تكريمات

ملف: العاشق أبداً

كان يستهلك الكثير حينما يخط السطور، ولم يستطع الحبر الأسود أن ينكر لون الدم فيه فظلَّ يشي به ويشي به حتى يرى الجميع أن كاتب هذا الشعر عاشق حدَّ النزف.

 

كتب الحب وغنى المرأة وسافر ماخرا عباب آلامها ومسراتها، ولكنه حين خاطب المرأة كان يمارس رجولته الشعرية بإتقان، كان دفقه العاطفي قوياً ولذلك لم تعاني قصيدته (التأنيث) فبقي شاعراً فحلا منتمياً الى عام الاصمعي وابن سلام اللذين أصرا على بقاء الرجل رجلا وانكروا على من يخاطب المرأة ان يستعير أنوثتها في كلماته الحانية.

 

بكى على قاتله وعلل جريمته إعلاء لدين الحب واستشهاداً في سبيله أوليس القائل:

لمْ يـكـنْ يَـضْـمـرُ ليْ شَـرّا ً خـفـيّـا

عــنـدمـا أعـلـن َهَـجْـــرا ً أبــدِيّـــا

كـــان َ يــدري أنــنـي مـنْ دونِـــه ِ

لا أرى فـي العيش ِ ما يُغري فـتِيّـا

لا تـلُــمْــنـيْ إن ْ تـعـلَّـقْــتُ بـــه ِ..

يـا عَـذولـيْ .. فـلـقـد كـان وفِــيّـــا

شــاءَ قـتـلـي لا جـحــودا ً.. إنَّـمـا

لِيُـؤاسـى بيْ .. وكيْ يبكي عَـلـيّـا

 

وهام بالسفر إلى المجهول.. إلى الأفق بكل ما يحمل من معانٍ تسمى انطلاقا وحرية وبحثاً عن جديد او خلاصاً، لقد شد الشراع إلى أضلاعه وسئم الانتظار، كان عشقه اكبر من نفسه هو لم يحتضن عشقه بل عشقه احتضنه فهو غارق فيه والغرق انجع دواء لما هو فيه اذاً هو السفر الأبدي الى الحب:

 

طـالَ الـوقـوفُ .. متى سـتـنـطـلِـقُ ؟

أتعِـبـتَ ؟ أمْ قـد ضـاقـت ِ الـطُّـرُق ُ؟

أوَلـسْـتَ مَـنْ شَــدَّ الــشِــراع َ إلى

أضـلاعِـه ِ .. والـمَـرفـــأُ الأفـُــق ُ؟

 ومَـضَـيْـتَ مـفـتـونـا ً بشمس ِ غـد ٍ

تــصْـبـو إلـى مِــرآتِـهـــا الـحَـدَقُ ؟

 لا تـخـش َ أمـواجــا ً وعـاصِــفـة ً

أبْـحِـرْ ... فأنتَ دَواؤك َ الـغـرَقُ !

 

ويأخذ الوطن أكبر مساحة في نفسه؛ اذاً يأخذ الوطن أكبر مساحة في حبه وعشقه، ربما كان في بعض نسائياته يرمز إلى بلده فهو أعظم محبوب تترجم إليه كلماته الغزلة، أو ترسم بحسب موصوفاته صفاته، فيتجسم في كلماته (العراق) المارد الكبير الذي يزأر في ذاته فتنخذل كل الموجودات وتنحني حبا واحتراما وانسحاقا أمام جبروته. انه العراق الذي طاول من اجله الغربة وصارع الوحشة ليحتفظ به، فلا يلقيه من يده لأنه لا يريد أن يستبدله.

وطاول فيه شعراء الحنين والوطنية فهو لا يقل عن السياب الذي بقيت كلماته في العراق يرددها ضمير العراق:

(الشمس أجمل في بلادي من سواها... أيخون إنسان بلاده؟ إن كان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون؟؟)

 

ففي قصيدة شامخة له يمخض نفسه في إناء الغربة فيمحض صدقاً وشرفاً وإخلاصاً، إن والده المستحضر في القصيدة يمثل كل القيم التي آمن بها. في القصيدة لا يترك له والده من خيار اما الوطن او الوطن!! حين اغوته الغربة وقدت قميصه من دبر، كان شامخاً ولكن لابد من استحضار الوالد في ساعة الاغواء تلك، فكان حديثاً شاعراً شاعرياً، كلماته تسح دموع العيون وتضرم القلب ناراً مؤججة الوطن فيك:

جـيـلان ِ مَـرّا  مُـذْ  مـضـى أبـتـي وغـادَرَ بـيـتَـنـا ..

كـيـف اسْـتـفـاق ْ ؟

فـأطـل َّ من خـلـف ِ (الـرّواق ْ)

عـيـنـاهُ مُـمْـطِـرتـان ِ ..

بَـدْلَـتُـه ُ الـعـتـيـقـة ُ نـفـسُـهـا ..

والـخـوف ُ نـفـسُ الـخـوف ِ ..

نـفـسُ (عِـقـالـِه ِ الـنـجَفِـيِّ)

مَـن ْ ؟ أبـتـي ؟

اسْـتَـرِحْ ..

مَـسِّـدْ جـبـيـنـي ..

قـد ْ أذل َّ رجـولـتي جَـمْـرُ الـفِـراق ْ !!

فـبَـكـى ..

رمـى الـمـاء َ الـذي قـدَّمْـتُـه ُ ..

خُـبْـزي الـمُـعَـفَّـر َ بالـرمـال ِ ..

رمـى " الـعـِقـال َ " ..

وراحَ يـنـحَـبُ ..

ثـمَّ أخـرَجَ مُـصْـحَـفـا ً وكِـتـابَ أدْعِـيَـة ٍ

وكـوزا ً فـيـه ِ مِنْ دَمِـه ِ الـمُـراق ْ

 نـفَـض َ الـتـراب َ وقـال َ :

يا ولـدي الـذي عَـرَفَ الـخـنـادِق َ ..

والـحـدائق َ..

والـزنـازيـن َ ..

الـفـنـادق َ ..

والملاجئ َ ..

والـفـضـيـلـة َ ..

والـنِـفـاق ْ :

أقْـسِـمْ بأنَّـك َ لـن تـخـون َ الـلـه َ

أو لـبَـن َ الأمـومـة ِ ..

لـنْ تُـسـاومَ حـيـن َ تـعـطـش ُ أو  تـجـوع ُ

ولـنْ تـبـيـع َ نـدى جـبـيـنِـك َ في

مـزادات ِ الـسـيـاسـة ِ ..

أو  تـخـون  دم َ الـرفـاق ْ..

فـاخْـتَـرْ :

[ فإمّـا أنْ تـكـون َ مع الـعـراق ْ

أو :

أن تـكون َ مـع َ الـعـراق ْ !!! ]

 

إن شعر يحيى السماوي ينتمي إلى الأصالة والحداثة معاً، خط طريقه المستقل الواثق، وجدد قصيدة العمود باثاً فيها حياة بعد خمود، وفي شعره تلين الألفاظ مطواعة في يده إلى درجة انه يستطيع ان يصوغ منها ما يشاء من المعاني بلا تكلف أو نحت، وتتحرك الصور وتتلون فيمتلكك ويطرحك لقراءات متكررة تكتشف في كل قراءة عمقاً جديداً ولذة مستمرة، بينما تتهافت قصائد كثير من شعرائنا الحداثيين بعد القراءة الأولى.

 

وفي شعره يتضح الصدق الفني، انه لا يغشك ولا يضبب درب قراءتك أو يبدل حواسك فتسمع بعينك وترى بأذنك، بل يتركك تسمع  متأملا انسياب شعره العفوي المرتفع بنفسه دون بهرجات أو تضليلات كما نشاهد ذلك عند الكثيرين الذين جعلوا من قصائدهم (تغريباً) صرفاً يصل إلى حد الهلوسة واستحلاب المعاني الناضبة من الألفاظ الصم، قد يخلبونك ويغلبونك ويجرون اعترافك عنوة، ولكنك حين تراجع شعرهم تتراجع، وتسقط هيبة ذلك الكلام ويتحول الإبداع بعد ان سقط خداعه إلى مجرد كلام.

ويبقى السماوي سماوياً بقيمه، ويبقى شعره سامياً بفنه، وحتما لا تلم عجالة كهذي به أو تدعي احتواءه، فذلك يتطلب تفرغاً ودراسة مستفيضة. وحسبنا أننا نوهنا بنقاط مضيئة في شخصه وفنه وما أكثر اضاءاته وأضواءه.. سلم يحيى السماوي شاعراً ومواطناً في الغربة لأنه حمل معه الوطن صليباً دامياً.. ودام العراق وطناً بارا بأبنائه وموجباً بره على أبنائه حيث كانوا.

 

باحث وناقد                           

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1266 الخميس 24/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم