تكريمات

شاهدة شعر من دموع الأمهات

من الإستدلال وبيسر الى تلك المنابع الشعرية التي تتدفق من مخيال الشاعر كما لايمكن لأي ناقد شعري مهما كان نحسا وحازما في ذائقته من حجب تلك الموهبة المتوهجة والتي تتجلى من نسيجها الشعري تلك القصائد المشبعة بالصور الشعرية الناضجة. وبقدر ما تفصح الدلائل ودون لبس عن قدرة الشاعر التحكم والسيطرة على أدواته الشعرية وهو يكتب قصيدته المقفاة وكذلك الحرة، فإن الأمر يتخذ منابع أخرى حين يتعلق بكتابته لقصيدة النثر، فكثيرا ما نظن أنّ الذي يكتب القصيدة العامودية ليس بوسعه أن يكتب قصيدة النثر بالجذوة ذاتها وأنّ الإشتغال على النصوص النثرية يكاد يكون ضربا من العبث عند الذين جربوا هذا الجنس الكتابي من شعراء القصيدة العامودية، غير أنّ هذا الفهم المنحاز من قبلنا لانجد له اي نصيب من الصواب ونحن نتصفح مجموعة الشاعر الموسومة بـ (شاهدة قبر من رخام الكلمات) وهي مجموعة نصوص نثرية حرص الشاعر على تدوينها وفق نبض وهاجس حداثوي مضيء بصور شعرية خاطفة وموجعة في آن واحد، والحق ان نصوص هذه المجموعة النثرية أرغمتني على متابعة نشيجها النثري حتى آخر صفحة لما توافرت عليه من خصائص شعرية قلما نجدها في نصوص نثرية اخرى، وبذلك برهن الشاعر الفحل يحيى السماوي مشاطرته الواضحة الى قصيدته المقفاة التي يكتبها ايضا وهو ينزف لنا هذه النصوص النثرية، وحتى لا أكون مغاليا في إنطباعي النقدي هذا فأقول إن نصوصه النثرية هذه جاءت مكتنزة بالمعنى وبمفردات طرية اكتست صفة الرقة والحزن الشفيف ولكن هذا لايعني ان قصيدته المقفاة التي ضمها اكثر من ديوان شعري له لاتتمتع بالصور الشعرية المبهرة على الرغم  من سلطة القافية التي تتطلب جرسا موسيقيا لا مفر منه ويمكن ان نستدل على سحر وبراعة تلك الصور المجبولة بالشعر في قصائده المقفاة، ولا أظن اننا سنختلف على سطوع الشعر برغم مسحة الحزن في هذه المقاطع الشعرية المأخوذة من ديوانه الشعري "نقوش على جذع نخلة "،  حين يقول :

  اسفي على بغداد ... كيف غدت

                             سوقا  وانجم مجدها سِلعا

قد كان يربطني بهودجها

                         خيطٌ من الآمال ... وانقطعا

الجسر تجفوه المها ... وإذا

                      قَرُبَتْ تشظى وجهــها فزعا

او قوله :

النخل نفس النخل ... إلآ أنه

                      مستوحش الاعذاق والسعفاتِ

لكأنّ سعف النخل حبل مشيمةٍ

                      شدت به روحي لطين فـراتِ

فوددت لو اني غرست اضالعي

                         شجرا أفيء به دروب حفاةِ

الله ما احلى العراق وإنْ بدا

                         متقرح الأنهار والواحـاتِ

ولأن انطباعي النقدي هذا يسعى التوغل في مجاهيل نصوصه النثرية وليس الوقوف على ناصيتها فحسب والتي وجدتها تنافس بشراسة شاعرية قصائده المقفاة من خلال الرسالة الإنسانية التي تحملها في منجم مفرداتها المتوهجة وهي أدق وأبلغ وأعمق وأكثر توجعا وأسى، وحتى أبرهن لكم على ما ذهبت اليه من وجهة نظر نقدية متواضعة ازاء نصه النثري أضع امامكم بعض المقاطع من تلك النصوص النثرية حيث يقول الشاعر مثلا :

مرة

لسعت نحلة جيد أمي

ربما

ظنت نقوش جيدها

ورودا زرقاء .

وبمطالعة عميقة لهذا النص نجد ان الشاعر استخدم الإيهام الشعري ببراعة ومزجه مع مخيال النحلة وأضفى عليه موروثا سومريا زاهيا وبدلالات فنية من خلال الوشم الأزرق المرسوم على جيد أمه . كما يمكن لهذا المشهد الشعري داخل النص ان يحدث في واقع الحياة ايضا ولكنه يتطلب العين الماهرة والذكية التي بوسعها ان تلتقط تفاصيله وهذا ما تمكن منه السماوي حقا . وفي نص آخر عن امه الراحلة ايضا يقول بتفجع عميق :

الفصل ليس شتاء

فلماذا غطاها اشقائي

بكل هذه الاغطية من التراب ؟

وهنا يبرز لنا إستخدام الإيهام الشعري مع ذاته حتى يبعد فكرة ان امه قد غادرت الحياة . ويعود في نص نثري آخر يقول :

ايها العابر

هلا التقطت لي

صورة مع امي النائمة في قلبي

وهنا نرى إيهاما شعريا مزدوجا حيث يدعو الآخر العابر للإشتراك مع إيهامه الذي لايتزحزح والذي يشير بقوة الى ان امه الراحلة لازالت تنام في قلبه .

وحين يخاطب شاعرنا الحزن نراه يجسد الإحتجاج بابهى صوره الشعرية حين يقول :

ايها الحزن

اما من مكان آخر

تنصب فيه خيمتك

غير قلبي .

وأظن أن هذا النص المكتنز ينطق بنفسه وليس بحاجة الى توضيح من قلمي حتى نرى لذعته الشعرية وهي توخز قلوبنا . ويتصاعد التوتر لدى الشاعر وهو يرسم النصوص المدججة بالدمع لإمه الراحلة حتى يصل الى منعطف نثري يصيح به :

 

عباءتها الشديدة السواد

وحدها اللائقة

علما لبلادي .

ولعمري ان هذا النص أقدمه مقترحا الى مجلس النواب الذي مازال يدور في حلقة فارغة عن مصير شكل العلم الذي يمثل البلاد، فهاهو الشاعر السماوي يختصر لكم الحديث والتأويل ويقترح عليكم عباءة امه الشديدة السواد علما للبلاد، وهو أشرف وأنقى بيرغ يمثل ارض السواد فهو امتداد الى الدم الحسيني ويمثل البواكير المشعة للسومري جدنا الاول الذي كتب أول حرف على طين البلاد .

ثم يهدأ الشجن قليلا لدى شاعرنا ويتحول الى محاورة مع النفس، وكمن يتحدث تحت سطوة افيون نرى ان هذا النص يعلن عن نفسه بشكل موجع حيث يقول :

آخر امانيها

ان اكون من يغمض أجفان قبرها ..

آخر امنياتي

أن تغمض بيديها أجفاني ..

كلانا فشل

في تحقيق أمنية متواضعة .

واذا ماكان الشاعر قد أخفق في تحقيق حلم متواضع، فإنه من جهة أخرى نجح بشكل مثير في تقديم وجبة روحية باهرة من النصوص النثرية التي تخاطب امه الراحلة عبر شاهدة شعر من رحيق الكلمات ودموع الامهات ... تلك الشاهدة الشعرية التي نجحت في إيصال خطابها النثري لنا بلغة هي خليط من الشهد والمرارة والتي توّجها بنحيب شاعري متدفق وشجي على أمه الراحلة رحمها الله وهي مازلت تبصر من الفردوس أن هناك من يكتب عنها أرقّ وأعذب الشعر حتى بعد الغياب .

 

.............................

    هذا الإنطباع النقدي هو محاولة اولى لقراءة نصوص الشاعر .

    عنوان المقال مأخوذ بتصرف من عنوان مجموعته النثرية شاهدة قبر من رخام الكلمات .

بيرث

 

 

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

  

في المثقف اليوم