ترجمات أدبية

مهرنوش مزارعي: رجلان

بقلم: مهرنوش مزارعي

ترجمة: صالح الرزوق

***

ما أن أفرغا أول قارورة حتى قال الرجل ذو الشعر الرمادي: "انتهت كل الفودكا".

"لا يزال لدينا زجاجة ويسكي".

نهض الرجل الشاب باتجاه الخزانة، وأحضر زجاجة ويسكي، وملأ كأسيهما، ثم عاد إلى كرسيه وجلس عليها.

"هل سمعت شيئا من داريوش؟".

"نعم. هو الآن في باريس. وجاء إلى برلين ليزورني".

"ماذا يفعل في باريس؟".

"يدرس في مدرسة اللغة صباحا ويقود سيارة عامة في المساء".

"وماذا عن عباس ؟".

"أي عباس؟".

"الذي له شامة كبيرة على خده. كان زميل داريوش في المسكن ...".

"آه ، نعم. أطلق سراحنا معا من سجن الشاه قبل الثورة بأيام".

وبعد صمت قصير، قال الرجل العجوز: "استشهد في معركة مع الباسداران في السنة الماضية في طهران".

خفض الشاب عينيه وحرك الثلج في كأسه. وبعد قليل من الوقت، قال بصوت حزين: "دعنا نقرأ قليلا من الشعر".

"هل لديك شيئ لحافظ ؟".

أحضر الشاب كتابا لحافظ من الرف، ووضعه على الطاولة أمام الرجل الكبير. فقال العجوز: "لماذا لا تقرأ منه بنفسك ؟".

التقط الشاب الكتاب، وقلب في صفحاته، وبدأ يقرأ بصوت مرتفع. عندما فرغت الزجاجة الثانية قال العجوز : "ذهب كل الويسكي أيضا".

رفع الشاب عينيه عن الكتاب، ونظر إلى الخزانة، ثم قال: "لدي بعض النبيذ".

فقال العجوز: "هذا ممتاز. دعنا نفتح الزجاجة".

"يجب أن لا نشرب بلا ضوابط".

"هذا لا يزعجني".

اختار الشاب، وهو يتحرك ببعض الاضطراب، زجاجة من النبيذ من الخزانة وبدأ بفتحها. وقال: "انكسرت الفلينة".

تفحص العجوز الزجاجة، وقال: "لا أعتقد أنه يمكن إخراجها. ادفعها للأسفل".

ضغط الشاب على الفلينة المكسورة لتهبط في الزجاجة وملأ كأسيهما، بينما وضع العجوز شريط كاسيت في المسجلة. وهنا طافت الفلينة نصف المكسورة في الزجاجة. قال: "بصحتك". وصدحت في أرجاء الغرفة موسيقا ناعمة.

شرب الشاب نصف نبيذه وقال: "انظر إلينا، انظر إلى أين وصلت أحوالنا".

ابتسم العجوز بمرارة، وحمل نصف الفلينة المكسورة من الطاولة، ولعب بها بين إبهامه والوسطى.

انتهيا من الزجاجة، وهنا قال العجوز: "هل لديك المزيد ؟".

نظر الشاب إلى الزجاجة الفارغة وقال: "لماذا تنقلب الأحوال هكذا؟. ألم نبذل ما بوسعنا ؟".

منحه العجوز نظرة متعاطفة ولم ينبس بكلمة.

فألح الشاب بقوله: "ألم نبذل كل ما بوسعنا ؟".

راقب العجوز الفلينة وهي تدور بين أصابعه. ولكن قال الشاب: "لماذا انقلبت الحال إلى ما هي عليه ؟". وانسابت الدموع على وجنتيه.

دمعت عينا الرجل العجوز ، وتخلص من نظاراته، وقال: "لماذا لا تقرأ قصيدة أخرى ؟".

التقط الشاب كتاب حافظ وفتحه مجددا ، ونظر إلى أول غزال مرسوم على يسار الصفحة، ثم قال: "فعلنا ما بوسعنا". ثم رمى الكتاب جانبا. وحين توقفت الموسيقا قال الرجل المسن: "هل ترغب بنزهة على الأقدام ؟".

قال الشاب: "حسنا". غير أنه لم يحرك ساكنا.

"هيا ارتد معطفك. دعنا نذهب للحيد البحري".

نهض العجوز ببطء، وبحث عن معطفه، وأطفأ الأنوار. ثم هبطا السلالم معا، وكان العجوز يعرج.

تأخر الوقت، ولكن تجمع الناس حول أكواخ الكرنفال والمنصات على كلا طرفي شاطئ سانتا مونيكا. أحيانا كانت تنطلق أصوات البهجة من حول الأكواخ. في بعض المنصات ترى دببة معلقة، ولها عيون زجاجية مستديرة. توقف الشاب قليلا أمام الملاهي لينظر للجياد الخشبية، ثم سار وراء الرجل العجوز.

وفي كوخ إطلاق النار، توقف العجوز وقال: "هل تعرف كيف ترمي النار ؟".

قال الشاب وعيناه تلمعان: "بمقدوري أن أفك وأركب العوزي بثانيتين".

فقال العجوز: "كنت أسرع أفراد مجموعتي".

فكرر الشاب كلامه: "أستطيع أن أفعل ذلك بثانيتين. كم كان عدد أفراد مجموعتك ؟".

"خمسة. كنا نعبر الحدود ليلا ...".

"كلهم إيرانيون ؟".

"كلا. فلسطينيان وإيرانيان وشخص واحد من نيكاراغوا ".

"في أية سنة ؟".

"ألف  تسعمائة واثنتان وسبعون".

تابع الرجلان حتى نهاية الحيد. ثم مال الشاب بظهره ليستند على السور. ولكن العجوز نظر إلى السماء. وقال: "كانت سماء لبنان حافلة بالنجوم المشرقة. غير أن السماء هنا معتمة وبلا نجوم ".

فرمى الشاب بصره نحو الأعلى.

قال العجوز: "قبل ليلة واحدة من الهجوم على العدو، تمددنا أنا والنيكاراغوي على الأرض لنراقب النجوم. وسألني بمن أفكر. فشعرت بالخجل من الرد. لذلك قلت له: بأمي. فقال: أما أنا فأفكر بصديقتي. ربما لن نلتقي ثانية. أحببت ذلك منه. كم كان شجاعا. ورأيته يخرج صورة من جيبه و ويمعن النظر بها لفترة من الوقت".

وهنا تخلى العجوز عن نظاراته لينظفها وهو يقول: "في تلك الليلة أطلق الإسرائيليون عليه النار".

في مكان ما على الطرف الآخر من الحيد البحري رن ناقوس كنيسة اثنتي عشرة مرة، فقال الشاب: "هل تفكر بالعودة ؟". ومال على ذراع الرجل المسن، ثم سار بتكاسل. كان النور في كوخ الرماية مشتعلا، والدببة لا تزال معلقة هناك. تمعن الشاب بالكوخ ، وهو يجر العجوز من ذراعه وقال : "هيا. لنطلق النار".

راقبه العجوز وهو يضع ربعي دولار في الماكينة المربوطة ببندقية تنتصب فوق سرج، كما لو أنه من رعاة البقر في البراري. وعندما ضغط الشاب على الزناد كان العجوز قد انصرف واختفى في الظل الكثيف.

***

.....................

ميهرنوش مزارعي Mehrnoosh Mazarei: قاصة إيرانية مقيمة في الولايات المتحدة. تكتب بالفارسية والإنكليزية.  من أهم أعمالها: غريب في غرفتي، ثورة مينا وغيرها..

* الترجمة عن ناراتيف الأمريكية. عدد عام 2011. بإذن من الكاتبة.

في نصوص اليوم