تجديد وتنوير

سجون الذات ودوغمائية العقل.. قراءة تشخيصية مُستقاة من فكر شريعتي

علي المرهجتعني (دوغمائية العقل) قبول الإنسان بتجميد عقله والاعتماد على إنسان آخر يُفكر عنه بالنيابة، وفق المثل القائل (ذبها بركَبة عالم واطلع منها سالم)، ومثل هكذا شخص يرتضي لنفسه أن يكون مُقاداً في كل أمور حياته، ولا يُعمل عقله لأنه سلمه بيد إنسان آخر يتبعه حذو النعل بالنعل كما يُقال ولا يحيد عن أوامره قيد أنملة، يعني كالأغنام التي تتبع الراعي تسير على خطاه وهديه، بل "أضل سبيلا"!. والعجيب الغريب انه مطمئن على أنه ماسك بلباب الحقيقة وسيجازيه الله الجنة الموعودة وغيره في الدرك الأسفل من النار!.

العقل الدوغمائي عقل وثوقي مُتعصب لا يرى من الحقيقة سوى ما يرغب برؤيته

وضع شريعتي وصفاً لل"العقل المُستقيل" بتعبير محمد عابد الجابري، على أنه يعيش في "قوقعة فكرية" بتعبير الوردي، أو يدور في فلك "الأسيجة الدوغمائية" كما يقول محمد أركون، وهذه تعابير ومفاهيم تعني غياب العقل وتماهييه مع الراكد السائد في الحياة الاجتماعية، أو ما سماه الوردي أيضاً "التنويم الاجتماعي" الذي يجعل الفرد أسيراً لعادات مُجتمعه، وإن كان كثيراً منها لا ينسجم وتحولات العصر، ولا حتى مع الفهم العقلاني للدين.

قسم شريعتي أنواع السجون هذه إلى عدة أنواع، أهمها:

1ـ سجن النفس أو الذات، من أصعب أنواع السجن حينما لا يستخدم الإنسان وعيه الذاتي ليتخلص من سجنه لنفسه واغترابه عن مُجتمعه، ابتعد عن المُشاركة في صُنع الحياة، حياته هو وحياة مجتمعه، ليعيش في وهم التصورات الحالمة كي يجعل من نفسه إنساناً مثالياً، تقترب روحه من التسامي ومن التماثل مع مفهوم "الإنسان الكامل" الذي رغبت بوجوده الديانات السماوية. وهذا مما يختلف به شريعتي عن الوردي، فلا وجود للإنسان الكامل وفق رؤية الوردي في العالم الواقعي، ولا يحتاج الإنسان للتسامي وأن يكون إنساناً مثالياً، بقدر ما يدعو الوردي الإنسان لوعي حركية المُجتمع ومُتغيراته الداخلية والتأثيرات الخارجية كي يستطيع العيش في دنيا الواقع المُتغير هذا، فالحياة تحتاج إلى إنسان من جنسها لا لإنسان يخلق مُجتمعات يوتوبية من فعل المُخيلة، فالحقائق نسبية ومُتغيرة عند بني البشر، لذلك نجد الوردي يهتم بفكر السفسطائية مؤكداً مقولة فيلسوفها الأكبر بروتورغوراس بأن "الإنسان مقياس الأشياء جميعا"، الأمر الذي يترتب عليه الاهتمام بالإنسان وعلاقته بالعالم والمجتمع بمعزل عن الجوانب الغيبية والثيولوجية، ومن ثم الاعتقاد بالحقيقة النسبية والمتغيرة من شخص الى شخص بحسب ما يدركه ذلك الشخص والإنسان مصدر الحقيقة وهذه متغيره بتغير مصالحة ورغباته وشهواته.

2ـ سجن الطبيعة: يشمل سجن الذات هذا سجن الطبيعة وهو أن يجعل الإنسان نفسه عبداً للطبيعة يسير وفق قوانينها، لا يُحاول أن يفك قيودها أو يتخلص من أسرها وهيمنتها عبر خضوعه لمتطلباتها عبر تماهيه مع الغريزة والإنغماس بملذاتها ونسيان ملذات الروح في الـتعقل والأمل.

3ـ سجن التاريخ، ويعني قبول الإنسان في الخضوع لحالة الذل والهوان التي رسمتها قوى الإستبداد والطغيان وسدنتها لسجن الذات داخل أطر اجتماعية مُغلقة أو "أسيجة دوغمائية"، توحي للفرد أنها السبيل الوحيد للخلاص، ألَا وهي سُبل لسجن التاريخ وفق منظور "المتفرنجين" وجعل الإنسان الشرقي رهين الإرادة الغربية، أو سجن التاريخ وفق منظور "المتأسلمين" وسدنة السلطان الذي صيَروا التاريخ، تاريخ تماهي وخضوع لسلطة "خليفة الله" "السلطان".

وكذلك يظهر سجن التاريخ في تقديسنا المستمر للماضي وكأن زمن الإبداع قد توقف عنده، فصرنا أسيرين له ولمقولاته كل حسب توجهه الأيديولوجي أو العقائدي، فاعتقدنا أن لا خلاص لنا من دون العودة له والاحتماء به وتركنا الحاضر وما ينبغي علينا القيام به لنكون فاعلين فيه ومؤثرين، ولم نستطع من جعل الزمنين (الماضي) و(الحاضر) في خدمة الزمن الآتي (المستقبل)، فالدول التي يرنوا أهلها صوب التقدم إنما يتخذون من معطيات الزمنين الماضي والحاضر كمخزون ثقافي وحضاري لخدمة المستقبل، لا العلكس، أي ننظر للمستقبل من خلال نظارة الماضي المجيد وركود الحاضر البليد.

يختلف سجن التاريخ عند شريعتي عن "حتمية التاريخ"، لأنه من المعتقدين بهذه الحتمية وبنهايته بالوصول للمثل الأعلى وتسامي الذات الإنسانية في إرتقائها عبر نزوعها الروحي الكامن في الذات الإنسانية للخلاص وإدراك سُبل النجاة عبر إدراك قيمة المعرفة الدينية.

4ـ سجن المُجتمع: وهو أن يكون الإنسان أسير قيم وتقاليد بالية لا تنسجم والمعرفة الدينية الحقة ولا مع المعرفة العقلانية. هذا النوع من البشر سماه "كارل مانهايم" بـ "المُقيد اجتماعياً" وهم الذين لا يخرجون عن "الأطر الفكرية" أو "الأسيجة الدوغمائية" التي رسمها لهم المجتمع الذي يعيشون فيه، حتى ظنوا بأن كل مُعتقد يُخالف مُعتقدات مُجتمعهم إنما هو مُعتقد باطل، وأصحابه لن يكونوا حتماً ممن أدركوا "سُفن النجاة".

ملاحظة: ما يتعلق برؤى شريعتي استقيناها من كتابيه:

- بناء الذات الثورية وهو الكتاب الذي فصل فيه وجهة نظره هذه، وهو مصدرنا الأساس في كتابة هذا المقال.

- النباهة والاستحمار وهو مرجع استعنا به.

- قراءات أخرى من تاريخ الفكر.

 

ا. د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم