أقلام فكرية

محمد يونس محمد: الضرب فوق الحزام.. الدين في صورة لا تليق

لو ننظر تاريخ الأديان البشرية التي فقدت نقاء الفطرة بالتدريج، لنقف على أبشع الصور المنعدمة الإنسانية، وصراحة تاريخ الأديان مشوه إلى حد ما، حيث تصاعد حمى الأيدولوجيات في كيان الديانات، وتحولت إلى سلطات بشرية صلبة وفاقدة للرحمة، والتاريخ البشري اكتظ وتزاحم بالمؤشرات العديدة التي تحيلنا إلى أوضاع بشعة من أنواع القسوة التي تتجاوز كثيرا قسوة شريعة الغاب، فالقسوة البشرية الموجه ضد ذات النوع البشري أشد من قسوة الحيوان الجائع وتدفع غريزته لافتراس نوع آخر من الحيوانات، فيما النوع البشري هو يستخدم أشرس أنواع السلوك ضد نفس النوع البشري باسم الدين أو الطائفة، وفقدان الحلم والحكمة عند رجال الدين واستبدال ذلك بحمية شرسة وقحة وعنيفة بنفس وحشي، وخطابنا ليس بخطاب مضاد وعاكس اتجاه المؤسسة الدينية، بل هو يدرس ظواهر مرت بتحولات من أفق معنى إلى آخر، وتكون مخالفة لمعناها الأصيل، وأعتقد أن المؤسسة الدينية بتاريخ الأديان الثلاثة بلغت اقصى نسب البشاعة والعدوانية، ونحن هنا لسنا ازاء فعل او سلوكا شخصيا، بل سلوك جمعي مثله من رجال الاديان الثلاثة الكبرى، فلقد اقرفت جرائم باسم الدين، انحدر فيها السلوك البشري الى ادنى درجات الحضيض، ونحن في خطابنا لا نقر بأن الدين بذاته هو مشوه، بل نقصد السلوك البشري الذي من جهة هو المشوه المعنى الديني، وقتل فيه المعنى الإنساني.

لقد كون المعنى الديني هوية له، وتلك الهوية تقترب كثيرا من الفلسفة الأخلاقية، وكان هناك نوع من التقارب الكبير بين هوية الدين ذات الطابع المتعدد الوجوه من الحكمة إلى السرد ومن ثم الأحكام غير القسرية غالبا، والفارق بين هوية الدين وهوية الفلسفة هي في مرجعيات الخطاب، فهوية الدين هي نتاج خطاب علوي ومرجعية الخطاب هي سماوية، فيما مرجعيات هوية الفلسفة في بعد التقارب هي أرضية، وهنا هي تحتمل القبول أو الرد، وهي على عكس الهوية السماوية التي ذات أفق حتمي، لكن واقع الفلسفة أكثرا قبولا عند العقل الحي من واقع الدين، حيث هناك نفس بيروقراطي يسود الواقع الديني، بل حتى تجاوز تلك البيروقراطية إلى مستويات بشعة في التطبيق والسلوك، وقد شهد الواقع الديني خلال مراحله التاريخية أبشع الصور التي تترجم سلطة صولجان وليس بحكمة دين، وتناوبت الأديان الكبرى الثلاثة بمراحلها التاريخية في تصعيد خطاب القسوة والعنف أكثر وأكثر، ولم توجه تلك القسومي والعنف ضد أهل الإلحاد بالقدر الذي كانت فيه الممارسات العنيفة موجهة لذات الدين نفسه بشريا، وصراحة من انزلوا الدين من عليته إلى أغراضهم الشخصية لم يفسدوه فقط، بل قتلوا كل معنى للدين في أنفسهم وفي نفوس من تسيدوا عليهم باسم الدين، ولا دين للمؤسسة وإنما الدين لله، لكن تلك المؤسسة استغلت الدين وفرضت قوانينها على أنها منزلة من السماء وبطشت بمن يعارض تلك التعاليم المسيسة بخاشع صورة.

يشكل الدين في ذاته وكينونته نظرية وموضوعة، وتلك الموضوعة من الخلل أن تقابل بتأويلات بشرية تعاملت مع الدين من جهتها وليس عبر المشتركات التفسيرية والتأويلية، وهنا أهم نقاط الإشكالية تكمن، فالفرد العام في علاقته مع الدين يؤمن بيقينه حتى في الإطار النسبي، لكن فرد المؤسسة الدينية يمن بحتمية الدين بلا يقين، وعلى أنها مطلقة وتامة من خلالها ومن خلال تسيسه لها، والمؤسسة الدينية تتعارض التباين الاجتماعي والتحولات العقلانية، وتسعى المؤسسة إلى تسيس العقل العام، كي يمكنها فرض قوانينها عليه، وكي تتوسع الخبرة الاعتقادية في أفق العقل الجمعي، ويتم ذلك بشل مباشر ودون شعور تأمل أو ترجيح، كي يرجح في التفكير العام للفرد، لقد (كانت الديانة التي ينتمي إليها الفرد تفرض عليه أن يقوم باستجابة دفاعية)1، وتقوم المؤسسة الدينية بإشاعة حاجة الدين إلى القوة والفاعلية،

