أقلام حرة

علي فضيل العربي: مليوناين يابانيّ من أجل التحوّل إلى كلب

ورد في موقع العربيّة أن أحد اليابانيين، اسمه "توكو" قد أنفق 22 ألف دولار أمريكيّ ليصبح كلبا، وقام الياباني توكو بنشر فيديو على حسابه الذي يضم قرابة 40 ألف مشترك على يوتيوب. يظهر فيه خلال اصطحابه في نزهة على الأقدام، قام خلالها بشمّ اللكلاب الأخرى في الحديقة والتدحرج على الأرض.

لقد حدث الأمر في العام الماضي عندما التقت قناة ألمانيّة بتوكو حسب ما جاء في صحيفة سترايخ تايم. ووفق الفيديو فقد قال توكو قبل النزهة أنّه يشعر بالتوتر والخوف قليلا من المغامرة في الهواء الطلق، لكن الفيديو أظهر أنّه تلقى ترحيبا حار من قبل المارة وحتى الكلاب الأخرى، وقال أنّه أنفق ما يعادل مليوني ين على الزي الكامل المصمم حسب الطلب ليجعله يبدو ككلب حقيقي. وقد حصدت فيديوهاته عشرات الآلاف من المشاهدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. والغريب في القصة، أن هذا الـ (توكو) - وانطلاقا من مبدأ الحريّة الفرديّة التي كفلها له قانون بلده الليبيرالي، العلمانيّ - قد أنفق مبلغا ضخما، لو أنفقه في موضعه المطلوب، لأنقذ به عشرات الأسر في إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينيّة، من الجوع والعطش والأمراض المعديّة. لكنّه أنفقه من أجل أن يصبح كلبا، وكأنّ مجتمع الكلاب يعاني من ضعف النمو الديموغرافي ونقص في الأنفس الكلبيّة. والأمر الآخر الذي يدعو إلى العجب العجاب، كيف اهتدى هذا المخلوق الآدمي، وهو الكائن الوحيد العاقل على أديم كوكب الأرض، إلى هذه الفكرة الكلبيّة والسلوك الغريزي، في الوقت الذي يسعى فيه الإنسان إلى مزيد من الرقيّ المادي والعاطفي، وينفق، في كل لحطة، المال الكثير والجهد الوفير والوقت الثمين، من أجل بلوغ مبتغاه وتجسيد احلامه الورديّة، بينا رام ذلك الـ (توكو) تحقيق حلمه الكلبي الذي يضعه في موضع أسفل السافلين، ويخرجه من دائرة البشريّة والعقلانيّة والعلمانيّة. إنّه لسلوك عجيب أن ينفق رجل (عاقل) آلاف الدولارات بغيّة تجريد نفسه من الصفات الآدميّة والتمرّد على هويّته الإنسانيّة والانضمام إلى سلالة النبح والعض والدبّ على أربع وأكل الجيفة، خلقها الله خلقا مغايرا لحما وعظما ودما وغريزة، لخدمة الإنسان في السرّاء والضرّاء.

و الأسئلة المطروحة: كيف كان شعور هذا المواطن الياباني توكو بعد انتمائه إلى " مملكة " أو " جمهوريّة " الكلاب؟ وكيف سيواصل حياته بين " إخوانه " الكلاب؟ وهل سيتزوج – مثلا – كلبة من عشيرته الكلبيّة الجديدة؟ أم أنه سيغري أنثى آدميّة لتنضم إلى ذويه الجدد وتتحوّل إلى كلبة كي يتزوجها، وينجبان سلالة جديدة من الكلاب المتحوّلة عن جنس البشر؟ ألم يكن جديرا به أن يكتب – وقد مرّ عام على مغامرته تلك – يومياته الكلبيّة، وينقل لنا – بكل أمانة – مشاعره لمّا تحوّل إلى كلب؟ أم أنّه قد أصبح - بعد هذا التحوّل، الذي فاق التحوّل الجنسي – مثل الكلاب لا يقرأ ولا يكتب ولا يتكلّم؟

إنّ الله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرّمه بالعقل، بينما يضع هذا اليابانيّ نفسه في اسفل السافلين. لقد أوصلت الفلسفة الماديّة الإنسان في الغرب إلى مجرّد آلة إنتاج واستهلاك، وجرّدته من الروحانيات، وقطعت صلته بالسماء. وقد أفضى به المنهج المادي إلى أزمة روحيّة ونفسيّة أفقدته هويّته الآدميّة. وإلاّ ما معنى أن ينفق هذا الـ " توكو " الياباني كلّ هذا المبلغ الضخم من أجل التحوّل إلى كائن نابح يسير على أربع ويعض بأنيابه ويتبوّل على جذوع الأشجار ويتغوّط أمام الملأ، ويقذفه الأطفال بالحجارة إذا صادفوه في الطريق ويأكل الجيفة ومن المزابل والقمامات، أيّ أن التحوّل إلى عالم الكلاب سيترتّب عنه سلوكات كلبيّة لا عهد له بها. لكنّه – حتما - سيجد صعوبة في تعلّم المشي على أربع واكتساب ودّ الكلاب وكيفيّة النباح والزواج من كلبة تحبّه ويحبّها، بغية الإنجاب والمحافظة على السلالة الجديدة.

إن العالم المعاصر قاب قوسين أو أدنى من السقوط الانهيار وقد روت لنا قصص التاريخ أنّ نهاية الحضارات وسقوط الأمم والإمبراطوريات العظيمة لم يكن بسبب حروب الأعداء الخارجيين، أو جوائح اقتصاديّة وماديّة وإنّما كان سبب، سقوطها ونهايتها، تفكّك نسيجها الاجتماعي وفقدان بوصلة الوازع الأخلاقي وتخلّي الفرد فيها عن منظومة القيّم. إنّ سقوط الحضارات والمدنيّات القديمة وانهيارها وأفولها كان نتيجة حتمية عندما انحرف العقل عن سبل الرشد وبلغ سنّ اليأس. فالقوّة الماديّة ليست صمّام أمان لرسوخ الحضارة واستمرارها وازدهارها، وقد تتحوّل – غالبا – إلى قوّة سلبيّة رعناء، هدّامة. والمتأمّل لآثار الحضارات الآفلة في حوض النيل وبلاد الرافدين وبلد الشام وسواحل البحر المتوسط الجنوبيّة، يدرك – جيّدا – القوّة الماديّة لتلك الحضارات واتّساع نفوذها العسكري. إنّ أفول الحضارات وتفسّخها، ناتج – حتما – عن شعور الفرد فيها بالإشباع المادي والجفاف النفسي والفراغ الروحي، أيّ طغيان القوّة الماديّة وضمور الطاقة النفسيّة، ممّا يؤدي إلى شعور الفرد برغبة جامحة في البحث عن حياة خارج ناموس الفطرة الإنسانيّة.

يقول رونيه جيرار "محاضرة بعنوان: "عنف اليوم، العنف الدائم":

" إنّ عالمنا مهدّد أكثر من أي وقت مضى بعودة الشغف القرباني ومغامرات أخرى شيطانية يعجّ بها القرن العشرين. لكنه أيضا أكثر غنى بالوعود من كلّ العوالم السابقة. إنّ إمكانياتنا الإبداعية كما التدميريّة تزداد باستمرار. وما يشكّل خطرا في هذا القرن القادم لا ينفصل عمّا يجعل منه بشكل مؤكّد، الأكثر دهشة ونرجو ذلك، الأكثر سلمية في التاريخ الإنساني"*

نخشى أن يخرج علينا أمثال " توكو " الياباني بـ (تقليعات) أخرى، فينفقون أمولا ضخمة من أجل التحوّل إلى أبقار أو ثيران أو احصنة أو حمير أو بغال أو قطّط أو جرذان أو معزأو نعاج أو حشرات طائرة أو زاحفة (نمال أو عناكب أو بعوض) لأنهم وجدوا – حسب زعمهم - في هذه العوالم الحيوانيّة والحشريّة ما لم يجدوه في عالم الإنسان ؛ وجدوا راحتهم وأمانيهم ومعاني وجودهم.

إنّ الحياة البشريّة الفطريّة مهدّدة بالانقراض، مثلما انقرضت الديناصورات وكائنات أخرى، لا بسبب انعدام ضرورات، أو تغيّرات مناخيّة، كازدياد حرارة كوكبنا والجفاف أو جيولوجيّة، كالزلازل والبراكين والفيضانات،  أو بسبب أوبئة فتّاكة ومعديّة ومستعصيّة العلاج أو إقدام المجانين السياسيين والعسكريين على استعمال أسلحة الدمار الشامل في حسم الحروب، وإنّما الخطر الذي يتهدّدها هو السلوك البشري اللإنساني المنافي للفطرة التي فُكر عليها ابن آدم. وأخطرها على النسل الشذوذ الجنسي أو المثليّة، أو ما أُطلق عليه " مجتمع الميم " المُروّج له في الشرق والغرب، والمقنّن ضمن مباديء حقوق الإنسان. إنّ الحريّة حق فطري، وقد نصّت على ذلك وصانته كافة الأديان السماوية والقوانين الوضعيّة المناهضة للعبوديّة والاستغلال. وما "توكو" الياباني، فما هو إلاّ ثمرة مرّة من ثمرات الفلسفة الماديّة العاريّة من القيّم الروحيّة النبيلة. وقد يقول البعض: إنّ ما قام به "توكو" هو مجرّد سلوك فرديّ منعزل، وليس سلوكا نمطيّا يعكس المجتمعين الياباني والغربي. فأجيبه: إنّ أمثال "توكو" الياباني كثيرون في المجتمعات الغربيّة والشرقيّة. ومازالت بعض القبائل في أدغال الأمازون وأعماق إفريقيا وآسيا تعبد الأصنام وتـتّخذ بعض الحيوانات والحشرات آلهة تقدّسها وتعبدها وتقدّم لها القرابين من بني البشر. لكن الفرق بينها وبين " توكو " الياباني أن ّ بعض تلك القبائل البدائيّة لم يصلها علم أو دين ولم تتذوّق طعم حضارة القرن الواح والعشرين، أمّا " توكو " الياباني فقد تشبّع بالحضارة المعاصرة في مجتمع يقدّس العقل ويتنفّس العلم الدقيق ويمثّل قمّة التكنولوجيا المتطوّرة.

و السؤال الذي يشغل العاقل منّا، إلى أين تتّجه بنا فلسفة الغرب الماديّة؟ إلى أيّ مدى ستصل بنا في غمرة محاولة الذكاء الاصطناعي الهيمنة على الحياة البشريّة؟

ما الذي كان ينقص هذا الـ (توكو) الياباني في عالمه البشريّ؟ وهل حقّق سعادته واطمأنتّ نفسه عندما (زعم) أنّه تحوّل إلى كلب، ووجد ترحابا من إخوانه الجدد (الكلاب)، وتقبّلا من أبناء جنسه وتفهّما لما أقدم عليه؟ فلا حول ولا قوّة غإلا بالله العلي ّ العظيم.

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

.......................

هامش:

* نصوص حول العنف بقلم، رونيه جيرار،  ترجمة: عبد الوهاب البراهمي، صحيفة المثقف 04 آب / اغسطس 2023 م.

في المثقف اليوم