ملف المرأة

حول ظاهرة الكتابة الآيروسية عامةً وعند المرأة خاصةً

وقراءة فنجان قهوة الصباح المرّة الثقيلة ـ لأنني إنتبهتُ إلى أنني سبق وأنْ كتبت غير القليل من الدراسات النقدية لقصص وروايات وأشعار العديد من خيرة الروائيين والشواعر وكاتبي وكاتبات القصص أخص بالذكر منهنَّ ومنهم : الطبيبة المغربية فاتحة مرشيد في روايتها "مخالب المتعة" وبدرجة أقل روايتها " لحظات ... لا غير "، ثم الجزائرية المقيمة في أمريكا الشمالية السيدة سهيلة بورزق في مجموعتها القصصية الموسومة " كأس بيرة "، فضلاً عن رواية الموهوب العراقي سلام إبراهيم في روايته الأخيرة " الحياة ... لحظة "  و ديوان السيدة الكردية السورية خيلات أحمد الأشد صراحةً والأكثر إنفتاحاً على الجنس والآيروس المِثلي . وأخيراً أشعار المغربية الأمازيغية السيدة مليكة بوزيّان [لم أكتب عنها] . كما أني لست بحاجة لتذكير القارئ الكريم بنوعية ما تكتب السورية السيدة النعيمي وما أُثيرَ حولها من ضجّة كبيرة . فإذا كان معي وورائي كل هذه الذخيرة وهذا الإرث والتراث فعلامَ ترددي وهل يخاف الغريقُ من زخة مطر صيفية وإنْ جاءت في عزِّ لشتاء الأوربي؟ ثم هل نسينا ما في كتب الإمتاع والمؤانسة والأغاني وألف ليلة وليلة من ضروب وأشكال وأوصاف وتصوير للآيروس الأفلاطوني الرومانسي النظيف والآخر الجسدي الفاضح المكشوف؟

أحسبُ أنَّ الذي حرّك السادة والسيدات في موقع المثقف لطرح هذا الملف هو كتاب ثمانية أقدار للدكتورة العراقية الكردية السيدة أزهار رحيم عضوة مجلس النواب العراقي [رواية أم مجموعة قصصية؟ لا أعرف! لم أقرأها بعدُ ] .

الآيروس والجنس في التأريخ (لا يعني الآيروس بالضرورة ممارسة الجنس ... إسألوا سعدي يوسف فله ديوان كامل في فنون الآيروس)

 

الآيروس الموازي والأقدم والأكثر صَخَباً

الآن : ما الجديد في موضوع الآيروس؟ لا من جديد تحت الشمس ! لم تتوقف البشريةُ، كما إخالُ، يوماً عن ممارسة أو مداعبة أو التعبير اللفظي عن هذا الضرب من الجنس علماً أنه رسمياً وعلى نطاق واسع طاغٍ مرتبطٌ فقط بالنساء وهذا خطأ تأريخي فاحش . لماذا؟ هناك آيروس موازٍ ثانٍ خاص بالرجال، أعني ممارسة الغلمان والصبيان والولدان جاء ذكره واستنكرته التوراة كما جاء ذكره مراراً في القرآن مقروناً بأقوى الفاظ الشجب والإشمئزاز من قبيل [أتأتون الذُكرانَ من العالمين . وتَذَرون ما خلقَ لك ربّكم من أزواجكم بلْ أنتمْ قومٌ عادون / سورة الشعراء / الآيتان 164 و 165]. ومن سورة العنكبوت نقرأ ما يلي [ولوطاً إذْ قال لقومهِ إنكم لتأتونَ الفاحشةَ ما سبقكم بها أحدٌ من العالمين . أئنكم لتأتونَ الرجالَ وتقطعونَ السبيلَ  وتأتونَ في ناديكم المُنكر  ... الآيتان 28 و 29]. هذا آيروس جنسي يمارسه رجلُ مع رجل وكان فاشياً على ما يبدو في الزمن السابق على الإسلام أي الزمن الجاهلي ولا أحسبه كان محصوراً في نطاق قوم لوط فقط . وهو كذلك معروف في بلاد الإغريق ولدينا من أفلاطون مثلٌ ناصعٌ لا يقبلُ الدحضَ أو النقاش . لذا فالقول [ما سبقكم بها أحدٌ من العالمين] قول غير صحيح، إلا إذا كان المقصود شعوب الشرق الأوسط وعرب الجاهلية حيث لم نقرأ في معلقات شعراء العصر الجاهلي أي شعر آيروسي ذكوري من نوع ووزن شعر أبي نؤاس مثلاً. بل وخلا هذا الشعر من الآيروس الأنثوي عدا إستثناء واحد بسيط في شعر إمرئ القيس حيث وصف فيه مضاجعته لإمرأة أثناء وقت إرضاعها لطفلها . لا أتذكر البيت جيداً ... ثم أي ذوق متردٍ خالٍ من أي أثرٍ لإنسانية وشهامة الرجال لدى هذا الشاعر، وهو ملك ضالٌّ وضليل . كيف سوّلت نفسه له أنْ يمارس الجنس مع إمرأةٍ مُرضع؟ أليس في قلبهِ الملكيِّ شيءٌ من الرحمة على الرضيع في الأقل؟ كيف أغواها وبأية وسائل أغواها حتى خانت زوجها وأساءت لرضيعها، أما للأطفال حُرمة؟

 

نوع ثالث من الآيروس / الفتيات الغُلاميات

شعر أبي نؤاس عاجٌّ بالشعر الغلماني حتى أنَّ جارية من جواري بغداد كانت تشاكسه وتسبّه وتسميه {الشاعر الحَلَقي} لأنه دأب على ملاحاتها والتحرش بها وقول الشعر البذيء بحقها . بل وإنه تغزّلَ بالفتيات الغلاميات وقال فيهنَّ كلاماً فاحشاً غاية الفحش من قبيل (1) :

 

من كفِّ ذاتِ حَرٍّ في زيِّ ذي ذَكّرِ

لها مُحبّانِ لوطيٌّ وزنّاءُ

 

وقال في قصيدة أخرى عن بعض الفتيات الغلاميات :

وشاطرةٍ تتيهُ بحسنِ وجهٍ

كضوءِ البرقِ في جُنحِ الظلامِ

....

ترجّلُ شعرَها وتُطيلُ صُدغاً

وتلوي كُمَّها فعلَ الغُلامِ

فهبها قد حكتهُ فتجاوزتهُ

بحسنِ الزيِّ فيها والقوامِ

فكيف لها بحيلة سدِّ جُحرٍ

بعيدِ القعرِ ليس بذي التئامِ

ونصبِ الجُلجُلين لها عليهِ

فتغمرُ غامراً صعبَ المرامِ؟

 

وعن الجارية الغلامية (1) قال الجاحظ في كتاب مفاخرة الجواري والغلمان

[... ومتى أردتها من قدّامٍ أو خلف من حيثُ يحسنُ ويحلُّ وجدتَ ذلك كما قال الشاعر :

وصيفةٌ كالغلامِ تصلحُ للأمرين كالغصنِ في تثنيها

أكملها اللهُ ثم قال لها لمّا استتمتْ في حسنها إيها] .

 

ومن هذا القبيل ما {كتبت إحداهنَّ على قلنسوتها} (1)

تأملْ حسنَ جاريةٍ

يُحارُ بأنها القمرُ

مؤنّثةٌ مُذكّرةٌ

فهي أنثى وهي ذَكَرُ

 

 

أما قصة خليفة المسلمين محمد الأمين بن هرون الرشيد مع الغلاميات وشغفه بهنَّ فإنها من الشهرة بمكان .

الآيروس الأنثوي

الآن، ماذا عن الآيروس النسائي الذي يذكّرنا بحقبة العصر الأمومي وسيادة المرأة على الرجال وما الذي يميزه عن آيروس الرجال أو الآيروس الرجولي؟

 لم نسمع بضجّة كبرى أو كبيرة تعترض وتحتّجُ على شيوع وتفشي ما كان يُسمّى حينذاك بالشذوذ الجنسي يمارسه الرجالُ مع الرجال حتى إنه دخل حتى مجالس بعض خلفاء المسلمين مع بطاناتهم من الشعراء والكتّاب . ظهر في الشعر العباسي بوجه خاص وهذا أبو نؤاس وفي ديوان شعره الكثير من الشعر الإباحي الصريح حتى أنه لم يتوانَ عن ذِكرِ أسماء الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة على حدٍّ سواء . بل وربما بزّه في هذه المضمار وتفوّق عليه شاعران بغداديان آخران هما إبن سكرة وإبن الحجّاج . كان ذلك الشعر مقبولاً يتداوله الناس مكتوباً وشفاهاً حتى أنه وصلنا بشكل دواوين شعر . ظاهرة لا تخلو من طرافة هيَّ أنَّ الشعراء المتصوفة المعروفين قد خلا شعرهم من الآيروس بكافة أشكاله المستور منه والمفضوح . إذا كان الأمر كذلك وعلى هذه الدرجة من الإتساع والشيوع فعلام تُثارُ الضجّات العنيفة الصاخبة ضد المرأة التي تتكلم في الآيروس والحب الأفلاطوني أوالجنسي الجسدي أو تصف حالة ولهٍ جنسي تمارسه مع زوج أو حبيب أو صديق؟ التطرق لأمر الجنس محرّمٌ على المرأة الشرقية لكنه حلالٌ للرجال صافٍ زلال مثل دم الغزال ... أذاك لأنَّ الرجالَ كما جاء في القرآن [قوّامون على النساء وأنَّ للذَكَرِ مثلَ حظِّ الأنثيين]؟ الغريبُ والطريفُ معاً أنّ بطلات هذا النوع من الأدب المكشوف شعراً أو قصصاً أو روايةً هنَّ سيدات محترمات مصونات على درجات عالية من الخلق الرفيع وغالبيتهنَّ العظمى من النساء المتزوجات مع بناتٍ وبنين . منهنَّ الرائدات من الرعيل المقدام الأول غادة السمّان وكوليت خوري ثم جاء دور جُمانة حدّاد ومّن جارها وحذا حذوها وهنَّ كثيرات حتى بلغن السمت الأخير العالي مع كلٍّ من الكاتبة الصحافية السيدة سُهيلة بورزق والدكتورة العراقية أزهار رحيم في كتابها " ثمانية أقدار".

 

الآيروس والكبت الجنسي والحرمان

هذا هو البعدُ الثاني من بين الأبعاد الخمسة التي إقترحها الأخ أبو حيدر مدير موقع المثقف لمناقشة ظاهرة الكتابة الآيروسية عند المرأة . ذكرتُ قبل قليل حقيقة أنَّ غالبية السيدات من بطلات الكتابة الايروسية هنَّ نساء متزوجات وسعيدات بهذا الزواج وبأزواجهنَّ ولي معرفة قوية بإحداهنَّ وأعرف متانة علاقتها بزوجها وشدة حرصها على سلامة وإدامة هذه العلاقات التي عمّرت لأكثر من ثلاثة عقود من السنين. إذاً لا من مجالٍ للكلام هنا عن حرمان وكبت جنسيين أبداً خاصة وهؤلاء النسوة النُخبة بين السيدات عاليات الثقافة والتأهيل العلمي أو الأدبي مما يجعلهن قادرات على مكاشفة أزواجهنَّ بأي خلل يطرأ على العلاقات الزوجية ولا سيّما موضوع ممارسة الجنس في فراش الزوجية . ودوام الحالة الزوجية لسنينَ عددا بل ولعقودٍ دليلٌ على طبيعية الممارسة الجنسية وأنْ لا من برودٍ جنسيٍّ أو نُفرة أو حرمان تعبّرُ عنه بهذا الشكل أو ذاك شعراً أكانَ أم قصّةً أو رواية . يبقى السؤال الوجيهُ وارداً : لماذا إذاً يكتبن في فن الآيروس ويشغفن بموضوعات الجنس وذكر أسماء أجهزة التناسل المسؤولة عن الجنس وما يتصل به؟ أرى الأمر أنه نوعٌ من التحدي العنيف لمثلث الدين والأعراف القاسية وللمنظومات الأخلاقية القديمة المتوارثة ... هذا بالنسبة للبعض منهنَّ . وأرى أسباباً أخرى بالنسبة لبعض الأخريات: تحقيق أمنيات قديمة غائرة في أعماق النفوس مُذْ سنيِّ المراهقة حيث عنفوان التفتح الغريزي الجنسي لدى الصبايا والصبيان . نعم، هنا كبت وهنا حرمان في المجتمعات الشرقية إذْ لا حرمانَ جنسياً في الغرب فكل شيء مُتاح . أصداء الماضي فينا وأصواته المحصورة المقموعة بشدة لا يمحوها الزمان فهي فينا جزء منا في عقلينا الباطن والظاهر تتحين الفُرص المتاحة للتنفيس والتعبير عنها صراحةً حيناً وبالرموز أحيانا . لا أحسبُ الأمر نوعاً من المنافسة أو المباراة بين المرأة والرجل في أيهما أكثر جرأة وإقداماً على الكشف عن المستور والممنوع والمحرّم شرعاً وديناً.  كلاّ، لا أرى الأمر كذلك أبداً . لو حللنا ما تكتب المرأة عن الآيروس الجسدي المكشوف وما يكتب الرجلُ عنه لوجدنا فروقاً نوعية كثيرة في هندسة الصور الشعرية مثلاً وفي بناء الجمل الإنشائية وفي طرائق التعبير بل وفي شدّة الكشف الصارخ . تبقى المرأةُ حتى هنا إمرأةً ويبقى الرجلُ العنترُ الهرقل الجبار رجلاً يسعى بكافة السبل والأشكال لإيجاد ما يميّزه عن الأنثى . حتى هنا في هذا المضمار نتلمسُ بعض آثار النزاع والصراع بين العصرين الأمومي الراحل والرجولي السائد اليوم ديناً وقانوناً وعرفاً ووراءه كل ما في هذه العناصر الثلاثة من قوةٍ وسلطانٍ وجبروتِ تحكّمِ العادة أو التعوّد والإعتياد .

 

الموقف الديني من الكتابات الآيروسية

وهذا بعدٌ آخر من الأبعاد الخمسة المقترحة للنقاش.

قلما نجدُ بيتاً عربياً إسلامياً في الشرق الأوسط أو إسلامياً غير عربي في باقي أنحاء العالم ... قلما أو يندر أنَّ نجدَ بيتاً  هناك أو هنا خالياً من الدين صوماً وصلاةً وطقوساً وعباداتٍ وعادات وتراثاً وآثاراً أو فقهاً ولغة وحديثاً ولا أتكلم عن الطقوس الموروثة الخاصة بهذه الطائفة المسلمة أوتلك .  فهل تُرى والحالة هذه يمكن أنْ لا يتدخلُ الدين فيما تكتب إناث المسلمات بوجه خاص؟ ليس الدينُ والبيتُ والأهلُ وحدها إنما والمجتمع والدولة خاصةً تلك التي تثبّتُ في دساتيرها أنَّ الإسلامَ هو دينُ الدولة الرسمي فأين المفر؟ اتكلم عن الدين الإسلامي فللدين المسيحي والأخوات المسيحيات خصائص ومميزات وامتيازات معروفة تتيح لهنَّ قدراً أكبر من حرية التعبير والسلوك والمخالطة إبتداءً من ممارسة الطقوس والفروض اليومية والأسبوعية المعتادة في الكنائس حيث يجتمعُ الكل بحرية وبدون حواجز بين المرأة والرجل. مع ذلك فإنَّ عدداً قليلاً جداً من الأديبات المسيحيات ممن تجاسرن وغامرن فتقدمنَّ الصفوف للكتابة والتعبير عن الآيروس الذي يعبده البعض في السر والعَلَن ويلعنه الكثيرون ويكفّرون صاحباته في الليل والنهار . الدين الإسلامي ضد التبرّج وضد الزينة والتزيّن وبعض  فرق الإسلام تحرّم حتى ظهور كف أو شعر رأس المرأة المسلمة فكيف يجيزُ الإسلام لها الخوض العلني في مسائل الجنس وخاصة الجنس العاري المكشوف الصارخ؟ كيف يُجيزُ لها ذلك وهو يعتبر نظرة عين الرجل للمرأة نوعاً من الزنا؟

إعتراف ختامي: هذا موضوع معقّد طويل عريض لا يمكن الإلمام به في بضعة صفحات وعلى عُجالة لذا قناعتي الخاصة تقولُ لي أني قد قصّرت بحقه وإني لم ألمم به الإلمام الكافي وسيكمل الشوط بقية الأخوة المشاركين .

 

.......................

هامش

(1)كتاب الجواري والقيان للدكتور سليمان حريتاني، الطبعة الأولى 1997 . الناشر: دار الحصاد / دمشق. الصفحات 98 ـ 103

        

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: ظاهرة الكتابة الايروسية عند المرأة، الثلاثاء 16 - 20/02/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم