تكريمات

يحيى السماوي في عيني الثالثة .. فتى الشعر الذي لايشيخ

ليكن الإحتفاء بالسماوي ليس لأنه يودع التاسعة والخمسين من عمره، بل لأنه يجني مازرعه من إبداع وحب في خلجات محبيه وهو مازال في عز الشباب، ذلك لأن العظماء لاتقاس أعمارهم بالسنوات بل بالأفعال والعطاءات المتميزة التي ترمم الجسد الإنساني بالعشق المدمى برحاب الحياة وأسرار ديمومتها .

كثر من كتب عن منجز الكبير الفتى السماوي الموجع بأسى الوطن، وغربة الروح، وفقدان الأحبة، منهم من  تناوله نقدا وعرضا وبحثا دراسيا حبا وتأثرا وإيمانا بشعره الذي يبلل المشاعر ويناغم القلوب ويعطر المسامع، وجميعهم أجادوا وفي مقدمتهم أستاذنا الكبير الناقد حسين سربك حسن، عند ذاك وجدت نفسي في حيرة من أمري، ماذا اكتب عن ناسج الشعرمن حزنه النبيل وغربته وصبره بأعذب الأنغام وأبلغ القوافي وأعذبها؟ ماذا اكتب عن فارس أسرج الشعر زاد حرمانه من لمسة جرغد الوالدة رحمها الله، وماء ظمأه من تراب الوطن؟ ماذا أكتب عن عاشق خبرته المنافي بكواسرها فحطمها شعرا؟ وماذا أسميه؟ أي تسمية تليق بقامة شعر لاتضاهى؟ ماذا اسميه؟ وأي تسمية تنصف حقه؟ ماذا أسميه؟ وقد وصفوه بالمحيط الصاخب، وعملاق الجنوب، وإمبراطور الشعر،

يااااااه أي حيرة تلفني؟ وأي حرج يحتويني؟ وأي ضعف يضعني أمام هذا التأريخ الإبداعي الشامخ؟ لكن لابد لي أن أشارك كي أنال شرف الكلمة في حق سماوي المحبة .

هل أكتب عنه نقدا أدبيا؟ وهل بإستطاعتي أكتب النقد؟ وعن أي من ست عشرة مجموعة شعرية منحها السماوي أجمل سنوات عمره المهاجرة ودموعه وأحزانه الجليلة؟ عن أي منها أكتب؟ عن ( شاهد قبر من رخام الكلمات ) مثلا؟ ياويلي،

 

وهل أجرأ لاقول شيئا عن (شاهد قبر)؟ وهي تختصر حجم اللغة وجماليتها، وسماء شعريتها المعبأة بالصور المكثفة التي تمطر ألما وبلاغة ورثاء وموسيقى وهي نثر؟ كيف لا؟ والسماوي يرتل النواح هكذا،،،

قبل فراقها

كنت حيا

محكوما بالموت

بعد فراقها

صرت ميتا

محكوما بالحياة

ياالله أي وجع هذا وأي رثاء وأي وصف سماوي؟ أيها السماوي العظيم

ثم يقول،، مخاطبا المرحومة والدته

لماذا رحلت

قبل أن

تلديني ياأمي

أدريك تحبين الله

ولكن

أما من سلالم

غير الموت

للصعود الى الملكوت ..

هل رايتم أي حرج وقعت أنا فيه وأي حيرة؟ لأني عاجزأن أصف بلاغة مبحرفي جوف اللغة؟ وبراعة شهادة السماوي المضمخة بنواح الرثاء؟

وهو يقول ..

كيف أغفو؟

سواد الليل

يذكرني بعبائتها

وبياض النهار

يذكرني

بالكفن

ياللحياة من تابوت مفتوح

أشعر أحيانا

 

أن الحي

ميت يتنفس

والميت حي

لايتنفس ..

 

يالقدرتك سيدي على رص هذه الصور البليغة لتجعلها تعصر دمعا وحلاوة سدى ولحمة

يثم يعترف كبيرنا، انظروا اعترافه بمرارة بالغة فيقول،،

 

آخر أمنياتها

أن أكون

من يغمض أجفان قبرها

آخر أمنياتي

أن تغمض بيديها أجفاني

كلانا فشل

في تحقيق أمنية

متواضعة

 

ماهذا المزيج الشعري الذي ينزف اعترافات بطعم العلقم وحرمان وفشل وكبرياء وبقاء على حد سواء، فصار برحيلها (جثة) وصف دقيق لبؤس العظماء وتحديدا الشعراء حيث لاتتحقق أمانيهم برغم تواضعها وبساطتها وإنسانيتها .

