ملف المرأة

الجسد .... هو الذي يرى!

لذا ينبغي أن نفهم تلك الإشكالية وفق منظورها الحسي والتأملي معا، الذاتي والعقلي كي نتيح لهذه الظاهرة أن تكون ضمن أبعادها الكاشفة والمكشوفة بين -الأنا- والآخر.. يقول جون لوك ماريون في حوار معه بخصوص الظاهرة الأيروتيكية (إنها الظاهرة التي تتعلق بي، التي أكون فيها مشتهيا، ممتدا نحو المكان الآخر الذي يطمئنني، يؤمنني ويرجعني الى نفسي، الظاهرة التي أقدم عن طريقها كوني عاشقا، انه الحب في كل طياته، صداقة بإحساس العشق والغرام عبر المرور بالشفقة والرحمة، علما أن كل هذه الظواهر تتلاقى، لأن الحب يحافظ على نفس المعنى، سواء في علاقة الصداقة أو في علاقة الحب) -ت .عبد الله هرهار- العرب الأسبوعي -ص 21-..لذا ؛ وضمن هذا المفهوم لا يمكن تفسير الظاهرة دون مشتركات حقيقية مع الآخر أولا والذي يمنح الأمان والشعور بكوني مرغوبا بي ومحبوبا، أو صديقا، مقترنة بتلك المشتركات التي تجعل الذات متحررة وقادرة أيضا على تحدي السلطة وثقافتها. كل ذلك طبعا مقترنا بالوعي ذلك الذي يرتقي بالفرد فوق مرتبة الحيوان، ويجعله يحقق أهم اشتراطات وجوده ومن بينها حريته وإنسانيته، مثلما هو مقترن أيضا بحاجة - الأنا - إلى الوعي بها وفهم حاجاتها ورغباتها وأفكارها كي نستدل على ماهية الإنسان.

إذن .. يمكن الاستدلال أن لا وجود لإحساس آمن ومطمئن وواعي وشهي دون الآخر الذي يتطابق معي كوني أعيش المفارقة بين مواجهة الذات ومواجهة الغير، ولا يمكن أن ‘‘ تكتمل كينونة الذات إلا في العلاقة مع الآخر،، لكن من دون أن نتنكر للجسد، لأن ال - أنا - مشروطة بالجسد مثلما هي مشروطة بالإرادة والعقل، ومن خلال ذلك ينبغي التفريق أيضا بين الرغبة الباحثة عن سبيل إلى التوازن والتكامل والهدوء والطمأنينة، عبر الطاقة الروحية التي يمنحها الجسد أو اللذة في الجنس، وغيرها من الرغبات التي تجعل ال-أنا - ضعيفة وغير قادرة على التحرر والحيوية والمواجهة، رغم أن العلاقة معقدة أحيانا؛

 فكلما ازدادت حدة السلطة في كبح منافذ الجسد، حيث بإمكانها أن تولد شحنات الخوف والكراهية والشعور بالسادية والمازوكية أيضا في اللاوعي البشري ؛ كلما أصبح النوع الثاني من الرغبة متاحا وممكنا، خصوصا في المجتمعات المغلقة والمحاطة بمفاهيم وعقائد ثابتة لاتؤمن بالجسد كثقافة منبعها الحب، أو بالحب كضرورة للجسد، لأن الرغبة عمياء - لا ترى - وفق تلك المفاهيم الصارمة، وان الجسد خاضع لقوانين سابقة وموروثة أو فوقية و غيبية لا تقبل التمرد والانفلات والخروج عن السياق العام والثابت.. وبذلك تبدأ إشكالية السلطة من إلغاء خصوصيات الأفراد في ثقافاتهم ومعارفهم وميولهم في التحرر والبحث عن الذات وتأكيدها،

وتلك هي أحدى مناشيء رسوخ تلك القيم السلطوية الكابحة أوالمهيمنة على الكثير من القيم المضادة لها، كالقيم الحسية والجمالية لدى الأفراد ذوي النزوع الحر والمتمرد والحيوي في البحث عن طاقاتهم الإبداعية والفكرية والجمالية.

هكذا تكمن خطورة الجسد الذي (يرى) لدى السلطة القامعة، وهكذا يمكن تصور كيف يمكن للمرأة الواعية والمبدعة في هكذا مناخات صارمة أن تصبح مجرد كائن محدود في حيز محدود لا يقبل الكشف، أو مجرد متلق سلبي لا يتفاعل مع الآخر، ولا يحق له الاختيار، ساكن غير متحرك، مستهلك غير منتج، قابع في فردوس المطبخ بامتياز، ومعرّض للإلغاء أيضا في مطابخ التهديد والإقصاء أمام السلطة ومن بينها سلطة القضاء!، من دون معرفة أن -الأيروس - هو من طبيعة الإنسان .. تقول إحدى المبدعات (لقد خسرت بيتي من أجل "كرزة حمراء على بلاط أبيض"، فعندما ترجم إلى الفرنسية استخدم الديوان المترجم كشاهد على خيانتي أمام القضاء، كنت أريد حياة مستقرة، ولكن حياتي العائلية اهتزّت بسبب كتاب شعري، أنا أرى ما أشترك فيه مع الآخرين وأكتبه)

ووفقا لتلك العلاقة المختلة والمتقاطعة دائما بين معادلة الجسد والسلطة، ضمن المفهوم الإبداعي والثقافي عموما ؛ هل يمكن قراءة النص على انه إعادة لصياغات وتغييرات جوهرية لكثير من المفردات والقيم التي يعتقد بأنها مرئية ومفهومة سلفا، وانه لا يمكن إعادة صياغة المكان والزمان والرؤية للآخر بوصفها مفردات تعيد التوازن والتكامل والهدوء الا عبر مفهوم أيروتيكي خاص يفتح آفاقا جديدة، لأن النص- بتعبير الناقدة أناستاسيا ستفانيدو - (يقوم بإعادة صياغة المكان ذاته من خلال اقتحام جسد المرأة له، فيصبح هذا الجسد في نزوعه الأيروتيكي مركزاً يمنح للأمكنة هويات وأبعاداً جديدة تتناقض مع منظومات التفكير التقليدية)

يبدو من كل ذلك، إن إغلاق منافذ الجسد هو مرحلة متقدمة لجهل الكثير من المنافذ الحياتية غير المنظورة وغير المكتشفة إلا بالعين المجردة، بمعنى، كلما ازداد الإحساس بالسطحية لما هو مرئي، فقدنا هويات ما -يرى - الجوهرية، وألصقت به خيانات التصاقه غير المشروع بالآخر .. بالمكان .. بالرغبات، عبر تلك المنظومات التقليدية والمتسلطة في الرؤية والتفكير.

  

*شاعر وكاتب

العراق

[email protected]

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: ظاهرة الكتابة الايروسية عند المرأة، الثلاثاء 16 - 20/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم