ترجمات أدبية

مهرنوش مزارعي: من بوشهر إلى بحر قزوين

بقلم: مهرنوش مزارعي

ترجمة صالح الرزوق

***

إيران 1964

أخيرا وعد الوالد أغا جون "المعلم العزيز"، أن يرافقنا برحلة أحلامنا. وفي الليلة السابقة لموعد المغادرة، سهرنا أنا وأختي سيمين، حتى الفجر. كان لديها كتاب يضم خريطة مطوية لإيران. أحضرت كتابها إلى السرير، ورسمنا خط رحلتنا بقلم أحمر. كنا سنعبر تقريبا من خط يساوي طوله عرض أراضي إيران: من بوشهر، وهي مدينة مجاورة للخليج الفارسي في الجنوب، حتى بحر قزوين في الشمال، أكبر بحيرة مياه مالحة في العالم، بحيرة واسعة جدا ولذلك يقولون إنها بحر.

وسنمر في طريقنا بشيراز وأصفهان وطهران. لم تكن قم كبيرة مثل بقية المدن، ولكن كنت مهتمة بمشاهدتها: أرادت أمي دائما السفر اليها برحلة حج وزيارة ضريح قداسة المعصومة، حفيدة النبي وأخت الإمام الشهيد حسين. المعصومة تعني حرفيا "البريئة". وعزمنا أن نتابع من طهران إلى الشمال. ولكن آغا جون لم يحدد أي مدينة سيقودنا إليها. وعدنا فقط بمكان تغطيه الغابات والشواطئ، وتسبح فيه النساء عرايا تقريبا، مكتفيات بملابس البحر فقط.

سمعنا عن الشمال عدة مرات من زميلات الصف في المدرسة ومن الصديقات. وقرأت سيمين عنه في مجلاتها، وكلمتنا عنه. ولكننا لم نذهب إلى هناك، والسبب الأساسي عدم وجود سيارة لدى أغا جون، كما أنه لا يستطيع أن يقود سيارة. ومؤخرا حصل على قرض خاص من العمل، واشترى موسكوفيتش، وهي سيارة زرقاء. ومع أن عمرها خمس سنوات فقط، كانت تبدو أقدم من ذلك بكثير. وهذا ما شعرت به وهي تقف بلا حراك أمام بيتنا، وكان يسأل عمن يعرف السواقة ليقودنا بها إلى أي مكان نريد.

ثم طلب أغا جون من علي اغا أن يكون سائقنا. وعلي آغا سائق متمرس يقود سيارات السفر بين بوشه وشيراز. ومع أن الرحلة تستغرق خمس عشرة ساعة من بيتنا في بوشهر حتى أول محطة توقف، وهي أصفهان، فقد تابعنا طريقنا باستثناء دقائق للتزود بالوقود، وتناول الغداء ثم العشاء. ولاحقا ليأخذ علي أغا ساعة غفوة مرتين، ويصلي. أما آغا جون فقد كان يشخر كل الوقت. وكان لدى آغا جون ابن عم في أصفهان،لم سيبق لنا، نحن الصغار، رؤيته. أمضينا ليلة في بيته. لم ينم آغا جون وابن عمه تلك الليلة. وذهبا إلى نادي الضباط المتقاعدين ليلعبا البوكر. كان والدي مقامرا مدمنا يلعب البوكر على الأقل مرتين ليلا في الأسبوع. وفي الفجر كان هو وابن عمه يعودان إلى البيت بطبق كبير من الكالي باشي لنتشارك به جميعا. ربح آغا جون لعبة الورق، ولو لا ذلك لمرت بقية الرحلة وهو يشتكي من غلاء الأسعار. ولكن بعد أن ربح، أصبح أكثر كرما. واشترى لنا السكاكر. واشترى لي زوجا من الأقراط، وعقدا لسيمين، وإطار صور للوالدة. وكانت كل هذه الهدايا تحمل شعار الجسور الثلاثة، والبرج المرتعش، وهي صور تاريخية من عصر أصفهان الذهبي.

استبدلت أمي في قم عباءتها لتزور بها الضريح، وتصلي للمقدسة المعصومة. فقد أحضرت معها ثلاث عباءات: سوداء كريب للأماكن المقدسة، وأخرى بلون خفيف مع رسوم صغيرة مطبوعة لترتديها في الطريق، وبولكا سوداء منقطة بالأبيض ومجهزة خصيصا للرحلة. وأعجبتني المنقطة أكثر من غيرها. فقد كانت تبدو بها جميلة، ولذلك احتفظت بها من أجل طهران والشمال.

لم ترافقنا سيمين إلى الضريح، وانتظرت في السيارة وهي تقرأ كتابها. كنت أكره كتبها. مع أن رأسها مدفون دائما في كتاب. وهي في كل الأوقات مشغولة بنفسها. وكانت تعتقد أن سعة المعارف يزيد من أهميتها. ولم تكن تساعد الوالدة بالواجبات المنزلية. ولكن كان آغا جون يعتز بكتبها ومعرفتها. ولا يتأخر بالتباهي بذلك أمام أصدقائه. وليطيب من خاطري أيضا يضيف: "أما زارين فهي جميلتنا، وستحصل على رجل يناسبها قبل غيرها".

في طهران أقمنا بفندق عند ساحة محطة القطار لليلة واحدة. وكان موقعه في زاوية من زقاق صغير فوق صف من البقاليات. وكانت ممراته مزدحمة بالأولاد الذين يلعبون ويثيرون الضجيج. ومن نافذات الغرف المفتوحة تدفقت روائح الطبخ والبهارات الشرقية، وسمعنا أصواتا مرتفعة باللغة العربية، والكردية، والتركية والغيلاكية، ولغات غيرها. في تلك الليلة استعارت أمي مقلاة وموقدا صغيرا من زوجة مالك الفندق. وقامت بقلي عدة أنواع من بيض الكوكو لنحملها معنا ونتناولها في تتمة رحلتنا إلى الشمال. اشترى أغا جون المكونات من الحوانيت الموجودة تحت الفندق، ونسي زيت القلي. فأرسلتني أمي للحصول على القليل منه من الجيران. وهم عائلة كبيرة في رحلة حج إلى مشهد حيث ضريح الإمام المقدس رضا. كانت والدتي تحلم بزيارة مشهد لتحيي الإمام رضا. وغالبا ما كانت تطلب بركاته لتوفق بولادة ابن آخر بعدي وبعد سيمين.

فتحت الباب امرأة مسنة تغطي رأسها بوشاح أبيض وترتدي ثوبا فضفاضا طويلا، مع سروال واسع. طلبت منها الزيت. فذهبت إلى الداخل وعادت وبيدها علبة، حملتها إلى أمي. فأخذت منها ملعقتين وأرسلت معي حفنة من السكاكر للجيران كتقدمة على سبيل الشكر.

في اليوم التالي، بعد أن أدى علي أغا صلاة الفجر، غادرنا طهران إلى الشمال. وبعد ساعتين من القيادة، وصلنا إلى مقهى في منطقة بساتين جميلة كثيرة الأشجار ويتخللها نهر. طلب أغا جون من علي أغا أن يتوقف، وغادرنا السيارة وجلسنا حول طاولة خشبية كبيرة تحت شجرة قيقيب خضراء طويلة. وضعت أنا والوالدة الكوكو والخبز وجبنة فيتا والجوز المقشور. وطلب آغا جون سبع أكواب من الشاي وثلاث بيضات مقلية ليسعد صاحب المقهى.

بعد الطعام مددت أمي ساقيها وسمحت لعباءتها بالسقوط على كتفيها، ولكنها حرصت على تغطية بطنها. كانت حاملة مجددا. ومع أن الحمل غير واضح غطت بطنها كي لا يلاحظ علي آغا ذلك. جلست قربها، ولفتني بذراعها. قالت لأغا جون مع ابتسامة: "هذه هي الجنة الموعودة كما يقولون".

رد أغا جون: "لم تشاهدي ما تبقى بعد. حينما نبلغ الشمال، سأرافقك للغداء في مكان ما، مكان لم تتخيلي أنه موجود على الإطلاق".

أنا متأكدة أنه لم يشاهد ذلك المكان بنفسه، وإلا لكلمنا عنه طيلة الطريق. ولا بد أن شخصا ما في طهران أخبره عنه. وبعكس الطريق بين بوشهر وشيراز، وشيراز وطهران، حيث تابعنا بالسيارة لعدة ساعات قبل أن نرى مكانا محترما نتوقف فيه، توجد عدة أمكنة تصلح للتوقف بين طهران والشمال.

وبدا على أغا جون أنه شديد السرور ومبتهج. وفرض على علي أغا التوقف عدة مرات أمام بائع صودا، ليشتري لنا البيبسي، وكندا دراي، وأو سو. وكان الطريق جميلا طيلة طريقنا إلى الشمال - معبدا ومستقيما، ولا يشبه الطرقات الترابية المتعرجة في الجنوب.

في الشمال لا توجد على طرفي الطريق غير الكلأ والمروج. وبين حين وآخر تعبر الطريق بقرة، وفي أول مرة مد أغا جون رأسه من نافذة السيارة وصاح: "احذري يا مادموزيل كي لا تضربك سيارة".

انفجرنا بالضحك. ولدى رؤية ثاني بقرة صاح على أغا: "انظر يا معلم. ثاني مادموزيل". ضحكنا مجددا. وكان أغا جون قد تعلم كلمة مادموزيل في طهران.

بعد الظهيرة بساعة رأيت لافتة تقول "بنسيون قو - 5 كيلو مترات". صحت قائلا: "فندق قو". نظرت لي سيمين بحنق وقالت: "أيتها المغفلة، أنت جاهلة. مكتوب بنسيون كو وليس فندق كو".

مد آغا جون ذراعيه وصاح باعتزاز: "بنسيون قو. هو المكان الذي أدعوكم إليه جميعا للاستراحة وتناول الغداء". ولمعت عيناه.

سألت أمي: "ما هو الفرق بين الفندق والبنسيون؟".

قال أغا جون: "البنسيون أرقى وأكبر من الفندق".

نزعت أمي العباءة العادية، وطوتها، وأودعتها في حقيبة يدها. ثم حملت البولكا المنقطة، وفتحتها ومهدت التجعيدات وفتحت بقية الطيات. وبعد أن أصبحت كلها مستوية ارتدتها. ساعدتها بتحرير خصلة من شعرها لتبرز من تحت عباءتها، وجعلتها بشكل خصلة جميلة، بالطريقة التي تحبها. حتى سيمين رضيت حينها عن مظهر أمي.

وكنت أعلن أنا وأغا جون بعد كل كيلومتر بصوت مرتفع المسافة المتبقية للبنسيون كو. وبعد آخر كيلو متر بدأنا بالعد بصوت مسموع لتسريع الوقت. وضعت سيمين كتابها جانبا وشاركتنا العد. واحد، اثنان، ثلاثة… خمسة وأربعون، ستة وأربعون… أربعمائة… خمسمائة، خمسمائة وواحد، خمسمائة واثنان..

ثم برز قوس معدني، امتد فوق رؤوسنا من أحد طرفي الطريق للطرف الآخر وعليه كلمة: قو

مر علي آغا بالسيارة من تحت لافتة البنسيون قو ودخل في موقف السيارات. اتسع المجال بسهولة لسيارتنا ودخلت بين سيارتين كبيرتين، إحداهما سوداء، وإحداهما زرقاء. خرج علي أغا وأغا جون من المقدمة، ثم سهل أغا جون للبقية الخروج من الخلف. قفزت بسرعة وعلقت قدمي بطرف الباب وتعثرت. قبضت أمي على يدي وصاحت: "لماذا أنت دائما بعجلة من أمرك؟. يجب أن تتصرفي كالسيدات". نظرت لي سيمين بخجل. وأجبتها بنظرة وقحة، وأنا أفكر كيف أتبعها.

دار علي أغا من حول إحدى السيارتين المتوقفتين بجوارنا وقال: "معلمي. هذه بويك".

نظر إليها أغا جون ورد بلهجة احترام: "أمريكية. السيارات الأمريكية هي الأفضل".

اقتربنا من البنسيون، وعبرنا أبنية صغيرة. وكنت أول من شاهد المطعم، ووراءه مباشرة البحر. كان الرجال والنساء والأطفال بثياب السباحة. وبعضهم ارتدى قبعات القش. والبعض الآخر يتجول على الرمال البراقة، وآخرون استلقوا على مناشف ناصعة تحت مظلات ملونة. وكانت هذه أول مرة أشاهد فيها على الشاطئ نساء عاريات، ولكن سبق أن رأيتهن في المجلات. وكان البحر أشد زرقة من ماء الخليج الفارسي، ولكن الطقس لم يكن حارا ولا رطبا بنفس المقدار. وكان معنا في المطعم رجلان وامرأتان وثلاثة أطفال.

وقد ارتدت إحدى المرأتين ثوبا مفصلا بلون أخضر وبلا أكمام وعليه زهور مطبوعة بلون وردي حار. وكان الأطفال، وهم صبيان وبنت، بثياب البحر. قدرت عمر البنت بعمر سيمين، وكانت ترتدي صندلا ملونا وأظافر قدميها مصبوغة بأحمر قرمزي. وعلى الفور اختبأت سيمين تقريبا وراء أمي. وكانت سيمين ترتدي قميصا مقلما بلونين بني وبيج تحت بلوزة حمراء بأكمام طويلة. أما كعبا حذائها الأسود فقد كانا باليين ومقدمة الحذاء باهتة. بالمقابل ارتديت أنا ثوبا بلون رداء البحارة الأزرق وقد وضبته لي أمي. وربطت شعري بمطاطة سميكة بنية على شكل ذيل حصان.

تقدمنا أغا جون وعلي أغا، وتبعتهما أمي، وقد فتحت عباءة البولكا المنقطة من الأمام. فظهر انتفاخ بطنها، ولم يكن يبدو أنها مهتمة. وتبعنا القافلة أنا وسيمين.

بجانب طاولة مجاورة وقف نادل ببذة سوداء وقميص أبيض وربطة عنق حمراء وزرقاء، لتسجيل الطلبات. وحمل نادل آخر يرتدي زيا مماثلا صينية الوجبات والصودا إلى طاولة غيرها. وحمل صبيا خدمة الصحون الفارغة إلى المطبخ.

وحالما شاهدنا كبير الندل أسرع إلينا من وراء طاولته وقال لأغا جون: "غير مسموح الدخول للسيدات بالعباءة".

نظر أغا جون إلى أمي ثم إلينا، والتفت لكبير الندل، وقال مع ابتسامة باهتة: "عباءة بيضاء منقطة ليست عباءة". وضحك قليلا، وضحكنا معه جميعا. بدا الامتعاض على كبير الندل وقال: "آسف. القانون هو القانون". ثم عاد إلى طاولته.

بدا أغا جون بالصراخ. ونظر إلى أمي وواصل الصياح. تنقلت نظرتنا بين الوالدة وأغا جون. ورأينا وجه امي شاحبا وهي تختبئ تحت عباءتها. وانصبت عيون الموجودين في المطعم علينا. احمر وجه سيمين، وخفضت عينيها. ونهض الأولاد الثلاثة الذين سبقونا بالدخول إلى المطعم من كراسيهم واقتربوا مني ومن سيمين. وتبعتهم بنتان صغيرتان. نظرت واحدة من البنات إلى قيافة سيمين وهمست بأذن رفيقتها، وقهقهت الاثنتان بالضحك. ثم جاء نادلان. ومعهما كبير الندل، ورافقونا إلى خارج من المطعم. ولزم علي أغا الصمت بسبب الاضطراب.

صاح أغا جون: "أولاد حرام. ليس عندهم أخلاق. منعوا امرأة محجبة من دخول مطعم في بلد إسلامي". ثم بصوت لم يسمعه غيرنا قال: "يعتقدون أننا نعيش في عهد رضا قلدر". وصاح بالوالدة قائلا: "كم مرة طلبت منك يا مدام أن لا ترتدي مثل خادمات المنازل؟".

قالت: "لو كنت أعلم أنهم سيطردوننا بسبب العباءة لما ارتديتها".

قبضت على يدها وابتعد أغان جون حانقا. فتبعناه إلى السيارة. لم أشاهده غاضبا هكذا. ولم أصدق أنه ذكر "رضا قلدر"، فهو اسم استهانة يطلقه الناس على والد الشاه، الشاه القديم، الذي أمر الشرطة أن ينتزعوا بالقوة أي عباءة ترتديها امرأة في العلن. أدار علي أغا المحرك، لكن السيارة لم تقلع. حاول مجددا، فزمجرت السيارة ثم توقفت. ولم يتحدث أحد باستثناء أغا جون، الذي تابع الشتيمة دون توقف قائلا: "أنتم تزنون بأمهاتكم. وأنا سأنكح أمهاتكم وشقيقاتكم. أنا أعلم ماذا سأفعل بكم يا أولاد الحرام. لنرجع أولا إلى طهران ثم نرى. سأذهب مباشرة إلى وزارة العدل. وسأقابل الوزير. كيف تجرأتم على هذه الوقاحة؟. كيف تجرأتم على منع امرأة مسلمة من دخول مطعم؟. والله سأنكح أخواتكم".

ثم انتهر علي آغا، وبسبب الارتباك والاضطراب ضغط على بدال الوقود عدة مرات وأدار المحرك. ثم غادر المركبة، وأخرج عتلة حديدية من حقيبة السيارة، وعالج بها المحرك. فانطلق قليلا وهمد.

أوشكت سيمين أن تنفجر بالبكاء. أما أنا فقد ضحكت. ركلت سيمين كاحلي الأيسر. فصرخت: "سيمين تضربني".

لطمت أمي سيمين على رأسها. وفي النهاية دار المحرك. وقفز علي أغا إلى السيارة، وقادها إلى الخلف من بين سيارتي البويك الأمريكتين الضخمتين. وهكذا غادرنا بنسيون قو، وسيارتنا تضرب الأرض كأنها مطرقة على صفيحة نحاسية، وخيط من الدخان يتبعنا.

مهرنوش مزارعي Mehrnoosh Mazarei كاتبة إيرانية. تقيم حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية. لها عدة مجموعات قصص بالفارسية، ورواية بالإنكليزية بعنوان "ثورة مينا".

***

ترجمة: صالح الرزوق

في نصوص اليوم