وتنمي في نفس الفرد سياستها من خلال تفاعله النفسي مع الدين، ويصبح واقع المؤسسة الدينية بهذا الوضع أشبه بفصيل فرقة إعدامات الجنود الهاربين من المشاركة في الحرب، وصراحة قد تتوافق البشاعة الفعلية والنفسية عند المؤسسة الدينية على هذا المضمون، ومن الصعب على الدين جدا موازاة هكذا سلوك ديني يتعارض معه، لكن صراحة لا صوت للدين إلا من خلال البشر، وإذا كانت المؤسسة ترفع حرابها بوجه أي صوت، حتى لو كان هذا الصوت صافيا دينيا ودون أي شوائب، فمن طلبوا من نبيهم مائدة طعام من المؤكد لا يطلبون في إي ظرف لهم أحد الكتب المفيدة في تزكية الانفس.

لا بد من أن  نعترف بأن الدين قد اخترق من الداخل بالشكل الذي وضع الدين في مأزق إنساني، فالنظرية الدينية غادرت عليتها حين تحولت إلى واقع، وذلك الواقع في تفسيره الموضوعي يتعارض مع روح الدين ومعناه الأصيل، فالدين لا يعارض حرية أحد ولا يعارض حرية أحد ما دام هناك نفس سلمي مشترك بينه وبين الآخر، وصراحة برزت فكرة خائبة كثيرا، وقد تبلورت وأصبحت مفهوما في القرن العشرين، وهي في ما يعنيه – الآخر – من علاقة مضادة حسب تفسير المؤسسة الدينية، فالدين في أصله وجوهره هو رحب ولا يتعارض مع معنى مضاد إذا كان بروح سلم وواقع سلمي، وكما هو في أصله لا يكره أحدا في مضمونه العقائدي، وما جرى من رسم صورة معاكسة في الأديان الثلاثة الكبرى، هي نتاج المؤسسة الدينية، وليس الدين نفسه، فالدين نفسه هو مجرد وليس بواقع، وإنما كان المفروض أن يكتسب الواقع من الأطر الفكرية للدين ويكون مثالها في الحياة البشرية، ولا يتعارض أبدا في جانب معها، وإذا كان هناك عدم هضم الأفكار أو عدم فهمها، فالأولى أن يرد ذلك إلى منطقة الفراغ، كي لا يكون هناك جدل عقيم، لكن المؤسسة الدينية، والتي على مدار التاريخ نجد من أدار تلك المؤسسة هم من النفعيين والبراغماتي وايضا فيهم من الديماغوجيين، وقد لجأ اولئك الى القسوة المفرطة دون اكتراث، فالدين بحد ذاته يجدونه يبرر تلك القسوة ولا يعارضها، وهي سلاح السدنة الذي يتملكون الدين لصالحهم، فهم سيسوا الامور ولم يعودوا كما البشر الاخرين، بل هم الاستثناء المتفرد بشكل مطلق.

لم يكن دور المؤسسة الدينية جاء وفق التغيرات الكبيرة لشكل الحياة والتي فرضتها أطر ما بعد الحداثة، بل نرد الأمر إلى التاريخ القديم، ونصل إلى أقصى المراحل في العمق البشري، ونؤكد بأن براغماتيا التدين تتيح للسدنة التحول من امتلاك ناصية الكفر إلى امتلاك ناصية الدين، ومن عارضوا إبراهام حين أطاح بالأصنام وأسقطها أرضا هم ليسوا سوى الوجه الآخر للسدنة، وفي تفسيرنا للتاريخ نجد أول استثمار واع للدين تم خلال حياة موسى، حيث يحيط به مجموعة تختلف علاقتها مع الدين، وهناك أكثر من موضع وإشارة للعلاقة النفعية بالدين عند هؤلاء، فهم قالوا أذهب قاتل أنت وربك ونحن سنقعد هنا، وطبعا هم قصدوا انتظار النتيجة، ومن الصعب تفسير الدين في اتجاه واحد، لكن الدين في تلك الظروف كان حاجة ليست قصوى، بل منفعة في الإطار النوعي ولا يزال، وقد أساءت البشرية فهم الدين أصلا، لكن البشرية عولت على الأمور التي تتصل بمنفعتها، وليس بما يتصل بالمفهوم الديني، والنفس البشرية إذا تبعت فطرة سليمة اتجهت نحو المفهوم الديني، وإذا اتبعت الغريزة اتجهت نحو الانتفاع من الدين، وعولت عليه في المكاسب المادية اكثر من المكاسب المعنوية.

إذا أشرنا إلى أن الدين معرفة، فسنتصل بمرحلة تاريخية أساءت فيها المؤسسة الدينية إلى أحد أرقى وأنقى الفرق الدينية، فالمعتزلة قدمت خطاب الحداثة في زمن مبكر جدا، لكن قد واجه رقيها المعرفي شرطة دينية، وما كانت تلك الشرطة إلا إحدى الصور البشعة للمؤسسة الدينية وبشاعة شعورها الديني الاستبدادي، من الطبيعي إن المعرفة هي نتاج العقل الراقي، وهذا الأفق البشري، أما المعرفة العليا فهي الأولى أن تكرس عبر وعي مدرك وقريب منها، وليس أن تحولها المؤسسة الدينية إلى أدوات براغماتي، وذلك الاستغلال للمعرفة العليا وجعلها مادة استعلاء حتى على أرقى العقول البشرية، والمؤسسة الدينية هي لا بد أن  تكون افقية واسطية، لكن هي تجعل نفسها يد الله وسلطانه على الارض، والواقع التاريخي للمؤسسة الدينية لن يخلو من صور استبداد او قمع للحريات الدينية، فيما قد جعلت السماء حدود سلطة الانبياء والرسل في التبليغ والنصح فقط، وفيما عدى ذلك يعتبر تعديا على الحريات الشخصية، فيما المؤسسة الدينية تجاوزت في الفقاهة حدود ذلك الابلاغ والنصح، واصبحت سلطة ارضية بديلة للسلطة السماوية، لكن على مستوى التحليل النفسي والوجداني والإنساني نجد اساءة المؤسسة لم يبلغ أي حد منها اهل الالحاد، فالدين في جوهر حقيقته يمتلك روح التسامح والصفح، فيما المؤسسة الدينية لا تمتلك غي اللوم او التعنيف لمن في جبهتها، ومن كان في الجبهة الاخرى فلربما اقامة الحد عليه بعد تجريمه هو عقاب عادل، وقسوة المؤسسة الدينية منذ بداية تاريخ الاديان الى اليوم قسوة المؤسسة الدينية قائمة ولم تتغير، وتحولت القسوة عبر سيرورة التاريخ الى سياق ملزم، ومن خلال ذلك السياق الذي انتجته اعراف المؤسسة الدينية، تحولت سلطة المؤسسة الدينية من اعراف الى حقيقة ملزمة.

من الطبيعي أن يكون هناك فارق ما بين النظرية الدينية والتطبيقات البشرية لها، وكان من المفروض الا أن يكون حتى دور العقل الراجح الحر مثال ارضي للسماء، حيث الطبيعة البشرية نفسيا هي في اطار نسبي في جانب العدل الاجتماعي، والعقل الراجح اذا تحرر من الاطر القبلية لا يمكنه التحرر من الاطر النفسية، وايضا لا يضع مرآة امام ذاته، وهنا نقف امام مفرق مهم، حيث لابد من إلغاء أي سلطة دينية أرضية، وخصوصا إذا نتفق ونقر بأن دور النبوات هو يحدد في التبليغ وأقصى حدا تبلغ به هو النص المجرد الحر، ولا يمكن هنا إلا جعل الفرد البشري هو من يملك حق الاختيار التام والكامل، ولا يشاركه أحدا في ذلك، وصراحة حرية الاختيار هي سبيل الحرية الشخصية، وما الذي تختلف به المؤسسة الدينية عن الأيدولوجيات إذا كانت هي من يرجح الحرية الدينية، لذا هي أكدت عدم اختلافها عن الأيدولوجيات عندما سيست النظرية الدينية وجعلتها آفاقها سياقا وثوابت، وعلى البشرية الالتزام بها، وجاهدت واجتهدت المؤسسة الدينية وقمعت وارعبت واذلت وبطشت كي تكتسب سلطتها البعد السياقية، وتكون المثال الذي لا يجد اي اعتراض عليه، وبكل ما تستطيع من سبل قامت المؤسسة الدينية بتقنين الدين بالسبيل الذي لا يحد فيه البشر الحق والعدالة الا من خلال المؤسسة الدينية، وساعد تاريخ الفقاهة تلك المؤسسة، والذي قام بتضيق سبل الوعي المقابل، فالكنيسة الكاثوليكية نفت تماما وجود اي سبيل غيرها للدين قبل عدة قرون، وقبلها وجد المعتزلة الطريق مسدود امامهم واما الاستسلام واما القتل بعد التجريم، وحتى مبدأ الاخبارية انحسر بالتدريج، بعدما اوهمت الفقاهة العقل البسيط بأن لا دين بلا تقليد، ونمت داخل المؤسسة الدينية عقول راجحة، لكنها اقرت بأن مبدأ التقليد يرتبط اساسا بالعقيدة، وكأنه احد اسس علم العقائد، وكما اسلفنا أن العقل الديني لا يقف امام المرآة، فهو يخشى أن تبدي له المرآة ما يكره، ونشطت المؤسسة من خلال الفقاهة، وجعلت كل حرية مشروطة لعامة البشر، ولن تتحقق تلك الحرية الا من خلالها.

نشأت الأديان منذ بداية التاريخ، لكنها لم تسبق أيديولوجيات الصولجان ولا الأعراف العامة، فالدين لا يأتي لفرد أو مجموعة أو جماعة، بل لا بد من أن يقابله ذلك المجتمع التام عرفا كما يسمى قديما، وكما اليوم هو ماثل أمام المنهج العلمي لعلم الاجتماع، والذي من خلاله يعتبر الدين منهجا تجريبيا، لكن الدين في جانبه الفكري هو خارج وحدة الزمان، وكما هو منهج إدراك عقلي وليس بادراك بصري، والإدراك البصري انحصر في الشواهد الكبرى وأساطير الدين، من مثل انفلاق البحر لموسى حسب المرويات الميثولوجي، فيما الواقع الديني هو المرآة الحية للدين، لكنه قد استغل وحرف، وتحول إلى سياسة مؤسسة مستبدة، وسلطة الغريزة التي يراها وليم جيمس نموذجا للطبيعة البشرية، مثلما يرى أفلاطون المنهج البدئي في الدين هو أفكار أو مثل، والتي يرى هيدغر أنها ليست بميتافيزيقا ولا هي دين، ويرى هيجل الدين هو ديالكتيك نظري الذي يخسره التطبيق، وستكون المؤسسة الدينية قاصرة حتما، فالقصد البشري سيسمو على القصد السماوي، ولم تتفق وترد كينونة الدين في تعاليها مع ذلك القصد القاصر نسبيا والعاطل عن الإطلاق، ومن الطبيعي أن يكون التفسير الموضوعي هنا أننا نفرق ما بين الخطاب الأرضي والسماوي، والذي هو (الرد المتعالي في الوقت نفسه من حيث هو منهج العلم الكلي؛ منهج تأصل وجود الموجود)2، وهنا لم نقدم الخطاب وفق الحكمة وعلم العقائد، بل عبر منظور فلسفي، وهنا يتسع الفارق إلى حد كبير ما بين النظرية الدينية وبين التطبيقات البشرية لها.

ثمة فرق كبير بين جهة الدين التي تستغل، وبين جهة الاستغلال البشرية، فالمعنى الديني هو حتمي في ذاته وفي استيعاب العقل له، ولكن جهة الاستغلال تحول المعنى الديني إلى سياق مستغلة تلك الحتمية، ولكن هي تستغل حتى تلك الحتمية حسب المقاصد والغايات البشرية، حيث هنا لا يمكن للعقل البشري نقض تلك الحتمية أو رفضها، وقد دفنت داخل تلك الحتمية رغبات تلك المؤسسة، والتي هي تلبس ثوب القداسة والتبجيل، وبذلك على أقل تقدير تضمنا لصالحها العقل البسيط والبشر منعدم الوعي، أو أصحاب العقل الساكن، وفي تفسير السعي البشري لتجنيد البشر لصالح المؤسسة الدينية شارك فيه حتى الفقهاء، والذين فيه من يقول – الله اعلم- وهناك من يقول – أنا أعلم –، فيما كل علم من جهة البشر هو نسبي، وهذا يشمل حتى الأنبياء والرسل، ولا يستثنى منه حتى أنشتاين، حيث مرة اثبت منظار التلسكوب على عدد من النجوم، وفي اليوم الثاني وجد أنها قد تغيرت بشكل لافت للنظر، وصراحة نحن في المنهج النسبي أما المنهج الحتمي ففي كليته موجود ولا موجود، فهو موجود في نفسه، لكن لا وجود لها أمام عقلنا البشري وإدراكه أو المستوى الإدراكي للنظر، حيث ينعدم تماما، لكن يبقى إيماننا به، فيما سلوك المؤسسة الدينية نحن نراه من جهة الإدراك البصري، ويراه الخالق من جهته، وليس حسبا ما ندرك أو نبصر.

***

محمد يونس محمد

..........................

1- سسيولوجيا المقدس، فيليب ميلور/ كرئيس شلني، ترجمة أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، ص 27

2- نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، مارتن هيدغر، ترجمة وعد علي الرحبة، دار التكوين، ص 65

في المثقف اليوم