تجديد وتنوير

التتريث والتجديد.. أسئلة إستفزازية

ali almirhigمُلأت الساحة الفلسفية والثقافية العربية والإسلامية المُعاصرة بآراء ومشاريع وأطروحات حول مُشكل التجديد أو التحديث، بدأت مع داعية "تجديد الفكر العربي" الذي جعل من التراث بعد عودة بإستحياء لإحيائه، ليجعل منه طريقة لتبرير رؤى النزعات العلمية والوضعية المُعاصرة، وليكون نطاقاً بإسمها وممثلاً أصيلاً لها، حيث لم يعي دعاة "العلمنة" و "الوضعية المنطقية" أسبقيتنا الفكرية في تبني النزعة العلمية والنهج المنطقي في تراثنا العربي والإسلامي.

وهناك من جعل من جدلية "التراث والتجديد" وصفة سحرية لصهر الأسلمة مع رؤى اليسار الماركسي، وآخر وضع لنا رؤية أخرى تستفز الماضي من خلال البحث في أشكالية العلاقة بينه وبين الحداثة، هي إشكالية "التراث والحداثة" تنهل من البنيوية ومناهج الأبستيمولوجيا المُعاصرة حلاً لمشكل الصراع بين دُعاة "التتريث" ودعاة "الحداثة"، وقد وجد بعض منهم أن الحل هو في إيجاد "مشروع رؤية جديدة للتراث" تستلهم الرؤى الماركسية وتوظيف التراث العربي لجعله صالحاً للإنتقال لمرحلة الثورة وفق الرؤية الماركسية وتجاوز االبناء الفوقي والطبقي الذي أوجدته الرأسمالية المُهيمنة على قوى الإنتاج. وهو ذات الرأي الذي ذهب إليه صاحب "النزعات المادية" في النظر لكل الحركات الإنفصالية والمعارضة للسلطة الإسلامية في المرحلتين: العباسية والأموية، بوصفها حركات ذات نزوع تصحيحي وإصلاحي.

بعض المفكرين وجد أن حل مشكل التجديد يكمن في تحديث "أصول الحوار وتجديد علم الكلام"، وترك نغمة التماهي مع الغرب في الدعوة للعقلانية، وهو رغم إختلاف التوجه المذهبي بينه وبين صاحب كتاب "فلسفتنا"، إلَا أنهما يتفقان على أن في النص القرآني ونتاج العقل الكلامي الإسلامي ما يُغنينا عن الهيام في العقل الغربي بنزوعه الرأسمالي أو الإشتراكي.

وفي الفكر الإسلامي المعاصر هناك بعض المفكرين قد وجدوا في التوجه نحو التصوف والعرفان حلاً لمشكل "التجديد" وتصحيح الوعي الذاتي وعلاقته مع الآخر، لأن في التصوف والعرفان قبول لتنوعات الفكر وتشكلات وعي الإنسان، لأن هناك "صراطات مُستقيمة" لا صراط واحد للحقيقة، وهذا من مُقتضيات "العقلانية المعنوية" و "التدين العقلاني" الذي يحترم "التعددية الدينية" ويضمن لها حق التعايش والوجود.

ولكننا نبقى نطرح التساؤلات، ونحار في حل المشكلات في خضم هذه الصراعات والمُماحكات الفكرية، 

ـ هل نُريد تجديد الخطاب الديني من خلال النقد؟ وأي نقد نبغي؟ هل هو نقد للدين من داخله ومن موقع الإيمان، أم هو نقد له من خارجه ومن موقع الرفض؟. وهل نقد الدين والفكر الديني من مُنطلق الإيمان كما يرى شبستري هو ضد الدين؟ كما يعتقد السلفيون والراديكاليون الذين تعاملوا مع الدين وكأنه خارج إطار التعقل والإختيار الواعي.  

ـ هل التجديد الذي نروم هو في وعي التدين ببعده السلفي؟ كما رغب بوجوده أحمد بن حنبل وابن قيم الجوزية ومن تبعهم في ماضينا وفي حاضرنا.

أم هو تجديد لوعينا الأصولي بمقولات الأشاعرة والمعتزلة والخلاف حول صفات الله والعدل والتوحيد والحرية. أم هو تجاوز لهذه المباحث وإنشغالات أصحابها بحل مشكل تصوراتنا عن الذات الإلهية والبحث عن رؤى جديدة ومباحث لم تكن من ضمن إهتمامات رجالات علم الكلام التقليدي، وفتح آفاقه لمباحث همها الأكبر الإنسان وعالمه، بمعنى آخر تجاوز المبحث اللاهوتي  وإيجاد منطقة حفر جديدة تهتم بما هو ناسوتي، كما هو الحال في علم الكلام الجديد.

ـ هل يعني التجديد دعوة للأمة لوعي الإمامة إن كانت بالشورى أم هي بالنص والتعيين الإلهي؟.وهل في حال الكشف عن طبيعة هذه العلاقة نستطيع تجاوز عقدة بناء تاريخ الدولة الإسلامية السياسي وفق قاعدة الدمج بين "الدين" و "الدولة" وفق وعي مغزى الآية الكريمة "لا حُكم إلَا لله" بأن الخلافة أو الإمامة تعني أن يكون رجل السلطة هو الممثل الحقيقي لسلطة الله على الأرض، لا ممثلاً حقيقياً لسلطة الشعب، لأن الحكم إما أن يكون وفق نظام "البيعة" والإستيلاء على السلطة وفق منطق القوة السائد آنذاك، أي "الشوكة والعزيمة" أو أن يكون وفق مبدأ النص والتعيين الإلهي للحاكم، وفي كلا الأمرين فإن رأي الجماهير غائب ومسكوت عنه، فلا مجال للتفريق بين الدين والسياسة أو الدين والدولة، فالحُكم كما يقول الخليفة الراشدي الثالث "قميص قمصنياه الله" وهو من له الحق بنزعه، ولا دور للمجتمع في تنصيب الحاكم، فغاب بذلك قول "لو رأينا فيك إعوجاجاً لقومناه بسيوفنا" التي قالتها الجماهير للخليفة الراشدي الثاني.

ـ مالذي نحتاجه من تجديد التراث إذن؟ هل ما نحتاج إليه هو تجديد وعينا الفقهي؟ وإن كان ذلك كذلك، فما الذي نُجدده فيه؟ هل هو تاريخ الفقه السُني أم الشيعي؟، فإن كنا نبغي تجديداً للفقه السُني، فلا بُد لنا من تجديد الولاء لمن تمكن من الحُكم بالشوكة والعزيمة من تأييده، وإن كُنَا نُريد تأييد الفقه الشيعي، فينبغي لنا القبول بمقولة النص والتعيين الإلهي للإمام، وعلى المسلمين القبول بها والسير وفقاً لها والتماهي مع مفهوم "الرجعة" والرضى بإمامة الأئمة الإثني عشر وإنتظار ظهور الإمام الغائب "المهدي" ليملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلأت جورا.

هل التجديد الذي نبغي هو لوعي الذات وإختبار مدى فاعليتها وأثرها، إن كنا نتصور أن هناك ذات إسلامية واحدة؟ أو ذات عربية واحدة، أم هو وعي نقدي للذات بكل تمظهراتها وعلاقتها مع الآخربكل تشكلاته، الإيجابية والسلبية ومحاولة إعادة إنتاج هذه العلاقة بما يحفظ للذات ـ رغم تشظيها وتلاشي كثير من ملامح تصورنا المُسَبق عنها، إن كانت ذات إسلامية أو ذات عربية ـ حضورها وفاعليتها ونقد مواطن ضعفها وتخلفها، والكشف عن بواطن أدبيات تراث هذه الذات في العزل والإقصاء للآخر المُختلف وتعريتها وفضحها، والسعي للكشف عن العلاقة الإيجابية بهذا الآخر في تراثنا الآخر المُغيب أو الذي لم يكن له فعل الحضور في واقعنا المُعاصر.

ـ وربما يكون التجديد عندنا هو بوعي خراب الأنفس على قاعدة "أن الله لايُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم". وإن أدركنا أن خراب العمران أهون من خراب الأنفس، وعملنا على تقويم الخُلق وتهذيب النفس عبر الإهتمام بالتربية والتعليم وتخطي عتبة التربية الأبوية وترك التعليم التلقيني الذي يصنع متلق سلبي ومرسل إيجابي لا بد أن يُتَبع، وحينما نُدرك أن سُبل التربية والتعليم لا تكمن في التلقين، إنما هي كامنة وظاهرة في نجاح المجتمعات الحديثة في تجديد طُرق التعليم وإدراكها أن وعي الأبناء يختلف عن وعي الآباء لأن الأبناء  بعبارة الإمام علي "خُلقوا لزمان غير زمان (الآباء)"، فحينما نستوعب هذا القول نستطيع إعادة بناء الأنفس وفق شروط الزمن وتحولاته المعرفية التي تقتضي تنمية الوعي العقلي طبقاً لنمط المعرفة التي يقتضيها العصر، فعصرنا اليوم عصر المُشاركة في الوعي والتلقي المعرفي، فالطالب شريك في تنمية وعي المعلم بنفس القدر الذي يكون فيه المعلم مشارك في تنمية وعي الطالب، فالمعرفة اليوم معرفة تواصلية إتصالية، لا تقتضي وجود مُرسل إيجابي هو المُعلم ومتلق سلبي هو الطالب، إنما تقتضي الحوار والتواصل لإنتاج وعي جديد فيه كثير من القلب والمُغايرة لمسار التعليم والتربية التقليدي الذي درجنا عليه بجعل المعلم وكأنه سلطة معرفية لا يأتيها الباطل لا من أمامه ولا من خلفه.

ـ وربما كان التجديد الذي نرغب به مرتبط بإستيعاب علاقة الذات بالآخر، ومن هو الآخر؟  هل هو المُختلف عني مذهبياً ؟ أم أنه هو المُختلف عني أيديولوجياً، وإن كُنا نحن من مجتمع متطابق في السًكنى وبطبيعة المعيشة.

ـ وقد يكون هذا الآخر هو الخارج عني في نمط العيش والمُغاير ليَ في وعي الزمن: فالماضي عندي يُعيد بناء الحاضر، والماضي عنده مخزون الحاضر، ولا حضوة للماضي عنده ولا حضور وتأثير إلَا حينما يكون هذا الماضي في خدمة الحاضر ومخزونه الذي يستمد منه بقدر الفائدة بناء المستقبل.

وربما يكون المقصود بتجديد التراث، هو تجديد التراث الفلسفي، حينما يكون الجواب بنعم، فهل هو نبغي تجديد تراث الفاربي وإبن سينا ورؤاهم الفلسفية ببُعدها الصوفي والعرفاني؟ أم أننا نسعى لتجديد رؤى إبن رشد ببُعدها العقلاني البرهاني.

وهناك من يرى بأن تجديد التراث يكمن في وعي أنسنة الفكر الصوفي، ولكن هناك في التصوف طريقان هما:

ـ طُريق السالكين من الصوفية ممن يدعون الكرامات وتدرجهم في المقامات وإدراكهم لسُبل النجاة بالزهد وتزكية النفس عبر تماهيها مع الذات الإلهية عبر الحلول أو الإتحاد بالله وتنزيه الذات بطُرق الصوفية السلوكية مثل: القادرية والشاذلية وإمتداداتها في الكسنزانية والنقشبندية.

ـ طُريق الفلسفة الصوفية أو التصوف الفلسفي: التي بدأها إبن عربي في رؤيته لوحدة الوجود وإبن سبعين الذي تبع ابن عربي في تبنيه لوحدة الوجود فيما سُميَ بالوحدة المُطلقة.

ـ وهناك أشياء وأشياء في كيفية النظر للتجديد وتعدد الطرق والسبل له، ومنها سبيل العلم وإعتماد العلم التجريبي، ومنها سبل علم الكلام التقليدي أو طُرق تجديده، وهناك طرق أخرى منها: فلسفة الدين ومُعطياتها، وأخرى سبل إهمال سؤال التجديد والخلاص من طرحه وتوهيمات أصحابه، لأنها لاتخص سواهم، فالعامل والمهندس والفنان التشكيلي يعمل بكل مُنتاجات الصناعة الغربية، ويُعيد رسم صور التراث وتعشيقها مع مُنتجات الحداثة، ليُنتج لنا أبواباً وشبابيكاً وبيوتاً بطرز عصرية تستمد من التراث طُرزه الجمالية، ولكنه سيعود ربما ليُمارس طقوسه الدينية من دون تنظير وتدليل وتفسير لعمله الفني وفق إطر نظرية وقوالب جامدة يضعها المُنظرون والمُتفلسفة العرب والمسلمون، وربما هو ذات الأمر ينطبق على الإرهابي الذي يستخدم كل نتاج الغرب لتفخيخ وتفجير المُخالفين له في المُعتقد والرؤية من دون حاجة له بكل المُنظرين في عالمنا العربي والإسلامي حول "إشكالية التجديد" و "التراث والحداثة" أو "الأصالة والمُعاصرة".  

 

د. علي المرهج – استاذ فلسفة

 

 

في المثقف اليوم