ملف المرأة

رأي الدين في الظاهرة الأدبية الإيروسية

تخصصي الفكري كوني كاتبا وباحثا في الشؤون الإسلامية لأعطي رأي الدين، أو رأي الفكر الديني، أو على الأقل رأيي الديني الشخصي في شأن موضوع مجتمعي على قدر كبير من الأهمية، ولذا اخترت الكتابة في محور (الموقف الديني من الكتابات الايروسية) لأني أجد نفسي قادرا على خوض هذا الغمار ولا أمتلك قدرة تناول المحاور الأخرى بنفس الدرجة التي يمتلكها المختصون في الشؤون الأدبية التي هي من أصل اهتمامات واختصاصات الشعراء والأدباء، وعليه أقدم اعتذاري لمن يراني قاسيا، وأقول للجميع أنها الحقيقة التي يجب أن يدركها من يتعامل مع أحد المباني الأخلاقية للمجتمع العربي الإسلامي، وأبين للجميع أنني أحترم الرأي الآخر حتى لو كنت أختلف معه فكريا فلكل منا رأيه وتوجهه الذي اختاره بنفسه دونما ضغوط. واحترامي للرأي الآخر يوجب علي أن أحترم رأيي وأدافع عنه ربما بدرجة أكبر من تلك التي يدافع بها الآخرون عن آرائهم لأني لو لم أراه سليما ومتساوقا مع فطرتي ما كنت لأختاره وأؤمن به. وأذكر هنا أن الحكماء قالوا: من حقك أن تقول كل ما تؤمن به، لكن ليس من واجبي أن أؤمن بكل ما تقول

 

الدين والموروث

ليس مثل الدين وعاء للمنظومات الأخلاقية بشقيها الفردي والمجتمعي، فهدف المنظومة الأخلاقية الدينية تحديد المسافات المباحة التي يمكن لكل من الفرد والمجتمع، والرجل والمرأة التحرك خلالها دونما عناء أو مسائلة، والتي يمثل الخروج عليها مجتمعة أو الخروج على أحد مبانيها حتى تلك البسيطة منها مخالفة صريحة للنهي التشريعي الفقهي. ومثل هذا النظام لم يقتصر وجوده على الإسلام وحده بل تجده فاشيا في الديانات السماوية الأخرى ولاسيما الديانتين اليهودية والمسيحية، وحتى في الحضارات الدنيوية.

 أما تهتك أطراف مساحة المباح في هذين الدينين السماويين تحديدا أو ما يبدو وكأنه تهتكا فلا يعود لأصل هاتين الديانتين بقدر ما هو من استنباطات فقهاء الدين والسياسة،أي أن ما يبدو وكأنه عدم اهتمام بأهمية المساحة المباحة في كتب الأديان الأخرى مجرد تهويمات أضيفت تحريفا لكتب وعقائد هذه الديانات، وألا فهي واقعا ليست من أصلها الأول. وقد يكون سبب ذلك تأثير الفكر الموروث عن الحضارات الشركية التي تبنت هاتين الديانتين وهما الحضارتان الإغريقية والرومانية اللتان كانتا مشهورتان بالتهتك لدرجة أن عقائدهما الدينية القائمة على الإيمان بتعدد الآلهة أفردت للخصوبة والشهوة والجنس آلهة بعينها دون سواها وقامت بعبادتها، ففي الميثولوجيا الإغريقية عُبدَ (إيروس) (eros) كإله للرغبة والخصوبة والحب والجنس والخلاعة والشهوة والتهتك، ومن اسمه  اشتقت كلمة (erotic) الإنجليزية ومعناها: جنسي أو شهواني، أما الإله (كيوبيد) فهو نسخة رومانية لإيروس الإغريقي، وكانت له نفس المنزلة والمكانة، كما ونسبت إليه نفس المهام التهتكية التي نسبت لإله التهتك إيروس.

وفي موضوعه المعنون (الرؤية الإيروسية) قال الدكتور جميل حمداوي  في حديثه عن الإيروسية:أنها ثقافة كانت من جزئيات الثقافتين الإغريقية والرومانية، اللوحات والنصوص الأولى التي اقتفت أثر الإيروسية كانت موقع اختبار قام به الروائي الفرنسي "باسكال كينار" في كتابه (الجنس والفزع) ففي حقبة الإمبراطور أغسطس وخليفته الإمبراطور تايبيريوس، انتشرت لوحات الرسام اليوناني بارازيوس،الذي اخترع البورنوغرافيا عن طريق رسم المومسات. وفي تجواله على الجداريات الرومانية، اكشف كينيار أنّ السريركان عنصرا أساسيا وحيويا لدى الرسام الروماني.

 

الشعر ديوان العرب

الإسلام كعقيدة كان من حيث النشأة مثل الديانات السابقة فهو نشأ في بيئة شركية لم تكن تملك حضارة بالمستوى الذي يمكنها من ترك مثل تلك الرسومات على الجدران لأنها لم تكن تملك الكثير من الجدران بسبب طبيعة حياتها، ولكنها كانت تملك مساحة من الشعر (الأدب) خلدت رسومات إيروسية من نوع آخر تم رسمها بالكلمات. ومع ذلك رأى الإسلام في المنظومة التربوية الأخلاقية التي جاء بها وسيلة لإخراج مجتمعه من روح التهتك الشركي عن طريق ترسيم منظومة الأخلاق لتنشئة الأجيال عبر التاريخ وفق أسس صارمة. ولذا تشدد في هذا الجانب لكي لا يقع في المآزق التي وقعت بها الديانات والحضارات الأولى، تلك المآزق التي استمرت تداعياتها عبر التاريخ، فجاءت أوامره حدية قطعية خالية من المساحات الرمادية التي تظهر في العقائد الأخرى.

 وبعيدا عن هذه الرمادية غير المحببة حاول القرآن الكريم أن يحدد سبلا وطرائق بعينها دون سواها مسموح للمسلم من خلالها أن يتحرك في مساحات ومسموحات فكره، ومن هؤلاء (المسلمين) الشاعر المسلم الذي كان مسموحا له أن يصول ويجول في أفياء هذه المساحة شرط عدم الخروج من حدودها، حيث جاءت الآية المشرفة صريحة واضحة ((والشعراء يتبعهم الغاوون ألا تراهم في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون)) المنظومة الحديثية ذاتها جاء فيها ما يعضد هذا المعنى سواء كان قد وقع فعلا أو أنه من الإضافات التي لم تخل منها عقيدة ومنها قصة النبي (صلى الله عليه وعلى آله) مع الشاعر حسان بن ثابت الذي كان قد اشترك بغزوة فطلب منه النبي أن يتصدى لأحد المشركين الذي طلب مبارزا مسلما ليقاتله، ولكنه قال للنبي  معتذرا: أنا رجل قافية لا رجل سيف والقصة معروفة.

رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله) كان يستمع الشعر ويستطيبه ويثيب قائله وكان يدعو للشاعر الذي يحسن الوصف بالجنة، ومنه قولهم أن النابغة الجعدي أنشد بين يدي رسول الله قصيدة يقول فيها

علونا السماء عفة وتكرما                وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

فقال له النبي: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة بك يا رسول الله، فقال له النبي: أجل إن شاء الله. أي أنه وعده بالجنة. ولكن اعتراض النبي على مبالغة الشاعر يفيد أن الإسلام كان رقيبا على ما يرد في قول الشعراء، أي أنه لم يترك لهم الحبل على غاربه بل قيدهم بقيود وأوجب عليهم الالتزام بها.

وأنشده شاعره حسان بن ثابت حين جاوب عنه أبا سفيان بن الحرث بقوله:

هجوتَ محمدا فأجبتُ عنه                وعند الله في ذاك الجزاء

فقال له النبي: جزاؤك عند الله الجنة. أي أن النبي أراد أن يرشد المسلمين إلى نهج الشعر الذي يجب عليهم إتباعه دون سواه، وهو تحديدا القول الذي يقودهم إلى الجنة وليس لمكان آخر.

حكماء العرب وشيوخهم وسادتهم كانوا يسمون الشعر (عقار طب المهج) لأنه الوسيلة الناجعة لحل الكثير من المشاكل، ولذا كانوا يحثون على تعلم نضم الشعر لأنهم كانوا يرونه الطريقة المثلى للوصول إلى الغايات التي لا يحققها السكوت بمعنى أنهم كانوا يعتبرون الشعر ناطقا رسميا بحالهم، وتبعا لذلك قالوا:

الشعر شيء حسن                    ليـس به من حرج

أقل ما فيه ذها                       ب الهم عن نفس شجي

يحكم في لطافة                      حل تقود الحجج

كم نظرة حسنها                     في وجه عذر سمج

وحرقة بردها                       عن قلب صب منضج

ورحمة اوقعها                      في قلب قاس حرج

وحاجة يسرها                      عند غزال غنج

وشاعر مطرح                      مغلق باب الفرج

قربه لسانه                          من ملك متوج

فعلموا أولادكم                      عقار طب المهج

ولما كان الشعر في واقعه ناطقا رسميا بحال القائل (الشاعر) فهو حتما مرآة عاكسة لحال الشاعر يترجمها ويكشفها إذا ما كانت سوية أم شاذة.

هذا إضافة إلى أن الشعر خلد حكما قالها الشعراء في مناسبات معينة وبالتالي خلد قائليها أي أصبح سببا لبقاء ذكرهم بين الناس ومنهم على سبيل المثال عبد الله بن مصعب الملقب (عائد الكلب) الذي كان واليا على المدينة من قبل هارون الرشيد والذي خلده بيت الشعر الذي قاله معاتبا بعض معارفه

مالي مرضت فلم يعدني عائد              منكم ويمرض كلبكم فأعود

ومنهم عمرو بن هند الملقب بـ (الممزق) والذي خلده قوله

فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي            وإلا فأدركني ولما أمزق

أما اهتمام الإسلام بالشعر دون النثر فلأن الأول كان فاشيا بين الناس ومتداولا ولم تكن كتابة النثر الأدبي معروفة حينها أو مستخدمة لنفس الأغراض التي تستخدم بها الآن، وألا فإن تفرعات الفقه في مسموحاتها وممنوعاتها لا تميز بين الشعر والنثر واستعمالاتهم

 

ضفاف القنوات والتحدي

إن الفكر الديني وضع لمفردة الجنس قنوات خاصة  لها مسارات تتوجه بها كيفما تتوجه الضفاف، وأي محاولة للخروج من هذه القنوات أو من بعضها ولو مجرد الصعود على إحدى الضفاف يعتبر خروجا على فقه الشريعة  يستوجب غضب الرب والعقاب الدنيوي والأخروي حيث يتمثل الدنيوي بالتعزير أو الجلد  والنفي أو الرجم المفضي للموت وحتى الحرق حسب طبيعة الحالة، أما الأخروي فعقاب ناري لا فرار منه. بمعنى أن الشريعة لا تقبل وجود اللون الرمادي في هذه المسألة أبدا ويجب أن تعامل وفق سياقين اثنين لا ثالث لهما هما الأسود والأبيض.

هذه الحدية المفرطة التي تبدو في بعض الأحيان قاسية جدا رأى فيها بعض المسلمين سواء من تأثر منهم بالفكر المستورد أو تأثرا ببنات أفكاره مصادرة لحق من حقوق الإنسان التي أقرتها شريعة الأمم المتحدة وعهدها الدولي، ورأى بالتالي أن من حقه التدخل لتغييرها أو تخفيفها إلى درجات تصبح فيها طيعة تتقبل التجديد حتى ولو كان هذا التجديد مفضيا لتغيير بعض أسسها وقواعدها، وهذا أمر ليس مباحا لا لهؤلاء ولا لغيرهم لأن منظومة الأخلاق هذه جاءت بها رسالة سماوية وبالتالي لا تنسخها أو تبطل العمل بها أو تجري عليها تعديلات جزئية أو شاملة إلا رسالة صادرة من المصدر ذاته، بما يعني تعذر مجرد التفكير بإمكانية حدوث هذا الأمر لأن رسالة الإسلام خاتمة التواصل السمائي الأرضي وبالتالي تبدو منظومة الأخلاق العقائدية فلسفة غير قابلة لقراءة جديدة فقد تقولبت في أطر خاصة تتقارب مبتنياتها في كل المذاهب والفرق الإسلامية.

 

تجديد أم تدمير؟

 أما أن يأتي هذا المفكر أو ذاك لإعادة قراءة هذه الفلسفة المبنية على اجتهادات فقهية أساسها القرآن والسنة عله يجد خلالها منفذا لإدخال بعض المفاهيم الحديثة التي يروج لها سواء كان دافعه التجديد البريء أو التخريب المتعمد فإنه وعمله سيواجهان بالرفض القاطع ليس من الفكر الديني والعقيدة الدينية وحدهما بل ومن المتدينيين أنفسهم ومن الأخلاقيين الذين يمثل التدين أحد جوانب شخصيتهم، وربما من العلمانيين أيضا، ومن كل المنظومة الأخلاقية السائدة.

 وليس معنى هذا أن الدين ومعتنقيه يرفضون التجديد مطلقا، وإنما لأن الشريعة ذاتها تمنع الاجتهاد مقابل النصوص اليقينية ولا يوجد بين المسلمين من هو مخول بمثل هذه الصلاحية، فما بالك إذا ما كان التغيير المطلوب يدعو لإبطال العمل بجزء كبير من هذه المنظومة؟ وما بالك إذا ما كان البديل المقترح لم يحصل بعد على المشروعية المطلقة وحتى الجزئية إلا في حدود لما يزل أمر إقرارها عند غير المسلمين بين أخذ ورد، أي في أفضل جغرافيات مراتعه وأكبرها تعاطيا معه في القول والفعل؟ وأقصد أن يتخلى المرء عن جوانب كثيرة من منظومة حياته ويلجأ إلى نوع من الانفتاح اللامحدود القابل للتفسير المتعارض والتأويل الكثير.وأن يشترك الرجل والمرأة في هذا الفعل بعد أن كان من قبل مقصورا على الجنس الذكوري، وعلى الشاذين منهم بالذات، حاله حال الكثير من الأمور الذكورية الأخرى ولاسيما قول الشعر الذي لم تبرع فيه سوى آحاد وقلة قليلة من النساء عبر التاريخ.

 

الأنموذج المقترح

يبدو أن الأنموذج المقترح بثه واستحصال الشرعية للعمل به رمادي اللون وكأنه مساحة ضبابية لا يعرف الواقف فيها إلى أي الجهتين هو أقرب للبيضاء أم السوداء، لأنه حراك عنيف وجريء في المساحة الفاصلة بين الخير والشر هذان المفهومان الدينيان العقائديان  والأخلاقيان الفلسفيان اللذان يبدو أن لكل منهما نسيجه التكويني ومنظومته الفكرية لدرجة أن أحدهما يبدو أبيض ناصعا ويبدو الآخر أسود معتما، لكن مقابل بياض وطيبة الخير يبدو الشر على قدر كبير من السواد والعدوانية والعنف والتحدي ويحمل روحا لها قدرة على المجاهرة بإعلان الفعل مهما كانت درجة حساسيته وعلاقته بالآخرين، وبمنظومة الأسرار الشخصية ومنها أسرار غرفة النوم واللقاء الصاخب والفعل الحميمي، وقصص السرير التي وجدنا صورها في الحضارات البائدة، ونجد صورها بالألوان والكلمات في حضارتنا الحاضرة وكأن التاريخ يعيد نفسه.

كذلك تدفع الروح المشاكسة الشر ليستعير من الخير بعض أدواته فينزع عنها حياديتها ويستعملها في غير المواطن المخصصة لها بما يبدو وكأنه امتزاج بين المنهجين. هذه الاستعارة هي بيت القصيد الذي سيكون محور حديثنا.

 

الاستعارة والأدب

تحدثنا بداية عن موقف الإسلام من الشعر هذا النوع من الأدب الذي كان نائبا عن الألوان الأدبية الأخرى التي لم تعرف ولم تدخل في سوق التداول الحياتي إلا بعد أن انفتح المجتمع الإسلامي على ثقافات الأمم الأخرى في مرحلة الفتوح والسبي والعبودية والرق والغلمان، يوم طغت مساحة اللهو على مساحة العرفان وصادرتها إلا قليلا، وتوافدت قوافل الغنى والثروة والجواري والقيان من مشارق الأرض ومغاربها فغيرت طبائع الفقهاء كما غيرت طبائع الخلفاء. وفي زمن البطر تنفتح الشهوات على ما كان من قبل محرما، وتزداد المطالب الترفيهية على حساب الخلوات التعبدية والكفاف والرضا بالمقسوم، ولكن هل من الممكن أن ينحرف المجتمع بهذه السهولة أو يتخلى عن روح العناد العقائدي التي قادته ليتسيد على المساحات المعمورة؟ وما هو السر الذي يدفعه لمثل هذا الانحراف؟ وهل لذلك الانقلاب علاقة بنوع الحياة التي كانوا يحيونها؟

جوابا على هذه الأسئلة أرى أن الأمر برمته قد لا يتعدى كون الشرّ يبدو أكثر إغراء وفتنة وجاذبية من الخير الذي يبدو على قدر كبير من الطيبة والسذاجة والخشونة التي لم تكن تلائم الطبيعة المجتمعية يومها،ولذا تمكن الشر بهذه البهرجة الزائفة التي يملكها من خداع أمة أتعبها الجشب والخشونة سنين طوال وكانت تواقة للتخلص من بعض القيود التي تلجم شهواتها الدنيوية في وقت فتحت الدنيا لها أبوابها على مصراعيها.

ولما كان هذا الأمر كينونة مصيرية يتصارع عليها الموروث مع المطلوب في مجتمع قريب عهد من عصر الرسالة، وقريب عهد من موروث جاهلي راسخ في العقول، مجتمع كان منفتح جنسيا بشكل قريب من موروث الحضارات الأولى ويكاد يكون عصرانيا في شبهه بما يجري اليوم، فقد استوجب العمل بالمطلوب استحصال الغطاء الشرعي والإباحة لرفع القيد لكي لا يحدث الفعل ثورة مضادة عند عامة الشعب الذين قد يرون في هذا الفعل دعوة جديدة للتجهيل أو عودة للجاهلية، هنا جاء دور وعاظ السلاطين ليضعوا قواعد جديدة لمنظومات الأخلاق تبيح للمترفين الإتيان بما كان من قبل ممنوعا، وبهم تأثرت النخبة فنقلوا ما تم استحداثه إلى قصورهم ورياضهم بحيث باتت هذه الممارسات قريبة من العائلة والأطفال، الذين نقلوها بدورهم للشرائح المجتمعية الأخرى.

رافق هذا الانقلاب انقلاب سلوكي آخر ليس على مستوى الفعل فقط بل على مستوى القول (الأدب) أيضا بشقيه الشعر والنثر في الوقت الذي أوجد القول لنفسه مكانا ومنزلة، وكالعادة كان هذان الغرضان الأدبيان يترجمان طبيعة المجتمع ويتلونان للحصول على تأييد المتذوقين ولاسيما أنه لم يعد مستساغا أن يقرأ الشاعر قصيدة دينية أو وعظية أمام خليفة مخمور ترقص له الجواري البيض والسود والصفر والشقر وتغني له القيان بكل اللغات المعروفة.

في هذا المرحلة ولدت الإيروسية العربية الجديدة وهي تحمل جينات أصولها الإيروسية من العصر العربي الجاهلي الأول الذي تبنى مبانيه من قبل إمريء القيس وأبو حسان الفزاري شاعر ذبيان الجاهلي وآخرون. وبدأت خجولة متعثرة ثم ما لبثت أن تفرعنت وطغت وتسيدت على جميع الأغراض الأخرى بعد أن وجدت قبولا منقطع النظير عند الخاصة والعامة. ربما لأن الشر كما قلنا أكثر إغراء وجاذبية من الخير الذي يبدو على قدر كبير من الخشونة التي لم تكن تلائم طبيعة الحياة المجتمعية المترفة الغنية الباذخة يومها فأشتهر في الشعر عمر بن أبي ربيعة، وأبو نواس، وكان في النثر الجاحظ، بل حتى في كتابات بعض الدينيين تجد روحا إيروسية تتماشى مع روح العصر كما هو عند جلال الدين السيوطي.

لكن هل يعني قبول أمر ما والعمل به أن هذا الأمر أصبح شرعيا ومشروعا؟

نعم قد يصبح مشروعا تبعا للعرف المجتمعي السائد، ولكنه لا يمكن أن ينال الشرعية بمعناها الفقهي ما دام مخالفا للعقيدة.ولذلك اعترض الفقهاء المخلصون على هذا التبديل ورفضوه وحذروا العامة والخاصة من مغبة الإتيان به ولكن لم يسمعهم أحد، ومن سمعهم لم يأخذ بتحذيرهم، مما أحدث ثنائية غريبة تزاوج فيها الفكر الديني النمطي السائد مع الفكر الاعتباطي الذي أوحت به الحياة الباذخة المترفة، وتبعا لذلك أصبح التهتك في القول والفعل أمرا مباحا تأتي به النساء أكثر من الرجال ربما لأن الرجال كانوا يريدون ذلك بشدة، ويجدونه على لسان المرأة أكثر حلاوة وطلاوة وإثارة، ولأن النساء كن يرين أنه يرفعهن إلى مقامات لا تنالها العفيفات المخدرات.

 ثم مع تلاشي مكانة الحكام وسيطرة الحكومات الأجنبية على مقدرات الحضارة الإسلامية ضعفت قيمة ومكانة الخلفاء وتحولوا إلى صور باهتة لا أثر ولا تأثير لها وخلت خزائنهم التي كان يغدقون أموالها من قبل على الشعراء ولم يعد فيها ما يغري الشعراء والأدباء ليتهتكوا أمامهم بالقول، فضعف الشعر والأدب كذلك وتحولت أغراضهما إلى مقاصد جديدة بما بدا وكأن ظاهرة الإيروسية اختفت من الحياة الأدبية أيضا، طبعا ليس لهذا السبب وحده، فهذا السبب واحد من مجموعة كبيرة من الأسباب الأخرى التي أثرت على مجمل الحراك الثقافي.

 وقد استمرت هذه الحالة سنين طويلة بدا خلالها وكأن الإيروسية ماتت ولم يعد لها من وجود، ولكنها فاجأتنا بالظهور حديثا بما يبدو وكأنه ظهور يشابه ظهورها في مراحل الحضارات الإسلامية العربية، ولكنها جاءت هذه المرة على لسان النساء العربيات أكثر منها على لسان الرجال وكأن انقلابا أخلاقيا قد وقع في المجتمع دفع الكثير من النساء الشاعرات للتخلي عن منظومة السلوك الموروث.

 

الإروسية لماذا؟

تقوم الايروسية  كما هو معروف على مبان أخلاقية واضحة هي التعامل مع الجسد،والسرير،والعلاقة الحميمة، والخمر، والمجون، والتأمل، والصنعة،مرة بالإيحاء والترميز ومرة أخرى بصراحة متناهية تتناول أدق شعيرات العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وهي أمور ابتذالية ينظر لها الفكر الديني نظرة فيها الكثير من الخصوصية ويتعامل معها وفق سياقات محدودة ومؤطرة بأطر حدية حادة وجارحة ولا توجد فيها مساحات للتأمل الشخصاني أو التغريد خارج سرب العرف المتزمت.

 

الفلسفة الإيروسية

 ولكن لماذا الإيروسية؟ هل هي فلسفة جديدة؟ أم محاولة لإحياء فلسفة قديمة؟ أم منهج من تلك المناهج المعدة بعناية للترويج لمنهج أكبر مقدر له كما يرى الذين وضعوه أن يقود العالم كله ويعولمه؟

وأقول جوابا: مع أن هناك من يدعي أن الإيروسية فلسفة وأنها تقوم على المقابلة بين قطبين هما: الروحيّ  والجسدي (الجنسي) إلا أني لا أرى لها علاقة بالفلسفة بقدر ما أراها واحدة من المحاولات الشريرة التي تبغي بعض الجهات الكونية من ورائها تسليع القيم والعلاقات والعقائد وإنزالها من مكانها ومكانتها ووضعها في واجهات عرض زجاجية لتعرض مع مواد أخرى من أحذية وملابس وعطور.

ولو كانت الايروسية فلسفة لما خرجت من الأطر الفلسفية لتدخل في تغريب لا يمت للفلسفة بصلة بقدر تأكيده على نزعتها الجنسية الإباحية الساخنة، وعلى سبيل المثال كنا قد تحدثنا من قبل عن إيروس الإله الإغريقي إله المتعة والشهوة والجنس والتهتك الذي أخذت الايروسية اسمها منه، ولكني لا أدري ما علاقة إيروس بالفلسفة،وما علاقة الفلسفة بالأقمار التجسسية وما علاقة إيروس المتهتك  بالأقمار الصناعية لتقوم إسرائيل وفقا لهذه الجدلية البيزنطينية الفارغة مثلا بإطلاق اسمه على سلسلة من ثلاثة أقمار صناعية أطلقتها لمراقبة دول الجوار ومتابعة النشاط النووي الإيراني.؟

 كما لا أدري كذلك ما علاقة إيروس هذا بالمجرات والكواكب ليطلق العلماء اسمه وفقا لنفس الجدلية على كويكب اكتشفه جوستاف ويت عام 1898؟

ولكني فقط أدري أن نسبة واحد من أغراض الشعر إلى إيروس لم تأت بدافع فلسفي وإنما جاءت ترجمة حرفية لطبيعة هذا الإيروس الجنسية الشهوانية لا أكثر! ولذا تبدو مثل واحدة من السلع الحديثة التي أحتفظوا بها لأنفسهم يوم كانت جديدة ولما أكتفوا منها وابتذلت نتيجة كثرتها صدروها للعالم الآخر فغزت الأسواق العالمية ومنها عالمنا العربي!

تابع القسم الثاني من الدراسة

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: ظاهرة الكتابة الايروسية عند المرأة، الثلاثاء 16 - 20/02/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم