باسم يتاماه ... مشرديه

جائعيه

باسم نخيله

وعصرنا المتكتل في مكارم الأخلاق

باسم عروبة غدت

دون يد وساق

لا تذبحوا حبيبنا العراق

فلتتركوا مصيره

لأهله العشاق

 

ولئن خاطب الشاعر كائنات الموت، فقد افرد هذا الخطاب بمفردات النخيل المبارك المقدس، واليتامى والجياع، ومكارم الأخلاق، وقد وشح هذا الخطاب بافعال أمر كتلك التي اتسم بها خطاب القرآن عند القسم والتحذير، وهو يستعمل معجم الشجر المبارك المقدس، ومعجم عدم الإساءة لليتيم والسائل والاستعاضة بنعمة الله كتمثل للقيم، قيم الحياة على هذه الأرض . وبذلك تسترجع لغة الشاعر حالة الخلق ولغة الخالق بصورها وتراكيبها وأسلوبها، والشاعر هنا يرسم صور الواقع وصور الحلم، ويقف على أرض ناقصة يتشوف بداية الخلق من جديد . وفي استرجاع الشاعر لحالة الخلق وقدسيته فهو يتمثل الحلم في إنقاذ وطنه من آلة الحرب والدمار، ويرنو إلى تفتيق الحركة من العقم، وإذا كان "الشعر هو بيت الشاعر" حسب هيدغر فهو وطنه حسب يحيى السماوي .

 

فالشاعر يتفصد عن وطنه بصوره الراهنة، بمآسيه، ومظالمه، واللغة التي تعكس له هذا الواقع بحسيته وتفاصيله والحقبة التاريخية السوداء هي التي تستجلي في هذا السواد شرارات الحياة حتى وان بدت متخفية مختبئة وراء هذه الصور اللغوية، والشاعر يكشف عنها مجازا وإن تظللت قصائده بصور العتمة .

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

 

 

في المثقف اليوم