هل رايتم كيف لاقدرة لي على تناول عرض ولو متواضع ل (شاهد قبر)؟

لكن وصلت الى ان اختلف وبكل تواضع بالرأي مع استاذي الكبير حسين سربك عندما قال في متناول عرضه عن (شاهد قبر) (قصيدة النثر لاتصلح للرثاء بسبب فقدانها للإيقاعية المطلوبة لنواح النفس البشرية الحزين) رغم انه استدرك  بالقول (لكن لاشيء مستحيل ولنقل عسيرا على الشاعر الكبير المقتدر كسر يحيى هذه القاعدة). لأني أأمن أن قصيدة النثر تصلح للرثاء بنفس المستوى الذي عليه قصيدة العامود لأنها تتوفر على مايسمى بالإيقاع الداخلي وهناك أمثلة كثيرة بدءا من اليوت وبودليروالشاعر الراحل رعد عبد القادر وكاظم الحجاج والراحل الكبير كزار حنتوش ومثلنا الحي القاطع الرائع يحيى السماوي وهو يرتل (شاهد قبر)

 

 

 

كذلك صديقنا الشاعر المبدع جدا جواد الحطاب، وبطيبعة الحال اذا كانت قصيدة النثر النائحة بمستوى (شاهد قبر) من الرثاء ستكون صالحة للرثاء وهذا ايضا ينطبق على قصيدة العامود الرثائية في حالة اذا لم تكن بالمستوى المطلوب فهي لاتصلح للرثاء  اذا كنا قد سلمنا بهذه القاعدة،  وربما لم يشهد شعر العامود الحديث رثاء بمستوى (شاهد قبر) .

على اية حال لم أكن أنوي الإطالة في كتابة هذه المشاركة ولكن سحر الفضاء الذي يتربع على عرشه السماوي يجرجرني نحوه لأسهب من حيث لاأد ري، ولكن مازالت حيرتي ترافقني أمام بهاء وعطاء (شاهد قبر) لذلك حاولت ان أتناول (أذلني حبي) وإذا بي أمام رائعة أخرى من روائع السماوي العذب من شعر التفعيلة حيث البناء الدراماتيكي والشكل الجسدي في رسم الصور المكثفة بالبوح والموسيقى والمعاني  المركبة في خلق جسد القصيدة المترامي على أطراف البلاد، وحسرته على شعبه المغلوب ومطاردته من ويلات لاينساها بلوعة المحبة وصبر الشاعر المطارد الذي لاتعصيه القوافي ... فيقول

أذلني حبي

وجرحي الممتد من جدائل النخل

الى أرغفة الشعب

أذلني حبي

طوقت في حرائق الشرق

وفي حرائق الغرب

مطاردا

وليس من صخب ..

والله لم اكن أقصد أن اكون باحثا أو ناقدا أو محللا في شعر السماوي الكبير ليس لانه أفضل ماكتب في الشعر الحديث، ولكن قصدت ان اتناول خصلة من خصال السماوي الانسان الجميلة والفريدة اللافتة للنظر واظن لم يتناولها أحدا قبلي خلال المقالات التي كتبت عنه، لذلك أردت لمحاولتي هذه أن تتسم بالتميز وسوف اخبركم بها في نهاية هذه المشاركة المتواضعة . ولكن اسمحوا لي أذكركم بقصيدته الرائعة التي نشرت على صفحات النور (ياناسجا كفني بمغزل غدره) التي تبدء بمطلع،،

لوكنت أدري مارويت غليلا

من كأس غدرك وانتهيت قتيلا

 

وتنتهي بمطلع ايضا،،

وبسوطك الوحش هدب ربابة

وبرعد موسمك الكذوب هديلا

أود ان اقول ان الشاعر الكبير السماوي الدافيء قد أضاف في هذه القصيدة المطلعية الى شعر العامود تكثيفا صوريا حداثويا شكلا وموضوعا وإيقاعا وهذا مايفتقر له شعراء العامود في العصر الحديث وماسبقه، وهكذا تكون عملية الخلق الابداعي المؤثر في النفس البشرية والذائقة لدى المتلقي كيفما كان لدى السماوي هي عبارة عن مهمة ابداعية ورسالة إنسانية حرص على أمانتها والحفاظ عليها في إيصالها الى المتلقي، وهذا مانلاحظه في التجدد المستمر الذي يتميز به ومايثبت ذلك قصائده الأخيرة، إذن أي تاسعة وخمسين يودعها السماوي؟ لذلك أنا مازلت أصر عليه بانه ( فتى الشعر )

أنظروا من قصائده الاخيرة وهي

(أوصيك بي شرا إذا خنت الهوى) الله الله ياسماوي

ويقول فيها،،

وسعيت لي مابين مروة والصفا

سيفا وزرت عن القتيل نبيا

معذورة إن تقتلي متأبدا

في الغربتين عن العراق شقيا

وهنا يؤكد سماوي الشعر تشبثه في وطنه مهما أبعدته عنه السنين والمسافات وبرغم ماأصابه من إحباط، هذا الإحباط الذي جسده في قصيدته الرائعة (إحباط) الذي جاء فيها،،

زرته كي

ألقي النظرة الأخيرة عليه

قبل دفنه

في المقبرة الطائفية

دخلته

وأنا منتصب القامة

مثل علامة التعجب

تجولت فيه

وأنا منحني الظهر

 

مثل علامة الإستفهام

فغادرته

وأنا ضئيل

مثل علامة الفارزة ..

وهنا يؤكد الشاعر مدى الإحباط  المخضب بالحزن الذي سقط عليه مرة واحدة سعقت به عند زيارته الاخيرة الى الوطن، حيث رآه كيف يذبح بسكاكين ابنائه تحت التسميات المختلفة وعلى رأسها الطائفية، فجاءت ترنيمة الإحباط هذه مثل أرملة تندب حظها في خريف العمرعزفها السماوي بوجع روحه وخياله الخصب الذي ذهب به هذه المرة الى العلامات اللغوية التي جعلها تنطق شعرا، وهذا يعني أن السماوي في خياله الخصب هذا لاتحده آفاق اللغة، لانه يحاول إستنطاق الحيثيات والمستجدات وكل الاشياء المحيطة به حيث يسعى الى تأسيس منجز إبداعي متميز تفتخر به المكتبة الادبية والابداعية العربية والعالمية على حد سواء وهذا ماحصل فعلا، فطوبى للشعر بفتاه وطوبى لنا بسماوي العراق .

بعد هذا المرور السريع على ذرة مما اجاد به السماوي (الحبيب، بتسكين الياء) أود ان أسجل خصلتين مهمتين من خصال السماوي وربما هما جوهر مشاركتي في ملف الإحتفاء به، اولهما من خلال متابعتي الى مايضطلع به مركز النور من نشر الكتابات الابداعية لشعراء وكتاب العراق والعرب ومن ضمنهم السماوي وماترافق هذه المنشورات من تعليقات بين الكتاب على منجزاتهم الابداعية بما تتضمن من إطراء ونقد وتحايا، كان شاعرنا الكبير السماوي طبعا يحصد أعلى القراءات لما ينشر له من قصائد، ويحصل على أكثر التعليقات من محبيه، الذي لفت إنتباهي هو أن السماوي يحرص كل الحرص بالرد على هذه التعليقات بمحبة وشفافية، وسعة صدر، أكثر من المعلقين أنفسهم وأنا شخصيا كنت أقف أمام مايرد به عليهم بدهشة وإعجاب حيث من المؤكد ان هذه الردود تأخذ منه وقتا طويلا وجهدا كبيرا لأنه يرد علي الصغير قبل الكبير دون ملل أو كلل، وهذا إن يدل على شيء فهو يدل على تواضعه البالغ ومحبته للجميع وحرصه على التواصل معهم، وإنسانيته الشاعرة ، وهذا الأمر طالما شغلني لانه فوق العادة حيث أن مايقوم به من فعل ابداعي وأخلاقي وإجتماعي  نادر جدا لااظن هناك من يمارسه  من هو بعمره، لذلك انا اصر ابدا على انه فتى الشعر وفارسه.

أما بالنسبة للخصلة الثانية فهي شبيهة بسابقتها بإنسانيتها وإجتماعيتها وحميمبتها وهي ان السماوي لايغفل او يتجاهل كل من يكتب عنه أو يهدي له قصيدة شعر مثلا، فسرعان  مايرد بالمثل اذا لم يكن افضل وهناك أمثلة كثيرة مثل قصيدته التي أهداها الى المبدع عبد الستار نور وهي (قلبي كصحراء السماوة صبره) ردا على قصيدة أهداها له صديقنا عبد الستار ونفس الشيء فعله مع الأديب سردار محمد سعيد والشاعر قاسم والي والفنان سعدي عبد الكريم وغيرهم من المبدعين

وهذا يعني ان الشاعر الكبير يحيى السماوي يتميز بصفة إجتماعية خلاقة قل نظيرها ويعبر بشكل حيوي على ضرورة  التحلي بهذه المعاني السامية الرفيعة حتى يستطيع أن  يتجانس مع المحيط الذي يستلهم منه ابداعه وعطائه، ويؤكد على ان الشاعر بلا خلق لايمكن ان يكون شاعرا مبدعا تقرأ له الأجيال على مر العصور، ربما هناك من يتخيل هذا الطرح لاجدوى منه وهو من بديهيات الأمور، وأنا أأكد هنا انه من ضروريات الاموروعلينا أن نتناول بالذكر من يتميز بهذه الاخلاق الرفيعة والانسانية العالية لأنها سر نجاح الشاعر وبعكسها لن يصبح الشاعر شاعرا، لان هناك الكثير من شعرائنا من الذين يفتقرون لهذه الخصال الرفيعة وللأسف ..

 

وهنا

أحي أخي وأستاذي وأبي الشاعر الفتى الكبير يحيى السماوي بمناسبة يوبيل فتوته الشامخة بالشعر والبهاء والبقاء وكل سنة وهو فتى شعرنا الأول .

 

...........................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تكريم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم