ترجمات أدبية

بورخس يمدحُ الظلمةَ والكتاب

MM80ترجمة لنصيّ الأديب الأرجنتيني

خورخي لويس بورخس

 


 

بورخس يمدحُ الظلمةَ والكتاب /ترجمة: بسّام البزّاز

 

للأديب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخس (بوينُس آيريس 9918- جنيف 1986) قطعتان أدبيتان: واحدة شعرية عنوانها "في الثناء على الظلمة" (1969) والثانية نثرية عنوانها: "في الثناء على الكتاب" (1985). كتبهما وقد أتى العمى على بصره تماما بعد إصابته بمرض وراثي بدأت أعراضه الأولى في عام 1939.

القطعة الشعرية تتحدّث عن أثر الآفة في نفسية الشاعر وعن ذكرياته. بينما لا تتحدث القطعة النثرية، التي كتبها قبل عام واحد من وفاته، إلا عن الكتب وشغف الأديب الكبير بها:

 

في الثناء على الكتاب

هناك من لا يستطيعُ تصوّر عالمٍ من دون طيور. وهناك من لا يقدر على تخيّله من دون ماء. أمّا أنا فلا يمكنني أن أتصوّر عالما من دون كتاب.

لقد عاش الإنسان على مدى التاريخ وهو يحلمُ ويخترعُ أدواتٍ لا عدّ لها ولا حصر. أبدع المفتاح، وهو قطعة معدنية تفسح الطريق للدخول إلى قصر كبير. واخترع السيف والمحراث ليكونا امتدادا لذراع مَن يستعملهما. وابتدعَ الكتاب، وفيه إضافة على رقعة خياله وذاكرته الدنيويّة.

مع (فيدا) الهندوس والإنجيل بدأ الحديث عن مفهوم الكتب المقدسة. والواقع هو أنّ كلّ الكتب مقدسة. في الصفحات الأولى من رواية (دون كيشوت) يذكر (ثيربانتس) إنّه اعتاد التقاط أيّة قطعة ورقية مطبوعة يجدها منبوذة على قارعة الطريق. فكل ورقة كتبت عليها كلمة هي رسالة تبعث بها روح إنسانية إلى روح إنسانية أخرى.

قد يضيع عالمنا الرائع المتقلّب، الآن كما هو دائما، فلن نجد من ينقذه غير الكتب. فالكتب هي خير ما يتمتع به جنسنا البشري من ذاكرة.

يرى (هيجو) أنّ كلّ مكتبة هي عمل من أعمال الإيمان. ويقول (إمرسون) إنّ المكتبة خزانة تحفظ عصارة أفكار النخبة من المفكرين. ويذهب (كارليل) إلى إنّ خير جامعات عصرنا موجودة في حفنة من الكتب. أمّا السكسون والاسكندنافيون فقد بلغت افتتانهم بالحروف أن اطلقوا عليها اسم (runas) وتعني الأسرار أو الهمهمات.

وما زلتُ، على الرغم من سفري المتكرر، ذلك الـ (ألونسو كيخانو) المتواضع الذي لا يبلغ شأو (دون كيشوت) جرأة، فما زلت أغزل حكاياتي القديمة ثمّ أنقض الغزل. لا أدري إن كان ثمّ حياة أخرى، ولكن إنّ صحّ وجودها فأمنيتي هي أن أعثر في جوارها على الكتب التي قرأتها على ضوء القمر، بأغلفتها ورسومها وربّما باخطائها، وأن أتوفّر على تلك التي ما زالت في ظهر المستقبل.

 

في الثناء على الظلمة

الشيخوخة (وهذا هو الاسم الذي يطلقه الآخرون على زمن السعادة)

 

يمكن أن تكونَ زمنَ سعادتنا.

الحيوانُ مات أو هو ميت تقريبا.

ويبقى الإنسانُ وروحُه.

أعيشُ بين صورٍ وأشكال مضيئة وغامضة

لا تبلغُ مبلغَ العتمة.

بوينس آيرس،

التي تمزّقت في ضواحٍ

صوب السهول بلا انقطاع،

عادتْ إلى حي (الريكوليتا) وحي (الرتيرو)

وشوارع الحي الحادي عشر المشوشة

والبيوت العتيقة الواهية

التي ما زلنا نسميها الجنوب.

دائما كانت الأشياء في حياتي كثيرة؛

لقد سمل ديموقريطوس الأبديري عينيه لكي يفكّر؛

وكان الزمن هو ديموقريطوس معي.

هذه الظلمة بطيئة وغير ذات ألم؛

تنساب على منحدر سلس

كأنّها الأبد.

أصدقائي من دون وجوه،

والنساء هنّ نساء الماضي البعيد،

والزوايا قد تكون أخرى

ولا حروف في صفحات الكتب.

وفي ذلك ما يرعبني،

لكنّ فيه حلاوة ورجوعا وعودة.

لم أقرأ من أجيال نصوص الأرض سوى القليل،

وهي ما أواصل قراءته في ذاكرتي

أقرأه وأحوّله.

من الجنوب ومن الشرق ومن الغرب ومن الشمال

تلتقي الطرق التي حملتني

إلى مركزي السري.

تلك الطرق كانت أصداءً وخطى،

نساءً... رجالا... احتضاراتٍ... انبعاثات...

نهاراتٍ ولياليَ

بين نوم وأحلام،

كل لحظة تافهة من لحظات الأمس

وأيام العالم المنصرمة،

سيف الملك الدنماركي الصارم وقمر الفارسي،

أفعال الموتى،

الحب، الكلمات،

(إمرسون) والثلج وأشياء كثيرة.

في مقدوري الآن أن أنساها. ابلغ مركزي،

أصل إلى مفتاح هويتي،

إلى مرآتي.

قريبا سأعرفُ نفسي.

 

في نصوص اليوم