ملف المرأة

ملف: الايروتيكية والترف الحضاري

في المسرحيات الإغريقية نجد علاقات جنسية مثلية، ولا نعدم في الأدب الجاهلي نظيراً ولكنه أقل بكثير ويقتصر على الأنثى؛ كقصيدة النابغة الذبياني في وصف المتجردة زوجة الملك النعمان، وهو وصف إثاري ولكنه باهت يخلو من الفعل، وعمرو بن كلثوم وصف امرأة من فرعها الى قدمها مارا على الثدي والساق الا انه مجرد وصف أريد به إظهار جمال الحبيبة، ولذا قال: انها (حَصان من أكف اللامسين)، ويقف في خلفية هذا الشعر مجتمع جاهلي ألف مثل تلك المظاهر كدور البغاء (صاحبات الرايات الحمر) و(الزيجات المشتركة). وكلا المجتمعين الإغريقي والعربي الجاهلي وثني، لم تتدخل السماء في حيثياته الا ترسبات وتسربات غير حاسمة في توجيهه. غير ان المجتمع العربي اقل تحللا مع ذلك وقد تجلت في بعض مظاهره أسمى آيات الشرف واحترام الإنسان، وقد اعترف الرسول الكريم (ص) بأنه لم يؤسس الأخلاق لهذا المجتمع، بل جاء ليتممها.

وفي العهود الدينية الإسلامية والمسيحية نجد اشتراكاً في الالتزام؛ ففي مسرحية (حلم في منتصف ليلة صيف) يخبرنا شكسبير أن المرأة كانت تجبر على الزواج من الشخص الذي يختاره أبوها، واذا رفضت فمن حق الوالد تقديمها إلى المحكمة حيث تعدم، ولم تختلف مظاهر الحشمة في المجتمع المسيحي آنذاك عنها لدى المجتمع المسلم الملتزم، ففي (طرطوف) يرينا مولير تقدير الناس لرجال الدين، ولعل أماكن وأحياء ظلت ملتزمة بالحشمة، فهمنغواي سكن في شبابه حياً ملتزماً فقرر تركه لأنه غير مستعد للاستمرار في (العادة السرية).

وبمجيء الإسلام تعززت قيم الشرف وأعليت الكرامة وصين الإنسان من الابتذال، إلا انه ابتداء من العصر الأموي أصبحت الدولة تستورد راقصات وقوادات كسلامة القس وعزة الميلاء ومخنثين كالغريض ومعبد لإفساد شعب الجزيرة، إلا أن الدولة العباسية التي بنيت على سواعد الفرس فتحت الأبواب على مصاريعها للحضارة الفارسية بغثها وسمينها، وهكذا صرنا نقرأ شعراً ماجناً صرفاً وتغزلاً جنسياً بالغلمان يتجاوز الوصف إلى الفعل الاثاري، على أن هذا الشعر استحصل غطاء تبريرياً له، فالخليفة الأمين كان متهماً بالشذوذ واستقطب شعراء شذاذاً كوالبة بن الحباب وأبي نواس، بل وصل الأمر إلى المتصوفة؛ الطبقة التي طرحت الدين المثالي قبالة الرسمي المدجّن، فصار قسم من المتصوفين يستصحبون الغلمان المرد، بحجة ان الله يتجلى في الوجه الحسن. على أن وجود أدب فضائحي وغطاء تسامحي لا يعني قبوله وتأشيره نوعاً معترفاً به، فهناك عقدة الذنب التي لم يستطع العربي المسلم تجاوزها على نحو ما فعل الإغريقي والأوربي، فأبو نواس بكى أعماله قبيل مماته: (قَد أَسَأنا كُلَّ الإِساءةِ فَاللَهُمَّ صَفحاً عَنّا وَغَفراً وَعَفوا). وفي الأندلس دخل العرب على مجتمع أوربي، وعندما تحاكَّت الأمتان وتلاقحت، حيث توجد أعراف اسبانية متأصلة كـ(الحب الأفلاطوني)، فان عرب الاندلس تساهلوا بأمور في الدين لم يتساهل بها أخوانهم المشارقة، كلبس العمة من رجال الدين، غير ان الشعر الاندلسي كان أنقى من المشرقي أخلاقاً، وقد نجد امثلة قليلة كولادة بنت المستكفي التي عرضت رخصها في أبيات شهيرة، ولكن اغلب هذا دافعه تقليد المشارقة وهو داء فني أصيب به الاندلسيون ولم يبرؤوا منه حتى النهاية.

لقد كان الإسلام بمنظومته العملاقة، مستوعباً لكل جديد يطرأ على أمة العرب، فيأخذه مشتتاً مرتبكاً أهوج، ويشذبه ويعيده مفيداً بعد أن يخلص الإنسانية في تناولها إياه من المعيب والمهين، فتدفق الجواري والسراري حين أضر منفلتاً بخطه الذي قاده الفساق والمغرضون، نجده متبنياً من العلماء والمفكرين والغيورين وهو عظيم النفع، بعد أن رده الإسلام إلى قوانينه (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (النساء3))، فعاد ضرورياً دالا على عظمة الإسلام، وقد آتى أكله في الحروب الصليبية، اذ أضيفت دماء جديدة إلى المجتمع المسلم، وأسهم اتخاذ الجواري والسراري، بعدم تقيده بعدد، في تكثير النسل، وقد تفوق المسلمون بسبب هذا الأمر على الصليبيين في الرجال، فكانوا يعوضون ما يقتل في تلك المعارك بل كانت أعدادهم تتزايد باستمرار، بينما كان الصليبيون يخسرون قتلاهم فلا يجدون تعويضاً، ذلك لان حملاتهم تأتي بعدد محدد من المقاتلين، ثم تنبهوا على ذلك فصاروا يتناسلون على ارض العرب، ومع هذا بقي العرب متفوقين، لان زواجهم أكبر من زواج المسيحيين الذين تقيدوا بالزوجة الواحدة.

ولكن العرب أفلسوا في العصر الحديث على الصعد كافة، فأدبهم الذي حفظوه وحافظوا على هويته العربية، صار مقلداً أعمى لصرخات وموضات مذاهب الغرب كالرومانسية والواقعية والرمزية، وتبنوا مدارسه النقدية كالتفكيكية والبنيوية وان لم تسعفهم الشواهد كثيراً، إذ أن كثيراً من آليات تلك المدارس لا تنطبق على ماهية الشعر العربي. ثم دفع جنون التقليد الى ما هو أكثر رعباً، فقد قتلت السليقة العربية، فالاحتلالات والترجمة فرضت صيغاً لا عهد للعربية بها، وبالنتيجة صار المثقف يكتب نصف فصحى ولا يستطيع أن يتكلم ربعها، وأضيف إلى الأدب تقليد أخلاقيات الغرب، الذي هو أعلى حضارة فجاورناها مجاورة الوادي للجبل، وهكذا عادت لعبة الأمس، حين جاورنا حضارة الفرس فأنبتت أيروتيكية حاولت صنع غطاء مجتمعي يسوغها ويسوقها قدر الإمكان، واليوم صار تقليد الغرب مفتوحاً بعد ان تداعى الجدار المانع والسد الرادع، ولما كانت الإيروتيكية، ادباً وسلوكاً، ظلا للحضارة والترف الكبير (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ (الإسراء16))، فقد صرنا اليوم أمام ما لابد منه، وهو أمر عاناه سلفنا إزاء ترف الحضارة الفارسية المتقدمة عليهم.

لقد وضع الله (سبحانه) قانونه الصارم الثابت الذي ينتظم كل الخلق منذ رفع السماء (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (الرحمن7))، وبهذا فان على الإنسان أن يعيش الحياة كما أراد ولكن بشرط حفاظه على قانون الأشياء، ويضاف إلى ذلك أن رسالة الأدب لا تنسجم مع هكذا طروحات بعيدة عن كنهها، إلا إذا جاء ذلك في معرض وصف في قصيدة أو رواية، وليس أن تكون غاية في حد ذاتها مقصودة.

وان القول بوجود كتابات ايروتيكية في العهد الإسلامي ومن قبل رجال دين وفكر، مغالطة كبيرة، فـ(طوق الحمامة) لابن حزم، و(نواظر الأيك في معرفة النيك) للسيوطي، و(كتاب الباه في رجوع الشيخ إلى صباه) لابن كمال باشا وغيرها، لم تكن الإباحية والايروتيكية وراء تأليفها، بل تعليم الناس كيفية تحصيل أقصى اللذة في حدود ما شرعه الله وحلله على الإنسان بقوله (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص77))، وقد اشتملت بعض أبوابها على أمور طبية تخص الأمراض الجنسية لمعالجتها والاستفادة من نعمة المعاشرة والمباشرة، فابن حزم في مقدمة طوقه يقول: (وكلفتني أعزك الله أن أصنف لك رسالة في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه... فبدرت إلى مرغوبك ولولا الإيجاب لك لما تكلفته، فهذا من الفقر، والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غداً. وإن كان القاضي حمام بن أحمد حدثني بإسناد يرفعه إلى أبي الدرداء أنه قال: أجمعوا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونا لها على الحق. ومن أقوال الصالحين من السلف المرضي من لم يحسن يتفتى لم يحسن يتقوى، وفي بعض الأثر: أريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد)، وقال ابن كمال باشا في مقدمة كتابه المذكور:( ولم أقصد به إعانة المتمتع الذي يرتكب المعاصي، بل قصدت إعانة من قصرت شهوته عن بلوغ نية الحلال الذي هو سبب لعمارة الدنيا).

وان من الكرم القاموسي بل البذخ والتبذير إطلاق كلمة أدب على نوع كتابي لا يراعي الأدب فهو كما يصفونه أدب فراش وشذوذ وانحراف يقرأ في غرف النوم ويدفع إلى جلد الراحة وممارسة البغاء، فهو يخشى منه أن يأخذ القارئ غير المحصن على حين غرة مستغلا ضعفه الشرقي إزاء الجنس، وشروده المبدئي، وفراغه المتعطش، ووحدته الأزلية، ومجاراته غير المستعدة للطرح، الى التورط بحيونته، ووقوفه قبالة ضعفه الانساني الذي اقترح الله له حلولا غاية في الدقة؛ فالزواج كالزنا والبيع كالربا، ولكن بينهما غشاء رقيق وصفيق معا هو الشرعية.

وهذا (الادب) اذا لم يقبل من الرجال فكيف سيقبل من النساء؟ ان ممارسته في الغرب مبررة اجتماعياً ولغوياً، ففي مجتمع انتصر على حاملة الصدر، ومستمر في انتصاراته، لن تثير الايروتيكية جدلا ولا مللاً، كما أن كلمة أدب عندهم (literature) مشتقة من (letter) أي حرف، فالأدب: هو كل ما يكتب، وهذا الأمر في اغلب اللغات الأوربية القديمة والحديثة، لكن الأمر يختلف في العربية؛ ففي لسان العرب: (الأَدَبُ: الذي يَتَأَدَّبُ به الأَديبُ من الناس؛ سُمِّيَ أَدَباً لأَنه يَأْدِبُ الناسَ إلى المَحامِد، ويَنْهاهم عن المقَابِح. وأَصل الأَدْبِ الدُّعاءُ).

وبعد، فهل يستطيع الأدب الايروتيكي العربي أن يمتلك غطاءً مجتمعياً بعادات وأعراف جديدة لتبريره، وهل يستطيع أن يكتب ايروتيكياته بجرأة  مقبولة وانتصاب... قامة.

 

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: ظاهرة الكتابة الايروسية عند المرأة، الثلاثاء 16 - 20/02/2010)

 

 

في المثقف اليوم