تكريمات

نزع الأقنعة .. إلى يحيى السماوي

ومع انني كنت مستغرقا ًبأمر ملاقاة خالد سماوة، والتعرف عليه، على نحو يطفيء احتقان مشاعري وصخبها، إلا أن صورة الكلاب اللاهثة المنتظرة في مواجهة دكاكين الجّزارين؛ ظلت تغزوا مخيلتي حتى بعد أن اتخذت مكاني على الأريكة المقابلة له عند وصولي إلى المقهى .

شاهدت انحناءة جذعه القاسية المنصرفة الى مراقبة أكف لاعبي الدومينو، وأنا أحاول الاطمئنان على نظافة مكان قدح الشاي الذي وضعه النادل أمامي . كان هذا يوما ً مختلفا ً، إذ قَدِمتُ وفي جعبتي رغبة عارمة لإقتحام عالم خالد سماوة، وافتضاض غلالة صمته ؛ التي أثارت انتباهي، وألهبت فضولي، وراكمت الأسئلة في نفسي على مدى شهور طويلة .

أحدثت صوتا ً ناعما ً بملعقة الشاي، فالتفت ومكنني من رؤية صفحة وجهه، همس محييا ً ومعتذرا ً لأنه يوليني ظهره قائلا ً :

إن مراقبة لعبة الدومينو صارت مرضا ً لا شفاء منه بالنسبة لي، غير أنني طمأنته هامسا ً : لا تثريب عليك، فأنا أقدّر ذلك . وبما انني كنت أرغب في استبقائه وإغرائه . باطالة الحديث، أضفت متعمدا ً اصطناع لهجة ودود مترفقة : كلما أتيت الى المقهى أجدك تعكف على مراقبة اللاعبين ولاتشارك في اللعب ؟

تخلى عن وضعه المنحرف، فأعتدل وأصبح في مواجهتي، وطلب من النادل أن يقترب متشاغلا ً يدس يده في جيب سترته . أخرج نقودا ً، وطلب شايا ً له باسطا ً يده بالنقود، فشكرته، واقترحت مخيلتي مخططا ً سريا يهدف ًُ الى استبقائه في دائرة مقاصدي، ثم عاجلته بسؤال، اجتهدت في أن لا يبدو مقحما ً :

-  هل أنت متقاعد الآن؟

أجاب : نعم، منذ قرابة أربعة أعوام، حين بلغت ُ سن التقاعد .

- وأين كنت تعمل ؟ انني لم أرك في تكريت من قبل، وقد شغلني كثيرا ً جلوسك منفردا ً صامتا ً تكتفي بمراقبة لاعبي الدومينو .

- صحيح لأنني كنت أعمل في مدينة السماوة .

- السماوة في الجنوب !

- أجل ومنذ ستينيات القرن المنصرم . هناك كان عالمي، وذكرياتي ورفقتي .

- لذلك يسمونك خالد سماوة !

أطلق ابتسامة مقتصدة، ورشف قليلا من الشاي . وأخرج علبة سكائره فقدم لي واحدة، وأشعل له أخرى، ثم نظر في عيني وزفر قائلا ً : ها قد عدت أخيرا ً كما تفعل اللقالق !

- ولكنك عشت هناك زمنا ً طويلا ً، لا بد أن أبناءك ولدوا وكبروا في السماوة .

قال : وتزوجوا أيضا ً

- هل اضطررت الى مغادرتها ؟

- نعم، ولكن ليس على النحو الذي يدور في خلدك الآن . إذ أنني عقدت العزم على الرحيل، وعرف بذلك القوم، فأنكروا علي ّ ذلك، وفعلوا كل ما في وسعهم لإيقاف ما نويته . لكن الأمر بالنسبة لي صار يشبه وسواسا ً كابوسيا ً لم أستطع تخطي أثره الذي بات يتفاقم في داخلي، وأخيرا ً عدت مع عائلتي بعد استشراء حوادث التهجير في البلاد كلها، ولم يتبق لي هناك سوى ابنتي المتزوجة منذ خمسة عشر عاما ً.

-  لقد نالتك يد التهجير إذن !

- أجل وأوشكت أن تنالني يد الموت .

جالت نواظري في فضاء المقهى، عابرة صور مرشحي الأحزاب الملصقة على الجدران، وهامات الزبائن الهاطلة على أكفهم اللاهية بقطع الدومينو، وخيّل الى أن كلمة موت لاتعدم سبيلا ً لإجتياز حاجز الضوضاء والانكشاف لمن يريد السماع أو لا يريده .

همس متأنيا ً : كيف ؟

رشف مزيدا ً من الشاي، وأمتص عقب سيكارته، ثم نفث زفيرا ًداخنا، وتهيأ لي انني أرى وجهه أول مرة . بدا وجها ً نحيفا ً مجّعدا ً لا يخلو من وسامة غابرة يجول في عينيه الصفراوين الصافيتين بريق يوشك على الأنبثاق في عتمة المكان .

غمغم بما لم أسمعه، ثم أدنى وجهه، ونقر بسبابة يده اليسرى على حافة المنضدة، ويده اليمنى ما تزال تمسك بقدح الشاي الناضب . قال :

كنت قد بعثت زوجتي وأولادي وأسرهم الى تكريت، فتدبروا أمرهم وأستأجروا منزلا ً بمساعدة الأقارب، في حين بقيت في السماوة لإتمام بعض الأعمال الضرورية، ومنها بيع البيت وابراء الذمة وتوديع ابنتي والأصدقاء والجيران في المدينة التي عشت فيها أجمل أيام حياتي . بعد اسبوع واحد حملت حقيبة سفري دامع العين وانطلقت قادما ً الى بغداد . من هناك انضممت الى أربعة مسافرين في سيارة صغيرة، لكننا لم نكد نغادر بغداد حتى أُسرنا من قبل جماعة مسلحة، تتألف من أربعة رجال، يضعون الأقنعة على وجوههم، عصبوا أعيننا، وكبلوا ايدينا،

وأخذونا إلى حجرة صغيرة في مكان ريفي، جعلوا يطرحون علينا أسئلة غريبة ... وأخيرا ً حكم علينا بالموت ؛ وكان قائد الجماعة متوعكا ً فأمر بأن يُتحفظ علينا حتى صباح الغد . إما السجانون فكانوا قساة أذاقونا ألوانا ً من التعذيب المذل ليس في نيتي صك مسامعك بخبره . في الصباح أنبأونا بأننا سوف ننحر كالخراف عند حضور قائدهم . ولم نزل في كرب ورعب حتى سمعنا جلبة في الخارج، فعلمنا أن القائد قد حضر، وأن منيتنا دانية لا محالة. بعد دقائق قليلة دخل الرجل، وجثا أمامنا صامتا ً مغموما ً مدّة ً ليست بالقصيرة، وفجأة أنفذ أمره الى رجاله آمرا ً إياهم بأن ينزعوا أربطة أعيننا وأيدينا، ويقدموا لنا الطعام والشراب، ففعلوا كل ما أمر به، وهو ينظر الينا منكسرا ً، ويبكي .

قلت: يبكي !

قال : بكاءا ً حارا ً بحرقة ونشيج، طالبا ً منـّا العفو والمغفرة والدعاء له، إذ خاطبنا متوسلا ً، إدعوا الله أن يغفر لي .... اللهم إنني لست من كان بالأمس!

استأذنت خالد سماوة بالتريث قليلا ً، ريثما أطلب قدحين جديدين من الشاي، إذ لاحظت إزدياد عتمة المقهى بعد حلول الغروب، وغياب التيار الكهربائي، وتناقص عدد الزبائن، فخشيت أن يعجلوا بحثنا على المغادرة .

ما أن حضر الشاي وتعاطينا رشفات سريعة منه حتى قلت له : وبعد .

فأجاب قائلا ً:

ثم روى قائد الجماعة لنا ولرفاقه هذه القصة  قال : حين عدت بالأمس الى بيتي، كنت متعبا ً جدا ً فعّجلتُ في الإيواء الى الفراش، وما أن أستلقيت، وجعلت أطياف النوم تغالب أجفاني، وثقلت تهويمتي حتى دوّى في مخيلتي مواء قطة، تذكرت أنها كانت قد لحقت بي حين دخلت المنزل، وجرت خلفي من الباب عبر الحديقة حتى أوصدت باب المطبخ . وأن شيئا ً ما وقع في روعي – وقتها – وخطف لمحا ً : هل هذه القطة جائعة ؟ لكنني لم أتوقف أو ألتفت .

في الفراش نشب صراع حاد بين رغبتي في النوم وصوت المواء الذي بات يحاصر مشاعري ويلهبها . تقلبت طويلا ً وأدنيت موضوعات أخرى من دائرة الوعي المقلق من دون جدوى، إذ بقيت أسير ذلك التناوب العجيب بين الرغبة في النوم وصوت المواء . صار موضوع جوع القطة يقض مضجعي ثم انقدح نور غامر في قلبي، فجعلت أرى بألف عين جميع الكائنات، وهي تفغر أفواهها طلبا ً للطعام والشراب . البشر والحيوانات والنباتات والجمادات، كانت كلها تسير في طوابير طويلة قاصدة نقطة ما في أفق بعيد .

أخيرا ً حلـّت اليقظة في قلبي، فرفست الأغطية الثقيلة، ونهضت ثم هُرعت الى باب المطبخ، فتحته فأبصرت عجبا ً، كانت الريح تعول والرعود تتفجر والأشجار تنشج بحفيف ٍ جنوني . ومن بين كل ذلك الضجيج سمعت عواء كلاب مسعورة يتموج في مساحة الضوضاء المنعقدة في سواد المكان . في لحظة الرعب تلك عزمت على التراجع والعودة الى الفراش، فمّس قدمي جسم بالغ النعومة، حين نظرت الى تحت، رأيت القطة الجائعة  أكنت في يقظة حقا ً حين سمعت صوتها وهي تقول لي بنبرة خافتة : لا تقلق، لا تقلق !؟ فضج النداء في دمي، وتراجعت مدحورا ً مفسحا ً لها مكانا ً للدخول الى المطبخ، جلست قبالتها حيث وقفت تنظر اليّ، وجهها أبيض صاف ٍ تعلوه ابتسامة آدمية عريضة . وعيناها مصوبتان الي ّ تنظران برقة وحنو غامرين .

تراجعت قليلا ً وفتحت الثلاجة . أخرجت صحن لبن خاثر وقطعة خبز بحجم الكف، رحت أقطع الخبز قطعا ً صغيرة وأغمسها في صحن اللبن . بيد اني حين أدنيته منها، إرتجفت يدي وتضاعف إرتجافها فلم أقو على ايصال الصحن الى الأرض، فمدّت القطة يدها وتناولت الصحن ووضعته أمامها . رأيت اليها وهي تلعق اللبن بشهية وتلذذ عجيبين، ثم طفقت تقضم الخبز قطعة قطعة، ما أن أتمت ذلك حتى رفعت يدا ً بيضاء، وقالت بصوت والدتي الراحلة منذ بضعة أعوام : ها أنت ذا تستطيع فعل ذلك يا بني ! فتهاويت على الأرض من دون أن أقوى على التحكم بأعضاء جسدي . وكان باب المطبخ ما زال مشرعا ً يطل على الخارج ؛ فأتيح لي أن أرى السكون وهو يعم المكان، فلا عواصفَ ولا رعودَ ولا ضجيجَ ولا كلابَ نابحة .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1269 الاحد 27/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم