تكريمات

ملف: قراءة الممكن وإمكانية القراءة: الأبعاد الحقيقية لقصيدة (لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح)

جاءت عرضا ولا تمثل اتجاها أو فكرا أصيلا قائما بذاته، إلآ أن ظهور الدعوة المحمدية وما تبعه من انقسام المجتمع العربي إلى فريقين كلٍّ يدعو إلى مبادئه ويواجه خصومه، ويدحض أفكاره، يعتبر بحق تأسيسا لهذا الاتجاه في الأدب العربي عموما والشعر خصوصا .

ونظرا ً لحيوية هذا الاتجاه والإتصال الوثيق بالتغيرات المتلاحقة المجتمعية و الأيدلوجية المُحَرِّكة لهذه المجتمعات، ما جعل نطاق الشعر السياسي شديد التحول بين انصبابه على مجال معين بدءا من الدفاع عن العقيدة مع بدايات الدعوة المحمدية إلى شمولية النطاق ليشمل الإنتصار لانتساب معين وإحياء للعصبية القبلية في العصر الأموي تبعا لظروف تاريخية وسياسية للخلافة الأموية، وترسيخ ذلك مع العصر العباسي الثاني تحديدا ودخول عناصر فاعلة في الحياة السياسية كالأتراك والفرس بجانب العنصر العربي أو كما عرفت هذه الظاهرة بـ " الشعوبية "،إلى أن وصل الأمر إلى العصر التركي (عصر الخمود والانحطاط) ليتجمد هذا الإتجاه شأنه شأن كل اتجاهات الشعر والأدب العربي .

ومع دخول الوطن العربي مرحلة حاسمة بانهيار الإمبراطورية العثمانية (الرجل المريض) وانقسامها إلى مناطق نفوذ للقوى الجديدة والمهيمنة على أوجه الحياة فيه، والذي كان انبعاث الكلاسيكية في الأدب العربي وجها من أوجه الرفض أو المقاومة، ما جعل الشعر السياسي يدخل حيزا جديدا، يدخل معنى الرفض سواء كان في صورة إحياء للقديم أو للتراث عموما، تأكيدا على الهوية العربية مقابل" أوْرَبة" الشخصية العربية، أو في صورة إنتاج شعري يؤيد الخلافة ويترحم عليها، أو يحارب فكرة الاستعمار في المجالات المتعددة، ويؤكد على أصالة الشخصية العربية ويدعو لها، ومع تبلور الفكر السياسي والإستقلالي لدى هذه الشخصية، بجانب تنامي الحس القومي والإعتزاز به ووقوع الوطن العربي تحت سيطرة الاتجاهات الأيدلوجية المختلفة وتباين الأنظمة العربية ذاتها، ثم ما تبع ذلك من ظهور التيارات الشعرية المختلفة وإن كان ظهور التيار الحداثي (شعر التفعيلة) كان العامل الحاسم في انبعاث الشعر السياسي بمفهومه الجديد أو ما يعرف به الآن ما جعل أيضا هذا المصطلح مصطلحا فضفاضا ينضوي تحت لوائه ما يسمى بشعر القوميات وشعر مقاومة المحتل ومن ثم طرف ثالث وهو ما يمكن أن نسميه شعر مقاومة الأنظمة المستبدة أو شعر الرفض .

هذه المقدمة التاريخية لا تهدف إلقاء الضوء على عمومية الشعر السياسي، وإنما تهدف إلى تتبع تطور مفهوم هذا المصطلح من خلال بيان مسيرة الشعر السياسي ومنشأه، ومن ثم تحديد موقع القصيدة من الشعر السياسي والذي على أساسه تظهر أغراض وتنهار أغراض وتتحول ثالثة نظرا لارتباطها الشديد بالمتغير المستمر ونقصد به التغير المجتمعي والأيدلوجي . الرؤية الجمالية للشعر السياسي وقصيدة لي ما يبرر وحشتي :

 

ليْ ما يُبَرِّرُ وحْـشـتي هذا الصباحَ

كأنْ أغـضُّ الطـَرْفَ عن ورد ِ الحديقةِ ِ

وابْـتِهاج ِ بُنـَيَّـتي الصغرى بأفـْـراخ ِ الحَمام ِ

 

ليْ ما يُبَرِّرُها ..

فأمِّـي تشتكي صَمَما ً وقدْ عَـشِـيَتْ ..

لماذا لا أكـفُّ عن اتـِّصالي الهاتفيِّ بها

وإرسالي المزيدَ من التصاوير ِ الحديثة ِ

هلْ يرى الأعمى من القنديل ِ أكثرَ من ظلام ِ ؟

*

ليْ ما يُبَرِّرُ وحشتي هذا الصباحَ

فإنَّ جارتنا "حسيبة َ" باعت ِ الثورَ الهزيلَ

وقايَضَتْ ثوبين ِ بالمحراث ِ

وابنتها ـ التي فـُسِـخَتْ خطوبتها ـ اشـترتْ نولا ً

ولكنَّ الخِرافَ شحيحة ٌ..

كادتْ تـُزَفُّ إلى ثريٍّ جاوزَ السبعينَ

لولا أنَّ داءَ السُّكريِّ قضى عليه ِ

ولمْ يكنْ كتبَ " الكتابَ "

فلمْ تـَرِث غـيرَ العباءة ِ والسـُّوار ِ

ووَهْم ِ بيت ٍ من رُخام ِ

*

ليْ ما يبرِّرُ وحشتي هذا الصباحَ

كأنْ أُصيخُ السَـمْعَ

للماضي الذي لم يأت ِ بَعْـدُ ..

وأنْ أُعـيدَ صياغة َ النصِّ الذي أهْمَلته ُ عامين ِ..

لا أدري لماذا لا أكـُفُّ عن التلفـُّت ِ للوراء ِ

ولا أملُّ من التطلـُّع ِ في حطامي ؟

*

ليْ ما يُبَرِّرُ وحشتي حدَّ البكاء ِ

فإنَّ " نهلة َ" جاءها طفلٌ له رأسـان ِ..

"نهلة ُ" كانت القنديلَ في ليل ِ الطفولة ِ

ضاحَكـتـْني مرَّة ً .. فكبرْتُ !

أذكرُ أنني في ذات ِ عـشق ٍ

قد كتبتُ قصيدة ً عنها ..

وحينَ قرأتـُها في الصفِّ

صفـَّقَ ليْ المعلمُ

غير أنَّ بقيَّة َ الطلاب ِ أضحكـهم هيامي

*

ويقولُ " رفعتُ " في رسالته ِ الأخيرة ِ:

إنَّ " محمودَ بنَ كاظمَ " بات حُـرّا ً

(كان مُـتـَّهَـما ً وقد ثبتَتْ براءتهُ) ولكنْ

صارَ يُطـنِبُ في الحديث ِ

عن التقدُّم ِ للوراء ِ

أو

التراجع ِ للأمام ِ

*

ويقولُ:

لا تبْلِغْ سلامي ...

 

أحدا ً..

إلى أنْ تكنِسَ الأنوارُ

أرصفة َ الظلام ِ

*

ليْ ما يبررُ وحشتي ..

مَـنْ لي ْ بـمِـصباح ٍ

يُضيءُ دجى السؤال ِ المُسْـتـَريب ِ..

يُـزيلُ عن جَـسَـد ِ الجواب ِ

مَـلاءَة َ الدَّم ِ خاطـها نـَصْـلُ الحُسـام ِ ؟

*

الناطِق ُ الرَّسْـمِيُّ باسم ِ القصْـر ِ

يُطـْنِبُ في الحديث ِ عن الربيع ِ ..

ونشـرَة ُ الأخبار ِ تـُنـْبِئُ عن خـَريف ٍ

قدْ يدوم ُ بحـقـل ِ دجلة َ ألف َ عام ِ ..

*

ورسائِلُ الأصحاب ِ

تسـألُ عن جوازات ٍ مُـزَوَّرَة ٍ

وعن سُـفـُن ٍ مُـهَـيّأة ٍ لِشـَحْـن ِ الهاربينَ

إلى جنائن ِ كـَهْـف ِ مُـغْـتـَرَب ٍ

وفِرْدوس ِ المنافي حيث أفياءُ الخِـيام ِ

*

مَنْ ذا أُصَـدِّق ُ ؟

ما يقولُ الناطق ُ الرسـميُّ باسم ِ القصر ِ ؟

أو

ما قالـه ُ الكوخ ُ المُـهَـدَّدُ بالضـَّرام ِ ؟

وأنا ورائي جُثـَّة ٌ تمشي ..

ومـَقـبرَة ٌ أمامي !

*

ليْ ما يُـبَـرِّرُ وحْـشـتي هذا الصباح َ

وما سَـيَذبَحُ في رياض ِ فـمي

أزاهيرَ ابْـتِسـامي

*

فـ " حَـمادة ُ الحَمّالُ " مات حِمارُهُ ..

وأنا أُرَجِّحُ أنْ يكون َ " حمادة ُ الحَـمّالُ "

قد قتلَ الحِمارَ

تَـدَبُّـرا ً لـ " بِـطاقـة ِ التموين ِ "

والـسُّـوق ِ التي كـَسُـدَتْ

وللحـَقـل ِ الذي ما عادَ يعرفُ خضرة َ الأعشاب ِ..

كان " حمادة ُ الحمالُ " مُخـتصّـا ً بنقل ِ الخضروات ِ

وكان أشـْهَـرَ في " السماوة ِ " من وزيـر ِ الخارجيَّـة ِ

غـيْر أنَّ حكومة َ البطل المُـجاهد ِ عاقـَبَـتـْهُ ِ

لأنه ُ :

تـَرَك َ الحمارَ يَـبـولُ تحتَ منـصَّـة ٍ

رُفِعَتْ عليها صورة ُ البطل ِ الحـبيبْ

 

و" حمادة الحمالُ " يجهلُ في السياسة ِ

لمْ يُشـارِكْ في انتِخـاب ِ البرلمان ِ..

وحينَ يُسـألُ لا يُجيبْ

 

ويُقالُ :

إنَّ كبيرَ مسـؤولي الحكومة ِ في " السماوة ِ "

كان يَـخـْطبُ في اجتماع ٍ حـاشِـد ٍ

في عيد ِ مـيلاد ِ الرئيس ِ

وكان صادَفَ أنْ يـَمُـرَّ " حمادة ُالحمالُ " ..

فارتبك الحمارُ

(وربما احتفل الحمارُ)

فكان أنْ غـطـّى النهيق ُ على الخـطيبْ

 

ولذا

أُرَجِّـحُ أنْ يكون " حمادة الحمالُ "

قد قـَتـَلَ الحمارَ

أو الحكومة ُ أرْغـَمَـتـْه ُ بأمْـر ِ قائِدِها اللبيبْ

 

فـ " حمادة الحمالُ " مُـتـَّهَـمٌ

بتأليب ِ الحمار ِ على الحكومـة ِ والنظام ِ

*

ويُقالُ :

إنَّ " حمادة َالحمالَ "

حاولَ أنْ يبيعَ حماره ُ غـيرَ المُـهَذب ِ

بَيْدَ أنَّ السـوقَ كاسِـدَة ٌ

ومات حمارُهُ من بعد ِ عام ِ

*

وأنا أُرَجِّـحُ أن يكون " حمادة ُ الحمالُ "

قد قـتـلَ الحمارَ

تَخـَلـُّصـا ً من تـُهْـمَة ٍ أُخـرى بمملكة ِ الـنـِّعام ِ

*

ليْ ما يُـبَـرِّرُ وحشتي هذا

الصباحَ

وما يُـفـسِّـرُ خـشـْيَتي

من فتح ِ صندوق البريد ِ..

وغـلق ِ نافـذة ِ الكلام ِ

*

سـألوذ ُ من صَحْـو ِ الحقول ِ

برمل ِ صحراء ِ المنام ِ...

 

فأنا ورائي جثة ٌ تمشي

ومقبرة ٌ أمامي !!

إن ما نستخلصه من عرض تولستوي هو أن قيمة ما هو فني سواء أكان قصيدة شعر أو سيمفونية أو تمثالا يعتمد اعتمادا كليا على تأثيره على الشخص الذي يحاول إدراك الجمال فيه، فالفن بالنسبة لتولستوي هو انتقال الانفعال) ـ عطية / ماهر 2003 .

لا شك في أن فهم القيم الجمالية وبالتالي المقاييس الجمالية لأيّ عمل ما ليس عملا ثانويا، بل عملا أو جزءا أصيلا من فهم العمل ككل، وبوابة شرعية للوصول إلى المستويات العميقة للمعنى وإدراك نوعية الاستراتيجية المستخدمة في النص مما يعني فهما شاملا للشكل الجمالي للنص .

ولا شك أيضا أن لفهم الشعر السياسي (ومنه قصيدة لي ما يبرر وحشتي للشاعر) بوابته الشرعية والصائبة، وهي الرؤية الجمالية وأسسها، وذلك أن تلك الأسس وهذا الشكل الجمالي هما المحددان لاستراتيجية النص وبلوغ غايتها الجمالية .

وعليه فإن مفتاح الفهم الحقيقي وبامتياز المعرفة الصحيحة لحقيقة الفن لدى تولستوي، والذي حاول أن يحدد ملامحه في كتابه (ما هو الفن ـ 1896 م) (والذي جاء في بيئة تميزت بالمعارك العنيفة بين المذاهب النقدية المختلفة وظهور شعارات متعددة لدى رواد الواقعية والطبيعية في الفن والأدب) ـ عطية / ماهر 2003 م، مما حدا بالمفكرين الاشتراكيين إلى الاتفاق معهم في ضرورة ارتباط الفن والأدب بتصوير الواقع الاجتماعي، (وكان من أثر ذلك ظهور قصة البؤساء لفكتور هوجو والتي كانت استجابة لهذه الدعوة) نفسه .

لذا فإن تعريف الفن لدى تولستوي) ينأى عن الأخذ بالتصورات التي تدور حول فكرة الجمال الغامض أو التعريفات اللاذية التي تعرف الفن على أنه يشبع في الإنسان لذات معينة، وإنما يعرف تولستوي الفن بأنه نشاط انفعالي أو هو بمعنى أدق لغة توصيل للانفعالات) أميرة حلمي 2003 م

وعليه فإن تولستوي استمد معاييره الفنية أو الجمالية اعتمادا على فهمه لمهمة الفن والأدب حيث رأى (أن انتشار العمل الفني هو مقياس لأصالته وجودته) .

وبعيدا عن صحة هذا الرأي أو خطئه أو الانتقادات لتلك الرؤية الجمالية المرتبطة بأيدلوجية ما للفن، فإن الشعر السياسي والذي هو في الأساس موجه إلى البسطاء ومعتمدا على تذوقهم والثقة في هذه الذائقة (كما صرح الشاعر السوفييتي بلوك بأن الفن الحق هو الذي تتحد روحه بروح شعبه وتصل إلى جذور أمته ويستمد الخلق من فنه) نفسه، ولذلك فالمقياس الجمالي لدى تولستوي هو مقياس كمي يأتي نتيجة انتقال الانفعال وبذلك فإنه يرفض أن يكون الفن مجرد تأمل أو رؤية تشيع اللذة في الإنسان (وإنما هو أداة لتحقيق القيم الديمقراطية بين أفراد المجتمع) نفسه .

لذا فسقوط القيم الأرسطية ذات الأبعاد الرياضية الإقليدسية والنافية لأي تناقض والقائمة على التجسيد والتشخيص في البلاغة التقليدية أمر طبيعي ولا ينافي الوجه الحقيقي للشعر السياسي ومنه قصيدة الشاعر السماوي، فليس المطلوب إذا ً التجسيد أو التشخيص للفكرة أو تقريبها كما اعتاد الكلاسيكيون في استراتيجيتهم ورؤاهم للقصيدة وخاصة مع ظهور ما يسمى بشعر الرفض والذي كان مهتما بالجزئيات أو الرؤية الجزئية للصورة لعرض الواقع الرافض للإستبداد وتحوله بعد (لا تصالح أو الوصايا العشر) القصيدة الفارقة للشاعر الكبير أمل دنقل، نقول وتحول هذا الشعر إلى الصور الكلية لهذا الواقع الاستبدادي .

فمن الطبيعي أن يتجه السماوي إلى استراتيجية السرد أو الحكي واعتماد الشكل المستطيلي في البناء المعماري للقصيدة، وتصبح الشخوص المطروحة والممثلة للأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والأسطورية هي المسؤولة مسؤولية كاملة ومباشرة لنقل الانفعال كغاية جمالية ليس من خلال مجاراتها بل من خلال فلسفة ومنطق حركتها وتحولها لمجاراة الواقع الاستبدادي والمعايش في أسلوب ساخر كنتيجة حتمية مقابل الواقع المعاش للمتلقي العادي .

فالصورة الشعرية إذا تسقط من حساباتها ما يعرف بألوان البيان إلآ ما جاء عرضا لتبرير بروز البديل الحركي والبصري والسمعي للصورة الساخرة وكمكوّن أساسي للمشهد التمثيلي القائم على السردية، والمحرك الخفي لسلطة المكان لشخوص السرد، والواضح من خلال نمذجة هذه الشخوص لتمثل الشرائح المختلفة للمجتمع وكذلك من خلال حركتها ونوعية نشاطها الحركي، مما يعني بروز الانزياح المعنوي المطلوب للإنتقال الانفعالي كغاية جمالية مطلوبة ما يعني التعاطف التام والكامل لهذا المشهد .

إذا ً فلا لوم على الشاعر إن لم يلجأ إلى الأساليب المتعارف عليها في بناء القصيدة العمودية أو حتى التفعيلة من صور بيانية أو رمزية إلا في نمذجة الشخوص لو اعتبرناهم رموزا، بل بذلك يكون الشاعر قد حقق أهم معادل ٍ للقصيدة السياسية الجيدة ودال على صحة التجائه للبديل من صور تعتمد الحركية والبصرية والسمعية، والأسلوب السردي لهذه الصورة الساخرة المبكية .

فالصورة الشعرية إذا أسقطت من حساباتها ما يعرف بألوان البيان إلا ما جاء عرضا، لتبرز البديل الحركي والبصري والسمعي كمكون أساسي للمشهد السردي والإنزياح المعنوي للانفعالية، بل والتعاطف تحت سلطة المكان (المحرك الخفي لهذه الشخوص والصورة معا) .

فالإختيار لنمذجة الشخوص المعبرة عن مجتمع يميل أن يكون مجتمع القرية وما يترتب عليه من أخلاقيات وسلوك اقتصادي وتعاملي فطري تارة و التحولات على تلك الشخوص للخلاص من المأزق الاقتصادي والسياسي النابع إما عن جهل أو خوف متأصل في الخلفية التاريخية والثقافية لهذا المجتمع تارة أخرى، تجعل من سلطة المكان هو المتحكم الوحيد فيها، وإن لم يتدخل تدخلا صريحا ومباشرا، إلا أنه يبقى المؤثر الأقوى على المستوى الحركي لعملية التحول والرؤية المستقبلية الفاشلة وبالتالي النهاية المتوقعة والمؤدية للوحشة في النص، ما يعني ضرورة الكشف عن الأبعاد الحقيقية لهذه الشخوص .

 

بعد الدلالي لشخوص القصيدة:

ـ الأم : أو الجذر الذي يربط الشاعر كانزياح معنوي ومدلول لدال يحتمل الكثير من الدلالات (الأم الحقيقية ـ الوطن ـ الارتباط) تلتزم حالة واحدة ثابتة من الجمود وعدم التطور، فـ(الصمم) كانزياح لعدم الاتصال والتواصل وبالتالي عدم الأهلية للتطور، ثم (وقد عشيت) دال على فقد الرؤية في الأزمة الحالكة والضبابية عند اتخاذ القرارات، إلا أن الارتباط الوثيق ما يزال قائما كنتيجة حتمية ومباشرة للموقع النفسي لهذا الدال في نفس الشاعر .

ـ الجارة وابنتها : وهو اختيار دال أولا على سلطة المكان و الارتباط الوثيق في مجتمع القرية الفطري الأخلاقي ثم نمذجة للتصرف العشوائي والنابع إما عن جهل أو دافعية الهروب من المأزق للمأزق المؤجل في انتظار الحل السماوي للإشكالية الاقتصادية، وهو نموذج للشخصية العربية النقيضة للشخصية الغربية وثنائية تؤرق الشاعر وتجعل من الوحشة شيئا أصيلا لا يمكن الهروب منه، فالجارة تحول من النشاط الاقتصادي الزراعي المتأصل للنشاط الصناعي اللاواعي لأسسه والنتيجة (الخراف شحيحة) فسقوط الرؤية الاقتصادية الصحيحة دال على التخبط الجاهل أو المتسرع والملهوف على الخروج من المأزق دون أي حسابات، فقط للهروب، وكما فعلت الجارة فابنتها كذلك تستخدم ما لها من رأس مال في صفقة خاسرة تجبرها الظروف الاقتصادية عليها (الزواج من ثري) بغض النظر عن الحالة الصحية بل يمكن أن يكون هذا هو الدافع كدال على الانتهازية النفعية للشخصية الواقعة تحت تأثير الأزمة ومحاولة الخروج أو الهرب (الغاية تبرر الوسيلة كمبدأ مكيافيلي) والنتيجة الحتمية للقرار الجاهل أو الانتهازي الفشل (فلم ترث غير العباءة والسوار) كرمزي للغطاء والثمن البخس لتلك الصفقة الهزلية المتكررة للمجتمع الواقع تحت ضغط الفقر والحاجة .

ـ ونهلة : الممثلة للحب العذري لدى الشاعر والنمذجة الدالة على الحلم الجميل للمستقبل لدى الصبية تنتهي بأن تكون سببا لتوالد القبح كنتيجة حتمية أيضا لهذا الواقع الذي لا يمكن له إلآ أن يلد القبح كاستشراف للمستقبل في ظل الظرف الراهن .

ـ ثم الصداقة كأحد رموز الضلع الاجتماعي للشكل المستطيلي للقصيدة وكدال لقوة التغيير الممكنة في المجتمع وتحت القهر السياسي لحرية الرأي يتحول أيضا إلى مشروع فاشل نتيجة حتمية للقهر مرة و للضعف المجتمعي أخرى .

ـ أما الضلع السياسي من ناطق رسمي و التعامل مع المنطق العلمي من جهة ومع المجتمع والمنطق الواقعي من جهة أخرى، يبدو عليه الإصرار على موقفه المناقض لمنطقي العلم والواقع، بل وادعائه لامتلاك الحقيقة دون غيره، حيث تبدو الإشكالية الحقيقية للوحشة من ظهور الثنائية الخارج لداخل حيث المقارنة بين ما هو كائن لدى الشاعر وبين ما هو حاصل في ارض الوطن، تجعل من الوحشة أمرا طبيعيا، بل ومنطقيا لا يمكن الفكاك منها أو غض النظر عنها .

ـ وأما شخصية حمادة الحمال التي تتماس مع الشخصية الأسطـورية في التراث العربي لشـخصية " جحا " فلقد تم استبدال الدلالات حيث المنطق والعقل للشخصية الإنسانية والتهور والحمق المبني على البوح بالحقيقة للشخصية الحيوانية وما ينتج عن ذلك من صراع بين هذا المحور وبين المحور السلطوي للزعيم و ممثليه، ما استدعي الحيلة مرة والكذب أخرى بل والعنف ثالثا، مما يجعل الحكاية تتطابق مع سمات الأسطورة والموحية بثبات التصرف للشخصية العربية بالرغم من الفترة الزمنية الكبيرة بين الشخصيتين والتحولات في المفاهيم، ما يعني بالضرورة إسقاط حالة الجمود في المجتمع والشخصية والظرف السياسي الباقي بحاله وإن تغيرت المسميات من ممالك إلى جمهوري .

هذه الأبعاد النفسية والفلسفية للشخوص تبرر لا الوحشة فقط بل التصرف اللامنطقي في كثير من الأحايين ويغطي جانبا هاما من الانفعالية المطلوب نقلها والتعبير بها عن الوحشة كدافعية لكتابة النص بهذه الاستراتيجية، كما أنها تغطي جانبا من جوانب الصورة المطلوب تغييرها كهدف من أهداف الغاية الجمالية للنص، ألا وهو انتقالية الانفعال، كما أنها يبدو معها سلطة المكان المحرك الخفي (الفاعل المؤثر) في تحديد ملامح الشخصية النفسية والفلسفية، وبالتالي منطقة تصرفها تجاه مواجهة الأزمات التي تقع فيها كمؤشر لحتمية الوقوع في ظل النظام السياسي الفاشل (للبطل المجاهد . (

ثمة وجهة أخرى لسلطة المكان محددة لملامح الدافعية لكتابة النص، بل والانحياز لاستراتيجيته ونقصد بذلك ثنائية الداخل والخارج للمكان، ذلك المكون الرئيسي للشاعر والذي من خلاله أنشأ ما يسمى مسافة التوتر، تلك المسافة الدافعة لانبعاث النص من الفكرة المجردة إلى رؤية جمالية ومن ثم استراتيجية مكتوبة محققة للغاية الجمالية، حيث أن التباين بين البيئتين (الوطن / الغربة) تحدث أثر الثنائية الداخلة والخارجة معا، ما يعني وقوع النص تحت مؤثرين، الأول ناشئ جراء النشأة الأولى للشاعر حيث البيئة الزراعية الداعية للتأمل والصبورة والعارفة لمعنى التغيير الهادئ لا الثوري ما حدا به يكشف ولا يثير الحمية والحماسة للثورة ضدّ الطغيان، كما أن البيئة الحياتية للغربة تدفعه لأن يقارن ويوازن لتبدو السخرية نابعة عن المعرفة لأبعاد الوحشة وبالتالي المأساة ليكون الشعر في نهاية المطاف (ليس خلقا للتوازن أو استعادة لتوازن المفقود، أو تنسيقا للدوافع وتنظيما لها، بل خلقا للتوتر والقلق أو بكلام آخر أدق خلقا لمسافة التوتر) ـ في المصطلح النقدي / أحمد مطلوب .

إذا ً نحن أمام مسافة توتر ناشئة من وقوع الشاعر تحت سلطة ثنائية المكان الداخلة والخارجة معا والمقارنة للتباين بين جنائن الكهف) الغربة) و بين الوطن الدافئ رغم القهر .

 

عتبة النص والبنية للجملة الرئيسة:

إختار الشاعر أن تكون عتبة نصه هي الجملة الرئيسة للقصيدة، بل والمنحنى التحولي بين أضلاعها الرباعية، من هنا تصبح لعتبة النص أهمية خاصة حيث أنها الدال على اتجاه النص من جهة ومن جهة أخرى المدلول لحالة التوتر الدافعة للنص ذاته .

ومن الواضح أن عتبة النص مكونة من جملة اسمية بسيطة (لي ما) على اعتبار أن جملة (يبرر وحشتي هذا الصباح) جملة متعلقة باسم الصلة(ما) وهي ليست لها محل من الإعراب ما يعني تأثيرها محدود بتوضيح (ما) ليس إلا، نقول إن الجملة البسيطة من الخبر شبه الجملة المقدم (الجار والمجرور) والمبتدأ المؤخر (ما)، والشبه الجملة مكون من اللام التي تفيد (الملكية) ـ شرح بن عقيل لألفية بن مالك ـ والمجرور (ياء المتكلم) وهو الضمير العائد والدال على الذات، ما يعني تخصيص الملكية للذات مباشرة دون غيرها ولا شيء غيره .

إذا ً فمن البداية هناك انصباب ما آتٍ في الذات، يختص بها ويتمحور الموضوع حوله، هذا الانصباب ينطلق من المبتدأ (ما) اسم الصلة العام الذي يفيد (العمومية لغير العاقل) ـ النحو المصفى / محمد عيد ـ ليضفي غموضا يحتاج معه الكثير من التفسير والتأمل، وبذلك يصبح العنوان أو عتبة النص دالا ً على محتوى القصيدة أولا وعلى استراتيجيتها ثانيا .

جانب آخر من عتبة النص، وهنا ينصب على جملة الصلة الخاصة بـ (ما) والتي وإن كان لا محل لها من الإعراب وتقتصر على إيضاح (ما) والتعبير عنها، فإنها لا تشمل الجدلية الحقيقية لما سيأتي من ثنائيات فحسب، وإنما تلعب دورا هاما في بيان موقف النص واستراتيجيته .

 

فالجملة فعلية فاعلها ضمير وبالطبع تختلف التقديرات حوله نظرا لاتساع مفهوم (ما) العائد عليها فإن كانت (ما) من المعارف إلا أنها في ذات الوقت بها من الإبهام الناتج من اتساع عموميتها وتعدد الاحتمالات في تحديدها عددا وكما، وفي جانب آخر يعطي هذا الاتساع المسافة الكافية كي ينصب الاهتمام على التباين بين الوحشة والصباح والعلاقة التناقضية بينهما والسببية من الفعل (يبرر (، ففعل (يبرر من برّر) من جهته لذكر السبب، ففي المعجم الوسيط (يبرر عمله : زكاه وذكر من الأسباب ما يبيحه) المعجم الوسيط / باب بَرَرَ .

وعليه فإن الاختصاص يعود على مسنده (ما) وهو في حقيقة الأمر على الفعل (يبرر) الموضح لـ) ما) أي ذكر الأسباب، وعلى الاعتبار أن الأسباب هي الأخرى ترجع لحقيقة التناقص بين) الوحشة / الصباح . (

والوحشة / الصباح على النقيض لبعضهما، من حيث المدلول نجد هذا التناقض حيث أن معناها (الأرض المقفرة المستوحشة، ومن الناس الانقطاع، وبعد القلوب .

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم