أقلام ثقافية

جواد عبد الكاظم: الرحلة العراقية

أحلى ما قرأته وسررت به مؤخراً هو (الرحلة العراقية) المنشورة من قبل الأستاذ الدكتور يوسف غليسي من جامعة القسطنطينية في الجمهورية الجزائرية، وقد حظي هذا النشر المميز بإعجاب وثناء وتقدير كل من اطلع عليه وخاصة من العراقيين لما حمل من صدق ومحبة ووفاء ..

وبعد قراءتي الأولى لهذه الرحلة لأنها تتعلق بالعراق الوطن الحبيب، أعدت قراءتها ثانية لمعرفة مشاهداته في احتفال مئوية الشاعرة العراقية مازك الملائكة، وقد دعي للمشاركة فيه، والتقى العديد من الشخصيات المشاركة من العراقيين والعرب، ثم أعدت القراءة للمرة الثالثة وبالمتعة نفسها لأنه ذكر مدينتي المسيّب ذكراً طيباً في هذه الرحلة..

بدأ الدكتور يوسف غليسي سطور رحلته في وصف فرحته بدعوته لحضور هذا المهرجان، فقال: (حين بُشّرتُ بأنني مدعوّ إلى بغداد للمشاركة في تظاهرة عربية حاشدة بمناسبة مرور قرن على ميلاد شاعرة العراق الكبرى نازك الملائكة، تعثّرت لغتي، واستفاق حلمي الأثيل النائم في أعماقي، وراحت الكلمات الساحرات الصامتات ترقص طربا على لساني الأعقد!

تعاورتني مشاهد عراقية أخاذة متداخلة : حضارات بلاد الرافدين، الخلافة العباسية، مراقد الأئمة، الرصافة والجسر، شارع المتنبي، دجلة والفرات، الموسوعة الصغيرة، مجلات الأقلام والمورد وثقافات عربية...، مواويل ناظم الغزالي، قصائد السياب  والجواهري...، رائعة محمود حسن إسماعيل (بصوت أم كلثوم):

بغداد يا قلعة الأسود ... يا كعبة المجد والخلود

ثم تذّكرتُ حلما عجيبا رأيته السنة الماضية؛ إذ رأيتني مقيماً في مكان عراقي عليٍّ مقابل لقبّة مذهّبة تشعّ جمالا وجلالا، لم أعرف –حتى في منامي- أهيَ في الكاظمية أم النجف أم كربلاء؟

ورحتُ أغطّ في حلم تاريخي عراقي عميق...

وحين أفقتُ من نشوة الحلم، بدأتُ في التحضير (العلمي) لمناسبة الحلم؛ وقد كلّفتُ بمداخلة حول نازك، رهنتُ لها ما يقارب أربعين ليلة من ليالي العمر!)

ووصف الضيافة العراقية بـ(ضيافة فوق العادة .. وكرم لا حدود له!

لا جدال في الكرم العراقي الذي رسّخَتْه في ذاكرتي حكاية رواها لي د. عبد الله الغذامي، ذات لقاء خليجي قديم، عن سائق سيارة أجرة طوّفَ به جلّ صيدليات بغداد، بحثا عن دواء ضروري، فلم يُدركاه إلا في آخر النهار، وحين أدركاه، أصرّ السائق العراقي على أن يدفع ثمنه بنفسه، وألا يقبض أجرة السيارة أيضا! بعدما انتبه إلى أنّ الراكب ليس عراقياً بل هو ضيف العراق).

وعن أمنيته في زيارة مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: (كنتُ قد أخبرتهم بأنني أحلم – منذ زمن بعيد- بزيارة النجف وكربلاء!

نسّقتُ للأمر كما ينبغي!

قلتُ لوالدتي العزيزة، ممازحا لها، قبيل السفر: سأزور يا أمي سيدنا عليًّا –إن شاء الله- وسأدعو الله هناك أن يغفر لك تلك الزيارات (الجاهلية) القديمة إلى (سيدي الدراجي) الذي لا نعرف أصلاً له أو فصلاً!

ابتسمتْ وقالت: كنّا على نيّاتنا، نعتقد أنّه أحد أولياء الله الصالحين!)

واستذكر قصيدته القديمة التي كتبها سنة 1995م بعنوان (العشق والموت في الزمن الحسيني):

(أبكيكمُ آل الحسين تشيّعا

وتفجّعا.. وتشوّقا .. وتذكّرا

ذكراكمُ موج يزلزل شاطئي

ويهزّ قلبا بالعروبة خُدّرا

العُرْبُ قد هجرَ الحسينُ دماءهم

ودمُ الحسين إلى عروقي هاجرا

بغدادي! ودمُ الحسين فصيلتي

بغداديٌ شهَرَ الحسينَ ليثأرا

(نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى)

ما الحب إلا للحسين وحيدرا)

وحين بلغ باب العتبة المقدسة في زيارته للنجف الأشرف التي رافقه فيها الشاعر العراقي الدكتور حسين القاصد قال: (سلام عليك يا أمير المؤمنين، يا ابن عمّ رسول الله، وصهره وأخاه بالمؤاخاة في الدنيا والآخرة!

سلام عليك يا باب مدينة العلم...

أنظرُ إلى من النظرة إليه عبادة، أتقصّى تفاصيل المكان بعينيْن مذهولتين، تباغتهما الأنوار من كلّ جانب، والقلب يفيض خشوعا وخوفا ورهبة؛ بشكل يشبه المشاعر التي باغتتني حين رأيتُ الكعبة الشريفة أولّ مرة!

حين بلغنا الروضة الحيدرية خشيت في لحظات أن يغشى عليّ، في تلك الأجواء الروحانية الطاغية).

وغادر المكان المقدس في هدوء وسلام وفي داخله من المشاعر أوجزها في (كنت على يقين بأنني سأرجع يوما إليه!).

وفي طريق عودته إلى بغداد وقد حل الغروب قال: (كنت أمنّي النفس بزيارة كربلاء، وكنت أتمنى أن أقف على جسر المسيّب فوق نهر الفرات؛ وأن أغني بصوت عالٍ مع ناظم الغزالي:

"ميحانا .. ميحانا

غابتْ شَمِسْنا الحِلو ما جانا

حيّاك بابا حيّاك

ألف رحمة عْلى بيَّك

هاذولي العذِّبوني

هاذولي المرْمروني

وِ على جسر المسيّبْ سيّبوني...."

لا أدري كيف تسلل هذا المقطع الأخير تحديدا –كما هو- إلى ملامح قصيدة (وافرة) بدأت تتشكّل في خاطري، مطلعها:

(على جسر المسيّب سيّبوني) ***  خذوني نحو مرقده خذوني)

وحين لم تتحقق أمنيته هذه في الوقوف على جسر المسيّب خاطب رفيقه في السفر(أنت لا تدري كيف نصبَ ناظم الغزالي هذا الجسر على فرات قلبي!).

ولم ينته الحديث عن المسيّب بعد، فقد ذكر أن (طالب دكتوراه من مدينة المسيّب حين بلغته رغبتي في الوقوف على جسر المسيّب فعل كل مستحيل كي يجيئني إلى بغداد ليقودني نحو رغبتي، وظلّ يدعو ويصرّ وأنا وصديقي القاصد نتذرّع ونعتذر، حتى لا أدري كيف استطعنا أن نتملّص من بين يديه الكريمتين!)

***

جواد عبد الكاظم محسن

في المثقف اليوم