ملف المرأة

الكتابة الايروسة نتاج لقهر المرأة

فالمرأة التي لا تتعرى على الورق، ولا تكشف عن رغباتها الطبيعية، فكتابتها لا تلفت الانتباه بما فيه الكفاية، وتصبح صوتا نشازا . هذا و لم تعد الكتابة الايروسية مصدر اتهام ولم تعد تثيرالريبة أو الامتعاض ... لقد فقدت رائحتها، وبهتت صورتها، وانكفأ الآخرون على التشهير بها ... لم نعد نشعر في هذه الفترة الزمنية بأن الكتابة النسائية الايروسية فضيحة تخشاها المبدعة أو تقصيها الرقابة أو يمجها القارئ الرجل، على العكس فكتابات المرأة فاقت كتابات الرجل في الكشف عن المسكوت عنه، ورغم أن الكتابات النسائية تتلمس طريقها فنيا على حد تعبير عدد من النقاد مثل الأستاذ محمود طرشونة، فقد أثارت القلم الذكوري المنتشي بايروسية كتابة المرأة ... كما نالت أغلب صاحبات الكتابات الايروسية الجوائز لكنها لم تحرك الفضائح الأدبية ...

وقراءاتي لكتابات المرأة دواوين كانت أم روايات أو مجموعات قصصية، فهي تفضي إلى عدة نتائج، مفادها أن الكتابة الايروسية هي نتاج لقهر جسد المرأة، فرغم أن القوانين منحت المرأة الحق في الكرامة والمساواة مع الرجل إثر الاستقلال في تونس، وخاصة مع صدور مجلة " الأحوال الشخصية "، فالرجل لم يهضم هذا التحول الاجتماعي، وعاشت المرأة إثر خروجها للشارع، للدراسة و للعمل بعض التجارب المؤلمة مع الجسد الذي تعرض للعنف والقهر والاغتصاب عن طريق الرجل الذي أضحى يرى خروج المرأة للمجتمع مجرد عهر، وأضحى يكفر عن نقمته عن طريق جسدها، وهذا ما كشفته بعض كتابات المرأة، خاصة في ستينات وسبعينات القرن الماضي .. فلو عدنا إلى تلك الفترة، وإلى كتابات الأديبة فاطمة سليم وخاصة في كتابها " نساء وأقلام " (1) لوجدنا نماذج لمعاناة المبدعة جسديا عن طريق الزوج الذي يرى في عمل المرأة الصحفي والثقافي مجرد عهر، فيعنف زوجته، ويضاجعها قسرا عبر الاغتصاب وتمزيق ملابسها، وهي بذلك تقدم صورة لامرأة مثخنة بالجراح . تقول فاطمة سليم : " ومازالت الذاكرة المثقوبة يختلط فيها الفرح بالترح في انتظار الجلاء والصفاء، كل ما فيها ينزف دما قانيا، عيناها، أذناها، فمها، حتى السماء أمطرت دما .." عبر هذه الصورة لإمرأة مثخنة بالجراح، تنزف الكلمة لتتفصد من شرايين المعاناة، وهي تقترن بإرادة ترنوإلى تأسيس ذات حرة .

ففي حديثها عن عن تجربة الكتابة النسائية وعبر نص "أنانية مفضوحة"، تفتح للقارئ سجل رؤيتها " ومع ذلك نبتت لنا جوانح وطرنا ... فوجدنا الفضاء رحبا والحياة فيها الكثير من الجمال والقلم ما زال سلاحنا ... نحارب به كل الأعداء ... وسنكتب ونكتب ونكتب ......" .

يتخذ الكتاب بعدا تأريخيا اذ يلتصق بمشاغل المرأة المثقفة في حيز زمني، ولكنه التاريخ الذاتي الذي يستند الى تجارب الكاتبة وانخراطها في الاتحاد النسائي الذي منحها هذه الشحنة العاطفية، المنادية بتحرر المرأة، تحرريتسع ليضيق ويقتصر على ذات المرأة " ولم نملك أمام المجهول أكثر من ان نحبر على الورق جبرا داكنا جدا .. ساخنا جدا ... ونرسله مع الحمام الطائر، ليرميه قرب البحر الثائر ... وسوف لا يكون أكثر من حبر على ورق ......"

وتواصلت هذه المعاناة في ثمانينات القرن الماضي وقد كشفتها الكاتبة حفيظة قارة بيبان في كتابها " أجمل الفضائح "(2) وتبدو فضيحة الكتابة عند حفيظة قارة بيبان عالقة في ذاكرة صاحبتها إذ بدأت رحلة الكتابة في سبعينات القرن الماضي في ظل محرمات اجتماعية ترى في الكتابة النسائية جرما وخروجا عن الطاعة، فالمرأة المبدعة عانت ويلات الفضائح في فترات سابقة من تاريخ مجتمعنا التونسي، حيث كانت الكتابات النسائية مظهرا من مظاهر رفض القيم البالية . ففي شهادة حفيظة عن الأديب الراحل محمد العروسي المطوي تقول " ذلك كان حاله مع عضوات النادي يشجع وينبه ويلاطف ويخفف بمحبة شيخ جليل حكيم .... تدخل حياة بالشيخ ناقمة لا عنة الأوضاع والرجال، وتشكو فاطمة سليم من معاناتها من ازدواجية الرجل فيقابلهن بابتسامة هادئة داعيا إلى التجاوز حاثا على ما هو أهم " ص108 .  

وفي شهادتها "تاء التأنيث" تلصق حفيظة التهمة بهذه التاء المؤنثة، ومعاناة تاء التأنيث عندها لا تنفصل عن معاناة المرأة العربية المهمشة، فإذا بالذات الكاتبة تستشعر خراب الروح والأمكنة، وذلك ما جعلها تميل إلى الرومنسية بأوجاعها المثقلة وتمثل ذلك الحلم المفقود المكبل للرغبات وقمعها : " إذا جعلوا أنوثتي لعنة فكيف لا أغرس أظافري في وجوههم وعيونهم الكليلة ؟ وكيف لا أكتب لعنة الأنثى الأبدية بل اللعنة التي تتابع الإنسان العربي ليواصل التوغل في كهوف ترديه، متشحا بضعفه المأسوي .. اللعنة التي تتابعه وهو يغلق الباب بالمفتاح من الصباح إلى المساء على ابنة عمي الشابة المتزوجة في إحدى بلدان الخليج العربي حتى يحفظ حق الحريم في الصيانة والتقدير. اللعنة التي تتابعه والزنزانات تتوالد وتتناسل لتبتلعه في غفلته داخل وطنه والمنافي تتكاثر وتتناءى ليهجر ويشرد رغما عنه عن وعي وبدونه ليضيع في المتاهات الجديدة باحثا عن رقعة حرية حتى ينعاه الوطن والعالم يتفرج ساكنا لا مباليا متلهيا بمباراة كرة القدم " ص115  

من جهة أخرى تكشف حفيظة قارة بيبان ضمنيا عن الفكر المتطرف الذي غزا البلاد في منتصف ثمانينات القرن الماضي، والذي كثف من هذه المعاناة، بمحاولته التبشير بفكر جديد يصدم خروج المرأة للمجتمع المثقل بأوجاع المجتمع الذكوري، لذلك ترنو تاء التأنيث عند حفيظة قارة بيبان لتتبرج وتضحى أنثى شبقة، لكنها تخشى فضائح المغامرة ... هي ترنو إلى التجسيد المكتمل للفضيحة، فتخلع عنها ميدعتها الفضفاضة التي ألبستها لها أمها أيام طفولتها لتخفي تفاصيل انوثتها، لكنها لم تلبس بعد رداء اللغة الذي يعبر عنها . هي لم تصل بعد إلى لحظة الكتابة التي لا يحاصرها (الأنا الأعلى)، " أبحث عن سماء أرحب، سماء حقيقية مفتوحة لا يطل منها وجه صاحب العمامة ليأمرني بإطالة فستاني إلى الكعب أو رفعه إلى الركبتين، ولا يرفع عصاه في وجهي لأعري شعري أو أغطيه ولا يذكرني بأن التاء في آخر إسمي يمكن أن تكون لعنة " ص114 .

 وهذا القهر لجسد المرأة ما جعل المرأة الكاتبة تشعر بالاضطهاد والتمرد العكسي، وصار الجسد وسيلة تكتشف به الواقع المعفن الذي قهرها واغتصبها، وذلك ما كشفته فتحية الهاشمي التي دخلت غمار الكتابة في بداية هذا القرن في سن ما بعد الأربعين، وكأنها قد هربت من معاناة المرأة في ثمانينات القرن الماضي، وعكست هذه المعاناة في تجاربها الكتابية المختلفة، لتصور في رواياتها صورة المرأة بين عنف الزوج، وعنف العشيق الذي أشعرها بالدونية، وفي محاولة تجاوز الوضع الدوني وجدت المرأة في الأعمال الفنية، والمخيال ما يعيد الكرامة لهذا الجسد عبر الرسم و ينابيع اللغة والأساطير التي كانت ترفع من صورة المرأة وتجنبها هذه الرؤية الدونية ....

فالشخصية الرئيسية في روايتها "حافية الروح " (3) رسامة، شاعرة، مثقفة، تحاول ان تشكل رسوماتها على ألواح متعددة: الجسد، الجدران، السقف، السجادة، الورقة، الى الحد الذي تحول فيه الرسم إلى سخرية من الصورة الظاهرة لهذه المرأة، المنعكسة في المرآة ... والرسم بألوان صارخة تشير إلى التوتر النفسي المصاحب للاكتئاب والرغبة في المغامرة في آن . تكتشف الشخصية الواقع من خلال العشيق، تنجذب إليه برغبة مازوشية على قذارته، وهو لا يتعامل معها إلا داخل شقة مغلقة كي لا تنكشف صورتهما المتواطئة ضد المجتمع، فهو عشيق لهذه المرأة المتزوجة. وتبدو الشخصية محدودة القدرة على مجابهة هذا الواقع والتفصد من العالم الخارجي، بل تتحرر عكسيا وتضيق مساحة الحرية كلما التصقت بهذا الواقع - في صورة العشيق ...  

تنكشف حركات الشخصية الرئيسية وهي تصور مشاهد راسخة في الذاكرة تدنست فيها المقدسات وأحدثت فيها حالة من تقوقع الذات لتعبر عن آلام جسد الأنثى حين يكبل باللاشعور الممعن في جلدها : " في الليل كم كان يؤلمها أن تستفيق لتجد أمها قد غيرت مكان نومها، كانت تغضب جدا، وكم يفاجئها وجه والدها وهي تتخذ مكانها بينه وبين والدتها . كانت والدتها تعنفها في الصباح وتعيرها بقلة التربية ... منذ الخامسة وهي تنام وحدها والى حين تزوجت، مازالت تكره النوم حذو شخص آخر وكثيرا ما تخاصمت مع زوجها من أجل ذلك " ص74 .

هذه الشخصية تكشف عن أسباب النقص النفسي، الرسم يدلل على التوتر النفسي، والرسومات هي صور تكشف رؤية الشخصية من الداخل وهي تتمرد وتغامر لتخلص ذاتها من العجز الباطني، بحثا عن التكامل الذي تنشده في الرسم وبالتوازي في الجنس مع العشيق، وتساءلت: لم ارتبطت عاطفة العرب باللون الأحمر، وبالطلق " ص43 . تنتمي الصور إلى عالم اللون، والألوان تعبيرات لها دلالات اجتماعية تنعكس في رسوماتها، فهل حققت الخلاص من خلال التمرغ في حمى الألوان أو في أحضان العشيق الآسنة التي تنبعث منها روائح أخريات؟ .. الرائحة المقرفة المتسللة إلى أنفاسها تجعلها تجوب في ذاكرتها، تفتح جروحها الحسية، تجعلها تتفحص سوءات المجتمع، لتكتشف عجز الآخر عن منحها رؤيا تخرج من رحم الواقع . وتعي أنها غير قادرة على الانجاب ....

إن حالة المخاض مفقودة والرغبة في تبني طفلة تجعلها تستشعر غرابة هذا الطفل الذي لم ينجب من رحمها، ونستشف العقم بجميع مستوياته ودلالاته .... وتنتهي الرواية بالسخرية من العشيق، بتركه عاريا، حاثة اياه على ستر عيوبه وذاته المشوهة . فقد أرادت أن تبين لنا الكاتبة آخر الرواية أنها لم تتعاطف مع الواقع لأنه كبلها وكبل أحلامها واسترسل في قمعها وفي تحقيرها وفي زجها في غرفة مغلقة تنبعث منها روائح النتونة المقرفة .

وفي روايتها الثانية " منة موال " (4) فهي تكشف المرأة المغتصبة في أكثر من صورة، منة وهي تنتقم من رجال المدينة (ولد اللبة والحنش وغيرهما) وتستدرج موال إلى عالم حكايات المدينة، وكانت تحكي عن قصة هربها من زوج مسن، تنقصه الرجولة، شقت التلال لتكتشف الذكورة المخصية في مدينة تغرق في الزيف والخرافات .

وتتحدث عن الشيخ الذي كان يراقب الأهالي، وتلدغ عيناه ابنة الحنانة المشرفة على الزاوية (عائشة)، وهي تعاشر ابن اللبوة سرا، فيأمر بخدمتها له، ليحبسها ويغتصبها . ان ظهور منة داخل الأدغال المشرفة على التلة في صورة بدائية، صحبة الحيوانات التي تدلل على جموح الغريزة واندفاعها، وعلى تمثلات الإثم والخطيئة، وعزف الناي الشبقي الذي استدرج موال نحو مكان منة هو اللحن الذي أعاد إلى ذاكرته صورة نيران، تلك الفتاة التي سلمته جسدها، ورحلت، تلك الألحان جعلته يستجلي الحالة الإنسانية الأولى، التي تعلن عليها النصوص القديمة في طقوس ومراسم الأعراس، حيث تبرز الصورة النارية للمرأة، لحواء، للشهوة الأولى، للمرأة وهي تردد أنشودة الوصال الجنسي، بالناي تستدرج روح تلك اللغة العالقة في قيعان الصمت، والتي انكشفت لموال من خلال سلسلة الصور العابرة في ذهنه حيث بات يرى ابنه الصغير يرضع ثدي الخادمة ويستثير شهواته، وزوجته وهي تبحث عن شفرات القنوات التلفزية الإباحية .

فوراء كل كتابة ايروسية ثمة تعبير عن حالة اغتصاب وقهر، مما يجعل المرأة التي صورت المرأة المغتصبة هي المرأة التي تتغنى باللذة الجسدية، وخاصة في ديوانها "الأقحوان المصلوب على الشفاه"(5)، اللوحة المرسومة على غلاف هذا الديوان بامضاء الرسامة أسماء المسعودي ابنة الشاعرة، تشكل المعنى الذي جسدته الشاعرة، حيث تتراءى امرأة في حالة عري تحيط بها أمواج من الألوان الداكنة، تتخللها إضاءات خافتة، وقد امتقعت بقاع حمراء على الجسد المنكشف وعلى زواياه الجانبية، لتضيء اللوحة بلون قان يخترق السواد الحاجب للرؤى وينير جسد المرأة كنواة للالتحام بحالتها الأولى وبدايتها وتبلور القصيدة الشبقية:

أيها المسافر في

كرجفة الخلق الأولى

وجهك يتدفق تحت تقاسيمي

أزدحم بك

شهقة حبلى

بفحيح الرغبة - ووميض الاشتهاء

هنا نلمس الدعوة إلى المغامرة وتشكيل التجارب الحسية لتحقيق التكامل النفسي، وكرد فعل على بنى اجتماعية قائمة على تحقير الجسد وتنزيله مرتبة دونية وخاصة جسد المرأة الذي اقترن باحكام تنعته بالدنس وتحيطه بمحرمات شتى، سعت الشاعرة إلى اسقاطها، منطلقة من رؤية تتجه الى إعادة هيكلة وعي القارئ وإعادة ترتيب الكيان الجسدي للأنثى عبر توظيف الجسد للتعبير عن المعاناة والرغبة في الانعتاق من وضع اجتماعي يعكس بنية فهم عادية تتسم بالجمود الفكري . وأثناء تصويرها للأنثى فهي تبحث عن ظلالها، تصارع الظلمة، تتلمس خطواتها في العتمة، لتسترد حضورها :  

الآن فقط

أنزع عني هذا الثوب

الذي يلبسني وأمشي عارية إلى الخلف

علني أجد تاريخا يسترني

الشعر يكشف حتما عن الحقائق السيكولوجية للذات الشاعرة . إن تحديد مكانتها كامرأة مترتب عن مناهضة أنظمة اجتماعية ساهمت في تكريس وضعها الدوني بعلة "الأصل البيولوجي" أو "العادات والتقاليد الموروثة"، في هذا الإطار يعقب الدكتور خضر زكرياء :" لقد أثبتت الدراسات الانتروبولوجية دراسات ما قبل التاريخ، ان النساء في عصر الجماعة القبلية كن متساويات للرجال، وأن الرجال كانوا يعترفون بتلك المساواة، وان العشيرة التي كان يعمل جميع أفرادها رجالا ونساء كخلية نحل، لا تعرف الاضطهاد والاستغلال ".

أما الكاتبة بسمة البوعبيدي التي ظهرت في ظروف مشابهة لفتحية الهاشمي، اول هذا القرن بعد سن الأربعين، والتي انتقلت من الجنوب إلى العاصمة لتعرف بتجربتها الكتابية، نظرا لثقل الدعم الذي لاقته من كتاب الجنوب وهم كثرة ولهم ثقلهم على الساحة الأدبية التونسية، فقد صورت كتاباتها معاناة المرأة ونفسها المتوحشة الآثمة، المكبلة بالأمراض النفسية، فقد استعملت في روايتها "موسم التأنيث" (6) تقنية لعبة المرايا عبر كشفها لشخصية المرأة داخل النسيج الروائي، فالمرأة وحدها كفيلة بإبراز حالة الرعب وقد استحالت لحظة مازوشية تراود الذات الأنثى وهي تستل أنوثتها، مرأة تتعرى أمام المرآة في آخر الرواية وتستل فرجها بسكين بمازوشية بالغة، تصدم القارئ، لتصور انتزاعها للجانب المتعفن من ذاتها .  

لقد صورت الكاتبة المرأة في الواقع المحسوس تعاني من آثار الاغتصاب المقنن عبر زواج لم يخلف غير غثيان الجنس، وهذه الصورة تكررت في أغلب اقاصيصها، وسأعود لها لاحقا في دراسة منفردة - وبين المرأة ككاتبة، ظلت تسرد تفاصيل جرح الأنوثة وجرح الكتابة . هذا الانشطار الذي كشفت عن الذات الكاتبة وهي تواجه عوالم المرأة، المرأة المقهورة والمغتصبة " وانتفضت يده تمسك بها بكل قوة تسحبها إليه .. فزع ما بداخلها وارتج .... قاومت وقاومت وهي تصرخ، وتهذي، ولكن قسوته وتصميمه كانا أكبر من مقاومتها ... رمى بها تحته في نقمة وتوحش وكانت في مقاومتها كالفريسة تنازع " ص118 .

 وفي المقابل فجعفر رفيق الصبا كان يصاحب جدته وهو طفل في غرفة عروس القرية، بما أن جدته حناية، ويطلع على تفاصيل جسد الأنثى المحرم اجتماعيا حسب اخلاقيات بيئة الجريد، والفتاة مريم تشهد واقعة توليد سالمة داخل المخزن ... وجسد المرأة الذي يعد مقدسا صار مكشوفا مدنسا من خلال الرؤية والاكتشاف العفوي، ومن ثمة تحول الجسد الى الخارطة الممزقة المفتقدة لعفتها وهي تبشر بميلاد لقيط في المخزن الذي أغلق بابه على كل خير . وثمة إمعان فج في تدنيس المقدس والمحظور والمغلق وثمة تقصد في تدنيس الروية الطفولية البريئة الى جسد المرأة " تتردد الصبية وتنظر اليه وكأنها تسألها . هل أتعرى أمام هذا ؟ وتفهم جدته من ترددها ونظرها اليه سؤالها دون كلام فتجيبها بمثل قولها لإحدى قريباتها عند الباب بأنه " مازال صغيرا ساذجا لا يفقه من أمور النساء شيئا " ..

الرواية حافلة بمشاهد الجسد والذي استحال إلى آداة للانتقام في حالة التنازع بين مريم وصديقتها " فظلت تنازع بين يدي الرفيقة اتي أدركتها وجعلتها تعريها وهي تحاول الفكاك وتصرخ وتترجى واليدان المتشنجتان تجذبانها وتصفعانها وتتشبثان بالثياب التي تسترها، فتقطعها . فيسمع لتمزقها صوت كصرير أسنان حاقد وتشعر وقد تضاعف ألمها وضعفها وذلها وكأن العالم كله حاقد عليها ولا تدري لماذا . ووصلت اليدان الآثمتان الى آخر قطعة تستر جسدها وكشفتا عورتها وقد طرحتها صاحبتها أرضا وضغطت على بطنها بركبتيها ثم ..... " ص57 .

"موسم التأنيث" رواية حافلة بالعنف، عنف المرأة والعنف الذي يمارس ضد المرأة ... هي رواية تدخل محرمات الجنس وتدنسها من خلال المشاهد الجنسية أو من خلال ألفاظ وحركات الشخصيات، كما أن لغة الحوار لم تخل من الكلمات النابية والدالة على الدنس . فلم تتخلص بسمة البوعبيدي في هذه الرواية من تصوير حالات السقوط والانشطار الروحي والذي انعكس في مجاميعها القصصية ... فالكتابة عند البوعبيدي نتاج لبيئة مغلقة تترك كبتها ندبات غائرة، تنكتب الذات من خلالها، ولم ترتق كتاباتها بعد الى مصاف الارتفاع والتجلي، أو الى ردهات التجريب وما يحمله من أسئلة كبرى تخترق العالم المنكتب .

انطلاقا من هذه النماذج نستشف أن اغتصاب جسد المرأة واذلاله، والنزول به إلى مستوى الدونية والدنس، هو الذي جعل المرأة تفقد ذاتها، لتحل في صورة اخرى ازاء هذا العنف على الجسد، ففي صورة من صور الاغتصاب في كتاب " الأنماط الثقافية للعنف "(7)، وحسب شهادة امراة مغتصبة " هذا ما أريد نسيانه تماما . هذا وقت انفلات الأمر . كانت تلك ليلة موتي . الساعة الحادية عشر . توقظني الطفلة . الفتاة الجميلة . تقول تعالي، إنه يريدك الآن . حافيا باردا . ... اهدئي . افعلي ما يريد . لا تتكلمي ما لم يقل لك ذلك . افعلي ما يقول لك بالضبط ... ثلاثة رجال غرباء ... اخلعي سروالك ... انسلخ عن جلدي . لم أعد أنا ذاتي . إني شخصية أخرى . شخصية أخرى لا أريد أن أكونها ... جسد يجلس عاريا هناك . يحاول الجسد تغطية ذاته . لم يعد الجسد قادرا على الاستجابة .... ماهذا ؟ لماذا يريدون أن يؤلموني؟ يشعر الجسد وكأن شيئا يتمزق . يشعر الجسد بأنه سيموت . يتألم لدرجة قصوى . لا تكاد اليد تستطيع كتمان صرخاته . يختنق الجسد، يعض . يعض بقدر استطاعته . فيبعد يده، يتقيأ الجسد . يضربه ثانية ... لم ينته الفعل .. بهذا تتحقق العدالة كما سمعتهم يقولون . العدالة " (8) ص84 .

 فقد فقدت المرأة صورتها اللائقة أمام نفسها التي جعلت الآخرين ينظرون لها على أنها مرآة للشرف والفضيلة، وتتحول الصورة الجديدة هي الصورة المحبذة التي يحبذها الرجل، فالرجل الذي يقدم على الاغتصاب هو يصور الانتقام من المرأة العفيفة التي تصدت له، وهو انتقام من المرأة العاهر التي استسلمت له، ليستحيل الانتقام من المرأة، هو انتقام من حواء التي أغوته للأكل من الشجرة الحرام ....

 

" إن حق الاغتصاب هذا مدفوع بقوة السيطرة على النساء، ذهب أحد المغتصبين، الذي أكد أن هدفه كان إثبات السيطرة على النساء، أبعد من ذلك بقوله : " كان الهدف إذلالهن . هذه هي أهداف المغتصبين الإذلال - بالنسبة إلي كان الاغتصاب نوعا من الانتقام "، ويؤكد مغتصب آخر أن ما قاده للاغتصاب كان الرغبة في الانتقام من كل النساء المستبدات في الحياة" . ويقول مغتصب آخر " أغلب ما تشعر به هو الغضب، والذي أفعله هو تنفيس الغضب عليها " . وأخيرا يقول أحد المغتصبين : " أقتلهن حتى قبل أن اضاجعهن . أطعنهن أولا، ثم أقتلهن، وأضاجعهن، ومن أضرب الجسد بقبضتي ... أضربهن وأعريهن، وأمزق ثيابهن وأضعهن أمام المرآة . أمسك بأفواههن، وأطعن صدورهن بسكين وهن لا يزلن يقظات "، ولدى سؤاله عن السبب، يجيب المغتصب : " لأني كلما ذهبت لفتاة محترمة كانت ترفضني . ولهذا أخذت على عاتقي معاقبتهن " .

عندما تصبح فكرة اغتصاب الرجال للنساء " أمرا مشرعا، أي جزءا من الطبيعة " وعندما يصبح جسد المرأة هو حقا للرجل (يأخذه أو يعاقبه)، وعندما تقرن تلك الفكرة مع فكرة أن العنف الجنسي هو وسيلة تعبير مناسبة عن الغضب ضد النساء، تكون النتيجة هي بخس قيمة النساء ككائنات جنسية مستقلة . إضافة لذلك، يصبح تشريع الاغتصاب حقا اجتماعيا مشؤوما بحيث إذا أنكرت المرأة ذلك الحق فإن المرأة، وليس المغتصب، هي الملومة، هي كبش الفداء . ويتعلم الرجال أن في مقدورهم التعامل مع الغضب ضد النساء عبر العنف فقط، وبالتالي باستخدام مفهوم ميري دوغلاس القائل إن " الموضوعات الثقافية تتجسد في طقوس الاستغلال الجسدي" فإن بخس قيمة النساء وإخضاعهن، والعنف كوسيلة تعبير عن الغضب، هي موضوعات ثقافية تتجسد في طقس حق الاغتصاب " . (9)

والكتابة بما هي تمرد واحتجاج على واقع مؤذ ومهين، هي إقرار المرأة لحق الرجل في هذا الجسد، وبذلك تتحول المرأة إلى آداة طيعة لذكورية الرجل، لذلك صرنا نتفهم مدى تحبيذ الرجل للكتابة الايروسية للمرأة، وكأنموذج عن الكتابة الايروسية، كتابات الشاعرة فاطمة بن فضيلة في ديوانها الأول " لماذا يخيفك عريي " (10) :

لماذا يخيفك عريي ـ وتهرب مني إلى القافية ـ وتخفي انفعالك كثل النعامة ـ بين الدفاتر ـ ماذا ستفعل اذا اكتسحتك ذات مساء ـ وفتت وعر الشعاب إليك ـ وعبدت نحوك بالياسمين طريقي ... وأمسكت قلبي في راحتي ـ وأضرمت نار اشتهائك قسرا ـ لأنساب بين ذراعيك جدول ماء ....

وتتقمص الشاعرة تلك الترميزات التي تجعل من المرأة كزليخة التي راودت النبي يوسف ولكنها واجهت المقاومة غير المتوقعة، تماهيا مع ذلك الجميل وتحويله الى قصيدة شعر، ويتجلى هذا الترميز في قصيد "مراودة " :  

راودته عن نفسه

كامرأة العزيز

عندما تعلقت بيوسف

................

...............ولم يكن نبيا

............

.............

.............

وتثور الشاعرة في رغبة منفلتة على العقل وتحاول مسك ذلك المعنى الذي لم يكن إلا سحرا خفيا وجمالا غامضا وقوة متعالية، لا يمكن ادراكه . المعنى مراوغ وقد ينفلت في تلابيب الترميزات الشعرية، وهي تهم بمراودة المعنى فتتسع المسافة بينهما :  

وماذا يضيرك لو نلتقي ـ على سطح تفاحة ـ عاشقين ـ تهاجر في ملكوت القصيدة ـ معا ـ حافيين ـ نغادر دنيا الورق ـ ونخلع عنا رداء العبارة ـ ونصرخ في الناس ـ أنا بعثنا ـ معا من جديد ـ بلا معجزات ....

إن المقام لا يسمح بالعودة إلى كل كتابات المرأة في تونس التي صنفها الناقد محمود طرشونة ضمن الكتابات النفسية التي تعبر عن الكبت وعن الأحلام المكبوتة، والتي يراها بوجمعة شوشة مذبذبة لأن المرأة لم تستقر على صنف أدبي و فني معين : "وليس من الصدفة أن تقوم العديد من الروايات النسائية على عقدة أوديب والرغبة في قتل الأب انتقاما من الحرمان الذي يسلطه على ابنته أو من القمع الذي يسلطه على أمها " (11)

وفي محاولة لتلمس أسباب ظاهرة الكتابة الايروسية في المجتمع العربي، فهي تبدو لأسباب نفسية عرفتها المرأة التي بقيت تحت هيمنة المجتمع الذكوري، الذي أمعن في استغلالها، وتكريس صورتها الطبيعية الغريزية، ويبدو هذا الترحيب بالكتابات الايروسية من طرف الرجل ترحيبا مشكوكا فيه ... حتى وإن أعطي للمرأة دور أو أعطيت لها مكانة ثقافية أو إعلامية فهي لم تمنح لها في غنى عن كونها أنثى، تقدم تجارب المرأة الجسدية .... كما استغلت هذه الكتابة الايروسية تجاريا بهدف الترويج للكتاب، واستعملت لمحاربة مشاريع الفكر المتطرف، وكرستها الإملاءات الثقافية الغربية المناهضة لصورة المرأة المسلمة، فصار للكتابة الايروسية شأن وأي شأن ....

...........................

(1) "نساء وأقلام"، نصوص، لفاطمة سليم،مطبعة الاتحاد العام التونسي للشغل - تونس - ماي 1995-ط1

(2) " أجمل الفضائح"، شهادات، لحفيظة قارة بيبان - الأطلسية للنشر - تونس 2006 - ط1

(3) "حافية الروح"، رواية، لفتحية الهاشمي،الشركة التونسية للرسم وتنمية فنون الرسم - تونس 2005 - ط1

(4) " منة موال"، رواية، لفتحية الهاشمي، تونس 2007- ( لم يوجد اسم المطبعة التي طبعت الرواية ) .

(5) " الأقحوان المصلوب على الشفاه "، ديوان لفتحية الهاشمي، دار الامتياز للنشر والتوزيع - تونس2002 - ط1

(6) " موسم التأنيث" رواية، لبسمة البوعبيدي، الشركة التونسية للنشر وفنون الرسم - تونس2006 - ط1

(7) الأنماط الثقافية للعنف - باربارا وايتمان - ترجمة ممدوح يوسف عمران - عالم المعرفة - الكويت

(8) المرجع السابق ص 83-84

(9) المرجع السابق ص84-85

(10) "لماذا يخيفك عريي "، ديوان، لفاطمة بن فضيلة، صادرة عن الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، 2003 - ط1

(11) محمود طرشونة ـ واقع الكتابة الروائية في تونس - ديسمبر 2004 - ط1

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: ظاهرة الكتابة الايروسية عند المرأة، الثلاثاء 16 - 20/02/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم