أقلام ثقافية

حاتم جعفر: في صحبة المتنبي وشارعه العتيد

المقال مهدى الى الصديق محي الإشيقر

يبدو أن عودته لبلده وبعد فترة إغتراب قصري ربما زاد على الثلاثة عقود من السنين قد تركت أثرا كبيرا عليه، وخاصة إثر تلك الزيارة التي قام بها لشارع المتنبي الذائع الصيت في بغداده. فها هو بين دفتي ذلك المكان العريق وليتفاجئ بالعديد من المتغيرات، منها ما سُرَّ به قلبه ومنها ما لم يكن بالحسبان. فما لفت إنتباهه على سبيل المثال تلك التجمعات الجانبية المتنوعة وما رافقها من أحاديث ونقاشات صاخبة، وبشكل خاص الجادة منها وفي مُختلف المجالات. كذلك عديد الأنشطة المقامة والتي تراوحت بين مَنْ إجتهدَ بالغناء وعلى طريقته ظناً منه بأنه سينال من الرضا ما سُيفتح له باب الشهرة واسعا، والتي ستساعده بدورها على ولوج مبنى الإذاعة والتلفزيون برحابة وثقة، كما كان سائدا من أعراف في عهود سابقة.

وَمنهم مَنْ راح يرسم ما يطيب له من خطوط طول وعرض ويداخل فيما بينها وعلى نحو عشوائي في أغلبه، محاولا تقليد بعض الرسامين العالميين ممن كانت لهم الحظوة في تأسيس وبناء تلك المدارس الفنية التي باتت منهلا ومصدرا للملتحقين الجدد، حاثين الخطى للسير على ذات النهج، آملين أن تفتح لهم كل المداخل الموصدة. ومنها وللأسف مَن مدَّ يديه بعيدا، طلبا لمن يشفق عليه ويُكرمه بما تجيد به النفس الأمارة بالحب وبالرحمة، ولعل أعداد الفئات الأخيرة وللأسف ما يشير الى تزايدهم وبشكل مُلفت على وفق ما شاهدتهُ  وما أنبأني به كذلك مَنْ كان برفقتي.

في ذات الشارع وبينما كان يزجي الوقت، فقد شدَّت ناظريه مجموعة من الصور المرصوفة على واجهة أحد المحلات، لعدد ليس بقليل من المفكرين والشخصيات البارزة، والتي لعبت في وقت ما دورا كبيرا وشكلت منعطفا هاما في رفد الإنسانية بمعارفها وعلومها، ككارل ماركس وهيغل وإبن خلدون وأنجلز وآدم سميث والفارابي وإبن سينا. فضلا عن تعليقه وعلى الجانب الآخر من واجهة المحل وفي مكان بارز منه، لصورة ذلك الشاعر الماجن أبو نؤاس، كما يحلو للبعض أن يطلق عليه من تسمية. وتعليقا على هذه الصورة وما لفتَ إنتباهي لها هو تعرضها كما يبدو الى محاولات عبث وتشويه متكررة، ومن قبل نفرٌ ضال وبذرائع شتى، وهذا ما أكده لي أيضاً صاحب المحل حين إستفساري عن الأمر. ناسين ولا زال التعليق له، بأن ما نشاهده على أرض الواقع من موبقات ووقاحات وإنحرافات، ومنذ وقوع ما يسمى بالتغيير، لتشيب لها الولدان وتهتز لها العروش.

وبسبب تعذُّر العثور على ما هو أوضح منها وأكثر قربا وشبها به، ولأنه أيضا أي صاحب المحل، يمتلك من الذائقة أجملها، فقد راح معلقا بجانب صورة أبو نؤاس رسما تخطيطيا لأحد الشعراء المتصوفة المعروفين والبارزين، والحديث هنا عن كبير القوم، إبن الفارض أبو حفص شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي، المولود في مصر المحروسة والملقب  بسلطان العاشقين.

ثم راح كاتباً تحتها وبخط كوفي واضح وشديد الأناقة مع إضافة علامات الإعراب المناسبة، التي أضفت على جمال كلمتها جمالا، كذلك ستساعد القارئ على تحريكها وبلغة صحيحة نظيفة، لا يطالها عيب، بل ستطرب لها الأسماع، بعض من أبيات شعره، والتي جاءت على هذا النحو:

مالي سوى روحي وباذلُ نفسه

في حب مَنْ يهواه ليس بمُسرفِ

*

فلئن رضيت بها فقد أســعفتنـي

يا خيبة المسعى إذا لم تُســـــعَفِ

في هذه اللحظات، ألفتني وقد توقفت طويلا عند أبيات الشعر هذه وما حملته من دلالات وَعِبَر. ثم شرعت ومن شدة تفاعلي معها وتأثري بها وكي لا يسمعني أحد بترديدها همسا بيني وبين نفسي ولأكثر من مرة، الاّ أن العقال قد فلت وافتضح أمري حتى تنبَّه لي صاحب المحل وليعلق: لقد ذهبت أيام العشق وذهبت معها مَنْ كنتَ تهواها. هنا ما كان لي الاّ أن أردٌ عليه: في هذه الأبيات، ألمَسُ عشقا زاهدا، سمِّهِ إلهياً أو سَمِّه صوفياً أو ناسكا إن شئت. وعلى إثر ذلك فقد إمتد الحديث بين صاحب المحل وبيني وبما يعطي إنطباعا بأننا على تناغم وألفة ومنذ عقود خَلَتْ.

ثم أعقبها بأن قام صاحب المحل وبعد أن فتح لي قلبه ليفتح لي أيضاً باب مخزنه الداخلي، وهذه وعلى ما جَزَمَ لي من الأفعال النادرة التي يقوم بها إن لم تكن من المستحيلات، وليقودني الى ما يخبأه من تُحف وصور ذات شأن وقيمة ودلالة، والتي من بينها تلك اللقى التي ما كان لها أن ترى النور في عهود سابقة لولا فسحة الإنفتاح النسبي الذي يشهده البلد، والذي بلغ حداً من التسيب في بعض من جوانبه، وربما هي نعمة أو عثرة فلتت من بين عيني الرقيب دون رغبته أو إرادته وسوف لن تدوم طويلا، حيث سيلتفت لها سدنة الحكم ليقدموا على حجبها عن العامة ولو بعد حين.

ومن بين الصور التي عرضها على سبيل المثال، تعود لبعض الممثلين العالميين كغريغوري بيك وجيميس ستيورات وكاترين دينوف، فضلا عن آخر ظهور لمخرج فيلم الرسالة مصطفى العقاد قبيل رحيله عن الدنيا بفترة قصيرة وبصحبته أنتوني كوين الذي قام بأداء دور حمزة إبن عبد المطلب وبكفاءة عالية، حيث أثبت وبما لا يدع مجالا للشك بأنَّ ما قام به من أداء، ليفوق كثيرا حتى على بعض الفنانين العرب فيما لو أنيط بهم الدور، وذلك بإعتراف نقاد السينما أنفسهم وكل من له صلة بهذا الفن.

غير أنَّ ما لفت إنتباهي أكثر ومن بين كل الصور التي عرضها داخل المخزن وبسرية عالية، هي تلك اللقطة التي تعود الى الممثل العالمي الراحل عمر الشريف، متوسطا في جلسته مجموعة من الرجال وفي إحدى صالات القمار. وأظنها قد ألتقطت أثناء إحدى زياراته المعتادة والتي كان يقوم بها الى هوليود بين حين وآخر.

وبمناسبة الحديث عن عاصمة السينما العالمية فقد سرَّني أيضا بعرض صورة الممثلة الأمريكية الراحلة مارلين مونرو، والتي تعود الى فترة الخمسينات وهي الفترة التي شهدت بدايات تألقها، حيث تظهر فيها شبه عارية. ثم راح مستذكرا وعلى هامش هذه اللقطة ما أحاط بها من واقعة، حين قال: كاد أحدهم وممن ركب موجة التدين مؤخرا ومع مجيء سلطة الحكم الجديدة، أن يقدم على تمزيقها بعد أن صَعُبَ عليه سرقتها، لولا تنبهي له وبمساعدة أحد الزبائن لما كان ينوي القيام به وفي اللحظات الأخيرة.

وآخر تلك الصور التي عرضها عليَّ صاحب المحل تعود للباشا نوري السعيد، آخر رئيس وزراء العهد الملكي الذي يحلو للبعض بتسميته بالبائد، حيث يظهر فيها واقفا وبجانبه صهره الضابط العتيد جعفر العسكري. وبالمناسبة فقد ساومتُ وناورتُ كثيرا على الصورة الأخيرة بهدف شرائها الاّ أنه رفض ذلك رفضا قاطعا، حيث عدَّها من بين مقتنياته الخاصة والتي لا يمكن التفريط بها وبأي شكل من الأشكال وبأي ثمن كان.

وعن هذه الظاهرة أي الإنتشار الكبير والواسع للصور الممنوعة وما يشبهها من نوادر، فقد وجد لها صاحب المحل وبحكم خبرته ورصده ومواكبته للتطورات السياسية ولعهود مختلفة، تفسيرا يبدو مقنعا والى حد بعيد، حيث أدخلها في باب ما أسماه بالفوضى العارمة التي يشهدها البلد وكذلك ضياع البوصلة وما يرافقها من تخبط، حيث لم يعثر أصحاب السلطة وحتى اللحظة على قرار أو خيار أو أرض مريحة يستقرون عليها. أو أن ما نراه وفي تفسير آخر له، فهو ناجم عن فلسفة جديدة في الحكم، عمادها دع السلطة لصاحبها، قبالة أن يُترك للشعب فعل ما يراه مناسبا، حتى وإن عمَّت الفوضى وضربت أركان الدولة من أقصاها الى أقصاها، شريطة أن لا يتقاطع الطرفان (أي الحاكم والمحكوم) أو يصطدمان ويُفسخ العقد المبرم شفاها بينهما، إنطلاقا من تلك القاعدة التي طالما أنقذت العديد من أنظمة الحكم الديكتاتورية والتي مفادها: ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

مع حلول ساعة الأصيل وإسترخاء ضوءها وغفوته على كتفي نهر دجلة، راحت أمواج النهر تتراقص لتبعث في نفس الناظر مشهدا، شديد في جماله،  ساحرا. في لحظات كهذه ستبدو الشمس كمن أعطت إيذانا للزائرين بمبارحة المكان وليجد صاحبنا نفسه سائرا مع الركب أسوة بغيره، وذلك بعد أن أنهى جولته وأشفى غليله. غير انه ولكي تكون خاتمته مسكا، تعمَّدَ التأخر قليلا عن ركب المغادرين وليتوقَّفَ عند ذلك الصرح الثقافي العظيم، وليطوف حول نصب الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي، متأمله، محاولا الربت على كتفيه. ولأنه قد تَعَذّرَ عليه تحقيق ذلك بسبب مقامه العالي، إستعاض عنها ببضعة كلمات حانيات، مباركا له إختياره من نهر دجلة والذي لا يبعد عنه سوى بضع خطوات، صاحباً وجليسا وأنيسا لتبديد وحدته ووحشته إذا ما جُنَّ الليل. غير انه سيعاتبه أيضا: أما كان لك ولصاحبك النهر في أن تزجيا الليل حين يجفاكما النوم بتلك القصيدة التي تقول فيها:

أرقٌ علــى أرَقِ ومــثليَ يـــأرَقُ

وَجَوىً يزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ

*

جُهدُ الصبابةِ أن تَكونَ كَما أرى

عَــينٌ مُسَهَّدَةٌ وَقَلْـبُ يَــخفِـقُ

وإذا ما ملتُ قليلا للتحدث عن شاعرنا طيب الذكر وسيد المقام، فهو لم يعش تلك الحقبة الذهبية من الزمن والتي أسماها المؤرخون بالعصر العباسي وبكل ما حملت من زهو وسمو فحسب، بل كان كذلك شاهد حق وناطق صدق عليها. يوم كانت بغداده عاصمة للدنيا وشاغلة للناس، يأتونها من كل بقاع الأرض ومن كل فج عميق، إذ هي محجَّهم وقبلتهم وموئلا للطامعين والطامحين، لينهلوا من فنونها وآدابها ومن كرمها، إبتغاءاً لسعادة الروح قبل الجسد، فعطاءها ليس له حدود ولا أظنه سينضب، رغم ما تعانيه في هذه الآونة من كبوة، وعلى أيدي غزاة أوباش.

وبعد أن إتخذ من أحد الفروع المفضية الى الشارع الرئيسي وجهة له وصولا الى مسكنه القريب من هناك، تناهى الى مسامعه وعبر مكبرات الصوت مشاجرة أطرافها أكثر من إثنين على ما يبدو، تبادلوا خلالها أقذع الكلام وألوان من الشتائم والسباب، الّا أن الأمر لم يدم طويلا حيث جرى تنبيههم من قبل أحد الواقفين. وعند إقتراب صاحبنا أكثر تبين أن هناك تجمعا صغيرا يحيط بما يشبه الدكة وقد إعتلاها بضعة أشخاص، كان من بينهم بل متصدرهم ذلك الذي كثيرا ما كتبت عنه وضده صحافة الخارج المعارضة، بسبب تلونه وتنقله بين أحزاب عدة، كان من بينها ما هو محسوب على اليسار وبشقيه، قيادته ولجنته المركزية، كذلك إنتماءه فيما بعد لما يسمى بالتيار القومي العروبي، وأخيرا إصطفاءه لإحدى المجاميع الدينية وبعد أن ضربته صحوة الضمير على ما إدعى وروج له، ولابد له ما دام الحال كذلك من العودة الى صفاء الروح وإرضاء الضمير ومغادرة الدنيا لملاقاة خالقه بقلب خاشع مطمئن سليم.

في هذه الأثناء وعند توقفه الإضطراري إنتظارا لخلو الطريق، فقد وصل مسامعه قول أحدهم للآخر: أتعرف هذا الشخص المعتلي الدكة .... لقد ساوم أرملة صديقه، مبديا تقديم كل أشكال المساعدة لها، قبالة ليلة حمراء يقضيانها معا. أمّا صاحبنا ولأنه إستهجن الموقف فلم يطل به المقام حيث مرقَ من بين بضعة من الواقفين، ليتجه صوب الشارع الرئيسي والذي سيقوده الى بيته مشيا على الأقدام.

الذي خفف من وطأة ما لاقاه قبل قليل، هو مشهد الإنتقال الى العالم الآخر وما يحدثه من تداعيات داخل النفس البشرية، والتي لم يكن ليتوقعها، ولعلها ستبعث في روحه شيئ من السكينة. فقد مرَّ من أمامه موكب جنائزي طويل، تتقدمه إحدى العجلات الخاصة والتي تحمل بداخلها نعش أحد رجال الدين من أهلنا المسيحيين وهي متجهة صوب إحدى الكنائس القريبة في العاصمة، وذلك لأداء فريضة القداس على روحه، وعلامة الصليب قد بانت واضحة وهي تعتلي مقدمة العجلة. وأزاء هذا المشهد ما كان على المارة وأمام حالة خشوع كهذه الاّ التوقف إحتراما للراحل ولجلال الموت.

في هذه الأثناء لفت إنتباهه وفي الجانب الآخر من الشارع وحيث يقف، رجلان وهما بكامل قيافتهما العسكرية، في حالة إستعداد وإنضباط تامين وهما يؤديان التحية عرفانا وإحتراما للرجل الراحل، ولتأتي إنسجاما مع تلك العادات والتقاليد الأصيلة التي ورثوها وتشبعوا بها، وما أملته كذلك المؤسسة العسكرية التي ينتسبان اليها. في هذه الحركة التي أقدما عليها أعاداني الى تلك الطقوس التي جُبلنا عليها يوم كنّا صغارا وَتنامت حتى كَبُرت معنا.

أخيرا، تلوح لي ومن بعيد وفي آخر النفق حزمة من الضوء، تكاد أن تخترق الظلمة، حاملة معها بشائر خير ورسائل حبٍّ لجمهرة من العاشقين. أمّا عن شجرة التفاح التي سقيناها سوية فستثمر يا صاحبي ويحين قطافها ونشم عطرها، وسيعود العراق الى أهله من جديد.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

في المثقف اليوم