شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

العلوم والمعارف المتاحة والمبتكرة بإستمرار؛ توجه رافق كل الحضارات بالتزامن مع الحروب التي تفضي الى تغيرات تطال منظومات التعلم والتعليم، وهذا ما شهده العراق منذ زمن بابل وأشور وبغداد الزوراء، وكان للحرب العالمية الاولى 1914 - 1918 وما تلاها من أحداث عبر أكثر من مئة سنة مضت؛  منعكساتها على التعليم في العراق، فكل خطوة للأمام تتبعها أحيانا خطوتان للخلف، وذلك ما يحاول المقال جغرافيا - تأريخيا وبالاعتماد على البيانات المكانية الوصفية والمنطقية - الرقمية الكشف عنه.

مؤسسات التعليم الاولى:

كانت أليات التعليم في العراق مطلع القرن العشرين مقتصرة على التعليم في بعض البيوت، والكتاتيب، والمساجد والجوامع، والمدارس الدينية، والحوزات العلمية، ضمن حلقات يقودها شـيخا، ويبدأ بالصبية صعوداً، وكذلك لحلقات النساء، وأطلق على هذه الحلقات أسماء محلية عديدة منها (الكُتاب) بضم الكاف، و(الكتاتيب)، وحلقة (الــمُلا/ الملاية) بضم الميم، وكان يتعلم فيها أفراد السكان بمختلف الأعمار أوليات القراءة والكتابة وتلاوة وحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والأحكام الشرعية، وهكذا وضعت الاسس الاولى للتعليم الحديث، وبعد انتشار المدارس في بغداد وبقية المدن العراقية تقلص عمل هذه الحلقات والكتاتيب تدريجيا.

المدارس العثمانية:

تضمنت المدارس العثمانية الاولى؛ الحكومية منها والأهلية كل من؛ المدارس الإسلامية والمسيحية واليهودية والأجنبية الأخرى، ومنها؛ اللاتينة للأباء الكرمليين 1721، الكلدانية 1843، والموصل 1855، والاتحاد الاسرائيلي 1865، (المدارس اليهودية/ مدارس الإتحاد الفرنسي/ الأليانس التي شملت؛ سبع منها في بغداد، وخمس في كل من؛ البصرة والعمارة وخانقين والحي وكركوك ). ومدارس كل من؛ السريانية الأفرامية، الأرمن المختلطة، الراهبات للبنات، البروتستانت للبنات، الاباء الدومنيكان. اضافة لمدارس كركوك 1868، وسامراء 1881، والنجف، 1882.[1]

شملت المدارس العثمانية النظامية التي تعتمد الاسس الحديثة أنذاك كل من؛ الرشدية المدنية، والفنون والصنائع 1869، والأعدادية العسكرية، والمدرسة الرشدية العسكرية/ كركوك 1870، والأعدادية المدنية 1871.  وقد تم افتتاح المدرسة الرشدية العسكرية ببغداد سنة 1870، وموضعها قرب شاطئ نهر دجلة من جانب الرصافة (بناية المحاكم المدنية سابقا)، والواقعة عند يسار نهاية شارع المتنبي، الى يمين بناية القشلة، ويعود أصل البناء الى أواخر العصر العباسي (مدرسة الأمير سعادة، خادم الخليفة المستظهر بالله 1078- 1118م )، ثم أشُغل المبنى بدائرة/ الدفترخانة المعنية بحفظ الوثائق والسجلات العقارية والمالية زمن المماليك 1749- 1831، بعدها قرر الوالي مدحت باشا 1870 استخدامها مدرسة عسكرية حديثة لاستقبال أبناء بغداد بهدف تأهيلهم للدراسة في الكلية العسكرية في إسطنبول، وفي 1891 تم نقل المدرسة الرشدية العسكرية الى بناية جديدة (خصصت لاحقا 1918 لدار المعلمين الابتدائية، وموضعها؛ بناية المدرسة الاعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان).  وتم الغاء المدارس العسكرية العثمانية بعد احتلال بغداد 1917. وقد شرعت دائرة (مجلس المعارف) العثمانية ببغداد بفتح المدارس الاتية؛ في سنة 1889 فتحت؛ مدارس؛ جديد حسن باشا، الحميدية/ الفضل، الكرخ، والاعظمية. وفي 1891 الصابونجية، والعثمانية. وفي 1907 مدرسة تطبيقات دار المعلمين الابتدائية. وفي 1908 الجعفرية الأهلية/ مكتب الترقي الجعفري العثماني، والحقوق، وتذكار الحرية/ البصرة. وفي 1910 (كلية/ مدرسة) الامام الأعظم. وفي 1911 الكاظمية الأهلية، والحلة 1911. وفي 1914 شيدت بناية مدرسة تطبيقات دار المعلمين الابتدائية التي سبق أفتتاحها في 1907. كما تم في 1914 الأنتهاء من تشييد وفتح مدرسة الاتحاد والترقي (لاحقا بناية مدرسة المأمونية الابتدائية 1922- 1959/ جوار الدفاع، عند ساحة الميدان).

مدارس الادارة البريطانية:

في عهد الإحتلال/ الأنتداب البريطاني أستند التعليم على النظام التعليمي العثماني، ونظام التعليم في مصر المتأثرين بالفكر الفرنسي، وتم تقسيم العراق لأربع وحدات إدارية حيث إستهدفت السياسة التعليمية (لإدارة المعارف) المباشرة بفتح المدارس الإبتدائية فيها، وعليه تم إعادة فتح (كلية/ مدرسة) الامام الأعظم 1917، ودار المعلمين  1918، وفي سنة 1919 أعيد فتح مدرسة الحقوق، كما تم افتتاح المدرسة الاهلية الإبتدائية. ثم تزايد إفتتاح المدارس الحديثة تدريجيا في عدد من مدن العراق الكبيرة والصغيرة ومنها؛ مدرسة العمارة 1917، الناصرية 1917، كربلاء 1918، الكوت 1919، الرمادي والفلوجة 1919. وفي 1921 تشكلت وزارة للمعارف لتتولى انشاء وفتح المدارس والكليات في عموم العراق.[2]3929 جامعة بغداد

مرتكزات التعليم العالي وتطورها:

شهد التعليم العالي خلال السنوات المئة الماضية تطورا تدريجيا شمل؛ تزايد أعداد الطلبة، وتحويل المدارس المهنية الى كليات مع تنامي تشكيلها، لتنضوي إداريا وعلميا بعد مرور أكثر من ثلاثون سنة بجامعة بغداد/ الجامعة الام، وشمل ذلك ما يلي:

* دار المعلمين الأبتدائية؛ يعد أساس المدارس، لذلك تم فتح أول دار ببغداد 1907 ضمن بناية المدرسة الرشدية، وبعد أغلاقه 1914 أعيد فتحة 1918 في بنايته (موضع بناية المدرسة الأعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان )، ثم انتقل بعد 1930 الى الاعظمية/ قرب المقبرة الملكية، وأستمر نواة لعشرات الدور التي تم أفتتاحها تباعا في العديد من مدن العراق خلال سنوات العقود العشرة الماضية.

* مدرسة الحقوق العثمانية؛ تأسست في بغداد سنة 1908 ثم أعيد أفتتاحها 1919، وتقع بنايتها مقابل مبانى السراي- القشلة تقريبا، والتي أعيد تشييدها 1934 على الطراز الانكليزي/ الفكتوري، ومن أبرز الشخصيات التي تخرجت منها؛ المحامي عباس العزاوي 1921.

* دار المعلمين العالية و كلية التربية؛ تأسس دار المعلمين العالية سنة 1923، وضم قسمين/ العلوم الطبيعية والعلوم الانسانية بضمنها الجغرافية، وأضيف اليها قسم الرياضيات فيما بعد، ويقبل فيه خريجو دار المعلمين الأبتدائية وخريجو المدارس الثانوية، وقد شغل في بدايته الطابق الثاني من مدرسة المأمونية الابتدائية (جوار الدفاع، عند ساحة الميدان)، ثم انتقل الى جوارها في ( بناية المدرسة الاعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان، والتي سبق وأن شغلها دار المعلمين الأبتدائية ). وقد أغلق دار المعلمين العالية خلال السنوات 1931-  1935. ثم انتقل مرة أخرى الى الأعظمية -  مجاور المقبرة الملكية (بناية دار المعلمين الأبتدائية)، والتي أصلها أحد مباني جامعة آل البيت العراقية الملغاة 1930. بعدها أستقر دار المعلمين العالية في؛ بنايته الرئيسة مع ملحقاته من الأبنية الادارية والخدمية، والمشيدة  سنة 1952، وأفخم وأشهر ما فيها؛ البناية التي حضر فيها الألاف عبر أكثر من ستون سنة مضت ولحد الان، (قاعة ساطع الحصري) مؤسس الدار/ 1923 وعميده الأول، وموضع بناية الدارهذه بمحاذاة مسار (سدة المدينة الترابية المشيدة 1917، وهي السدة الأقرب من مسار سدة ناظم باشا الاسبق منها)، وتقابل بناية الدار موضع المقبرة البريطانية من الاتجاه الغربي، (وحاليا هي مبنى الكلية التقنية- معهد الادارة). ولقد أستمر الدار بهذه البناية لغاية إلغائه 1958 بعد تأسيس (كلية التربية) التي ضمت الدارنفسه، وفي بنايته ذاتها.

بعد مرور عشرة سنوات أغلقت كلية التربية 1969 ثم أعيد فتحها 1972، وتدريجيا أنتقلت عمادتها واقسامها الانسانية الى مبانيها الجديدة، مقابل مبنى كلية الأداب وسط مجمع كليات باب المعظم، حيث تشكلت منها لاحقا 1988 (كلية التربية/ الأولى/ أبن رشد). أما اقسامها العلمية فقد بقيت بمبناها (المقابل للمقبرة البريطانية)، وتشكلت منها ايضا (كلية التربية/ الثانية/ ابن الهيثم 1988) والتي أنتقلت لاحقا الى (مبنى كلية العلوم/ الاعظمية/ ساحة عنتر التي سبق وان أنتقلت بدورها الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1983).

* جامعة آل البيت العراقية؛ تأسست 1924 من عدة (كليات/ مدارس) ومنها؛ الحقوق، الهندسة، العلوم المالية، ودار المعلمين العالية، وتوزعت بعدة مباني في الاعظمية، ومنها مبنى (الكلية او الشعبة الدينية)/ موضع الجامعة العراقية الحالي) وقد الغيت هذه الجامعة 1930.

* كلية الطب الملكية العراقية؛ تأسست 1927 جوارمستشفى باب المعظم (موضع مدينة الطب الحالي)، وأتخذت نظام ومناهج الكلية الطبية الملكية البريطانية.

* كلية الصيدلة؛ تأسست 1936 جوار كلية الطب، ثم انتقلت الى بنايتها الأحدث خلف موضع سايلو باب المعظم 1973.

* كلية الهندسة؛ تأسست 1942 بضم (مدرسة الهندسة السابقه)، وتقع البناية الأولى لكلية الهندسة والمشيدة 1956؛ يمين شارع ابي طالب - جوار المبنى السابق لوزارة الري ( وحاليا؛ ملحق الجامعة المستنصرية - كلية الهندسة)، وقد انتقلت كلية الهندسة الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1983.

* كلية الملكة عالية؛ تأسست سنة 1946 بمبنى صغير/ بباب المعظم، وتحولت الى كلية التحرير للبنات 1958، ثم إلى كلية البنات 1963، وأخيرأدمجت مع كلية الاداب 1969. وكانت كلية الملكة عالية بديلا لدار ( المعلمات الاولية )، والمنشطر بالأصل من (دار المعلمات الابتدائية، المؤسس سنة 1926، والذي سبق وان أنشطر 1943 الى؛ دار المعلمات الابتدائية، والى دار المعلمات الاولية).[3]

* كلية الاداب و العلوم؛ تعد الأداب والعلوم من الكليات المركزية لكل جامعات العالم، وقد تأسست سنة 1949 في بغداد، وكان عميدها الاول الدكتور عبد العزيز الدوري 1949 - 1958، وضمت قسمين/ العلوم الطبيعية، والعلوم الانسانية بضمنها الجغرافية، وأضيف اليها قسم الرياضيات فيما بعد، وكانت بنايتها الاولى متواضعه في منطقة باب المعظم (بناية المدرسة القديمة للفنون المنزلية )، مقابل (كلية الملكة عالية - لاحقا التحرير ثم البنات)، وبنايتها حاليا؛ ملحق المعهد الطبي التقني (عند مجسر مشاة باب المعظم - شارع الخلفاء/ الجمهورية).

في سنة 1956 أنقسمت كلية الاداب والعلوم الى كليتين مستقلتين هما؛ (كلية الاداب) التي انتقلت الى بنايتها بمنطقة الاعظمية، وتحديداً خلف المجمع العلمي العراقي/ في البناية التي تشغلها حاليا كلية القانون. (ولاحقا في سنة 1969 أنتقلت كلية الاداب الى مبناها الحالي - بمجمع كليات باب المعظم -، والمشيد 1960، والذي كانت تشغله قبلها كلية التجارة ). اما (كلية العلوم) فقد توزعت اقسامها في بنايتين مؤجرتين في الاعظمية/ شارع المشاتل، ثم استقرت في بنايتها الجديدة أنذاك في الأعظمية/ ساحة عنتر.

* كلية التجارة؛ تأسست 1946 من معهد العلوم المالية المؤسس 1936، والذي كان ضمن كلية الحقوق، وأنتقلت كلية التجارة الى مبناها الجديد المشيد 1960 (مجمع باب المعظم، مبنى كلية الأداب الحالي)، وتحولت كلية التجارة سنة 1968- 1969 إلى كلية الادارة والاقتصاد بمبناها المجاور لكلية القانون/ الوزيرية.

* كلية الشريعه؛ تشكلت 1946 في الأعظمية، وإلحقت بجامعة بغداد 1963، وحاليا كلية العلوم الاسلامية.

* كلية الزرعة؛ أسست 1952 في ابي غريب/ بغداد، وتخرجت أول دوراتها 1956 برعاية ملك العراق فيصل الثاني.

* كلية طب الاسنان؛ أسست 1953 بجوار كلية الطب (جوارموضع مدينة الطب الحالي).

* كلية الطب البيطري؛ أسست 1955 في ابي غريب/ بغداد، بموقعها/ العامرية غرب بغداد.

* جامعة الحكمة اليسوعية، مؤسسة أكاديمية أهلية تم تأسيسها سنة 1955، وفي سنة 1969 تم تأميم جامعة الحكمة وإلحاقها بجامعة بغداد.  سميت جامعة الحكمة سنة 1956 وبدأت بثلاثة اقسام؛ ادارة الاعمال والهندسة والفنون الحرة والدراسات العربية، وأنجزت بنايتها 1959 على قطعة أرض (272 دونما) في الزعفرانية جنوبي شرقي بغداد، واعتبارا من 1969 اصبحت بناية معهد التكنولوجيا/ بغداد.

* جامعة بغداد؛ (الجامعة الام) أقدم جامعة حديثة في العراق، وشرع لأول مرة قانون تأسيسها سنة 1956.

* كلية التمريض؛ فتحت 1962 قرب كلية الطب (جوارموضع مدينة الطب الحالي).3930 الجامعة المستنصرية

* الجامعة المستنصرية، أستحدثت (جامعة خاصة) 1963، وأستقرت سنة 1968 بمبناها الجديد الذي شيدته مؤسسة كولبنكيان الخيرية، وهو المبنى الحالي الذي يقع في الرصافة من مدينة بغداد/ شارع فلسطين، وأعتبرت جامعة رسمية حكومية سنة 1974. وتضم حاليا 13 كلية وبكافة التخصصات، (سميت نسبة إلى؛ المدرسة المستنصرية العباسية العريقة ذات المركز العلمي والثقافي، والتي تم تأسيسها ببغداد سنة 1233م على يد الخليفة العباسي المستنصر بالله 1192 - 1243م ).

* جامعة البصرة، أستحدثت سنة 1964 من خمسة كليات، وتضم الان 22 كلية بمختلف الاختصاصات العلمية، وشيدت بنايتها الاولى شرق شط العرب/ التنومة، ثم انتقلت الى مبانيها الجديدة  في كرمة علي 1983.

* كلية التربية الرياضية؛ تشكلت 1966 - 1967 من ضم المعهد العالي للتربية البدنية، واستقرت بمبناها (التي تشغله حاليا كلية التربية الرياضية للبنات) يسارمدخل شارع المغرب ومقابل منطقة الوزيرية، ثم أنتقلت الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1985.

* اكاديمية/ كلية الفنون الجميله؛ فتحت 1967، في بنايتها الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من منطقة الوزيرية/ يمين شارع ابي طالب، (وكانت بنيتها قبل توسيعها وتطويرها دارا لرئيس الوزراء الأسبق نوري سعيد).

* جامعة الموصل؛ تأسست سنة 1967 في مبانيها في الجانب الايمن/ المجموعة الثقافية. وسبق تأسيسها فتح كليات عديدة؛ أولها كلية الطب/ وزارة الصحة، والتي ألحقت بجامعة بغداد 1960، وتبعها فتح كليتا العلوم والهندسة 1963، وكلية الزراعة والغابات وكلية الصيدلة 1964، وكلية البنات 1967.

* جامعة السليمانية، أستحدثت سنة 1968، ثم نقلت الى اربيل سنة 1981 باسم (جامعة صلاح الدين /الحالية)، وفي سنة 1992 أعيد فتح جامعة السليمانية/ الحالية.

* الجامعة التكنولوجية، ببغداد/ حي الوحدة - شارع الصناعة، وتم أستحداثها سنة 1975، وتضم 13 (كلية/ قسما) هندسيا علميا، وأساسها ( المعهد الصناعي العالي) المؤسس 1960، والذي تحول الى (كلية الهندسة التكنلوجية) التي أرتبطت لعدة سنوات بكلية الهندسة/ جامعة بغداد.

جامعـة بغـداد:

أقدم جامعة حديثة في العراق (الجامعة الام)، ولم تبدء بالأدارة لافتتاح الكليات لاحقا، انما بدأت بضم كليات مضى على تشكيل بعضها أكثر من ثلاثون سنة، وشرع لأول مرة قانون تأسيس جامعة بغداد رقم 60 لسنة 1956، وتشكل مجلسها الاول 1957 برئاسة الدكتور متي يوسف عقراوي/ فلسفة (أول رئيس للجامعة)، وفي 1958 صدر قانون رقم 28 تنفيذا لقانون 60، وترأسها الدكتور عبد الجبار عبدالله الشيخ سام/ فيزياء 1958 (وحاليا؛ يتصدر تمثاله النصفي ساحة برج جامعة بغداد في الجادرية)، وفي 1963 ترأسها الدكتور عبد العزيز عبد الكريم الدوري/ تأريخ، وفي 1968 ترأسها الدكتور جاسم محمد خلف الركابي/ جغرافيا. وتنقلت رئاستها  بعدة أبنية تابعة لكلياتها ومعاهدها وفي بناية وزارة التعليم، وذلك في كل من؛ باب المعظم والاعظمية والطيران/البتاوين، ثم انتقلت الى بنايتها في الجادرية.

لقد تشكلت جامعة بغداد من؛ تسعة كليات سابقة التأسيس هي؛ الحقوق، التربية، الطب، الصيدلة، الهندسة، الأداب، العلوم، التجارة، الزراعة. كما الحقت بها المعاهد العالية الاتية؛ العلوم الادارية، اللغات، المساحة، الهندسة الصناعية، والتربية البدنية. وخلال السنوات العشرة اللاحقه لتأسيس جامعة بغداد  ضمت عدد من الكليات الأقـدم والمستحدثة وهي؛ الشريعة، طب الاسنان، التمريض، التربية الرياضية، أكاديمية/ كلية الفنون. وتبع ذلك ايضا أستحداث كليات عديدة منها؛ اللغات، العلوم السياسية، التربية للبنات. وتضم جامعة بغداد حاليا 24 كلية و4 معاهد و16 مركزا بحثيا و36 مجلة علمية، وتخرجت منها الدورة 66 لسنة 2023. ومن حيث التأسيس عدت جامعة بغداد الأولى عراقيا، والثانية عربيا بعد جامعة القاهرة/ 1816م، وفي سنة 2023 صنفت جامعة بغداد علميا بالمرتبة الاولى من بين 122 جامعة عراقية، والمرتبة 41 من بين 1365 جامعة عربية، والمرتبة 1571 من بين 12002 جامعة عالمية.

مجمع كليات باب المعظم

تشكلت جامعة بغداد من عدة كليات كانت تابعه لوزاراتها التي استحدثتها لأول مرة، وبالمقدمة وزارة المعارف/ مجلس التعليم العالي، وتركزت مؤسساتها منذ البدء بمركز منطقة باب المعظم لكونها المركز الحكومي الأول منذ العهد العثماني، وبالتالي تزايد الروابط فيما بين تلك المؤسسات خاصة الابنية والتجهيزات والعلاقات التعليمية والعلمية، ومنذ سنة 1943 بدء البحث عن الموقع المناسب لتشييد جامعة بغداد، وفي سنة 1955 شرعت وزارة المعارف بتشكيل لجنة تضم عدة أعضاء من وزارات ودوائر عدة برئاسة الدكتور عبد العزيز الدوري، لتشييد مباني للكليات خارج مبانيها القديمة/ المتفرقة بمركز منطقة باب المعظم، وذلك بسبب؛ التزيد السنوي لأعداد الطلبة، وتصاعد احتجاجاتهم ومظاهراتهم قرب المؤسسات الحكومية/ بباب المعظم في أعقاب الاضرابات الادارية المطلبية، والتظاهرات السياسية المتعاقبة منذ 1948، وخصوصا تلك التي جرت سنة 1952 بالساحة المقابلة لكلية الاداب والعلوم ( باب المعظم/ موضع مجسر مشاة تقاطع شارع الخلفاء/ الجمهورية)، وهكذا تم اختيار عدة مناطق ببغداد، وبوشرأولا بالانتقال الى محيط مركز منطقة باب المعظم.

يقع (مجمع كليات باب المعظم) في الركن الشمالي الشرقي لمدينة بغداد القديمة (المسورة)، مابين (منطقتي الفضل والشيخ عمر، وطريق محمد القاسم من الجهة الجنوبية الشرقية)، وبين ( شارع صفي الدين الحلي/ منطقة الوزيرية شمالا، وشارع ابي طالب غربا). لقد كانت عائدية أرض مجمع كليات باب المعظم تابعة للأوقاف، وهي بالاصل حقول زرعية للرز ومحاجر للطابوق وخندقا لتجمع المياه، وبعد 1917 شيد البريطانيون فيها كل من؛ سدة المدينة الترابية 1917- على طول حافتها الشمالية تفاديا لفيضان نهر دجله، وهي السدة الأقرب للمدينة من مسار سدة ناظم باشا 1911. كما شيدو؛ مقبرة لجنودهم، وحديقة عامة/ المعرض، ومعسكرا للخيالة، وخطا متريا لسكة حديد. مع بناء المسقفات والمخازن والدور السكنية للعاملين بمحطة قطار باب المعظم (محطة قطار شمال بغداد/ خانقين - كركوك - أربيل)، والمرتبطة بمحطة قطار باب الشيخ (محطة قطار شرق بغداد/ بمنطقة النهضة - مقابل مستشفى الكندي).

لقد حضي مجمع كليات باب المعظم لأهميته المكانية بالأهتمام الجامعي المبكر، فقد تم تشييد البناية الأولى (دارالمعلمين العالية 1952/ لاحقا كلية التربية 1958) قبل صدور قانون جامعة بغداد 1956، ثم (( بناية كلية التجارة 1960 - التي ضمت البناية الأقـدم منها/ ثانوية الصناعة والمشيدة 1953 - وحاليا هي بناية كلية الأداب))، ثم تبع ذلك تشييد بنايات الكليات السابق ذكرها، كما شيدت بنايات علمية وخدمية ذات أهمية علمية وجامعية وهي؛ المكتبة المركزية 1959/ يسار مسار شارع صفي الدين الحلي/ مقابل منطقة الوزيرية. وشيد مجمع الوحدة السكني/ دار الطلاب 1960، يسار مدخل شارعي (الكفاح/غازي، والشيخ عمر) من جهة باب المعظم. وأعيد مقابل كلية اللغات تشييد البناية الجديدة لمركز بحوث التأريخ الطبيعي (متحف التأريخ الطبيعي) سنة 1973. وتم كذلك بناء مجمع التعاون لأسكان الطالبات/ وسط المجمع في يسار مبنى كلية اللغات سنة 1975.

يضم المجمع حاليا عدة كليات تم تجديد أبنيتها مرارا مع توسيع ملحقاتها على مدى أكثر من نصف قرن وهي؛ الاداب، التربية/ابن رشد، الصيدلة، العلوم الاسلامية/الشريعة، اللغات، التمريض، والكلية التقنية، ومعهدي الادارة والرياضة. إضافة الى (ملحق الجامعة المستنصرية/ كلية الهندسة). كما تنتشر أبنية كليات المجمع بأتجاه نهر دجلة (المجموعة الطبية/ كليات الطب وطب الاسنان)، وتتبع المجمع أيضا كليات اخرى؛ الفنون الجميلة/ في الوزيرية. والادارة والاقتصاد، والقانون، والتربية/ أبن الهيثم في الاعظمية.3931 جامعة الموصل

مجمع الجادرية

في سنة 1955 تم أختيار الجادرية أرضا (بمساحة 1300 دونم = 325 هكتار) لأبنية جامعة بغداد وفقا لأحدث التصاميم الهندسية للجامعات العالمية أنذاك؛ وتم الاختيار على اساس بعدها عن المركز، وفرادت موقعها وموضعها، وسعة مساحتها للتوسع المستقبلي. وتقع أرضها جنوبي شرقي مدينة بغداد الكبرى، يسار مجرى نهر دجلة الذي كون تعرجه تلك الارض الأقرب لشبه جزيرة، وفي 1957 أنجز تصميم برجها، وبوشر بالبناء 1963، وأكتمل تشييد برج الجامعة ( 19 طابقا بارتفاع 80م ) سنة 1967، وتم لاحقا توسيع أبنيتها الاخرى سنة 1982، وقد أنتقلت الادارة/ رئاسة الجامعة (ببرج مجمع الجادرية) ابتداء من سنة 1975، ثم تبعتها كليات العلوم، الهندسة والرياضة سنة 1983، ولاحقا كليات البنات، الاعلام، الزراعة، السياسية، والطب البيطري.

تطورالمستوى العلمي للتعليم العالي:

في سنة 1958 أستحدثت وزارة التربية والتعليم بدلا من (وزارة المعارف/1921)، وتتبعها كل مؤسسات التعليم، وفي 1970 تشكلت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المسؤولة عن الجامعات والكليات والمعاهد والمراكز البحثية مما زاد من تنظيمها اداريا وعلميا، والتي كانت لسنوات تدار من قبل وزارة المعارف ثم وزارة التربية والتعليم.

لقد أنطلقت من جامعة بغداد الملاكات التدريسية والفنية والإدارية المدربة تدريباً عال المستوى لصالح المؤسسات الحكومية. ولتنتشر ايضا في الجامعات العراقية التي تم تأسيسها في مدينة بغداد وخارجها، إعتماد على امكانات جامعة بغداد من حيث إعداد التدريسيين والكوادر الادارية والفنية وخبرات التشييد والتطوير والأداء العلمي ومنها؛ جامعات المستنصرية، البصرة، الموصل، السليمانية. ومجموعة جامعات 1987 وهي؛ الكوفة، القادسية، تكريت، الانبار. وجامعة المتميزين/ النهرين حاليا ببغداد/ الجادرية. كما أسست الجامعة العراقية ببغداد/ الاعظمية 1989. وتبع ذلك تدريجيا تأسيسس العشرات من الجامعات المستحدثة ومنها على التوالي؛ ديالى، سامراء، كركوك، ودهوك. وعبر السنوات الخمس والعشرين اللاحقة لتأسيس جامعة بغداد أمست جامعات البصرة، الموصل، المستنصرية؛ ذوات مكانة وشهرة علمية رصينة محليا وخارجيا، وتضاهي قي ذلك المكانة المرموقة لجامعة بغداد من حيث الإداء والكفاءة.

في أعقاب التدني التدريجي لنسبة الأمية في العراق، وتنامي مستويات التعليم بكل مراحلة، تسببت الأحداث المتكررة؛ بالتراجع التدريجي لتلك المستويات وبضمنها التعليم العالي، مما أدى الى تزايد هجرة الكفاءات التي لها دورا علميا كبيرا، كما ان التسرع بأستحداث الأعداد الكبيرة والمتزايدة للجامعات الحكومية والخاصة، والتوسع العام، قد أربك توجهات التعليم العالي نتيجة؛ الضغط المتزايد على الأمكانات المتاحة العلمية منها والأدارية وكذلك البنى الأرتكازية.[3]

هكـذا بـدا مشهد التعليم في العراق عبر أكثر من مئة سنة، مشرق النشأة التي تصاعد تألقها الذهبي تربويا - تعليما وعلميا في عقد الخمسينات وعقد السبعينات من القرن العشرين. ولازال التعليم ينحو جاهدا رغم الأحداث القاسية للإتجاة المستقيم، وذلك بالجهد المتراكم عبر السنيين للعقول النيره لكل من الساده؛ المشايخ، الائمة، الخطباء. والمعلمين، المدرسين. والتدريسيين، الأساتذه. والعلماء، والمفكرين المبدعين ... وجميعهم يستحقون الإحترام.

***

مجيد ملوك السامرائي

 جغـرافـي، كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي - ويكيبيديا.

.........................

المراجــع:

1. مجيد ملوك السامرائي، سامراء رؤية جغرافية للتأريخ، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان،2022. صص 154-156. منشور على موقع – نيل وفرات،  https://www.neelwafurat.com https  .

2. ابراهيم العلاف، تطور التعليم الوطني في العراق، 1982.

3. علاء خميس الحميري، تطور التعليم في العراق،2019.

4. عقيل عبد ياسين حسين، مشاكل التعليم العالي في العراق،2023.

 

تمر هذه الأيام ذكرى وفاة أبو عمار، وحتى يفهم المرء إرث عرفات  لا بد  له من متابعة نشأة هذا الإرث تاريخيا، التحرير، والمبادئ التي حكمت نشأته وتقلبت متأثرة بالمتغيرات التي ألمت بواقع الحال السياسي – فلسطينيا وعربيا وعالميا.

كان ياسر عرفات الرجل الذي أسس "حركة فتح" قد ولد بمصر وتحدث بلسانها لكنه لم يكن مصريا... كذلك كانت رئاسته وسلطته إلى سلطة أو دولة.. فتح عيونه على قضية وأغمضها عليها... اتهم اثيرين بخيانته واتهموه بالخيانة.. إنه أبو عمار الختيار أو ياسر عرفات وهو في الأصل يسمى محمد عبد الرحمن بن عبد الرؤوف بن عرفات القدوة الحسيني، ومحمد عبد الرحمن هو اسمه المركب، والحسيني قبيلة غزاوية غير تلك المقدسية الشهيرة، في حين أن والدته من كانت تنتسب ولعائلة حسيني المقدسية ذائعة الصيت والتي ينحدر منها أمين الحسيني مفتي القدس وزعيم النضال الفلسطيني أيام الاستعمار البريطاني.

استقرت أسرة عرفات في العشرينيات من القرن الماضي في القاهرة وتحديدا في حي السكاكيني، حيث كان الأب عبد الرؤوف يعمل بتجارة الأقمشة، وزوجته ربة منزل، ولهم سبعة أبناء السادس فيهم كان محمد عبد الرحمن الذي سيعرف لاحقا بياسر، وقد ولد ياسر 1929 وبدأ طفولته فيها ومنها اكتسب لكنته المصرية التي رافقته طويلا، وبعد أربع سنوات من ولادته توفيت أمه لينتقل للعيش في القدس عند أحد أقربائه في حي المغاربة.

هناك فتح عرفات الولد عيونه على الثورة الفلسطينية الأولى عام 1936 ثم ما لبث والده أن تزوج بامرأة أخرى، وايتدعى ابنه من القدس للقاهرة مرة أخرى ليتربى ياسر مع زوجة أبيه، الأمر الذي سيدفعه لكره والده والتمرد عليه، حتى أنه لم يحضر جنازته عام 1952، ولم يزر قبره في غزة ولا مرة واحدة، ولطالما كان عرفات كثير التردد على الأحياء اليهودية، دون أن يعلم أحد لماذا!، ما أغضب والده منه كثيرا، وفي الأحياء اليهودية تعرف عرفات بموشي ديان الذي سيصبح لاحقا قائد جيش إسرائيل ووزير الحرب فيها، كما كان عرفات الشاب كثير التردد أيضا على جلسات أمين الحسيني الذي كان الإنجليز قد نفوه إلى القاهرة لترسم طفولة عرفات في القدس وحياته في القاهرة ملامح تكوين شخصيته  فيما بعد ليأتي العام 1948 وتندلع أولى الحروب العربية – الإسرائيلية ليشارك فيها عرفات كجندي مصري ثم فدائي فلسطيني في غزة، لكن نهاية الحرب ستكون سريعة ليعود بعد عام للقاهرة ويكما فيها دراسة الهندسة المدنية وينخرط في العمل السياسي الطلابي فانتخب كرئيس لاتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة في النصف الأول من الخمسينيات، وخلالها جرت أحداث انقلاب الضباط الأحرار على الملكية في مصر ليتبنى الجيش المصري عقيدة القومية العربية وتحرير الأراضي العربية وتوحيدها لتندلع ثاني الحروب العربية – الإسرائيلية سنة 1956.

وتم استدعاء عرفات للمشاركة فيها لكن مصادر تؤكد أنه قاتل في أرض المعركة ولاحقا تدخل أممي لحل النزاع حل عبد الناصر قوات الوافدين العرب والذي كان عرفات احدهم ليبدأ في التفكير بالهجرة وتقدم بين عامي 1956-1957 بعدة طلبات للحصول على تأشيرة، وكان من هذه الدول كندا والسعودية والكويت، لكن لم يقبل إلا طلبه السفر للكويت، وهناك عمل في الهندسة بداية والتقى بأصدقاء قدامي كصلاح خلف (أبو إياد) وخليل الوزير (أبو جهاد) وفاروق القدومي وخالد حسن، وليبدأوا التفكير معا بفعل شيء لخدمة قضية بلادهم التي كانت قد احتلتها إسرائيل لتشهد الفترة من عام 1958 -1960 ولادة حركة جديدة على ساحة النضال الفلسطيني والتي ستعرف باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني وتعرف اختصارا باسم " فتح" ويرأسها محمد عبد الرحمن عرفات الذي كان اتخذ من اسم ياسر اسما له واختار اسم أبو عمار اسما حركيا وذلك تيمنا باسم آل ياسر والذي وعدهم الرسول الكريم بقوله " صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة".

وفي تلك الفترة ارتدى عرفات الكوفية الفلسطينية التي ترتبط هي الخرى بالنضال والكفاح الفلسطيني وتصبح رمزا للقضية برمتها، وفي البداية اعتمدت الحركة على الاقتطاعات من مرتبات الأعضاء والمتعاطفين من الفلسطينيين أنفسهم، ذلك أن عرفات لم يكن يرغب بالحصول على دعم دول بعينها كي لا تكون حركته مرهونة بسياستها، لكن هذا في البدايات فقط، ولكن لاحقا بدأ بالتعرف على رجال الأعمال الفلسطينيين الموزعين عبر العالم وفي الخليج وفي الدول العربية.

وفي قطر عام 1961 تعرف بمحمود عباس الذي  سيصبح جزءا من الحركة والتي سيصبح لها حضورا على الساحة الفلسطينية والعربية سريعا ليأتي بعد ذلك بأعوام وتحديدا العام 1964 تأسيس منظمة تنضوي تحتها الحركات الفلسطينية والتي تعد " فتح" جزءا منها وستعرف باسم " منظمة التحرير الفلسطينية" PLO والتي سيعلن عن قيامها في مؤتمر القاهرة وتنال اعتراف الدول العربية وتتخذ من القدس مقرا لها ويعين أحمد الشقيري رئيسا لها.

وعقب تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بثلاثة أعوام اندلعت حربا عربية – إسرائيلية جديدة ستعرف لاحقا باسم " النكسة" أو حرب حزيران، وعلى إثرها تنتصر إسرائيل على الدول العربية وستتوسع دائرتها بعد احتلال مناطق جديدة أهمها القدس والضفة وغزة وسيناء والجولان، وستتعرض لمصر لهزيمة كبيرة ليستغل عرفات الهزيمة في إعادة زمام القضية للفلسطينيين بعد أن كانت ملفا مصريا وعربيا، ثم يأتي العام 1968 وتندلع معركة على الحدود بين الأردن وإسرائيل وتعرف بمعركة الكرامة وينتصر فيها الفلسطينيون تحت قيادة عرفات رفقة الجيش الأردني زمن الملك حسين على الجيش الإسرائيلي ليسطع نجم أبو عمار أكثر ويصبح بعدها بعام رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تعد الممثل الشرعي الوحيد لفلسطين.

وبعد معركة الكرامة بات المنظمة أكثر قوة ورأت أنها باتت قادرة على تحقيق انتصارات أكثر، حتى أن وجودها في الأردن  أخذ دفعة معنوية كبيرة وبات تنافس الجيش الأردني وسعت لإنشاء دولة داخل الدولة ورأت في الأردن قاعدة تنطلق منها لتحرير أرض فلسطين دون أي اعتبار لسيادة الأردن وسلطة الملك حسين، الأمر الذي سيستفز الأردنيين وقيادتهم سيما بعد تصرفات أُعتبرت مسيئة لعلاقات الأردن الدولية قامت بها بعض الحركات الفلسطينية على الأراضي الأردنية كخطف الطائرات وتفجيرها، مما دفع الجيش الأردني للتحرك لتبدأ مرحلة جديدة في حياة منظمة التحرير وفصائلها تحت قيادة عرفات وليبدأ فيما سيعرف لاحقا " أيلول الأسود" حيث اندلعت عام 1970 مواجهات بين الجيش الأردني وفصائل المنظمة أسفرت عن مقتل العديد في كلا الطرفين وأحدثت انقساما عربيا كاد يتوسع لحربا بين الدول العربية لولا تدخل عبد الناصر في أيامه الأخيرة لينتهى العام 1970 بخروج فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان.

وفي لبنان بدأت مرحلة جديدة قادها عرفات تمثلت بالعمل المسلح وطرح الحلول السياسية على الطاولة والسعي لنيل الاعتراف الدولي بالقضية الفلسطينية، فسرعان ما طرح عرفات فكرة إقامة دولة فلسطينية على ما يحُرر من أراضي فلسطين وقبل ضمنيا بفكرة " حل الدولتين"، ما سمح له عام 1974 بالذهاب إلى الأمم المتحدة وإلقاء خطابه الشهير هناك، كأول رئيس لمنظمة غير رسمية يسمح له بإلقاء كلمة للعالم.

إن موقف عرفات السياسي دفع فصائل فلسطينية لتأسيس ما يعرف بجبهة الرفض والخروج من المنظمة، لكن عرفات حاول الموازنة من خلال إبقاء خيار السلاح وبنفس الوقت عدم قطع الطريق على السياسة، لكن سرعان ما ستندلع حرب أهلية في لبنان سيجد عرفان نفسه طرفا فيها وستؤدي لاجتياح إسرائيل بيروت عام 1982 وستنتهي أيضا بخروج الفلسطينيين من لبنان، لكن هذه المرة إلى " تونس. وتحت إشراف دولي لتصبح المقاومة الفلسطينية أبعد خطوات كثيرة عن الأراضي الفلسطينية.

فبعد طردسها من سوريا والأردن ولبنان والتي تعرف بدول الطوق حطت رحالها في تونس، وهناك باتت الحلول السياسية أكثر واقعية من تلك العسكرية وهو أمر لم ينتبه له أبو عمار سابقا فيما اعتبر سنوات الفرص الضائعة حيث ظلت الضفة والقدس وغزة سنوات طويلة تحت حكم العرب ولكن مطالب المنظمة كانت كامل فلسطين دون وضع استراتيجية واضحة لهذا المطلب، كما أن اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979 اشترطت على إسرائيل إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، لكن المنظمة رفضتها.

ثم ليعلن من الجزائر سنة 1988 قيام دولة فلسطين مستغلا قيام الانتفاضة الفلسطينية التي فتحت أنظار العالم على القضية الفلسطينية أكثر لتبدأ مرحلة جديدة من حياة أبو عمار ليلقي بعدها السلاح ليرفع غصن الزيتون في مواجهة الاحتلال.

جاء عقد التسعينات وأقر عرفات رفقة المجلس الوطني الفلسطيني المنبثق عن منظمة التحرير مبادرة السلام الفلسطينية والتي تتضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل فكان الأمر مفاجئة لكل الأطراف وحتى الفلسطينيون أنفسهم باستثناء أن الإسرائيليين اعتقدوا أنها مناورة من عرفات، لكن تلقف الإدارة الأمريكية للمبادرة الفلسطينية جعل إسرائيل ترضخ وتجلس على طاولات المفاوضات وبعد سلسلة من المفاوضات السرية تم الإعلان عام 1993 عن اتفاقيات أوسلو للسلام والتي قبلها بعام كان عرفات تعرض لحادث سقوط طائرته ومقتل ثلاثة من مرافقيه فيما تأثر هو بإصابته ستجعله يرجف تلقائيا عند الكلام، وكذلك قبل ذلك بعامين استفز عرفات دول الخليج ودولا عربية أخرى بعد تأييده لغزو صدام حسين للكويت.

أحداث سرعت من بحث الرجل عن مخرج تمثل في اتفاقية أسلوا للسلام والتي جعلت العالم يعترف به رئيسا للسلطة الفلسطينية وكممثل شرعي ووحيدا لها، لكنها بالمقابل خلقت له معارضين ومنشقين من داخل البيت الفلسطيني وخرجت له حركة حماس كمنافس قوي حيث رأى البعض في الاتفاقية اعترافا بإسرائيل بلا مقابل ؛ في حين رأى أنصارها حلا مؤقتا للوصول للحل النهائي الذي لم يأتي حتى الآن ورغم كل ذلك تمت الأمور وعاد عرفات ومنظمته للأراضي الفلسطينية عام 1994 وبدأ عهد جديد في حياة عرفات الذي أنفق من عمره 30 سنة سابقة حاملا فيها السلاح ضد من باتوا الآن جيرانها الذين اتسمت علاقته بهم بطابع من الشد والجذب، فتارة تتهمه إسرائيل بالتحريض على العنف، وتارة ينسق عرفات معهم أمنيا حتى أن سلطته اتُهمت بأنها باتت الشرطي الإسرائيلي على الفلسطينيين ونال على ذلك عرفات جائزة نوبل للسلام رفقة قادة إسرائيل.

لكن السلام لم يدوم طويلا أو هكذا بدأ وتحديدا مع اندلاع الانتفاضة الثانية التي بدأت مع مطلع الألفية الجديدة واتهمت إسرائيل عرفات بالوقوف وراءها والتحريض  عليها والتي كانت سببا مباشرا بحصار إسرائيل لعام 2002  لعرفات ومرافقيه في مقر إقامته في رامله ما صاحب ذلك من اقتحام وتدمير لمقراته وقتل وإصابة مرافقيه، وكانت رسالة إسرائيل واضحة من هذا التصرف أن لا سلطة تعلو فوق سلطة الاحتلال لتبدأ صحة الرجل الذي بات يلقب بالختيار، حتى جاء عام 2004 حتى غادر عرفات وطنه لباريس وعاد إلى وطنه جثة حملها حملها الفلسطينيون على الأعناق ليودعوه في مثواه الأخير.

وهكذا كان رحيل ياسر عرفات استثنائياً، مثلما كانت حياته تماماً. فقد شيعته ثلاث قارات معاً: أوروبا وأفريقيا وآسيا. ونعاه معظم قادة العالم امثال فيدل كاسترو وجاك شيراك وطوني بلير والبابا يوحنا بولس الثاني وفلاديمير بوتين، وأقيمت له جنائز رمزية في جميع مخيمات اللاجئين في لبنان وسورية والأردن وغزة، وسارت مسيرات حزينة تكريماً لاسمه في باريس وروما وواشنطن وغيرها. وفي باريس حمل نعشه جنود فرنسيون. وعزفت موسيقى الجيش الفرنسي نشيد المارسلياز ثم النشيد الوطني الفلسطيني: فدائي، فدائي يا أرضي يا أرض الجدود.. فدائي، فدائي يا شعبي يا شعب الخلود.. فلسطين داري، فلسطين ناري.. فلسطين ثاري وأرض الجدود.. الموت والطائرة المشطورة.... رحم الله أبو عمار.. جيفارا العرب.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

...........................

المراجع:

1- قناة استيب: ياسر عرفات من المهد إلى اللحد - وثائقي الختيار.. يوتيوب.

2- محمود عباس: طريق أوسلو، بيروت شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1994.

3- الموسوعة الفلسطينية، دمشق هيئة الموسوعة الفلسطينية، ج1، م2.

منذ مغادرته العراق قبل عشرين عاماً، لم ينقطع الكاتب والصحفي والاذاعي عبد اللطيف السعدون عن التواصل مع أصدقائه في الوطن الذي فارقه على الكراهةِ من غير عودة، وليس بين الحِين والحينِ كما كان الجواهري يفارق أم البساتينِ. وقبل أيام قلائل أعلم السعدون هؤلاء الأصدقاء بأنه ترك المستشفى في كاراكاس حيث مغتربه الفنزويلي، بعد عمليتين جراحيتين فرضهما عليه المرض الخبيث، وخاطبهم بالقول: أستميحكم عذراً في أنني قد لا أستطيع الرد على رسائلكم أو متابعة ما تنشرونه، لكنني سأحرص بقدر استطاعتي على التواصل معكم.

ينتمي السعدون الذي تجاوز الثانية والثمانين عاماً إلى جيل أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات الصحفي، وقد ملأ فضاء الصحافة والاعلام بمواهبه ووظائفه التي تعدت العمل في الصحف والإذاعة والتلفزيون إلى العمل الاكاديمي مدرساً لمادتي التحرير الصحفي والتخطيط الإعلامي في كلية الاعلام بجامعة بغداد، فضلاً عن عمله الدبلوماسي مستشاراً اعلامياً للسفارات العراقية في الخرطوم  وبودابست وروما والرياض، وبسبب ذلك كانت حياته "هجرات متقطعة" كما يصفها، قبل أن ترغمه ظروف ما بعد 2003 على الهجرة النهائية التي كان يظنها واحدة من هجراته المتقطعة لكنها امتدت إلى عقدين حتى يومنا هذا، وكان من اقسى ما واجهه في السنوات العشر الأخيرة معاناته في تجديد جواز سفره العراقي وجوازات عائلته ليتمكنوا من السفر والعودة إلى الوطن، مما اضطره منذ العام 2019 لأن يكتب لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء، وسانده في ذلك سياسيون وناشطون وكتاب وصحفيون ممن يعرفون قدره حق المعرفة.

لم تكن سنوات كاراكاس للخمول والكسل، بل لمزيد من العمل، فقد واصل عبد اللطيف السعدون عمله الصحفي، واستمر في كتابة المقالات والاعمدة الصحفية في عدد من  الصحف والمواقع الإخبارية الدولية، ومنها تحديداً موقع " العربي الجديد" الذي انطلق من لندن مع صحيفة ورقية يومية. لكن العمل الأكثر ارهاقاً كان عكوفه على أعمال الترجمة التي مارسها منذ أن هجر العمل الدبلوماسي وأنجز فيها عدداً من الترجمات لدراسات ومقالات ورحلات مهمة، منها كتاب "عرب الأهوار" الذي نشرته كاملاً جريدة الاتحاد الإماراتية وهو للكاتب البريطاني وولفريد ثيسجر، وكتاب " الليالي العربية " الذي صدر في عَمان، ويتضمن مذكرات سيدتين أمريكيتين في العراق وقبيلة شمر، هما روث وهيلين هوفمان وقد زارتا العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، وعاشتا في بغداد ردحاً من الزمن، ثم حلتا في ضيافة شيخ عشائر شمر في الشمال.

في مذكرات السيدتين الأمريكيتين، المثير والطريف والسعيد في حياة البغداديين ولياليهم قبل تسعين عاماً، وعن الحياة في الخيام وسط القبائل العربية. ولا شيء من السعادة في ليالي السعدون الفنزويلية وهو مريض في غربته، وبعيد عن بغداد.

***

د. طه جزاع – كاتب وأستاذ أكاديمي

علمتنا الحياة بأنه لا تعيش أي أمة بلا عدل، فإن غاب اضطربت الأحوال، وهامَ الناس على وجوههم حائرين مغبونين قانطين حانقين، ينظرون إلى الحياة من زاوية ضيقة حرجة لا تلبث أن تسْوَدَّ فى عيونهم، فيكسو الظلام كل شىء.

ولهذا فقد اهتم ديننا الحنيف كثيراً بكل عناصر العدالة، وشملت منظومته كل ما من شأنه أن يحقق العدل على أرض الواقع، حيث لا ينبغي أن ينصب الاهتمام على التشريعات والقوانين وترك من يطبقونها من دون إعداد وتأهيل، أو تركهم يطبقونها بأسلوب عشوائي خال من الانضباط والنظام.

ولهذا ربما لا أكون مبالغا إن قلت بأنني لست من أنصار وأتباع من يكابرون ويتبرمون على الجهر بالحقيقة وفي وقتها القانوني دون أن تطالهم صافرة اللوم والنقد والعتاب مهما يكن من أمر أو تشتد بهم العواصف العاتية والرياح الهوجاء التي قد تجرفهم في تيارها الواسع البعيد في نقطة اللاعودة، ولأن أستاذ القانون العام كما اعتقد هو ذلك الكيان المسكون والمخلوط بروح العطاء الخارق، فهو يمثل الرسالة البيضاء المليئة والمتدفقة في كل الجامعات والمحافل الفلسفية أينما كان وحيثما وجد فلولا هذا الأستاذ ما أطلت علينا نسائم وبشائر التفوق في عالم القانون، وما شعرنا بقيمة الرجال العظماء والمفكرين الأفذاذ، وما تلذذنا بطعم الكلمات والتعليقات الساخرة واللاذعة التي تقطر بها أقلامهم وتلهج بها ألسنتهم وتخطها أناملهم في كبريات المؤتمرات غير عابئين أو مكترثين بما يعترضهم من مصاعب ومشاق.

والدكتور دويب حسين صابر – أستاذ القانون العام وعميد كلية الحقوق الحالي، بجامعة أسيوط، يعد واحداً من الأساتذة المصريين الكبار الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في القانون العام من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراسته دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارما إلي أبعد حد: فالنص التشريعي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه في مجال القانون العام.

ونظرة عامة في سيرته الذاتية فقد كان الدكتور "دويب "، حيث  تم تكليفه قبل صدور قرار تعيينه عميدا لكلية الحقوق بقرار رئيس الجمهورية- الرئيس عبد الفتاح السيسي،  خلال الأشهر السابقة بالقيام بأعمال عميد كلية الحقوق، ووكيل كلية الحقوق للدراسات العليا والبحوث؛ وكان قبل ذلك شغل الدكتور دويب منصب رئيس قسم القانون العام، كما شغل منصب المشرف على قسم القانون العام، والمشرف على قسم المالية العامة، والمشرف على قسم تاريخ القانون، كما تم تكليفه بالقيام بأعمال عميد لكلية الحقوق بجامعة جنوب الوادي، ومستشار قانوني (خبير قانوني) بمجلس الشوري بسلطنة عمان.

ومن هنا أقول بعد هذا السرد : لقد جمع الدكتور " دويب " في شخصه الكريم، نزعة دينية أخلاقية نابعة من خلال تبنيه الاتجاه العقلي في تمحيص القوانين العامة المرتبط بتصور شامل للعلوم الإسلامية الشرعية إلي جانب البحث الدقيق العميق، تجلت هذه النزعة في نفسه الراضية المطمئنة، وسلوكه الإسلامي الذي ألتزم به في الحياة العامة، وكان تجسيد لنظريات القانون العام بجانبيه النظري والعلمي، وعند المتخصصين في القانون العام هناك علاقة قوية بين الجانبين، فقد كان باحثاً فاحصاً محققاً، مثالاً، ونموذجاً وواقعياً حياً للخلق الإسلامي، محتذياً بأساتذته الأجلاء .

وهو بالإضافة إلي ذلك بأنه يعد الدكتور "دويب "نموذج عملاق للأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون سواء في التزامه بأداء واجباته الاكاديمية والوظيفة علي أحسن ما يكون الأداء أو في ارتباطه بطلابه في علاقة إنسانية رفيعة المستوي في هدي من التقاليد الجامعية التي يحرص عليها كل الحرص، إذ هي دستوره في كل معاملاته مع كل من هو في الوسط الجامعي.

والدكتور "دويب " يمثل في نظري ظاهرة تستوجب الاحترام وتستحق التقدير فدراساته المتنوعة حول القانون العام تجمع بذكاء بين روح القانون وواقع الحياة السياسية دون مغالاة أو شطط، فقد علمته الحياة دروسًا تراكمت في وجدانه، مثلما تراكم العلم في عقله؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه يتمتع بذكاء خارق ومقدرة ظاهرة وكامنة أتاحت له في بعض الأحيان العمل على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة من دون كلل، وكان حيوياً ونشيطاً في عمله.

وفي كل ذلك فإن الدكتور "دويب" يمثل شخصية إصلاحية بامتياز، معتدلة من غير ذي عوج، منفتحة بلا ذرة انغلاق أو تعصب، متسامحة بكل ما يعنيه التسامح من تعايش وقبول للآخر، خاصة بعد أن أستطاع، الجمع بين ثوابت الإسلام ومتغيراته، وبين عطاء الحضارة الإسلامية العربية والحضارة الغربية، وبين الواجب الشرعي والواقع العملي جمعًا صحيحًا.

هذا بالإضافة إلي كونه بحاثة من طراز متفرد، يصغى إلى نوره الداخلي، يحمل في خلاياه هموم كل البشر والمخلوقات، خاصة البسطاء؛ أوجاعهم في أضعف لحظات العجز، وأحمالهم الثقيلة، وأحلامهم المتكسرة، في وقت ربما لا يجيد العديد منا سوى الشكوى من أبسط عثراته الشخصية.

فتحيةً أخري للدكتور "دويب" ذلك الرجلٍ الذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل تاريخ القانون العام من بوابة واسعة متفرداً.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

السابع من نوفمبر.. شتاء مبكر يغزو خريف العاصمة الجزائر بغيوم داكنة.. اللهجة أردت ألا تكون عائقاً لدى حديثى معهم.. هؤلاء النخبة من أدباء وشعراء وروائيي الجزائر.. تعمدت التحدث بالفصحى التى أرانى بها تلقائياً أكثر من العامية.. بادرنى حميد عبد القادر بضحكة رنانة: كلنا نفهم العامية المصرية ونحبها.. لكننى كنت مستمتعاً بالفصحى، كأنى انتهزت الفرصة لأكون على سجيتي.. أحب لهذه الواشجة بيننا كعرب تظل موصولة بلغتنا العربية الفصيحة السهلة كما كان يردد عميدنا طه حسين: اللغة العربية يسر لا عسر..

هذا ما لمسته فى إصرار الشاعر عز الدين ميهوب وزير الثقافة الجزائرى، والسيد حميدو مسعودى محافظ صالون الجزائر الدولى للكتاب (السابقين) بحرصهما على التفوه بالعربية السلسة المفهومة لدى الكافة، رغم إجادتهما للفرنسية كأغلب الجزائريين.. هناك حب عميق للغة العربية فى الجزائر، ولابد أنه فى مناهجهم، أو قل فى دمائهم !

"امبراطورية ميم".. الفيلم الشهير لفاتن حمامة هو أول وأشد ما أدهشنى فى المعرض.. عندما وجدت لافتة جذابة بطرافتها لصاحبة دار النشر الجزائرية المولد، مصرية الهوى، السيدة آسيا على موسي.. ألفيتها تقلد نفس قصة الشعر التى أدرات بها الفنانة فاتن حمامة فيلمها القديم.. كان منتشراً حينها!

هنا أدركت كم أن الفن المصرى آنذاك كان عميق التأثير بعيد المرامى شديد الفاعلية لدرجة أنه يجعل المثقفين المصريين فى الخارج لهم ذات الثقل والعمق، لمجرد أن قوانا الناعمة المتمثلة فى مشاهير الفن والأدب والرياضة والصحافة لها اليد الطولى فى سائر المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج..

 ذات مساء.. من الإثنى عشرة ليلة التى قضيناها ضيوفاً على صالون الجزائر الدولى للكتاب فى طبعته الحادية والعشرين.. التففنا تسعة على مائدة عشاء مستطيلة عامرة بالمقبلات والأسماك وزجاجات الماء البارد الفاخرة.. كنا نتكلم ونضحك أكثر مما نأكل.. العبد لله وزملائى أحمد عبد القوى"صدى البلد"، وياسر الغبيري"البوابة نيوز"ومعنا الروائي حميد عبد القادر والناقد الدكتور محمد عبد الكريم والإعلامي جمال شعلال، وثلاثة آخرون..

 فى صباح اليوم السابق استمتعنا بالمرور السريع للموسيقار الراحل أحمد الحجار والشاعر المصري ناصر دويدار وهما يداعبان عواطف السامعين ويعيدان للذاكرة المحشوة أطياف الغناء الأصيل.. تلك السويعات البسيطة أنقذت الموقف ومنحت قبلة الحياة للبرنامج الثقافى المصري الهزيل بالمقارنة لكونها ضيف شرف الصالون! أعادت لنا النغمات ثقتنا فى قدرتنا على عبور أزمة الخريف الاقتصادية، وأعاد لنا الشعر الرصين ثقتنا وتفاؤلنا فى غد أفضل.. فربما كانت أغنية أقوى أثراً من ألف خبر يقين!

 لا أدرى متى ولا كيف ولا لماذا تسرب إلى قلبي القلق وأنا أدفعه بتناول المقبلات والمضغ، وظللت ألوك الكلمات وأمضغ الحديث محاولاً إخفاء قلقى تحت جلدى، وأنا محاط بهذه الكوكبة من كبار الأدباء.. وامتد بى الحوار مع الإعلامى والروائى الجزائرى حميد عبد القادر الذى يجيد الكتابة باللغتين العربية والفرنسية وصدرت له عدة مؤلفات فى الرواية والتاريخ والأدب، ومع الكاتب الصحفى أنيس بن هدوقة ابن الروائى الجزائرى الأشهر "عبد الحميد بن هدوقة".

أسهبت فى الحديث عن روايات الطاهر وطّار و"مولود فرعون" المعروفة بين أوساط المثقفين والقراء فى مصر منذ سبعينيات القرن العشرين.. وكان حديثي ينساب بلغة عربية رصينة عملت على ضبط مخارج حروفها بوضوح وجلاء تام.. ثم قيل لى: إن الحاضرين يحبون اللهجة المصرية ويفهمونها.. فتجاهلت النصيحة وزاد إصرارى على التمتع بالفصحى طوال الأمسية التى امتدت طويلا..

 حميد عبد القادر تبسط فقص علينا طرفة فريدة حدثت معه لدى لقاء الطاهر وطّار مع كاتب فرنسي آخر، فقال: انتهزت الفرصة وبدأت حماستى فى الحديث تتحول إلى جرأة جعلتنى أصف الطاهر بأنه كاتب يسارى، ولم أقصد شراً.. فما كان من وطار إلا أن مال علي، وهمس في أذني: أنه ما كان ينبغي وسمه بهذه الصفة شديدة الخطورة آنذاك، فقد كانت الطعنات والهجمات الإرهابية الغادرة خلال سنوات العشرية السوداء، لم تزل تفتك بالجزائريين بفعل إرهاب الجماعات المتأسلمة.

لابد أن أى مثقف عربي فى الجزائر سوف تراوده تساؤلات الهوية.. تلك البلد التى تعرضت لواحدة من أبشع المذابح وأشد أنواع الاستعمار فتكاً ودموية على مدار 130 عاماً لدرجة أن يحتفظ الفرنسيون بجماجم ضحاياهم من أبطال الجزائر فى متاحفهم المصبوغة بدماء الشهداء.. حتى أنك تتذكر بألم قصيدة الشاعر الفلسطينى محمود درويش هاتفاً ضد المستعمر الإسرائيلي، بل ضد كل مستعمر أجنبى لأرض عربية:

 سجل..

أنا عربي.. أنا اسم بلا لقب

صبور فى بلاد كل ما فيها.. يعيش بفورة الغضب

جذورى..

قبل ميلاد السنين رست.. وقبل تفتح الحقب

الإعلامى جمال شعلال.. تسمى على اسم الزعيم جمال عبد الناصر.. كان نوعاً من الناس الذين يحفرون فى الذاكرة لهم مكاناً أبدياً.. له لسان طلق بليغ العبارة قوى الحجة وعقل راجح يزن الأمور ويحسن وضعها فى نصابها.. هناك سمة تميز لغة أبناء الطبقة الجزائرية المثقفة ذات الرؤية النافذة والبصيرة المدركة لطبيعة وخطورة ما تتعرض له بلداننا العربية من حروب بالوكالة.. ومن فتن ومؤامرات تتربص بالكافة لتضرب هؤلاء بأولئك وتتسبب فى انقسامات مجتمعية تتضخم لتلد أزمات مستمرة وتمزقات تصيب نسيج الأمة، ثم هناك سوء إدارة لمواردنا الطبيعية وثرواتنا البشرية.. والجزائر بلد غنى بثرواته وبموارده الطبيعية والبشرية، لكنه ككل البلدان العربية غارقة حتى أذنيها فيما سماها الأستاذ هيكل:"العقد النفسية للشرق الأوسط"!

الرائع فى الأمر أنك تجد فى صحبة هذه النخبة الرائعة صباحاً بين أروقة الصالون وفى صحبة الناشرين ما تفتقده فى معارض الكتب الأخري.. فبين زحام الجماهير الغفيرة المنتشرة فى كل ربوع وزوايا المعرض، تفتقد تلك الفئة الهادئة المحبة للعزلة من كبار الأدباء والشعراء والمفكرين، لا لتستمع لهم فى ندوات جامدة ومحاضرات سابقة الإعداد، وإنما لتجلس معهم جلسة سمر ودية تتجاذبكم أطراف الحديث الشيق المثمر فى شتى هموم وقضايا الثقافة والسياسة والمجتمع..

استوقفتنى دار النشر الخاصة بالسيدة آسيا المتأثرة بفاتن حمامة.. وعلى بعد خطوات قليلة منها لفت انتباهى شيخ متأنق يدعي "رشيد خطاب"، يجلس خلف طاولة وضع فوقها كتابين اثنين أحدهما بالعربية والآخر بالفرنسية هما " أصدقاء الخاوة والرفاق "، ولشد ما أدهشني العنوان، توقفت عنده طويلا، أعرف معني كلمة "الرفاق"، أما " الخاوة " هذه فلم تمر علي مطلقا خلال نحو أربعين سنة قضيتها بين أوراق الكتب القديمة والحديثة علي السواء، الأمر الذي حفزني لطرح سؤالي عليه وقلت له : سيدي أريد أن أسألك عن معني هذه المفردة، ومن أين اشتققتها، وما إذا كانت صحيحة لغويا أم لا؟ ثم دار بيننا حوار ممتع وجذاب، حوار بين جيلين، استغرق نحو الساعة أو أكثر.. "رشيد خطاب"الذي ذهب إلي باريس في السبعينيات، وتعلم في جامعاتها، والعبد لله ابن ثمانينيات جامعة القاهرة، وقد أخذنا نعيد ونزبد في بحور اللغة العربية وشواطئها، وهل هي لغة قابلة للتطور أم لا؟

عدت إلي القاهرة، بعد اثني عشر يوما قضيتها ضيفا علي صالون الجزائر الدولي للكتاب.. تركت بعضاً مني هناك لدي الجزائر هذا البلد الحبيب.. وهذا الشعب العربي الأمازيغي الأبي مرفوع الهامة عالي الهمة، ثابت الأقدام في أزمنة صعبة تتسارع فيها خطي الفوضى والارتباك المعولم.

***

د. عبد السلام فاروق

وقائع تاريخ فكري ونضالي غير معلن

رسالة من محمد هادي السبيتي

حدثني أبي قال انه وصلت عن طريق أحد الأشخاص الثقاة رسالة من أبو حسن السبيتي، وقد كانت رسالة حزينة جداً؛ إذ تضمنت في جوهرها بعض تفاصيل زيارته اليتيمة إلى طهران في صيف عام 1980، وقد طلب منه أن يترك عمان والإقامة في إيران من أجل استئناف المقاومة ضد نظام البعث في بغداد، لكنه رفض العرض وفضل البقاء في الأردن.

وفي السياق ذاته يخبر أبو حسن والدي في الرسالة نفسها أنه حصل لقاء مع القادة الكورد في سوريا، وبالتحديد في منزل صديقه السيد مهدي الحكيم، وقد التقي بكاك مسعود بارزاني، ومام جلال، ودكتور محمود عثمان، وقد زرعوا في ذاته الأمل في تأسيس جبهة عسكرية، وبرنامج سياسي موحد لتخليص العراق من نظام البعث على حد تعبيره.

ورداً على رسالة السبيتي التي أرسلت بيد نفس المصدر أخبر والدي السبيتي أنه سيفاجئه بزيارة لعمان قريباً جداً، وطلب منه أيضاً أن يدرس طلب سيد مرتضى العسكري، وأبو زينب الخالصي بخصوص الإقامة في إيران، وأن طلبهم فيه نوع من الخوف علي سلامته الشخصية، وسلامة عائلته إذا كانت موجودة معه في الأردن، ويحلل والدي للسبيتي طبيعة العلاقة الراهنة بين العراق والأردن، ويخبره أنه عندما طلب الأقامة والعمل في الأردن عام 1976 كانت الأردن في حينها على علاقة سيئة مع النظام العراقي، ومن ثم فأنه كان من الممكن أن تقبل الأردن بأي شخص يعمل ضد النظام في بغداد، وأما الآن ونحن نتجه نحو نهاية عام 1980، وأن الحرب مع إيران قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى، فأن هناك إشارات  عديدة عن تلاقي الاستراتيجيات بين العراق والأردن، وقد بدأت العلاقات تتحسن بسبب التحدي الإيراني، ومن ثم من الممكن ان تصبح لتلك المتغيرات تأثير على وجوده في الأردن، ولاسيما أن الاعترافات الاخيرة لعبد الأمير المنصوري التي أخذت منه من دون وعي منه قد تكون فيها معلومات عن طبيعة عمله السياسي ومكان تواجده الحالي، ومن ثم أقترح عليه والدي، إما العودة إلى سوريا، أو لبنان إن لم يرغب  بالإقامة في إيران.

والدي في عمان للقاء أبو حسن السبيتي

في بداية عام 1981 قرر والدي السفر إلى عمان للقاء أبو حسن السبيتي لكن السفر كان ممنوعاً بسبب حالة الحرب بين العراق وإيران، فضلا عن أن جوازه لم يتجدد، وقد كان كاك فرهاد نجل فؤاد عارف هو الذي يتكفل بتجديد جواز سفر والدي، وهو الآن في فترة راحة بعد إجراء عملية قلب له في لندن، ومن أجل تجديد جواز السفر طلب والدي من صديقه أبو عمار رئيس اتحاد نقابات العمال فرع الطرق والجسور ان يتوسط لدى أخيه العميد علي حسين علوان الساعدي (أبو حسين) الذي يعمل معاونا لمدير الأمن العام للشؤون الفنية من أجل تجديد جوازه، وبالفعل تم تجديد الجواز بجهوده النبيلة التي لا يمكن أن تحصل من دون أن يحصل والدي على موافقة السفر التي وفرها له المرحوم عبد الوهاب المفتي؛ وذلك بالذهاب مع رتل الشاحنات المتجهة إلى ميناء العقبة من أجل تحميل المعدات الخاصة بالطرق والجسور وشحنها إلى بغداد.

وبالفعل يذهب والدي مع رتل الشاحنات إلى الأردن ويترك الجماعة ليذهب إلى عمان حيث مكان اللقاء مع السيد محمد هادي السبيتي الذي كان في عمان للمشاركة في دورة لإدارة المنشآت الكهربائية، وقد كان لقاء عشاق فقد طار السبيتي من الفرح لوجود والدي في عمان، وقد أقام السبيتي وليمة عشاء لوالدي وتحدثا عن الكوارث التي حصلت بعد ما تمكن فاضل البراك من القاء القبض على ساعده الأيمن القائد عبد الأمير المنصوري.

يخبر أبو حسن السبتي والدي أنه قبل أن تبدأ الحرب كان في طهران وقد التقى برفاقه السيد مرتضى العسكري، والسيد محمود الشهرودي، والشيخ أبو زينب الخالصي، والشيخ الآصفي؛ وقد طلبوا منه الالتحاق بهم في الجمهورية الاسلامية وقيادة المقاومة ضد النظام من ايران، لكنه رفض رفضاً شديدا قيادتها من الجمهورية الاسلامية في ايران لأنها ستلحق الضرر بشدة بتنظيم الدعوة الاسلامية الذي سيظهر بمظهر مذهبي وهو ما قد لايحصل على أي مصداقية في العراق والوطن العربي، وبدوره يخبره والدي أن رسالة وصلت من الشيخ أبو زينب الخالصي فيها اعتذار شديد من السيد مرتضى العسكري، والشيخ الآصفي، والسيد محمود الشهرودي لما حدث له من مواجهة معهم في مكتب السيد مرتضى العسكري وقد كتب الشيخ الخالصي للسبيتي ما معناه أنهم يقبّلون يده قبل رأسه لقبول اعتذارهم، وينسى ما حدث من جدال عنيف، وبالفعل كما يخبرني والدي أن السبيتي أخبره ان الموضوع قد أصبح من الماضي ولا يستحق الذكر، وأنه يجلّهم كثيراً.

لكن والدي طلب من أبو حسن ترك الأردن والالتحاق إما بزملائه في إيران، وإما الذهاب إلى سوريا فهي أكثر أماناً له ولعائلته؛ وقد أخبر السبيتي والدي بطلب السيد مهدي الحكيم الذي يتضمن التنسيق مع الحزب الديموقراطي الكوردستاني؛ ولاسيما بعد عام من لقاءه كاك مسعود بارزاني في دمشق، وقبلها كاك إدريس بارزاني.

وبعد اللقاء التاريخي يعود والدي إلى بغداد وقد كان قلقاً من وضع السبيتي الذي كان مهموماً، وحزيناً جداً لما تعرض له حزبه من ضربة قاضية على يد الأمن العامة؛ ولاسيما بعد سقوط أشجع رجال حزب الدعوة (عبد الامير المنصوري) بيد أذكى رجال الأمن العامة (د. فاضل البراك)، ومن مواقف رفاقه الذين يطلبون منه الالتحاق بركب الجمهورية الاسلامية من أجل استئناف النضال ضد صدام حسين تحت راية خط الإمام الخميني، وهو ما يرفضه بشدة لاختلاف خصوصية الوضع العراقي عن الوضع الايراني.

أبو حسن السبيتي في بغداد!!!!

حدثني والدي قال: إنه في صيف عام 1982* التقي بصديقه ضابط المخابرات العميد هوشنك سيد أحمد وقد عرض عليه جولة في شوارع بغداد وبالتحديد منطقة الكرادة وجسر المعلق، وقد انتهت الجولة بأحد المطاعم في الكرادة، لكن والدي كان قلقاً جداً من وضع كاك هوشنك النفسي، ووجد أنه يريد أن يقول شيئا مهماً لكنه متردد جداً، وقد حثّه على قول ما في صدره من شيء.

يقول والدي انه بعد أن انتهينا من تناول العشاء وبدأنا بشرب الشاي أخبرني كاك هوشنك أن ابو حسن السبيتي يرسل تحاياه واشتياقه لجنابكم، وقد استغرب والدي من هذا الكلام الخطير الذي يمكن أن يؤدي إلى الموت وفناء العائلة، فوالدي بطبعه الشجاع لايخشى من أي موقف مهما كانت خطورته، لكن تلك المفاجأة سقطت كالصاعقة عليه فتوقف عن الكلام من شدة تلك المفاجأة الأليمة والمرعبة واللامتوقعة معاً، أبو حسن السبيتي في بغداد كيف حصل ذلك؟

وقد سأل والدي كاك هوشنك كيف وصل اليك أبو حسن السبيتي فهو حسب علمي موقوف في مقر المخابرات الأردنية، فأجاب:

لقد تم نقله من الأردن إلى مقر جهاز المخابرات العراقية في بغداد وأنا اليوم بأمر من أستاذ برزان مسؤول على وجوده في السجن الانفرادي بمقر المخابرات، لأن جلالة الملك حسين قد طلب من أستاذ برزان عدم مسه بأي سوء فهو، أي محمد هادي السبيتي كان رجلا صالحاً، ومخلصاً في عمله، ولم يمس أمن المملكة بأي سوء، وقد وعده أستاذ برزان أنه سيكون بأيدي أمينة ولم يتم التحقيق معه بطرق عنيفة.

يرى برزان التكريتي أن مجرد نقل أبو حسن السبيتي من عمان إلى بغداد يعد نصراً كبيراً لشخصه، ونصراً على منافسه فاضل البراك، ولجهاز المخابرات الذي يديره حسب قول هوشنك سيد احمد، الذي قرر برزان أن يجعله المسؤول الأول للحفاظ على سلامة السبيتي، وبالفعل يدخل كاك هوشنك بحوارات عميقة معه وقد شكر السبيتي الله تعالى أن يكون كورديا مسؤولاً عنه في مقر المخابرات، واخبره أنه يحترم الكورد كثيراً، وان لديه علاقات قوية معهم.

يخبر كاك هؤشنك والدي أن السبيتي أنساناً حكيماً وهيبة فهو عندما يناقشه يشعر به أن لديه ثقافة عالية وهدوءا قل نظيره، وقد وثق به بعد أن أخبره أنه عمل في الاستطلاع العميق داخل إيران وقد كان يرسل رسائل رجال الدين من النجف إلى إيران في زمن الشاه، ولاسيما من الإمام الخميني، ونجله السيد مصطفى، وتلامذته من قبيل الشيخ محمد منتظري، والسيد محتشمي إلى داخل إيران وقد تم توقيفه من قبل السافاك الايراني بعد أن كشف أمره.

وبعد هذه المقدمة يخبر أبو حسن السبيتي كاك هؤشنك سيد أحمد أنه هو أيضا كان يؤيد خطوات الأمام الخميني عندما كان يقاوم من النجف نظام الشاه.

يقول كاك هؤشنك لوالدي أنه بعد أن خلق جو الثقة بينه وبين السبيتي إقترح عليه إذا كان يريد لقاء أي شخص في بغداد أو العراق يريد مقابلته، فأنه سيؤمّن له الأمان، (فنحن الكورد لا نخون الأمانة) على حد تعبيره، لكن السبيتي أجابه:

أنا اعلم ما معنى الأمن والمخابرات في العراق، لكني سأغامر واعطيك إسم شخص كوردي أرغب في لقاءه وهو عزيز جداً عليّ، وهو كاك حسين الجاف؛ (أي والدي)، عندها أخبره كاك هوشنك أتقصد كاك حسين الجاف الذي يقيم في شارع فلسطين، ويعمل في الطرق والجسور؟ فأجابه نعم هو ذاك، وأجبته سيكون طلبك ممكناً، إذا وافق اللقاء بكم.

وبالتأكيد وافق والدي على ذلك اللقاء الخطير، فهو مشتاق للسبيتي ومستعد للتضحية من أجله، وقد أخبر وكاك هوشنك أن السبيتي شخصية عظيمة، ويستحق الحماية والآمان وهو؛ أي والدي سعيد أن يكون في قاطع مسؤوليته؛ أي مسؤولية كاك هوشنك.

يرى والدي أن ما يحدث الآن لأبي حسن السبيتي من عناية لهو قدر من الله وليس صدفة، وإلا كيف يمكن أن تحدث ساعة رحمانية لبرزان التكريتي ويختار هوشنك سيد احمد مسؤولا للإشراف على السبيتي، وإن كلا الطرفين؛ أي هوشنك، والسبيتي يرتبطان بعلاقة قوية بوالدي، فذلك هو قدر إلهي بامتياز.

لقاء والدي بأبي حسن السبيتي

لقد أتفق كاك هوشنك سيد احمد مع والدي أن يرسل له سيارة خاصة يوم الجمعة حيث مقر الجهاز يكون أغلب منتسبيه يتمتع بعطلة الجمعة، وأن والدي سيدخل بوصفه ضيفاً على مدير القسم الإيراني في جهاز المخابرات الذي هو بالتأكيد العميد هوشنك سيد احمد، وبالفعل يصل والدي عصراً، وقد كان السائق أحد الموظفين الذين يعملون بأمرة كاك هوشنك، وقد عملوا مفاجئة لأبي حسن السبيتي الذي كان مذهولاً من شدة المفاجأة التي عملها له هوشنك، وقد احتضنه والدي بشدة لدقائق كثيرة، وقد كان السبيتي أنيقا وجميلاً كعادته، لكن لحيته طويلة، وقد شربا الشاي سوية.

يقول والدي: لقد حزنت وبكيت كثيراً لما آلت إليه أمور السبيتي، لكنه؛ أي السبيتي هون عليه وأخبره أنه لما سار على هذا الدرب كان يدرك تماماً هذا المصير الذي يكون أعلى درجاته الشهادة، وقد سبقه على هذا الدرب أبو عصام، والشيخ عارف البصري، وغيرهم من الدعاة.

أثناء اللقاء يخرج كاك هوشنك من المعتقل الانفرادي المخصص لأبي حسن السبيتي من أجل أن يبقى والدي منفردا معه، لأنه لقاء أحبة، وقد سأل السبيتي والدي عن أخبار الحرب المجنونة بين العراق وأيران؟ فأجابه أن إيران قد اخرجت العراق من المحمرة، وقد تعرض الجيش العراقي لخسائر كبيرة.

ويجيب أبو حسن السبيتي أن هذه الحرب من صنيعة الرأسمالية القذرة التي ترى أنه يجب تدمير الإسلام، وبث روح الطائفية بين المسلمين، وقد أخبر والدي انه منذ شهرين في العراق ولا يعلم ماذا يحصل في العالم الخارجي، لكنه يشكر الله تعالى أن الجماعة (جماعة المخابرات) يعاملونني بوصفي أمانة وضعها جلالة الملك حسين عندهم، وأن الأخ هوشنك يتعامل معي في قمة الرقي، وانه لحد الآن لم يتم التحقيق معه.

وبعد الزيارة التاريخية جمع والدي ملابس أبو حسن السبيتي وجلبها إلى البيت التي قامت والدتي بغسلها وكيها عند المكوى في منطقتنا، وقد تم إيصالها من قبل سائق حدده كاك هوشنك، والشيء اللافت أن السبيتي قد طلب من والدي أن لايبلغ أي شخص بوجوده مهما كانت صلته بي، وذلك من أجل أن يظهر أنه مازال في الأردن، وأيضاً من أجل عدم تعرض أي شخص للأذى بسبب وجوده في بغداد الذي من الممكن أن يعرض الآخرين لخطر الموت، فنظام صدام مازال يعدم أي شخص يشك بإنتمائه لحزب الدعوة، وقد التزم والدي بوعده فلم يبلغ أي شخص بوجود السبيتي في بغداد.

وأما كاك هوشنك سيد احمد المسؤول المباشر عن السجن الانفرادي لأبي حسن السبيتي فقد كان يتعامل بإنسانية عالية جداً مع سجينه، وقد كان يرسل السائق الذي حدده لبيتنا من أجل تقديم الخدمات من غسل الملابس، وتقديم بعض الأطعمة بشكل سري جداً.

بقي وضع التواصل مع السبيتي على حاله لمدة سنة، وبعدها تم عزل برزان التكريتي من منصبه كرئيس لجهاز المخابرات، وتعيين اللواء الركن هشام صباح الفخري رئيساً مؤقتاً لجهاز المخابرات وقد كان شديداً جداً؛ ولذلك توقف كاك هوشنك على تقديم التسهيلات التي كانت موجودة في زمن برزان التكريتي، وهنا يخبر والدي كاك فؤاد عارف بالموضوع وطلب مساعدته من خلال الاتصال باللواء الركن محمود شيت خطاب الشخصية الاسلامية والوطنية الذي على صلة قربى باللواء هشام صباح الفخري، وبالفعل يحث فؤاد عارف محمود شيت خطاب بدافع الصداقة القديمة بينهما أن يطلب من اللواء الفخرى التوسط لإطلاق سراحه من المعتقل، أو تسهيل الدخول اليه لتقديم الخدمات له.

لكن محمود شيت خطاب أخبر فؤاد عارف أنه يخشى أن يتوسط للسبيتي ويحصل له مكروه كما حصل مع سيد قطب عندما توسط له من أجل عدم تنفيذ حكم الإعدام بحقه، لكن حصلت موافقته، وقد دخلت مع والدي هذه المرة، بمساعدة كاك هوشنك للقاء السبيتي الذي بدأ يقلق على والدي، لكن والدي أخبره أن كاك هوشنك شخصية نافذة في المخابرات، ومن ثم فإن الأمور تسير بيسر ودقة عالية جداً.

أثناء وجود مام جلال في بغداد من أجل المفاوضات أخبره كاك فؤاد عارف ووالدي بموضوع أبو حسن السبيتي، وطلبا أن يتوسط له عند صدام، وبالفعل يفتح مام جلال موضوع السبيتي مع طارق عزيز، لكن طارق عزيز يغضب بشدة على مام جلال، وطلب منه عدم فتح أي موضوع يتعلق بحزب الدعوة وعملاء ايران، لكن مام جلال كما يخبر كاك فؤاد عارف أنه أخبر طارق عزيز أن السبيتي ليس عميلا لإيران، وأنه التقى معه في دمشق عام 1980، وفيه روح وطنية عالية جداً، لكن طارق عزيز طلب منه عدم فتح الموضوع ويبقى مركزا على المهمة  الخاصة التي جاء من أجلها وهي حقوق الشعب الكوردي في العراق.

فاضل البراك رئيساً لجهاز المخابرات

في بداية عام 1984 يصبح فاضل البراك رئيساً لجهاز المخابرات، وقد عرف بأنه هو الذي تمكن من تفكيك تنظيم حزب الدعوة عندما كان مديراً للأمن العامة عام 1980،وبهذا الصدد يخبر كاك هوشنك سيد احمد والدي أنه حدثت مواجهة بين البراك والسبيتي، وقد تحدث البراك بغرور مع السبيتي، وأبلغه انه لم يعد شيئاً مهماً فالتنظيم؛ أي تنظيم الدعوة قد تم تفكيك جناحه العسكري، وأن رئيس جهاز المخابرات السابق (برزان التكريتي) قد بالغ بأهمية السبيتي وأصراره على إعادته للعراق، وأن القيادة أيضاً قد بالغت عندما منحت مائة دبابة وبعض المدفعية هدية للمملكة الاردنية الهاشمية لقاء إعادة السبيتي للعراق فهو لم يعد فاعلاً مهما في تنظيم الدعوة، ولاسيما بعد تفكيك الجناح العسكري الذي كان يرتبط به.

يخبر كاك هوشنك والدي أن فاضل البراك طلب من السبيتي إن أراد ان يبقى على قيد الحياة، ويلم شمله مع عائلته مرة أخرى، مع وعد بإعادته لمنصب كبير في وزارة الصناعة، أن يظهر على شاشة التلفزيون ليتبرأ من حزب الدعوة، ويقدم ولائه للثورة والحزب، ولقيادة صدام حسين للحرب ضد إيران، لكن السبيتي وقف وقفة شجاعة وأخبر البراك أين ساحة الاعدام؟ أريد أن اشنق نفسي بيدي، ولا أقدم على هكذا تعهد وولاء لعصابة نذر نفسه من اجل القضاء عليها.

ومن الجدير بالذكر أن كاك هوشنك أخبر البراك أن محمد هادي السبيتي هو أمانة الملك حسين، لكن البراك أخبره أن هذا الرجل يجب ان لايبقى حبيساً في جهاز المخابرات فهو من أعمال مديرية الأمن العامة، ويجب ترحيله فوراً، وبالفعل تم نقله إلى مديرية الأمن العامة التي أصبح علي حسن المجيد رئيسها، وأنه منذ ذلك الوقت أختفى نهائياً ولم يعد له أثر مع أن المعلومات التي حصل عليها كاك هوشنك من الأمن العامة أن أبو حسن السبيتي قد بقي على قيد الحياة في فترة إدارة على حسن المجيد، وقد انتقلت إدارة مديرية الأمن العامة بعده إلى عبد الرحمن الدوري عام 1987.

يقول والدي رحمه الله أنه (أنا وهو؛ أي والدي) كنا محظوظين أكثر من عائلة القائد السبيتي الذين لم يشاهدوه، ولم يعلموا شيئاً عن مصيره، وقد كان ذلك بطلب منه، فهو قد إعتقد أنه سيعاد إلى الأردن كون سجله نظيف في دوائر المملكة الاردنية.

بخبرني الأخ والزميل جعفر البهادلي المهتم بجمع تراث الشهيد محمد هادي السبيتي، أنه تم الوصول إلى شهادة وفاة تثبت إعدامه بتاريخ 9-11-1988؛ أي بعد ثلاثة أشهر من وقف إطلاق النار بين العراق وأيران، وهذا يعني أن الشهيد السبيتي قد بقي حياً لأكثر من ستة سنوات في سجون العراق، أي بين سجن المخابرات، وسجن الأمن العامة، وسجن أبو غريب.

***

الدكتور كريم الجاف

أكاديمي- العراق

...........................

* ملاحظة للأخوة الذين يطلعون على المقالة الخاصة بالشهيد السبيتي يمكن أن تكون هناك بعض الاشكالات في التواريخ المذكورة فهي قد اعتمدت على ذاكرة والدي رحمه (1918-1998) الذي سرد تلك الاحداث عام 1987 .

معركة القسطل: عبد القادر الحسيني ورفاقه في مواجهة خيانة الرسميين العرب ودموية الصهاينة!

حدثت معركة القسطل قبل النكبة وهزيمة جيوش الحكومات العربية التي شاركت في الحرب المهزلة ولكن في السنة ذاتها (1948). جرت هذه المعركة في قرية القسطل وهي من مداخل مدينة القدس الدفاعية الاستراتيجية. وقاد المقاومة الفلسطينية فيها الشهيد السيد عبد القادر موسى كاظم الحسيني (ولد في القدس في 1908 واستشهد في 8 نيسان/ أبريل 1948، والده هو شيخ المقاومين المجاهدين في فلسطين موسى كاظم الحسيني الذي شغل بعض المناصب العالية في الدولة العثمانية متنقلاً في عمله بين اليمن والعراق ونجد وإسطنبول ذاتها بالإضافة إلى فلسطين).

عملية القسطل هي عملية عسكرية بدأت بها العصابات والمليشيات الصهيونية التي كان هدفها الاستيلاء على مدينة القدس بالكامل. يقول بن غوريون في كتابه "بعث إسرائيل" ما يلي: "ما أن أطلّ شهر نيسان/أبريل 1948 حتى كانت حربنا الاستقلالية قد تحولت بصورة حاسمة من الدفاع إلى الهجوم. لقد بدأت عملية (نخشون) باحتلال الطريق المؤدية إلى القدس حيث نقف الآن وكذلك بيت محيسير وتوّجت باحتلال القسطل التلّة الحصينة قرب القدس".

بدأت المليشيات الصهيونية بدعم بريطاني بتنفيذ عملية نخشون لفك الحصار عن القدس في مطلع أبريل 1948، ولكن المقاومة الفلسطينية تصدت لها وهزمتها في المعركة الأولى وبقي طريق باب الواد إلى القدس مغلقاً إلى ما بعد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين.

كما هاجم المجاهدون الفلسطينيون مستعمرة مشمار هاعمك أثناء انهماك الصهاينة في الهجوم على القدس القديمة لتصفية قوات "الجهاد المقدس" التي كان يقودها الحسيني وفي محاولة فك الحصار المضروب عليهم بفتح الطريق إلى تل أبيب.

في الثاني نيسان/إبريل من عام 1948 قامت قوات مليشيا الهاجاناه الصهيونية بمهاجمة قرية «القسطل» غربي القدس، واستولت عليها وطردت كل سكانها منها وكانت القسطل تشكل بداية لخطة يهودية لاحتلال الجزء الأكبر من فلسطين قبل الإعلان رسميا عن إنهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو من عام 1948.

واستباقا لما سيحدث قام القائد عبد القادر الحسيني بمواجهة هذا الهجوم بقوات فلسطينية متفرقة وقليلة مجهزة بأسلحة بدائية وقليلة الفعالية في الحروب، ولم تتلق هذه الجماعات المقاومة الفلسطينية أي دعم من حكومات البلدان العربية.

أخذ القائد عبد القادر الأمور على عاتقه، وفي 5 نيسان / إبريل من عام 1948 توجه بقواته البسيطة نحو القسطل، وليس معه سوى 56 مقاتلا، واستطاع فعلا أن يحاصر القسطل، لكن قبل أن يضرب حصاره على القسطل، توجه إلى جامعة الدول العربية يطلب عبثاً إمداده بالسلاح والذخيرة من حكام العرب مستغيثاً بهم واحدا تلو الآخر وهم يرفضون المساعدة ويماطلون فيها.

تتحدث كتب التاريخ عن لقاء بين عبد القادر الحسيني واللجنة العسكرية العربية. يقول الحسيني أن اللجنة العسكرية طالبته بعدم افتعال تصرفات فردية، وأن جامعة الدول العربية قد أوكلت قضية فلسطين إلى لجنة عسكرية عليا تتولى تحرير فلسطين، وطالبوه بعدم الذهاب نحو القسطل، فقال ردا عليهم:  "إنني ذاهب إلى القسطل وسأقتحمها وسأحتلها ولو أدى ذلك إلى موتي، والله لقد سئمت الحياة وأصبح الموت أحب إلى من نفسي من هذه المعاملة التي تعاملنا بها الجامعة، إنني أصبحت أتمنى الموت قبل أن أرى اليهود يحتلون فلسطين، إن رجال الجامعة والقيادة يخونون فلسطين ".

وبعدها قَدِمَ الحسيني إلى القسطل بقواته وأسلحته البسيطة، وصادف أن كانت إحدى الجيوش العربية بقيادة إنجليزية موجودة ومتمركزة في رام الله (أرجح أن يكون المقصود هو الجيش الأردني الذي كان يقوده الجنرال البريطاني جون غلوب)، فطلب عبد القادر من هذا الجيش مساندته وتزويده بالسلاح، فاعتذر قادة الجيش وطلبوا منه تأجيل القتال حتى يحدث الانسحاب العسكري البريطاني في 15 أيار/ مايو من عام 1948.

لم تكن الدول العربية تريد مواجهة مع بريطانيا، ورأت أن أي عمل عسكري الآن سيعني مواجهة حتمية مع بريطانيا وفقدان الدول والحكم الذي وعدتهم بريطانيا به، ولكن الحسيني بدأ يرسل المتطوعين في فلسطين ومصر إلى جبهات القتال ضد المليشيات الصهيونية، ثم إنه طوق القسطل وبدأ يستنجد مرة أخرى بالقيادة العسكرية، وأرسل إليهم بأنه بمساعدتهم سينهي الوجود الصهيوني فيها، بيد أن القيادة العسكرية للجامعة العربية أصرت على موقفها. وأثار ذلك الترنح في مواقف الجامعة العربية حفيظة الحسيني، وثارت ثائرته فأطلق صيحته قائلا: "نحن أحق بالسلاح المُخَزَّن من المزابل، إن التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين، وإنني سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم".

وقد ذكرت «جريدة المصري» أن اللجنة العسكرية العليا التابعة للجامعة العربية جعلت تسخر من عبد القادر الحسني، وضعف قوته وعتاده اللذين يحملهما لمواجهة الصهاينة، وسخر منه الضابط العراقي الملكي والذي أصبح رئيسا للوزراء لمدة شهرين سنة 1941 طه الهاشمي، شقيق رئيس الوزراء ياسين الهاشمي مرتين في الثلاثينات، وأخبره أن لدى اللجنة العتاد والسلاح، ولكنها لن تعطيه له (لعبد القادر الحسيني)، ولكنها ستنظر بالأمر بعد 15 أيار فكان رد الحسيني عليه: "والله يا طه باشا إذا ترددتم وتقاعستم عن العمل فإنكم ستحتاجون بعد 15 أيار إلى عشرة أضعاف ما أطلبه منكم الآن، ومع ذلك فإنكم لن تتمكنوا من هؤلاء اليهود، إني أشهد الله على ما أقول، وأحملكم سلفاً مسؤولية ضياع القدس ويافا وحيفا وطبرية، وأقسام أخرى من فلسطين".

ولكن أعضاء اللجنة لم يتهموا لقوله وسخروا من حماسه واندفاعه، فاستشاط عبد القادر غضبا، صرخ بهم: "إنكم تخونون فلسطين ...إنكم تريدون قتلنا وذبحنا!"

أما رفيقه المجاهد قاسم الرمادي فقد قال: "ليسقط دمي على رأس عبد الرحمن عزام (أمين الجامعة العربية)، وطه الهاشمي وإسماعيل صفوت (قادة القوات العسكرية التابعة للجامعة العربية) الذين يريدون تسليمنا لأعدائنا لكي يذبحونا ذبح النعاج، لكننا سنقاتل بدمائنا وأجسادنا، وليبق السلاح مكدسا في عنابر اللجنة العربية، وفي مزابلها، سنرجع إلى فلسطين لنحقق أمنيتنا بالفوز بإحدى الحسنين إما النصر وإما الشهادة ". ثم قفل عائدا إلى القسطل، وجعل يردد قول أخيه القائد الشاعر عبد الرحيم محمود الذي قُتل في معركة الشجرة:

بقلبي سأرمي وجوه العـداة... فقلبي حديد وناري لظى

وأحمي حماي بحد الحسـام... فيعلم قومي بأني الفتى

أخوفاً وعندي تهون الحياة؟! أذلاً وإني لـربي أبى؟!

ثم تَجَّمَعَ من المتطوعين مع عبد القادر الحسيني 500 رجل مجاهد انضموا إليه في حصار القسطل، في 8 إبريل من عام 1948 بدأ الهجوم الشامل على القرية، وانتهت المعركة بمقتل 150 يهوديا وجرح 80 منهم، وتم تحرير القسطل، ولكن بعد استشهاد عبد القادر الحسيني في المعركة. فحين قام الحسيني باقتحام قرية القسطل مع عدد من المجاهدين، وقع ومجاهديه في كمين الصهاينة وتحت وطأة نيرانهم فهبت نجدات كبيرة إلى القسطل لإنقاذ الحسيني ورفاقه، وكان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف، وتمكن رشيد عريقات في ساعات الظهيرة من السيطرة على الموقف وأمر باقتحام القرية وبعد ثلاث ساعات تمكنوا من الهجوم وطرد الصهاينة منها.

وفي التفاصيل نعلم الآتي: عند وصول فصيلي المدافع الفلسطينية إلى سفح مرتفع قرية «بدو» المشرفة على القسطل والقدس بعد ظهر 8 أبريل 1948 واجهتهم صعوبة وهي استحالة صعود السيارات قاطرة المدافع وحاملة الذخائر إلى ذلك المرتفع لوعورة الطريق. وكان يجب الاستعجال بوضع المدافع في مرابضها لدخول المعركة بأسرع وقت ممكن. وتقرر ترك فصيل الـ 75 مم في السفح ريثما يتم تعبيد الطريق إلى المرتفع، وبفك مدفعي الـ 105 مم، كل مدفع إلى أربع قطع، وحمل هذه القطع مع الذخائر على سواعد الرجال. وهنا الأهالي والقرويون من سكان المنطقة من رجال ونساء وصبية لمساعدة المجاهدين في حمل أجزاء المدفعَين والذخيرة، فحملوها وصعدوا بها إلى أعلى المرتفع بسرعة خارقة فاجأت الجميع! ثم إنهم عادوا جميعاً إلى الطريق وعبّدوه بالحجر ونظّفوه ليصبح صالحاً لتقدّم السيارات عليه. وتم تجهيز المربض للمدفع على مرتفع «بدو» في أقل من ساعتين مع فصيل 105 مم وذخائره جاهزاً للرمي على القسطل ومستعمرة مودسا التي ما كانت سوى حيّ شرقي لها. وفتحت النيران قبيل الساعة الخامسة على الأهداف المحددة، فصعق الصهاينة الذين فوجئوا تماماً بحضور المدفعية. وصمتت رشاشاتهم التي كانت تلعلع عند وصول القوة. ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى كان الصهاينة يلوذون بالفرار ويقوم مقاتلو "الجهاد المقدس" باستعادة القسطل. وعند غروب الشمس كان الطريق إلى مرتفع «بدو» صالحاً لصعود السيارات، فوصل فصيل الـ 75 مم وربض إلى جانب الـ 105 مم، ووصلت كل الذخائر.

لقد استشهد عبد القادر صبيحة الثامن من إبريل عام 1948، حيث وجد جثمانه قرب بيت من بيوت القرية، وجسده مثخن بالرصاص محتضنا بندقية رشاشة من طراز ستن (STEN)، فنقل جثمانه في اليوم التالي إلى القدس، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد، وقد استشهد وهو في الأربعين من عمره وهو في أوج عطائه الجهادي. المقاوِم.

يومها خرج جميع المقادسة الفلسطينيين لتشييع السيد عبد القادر الحسيني تشييعا مهيبا، وردا على هزيمتهم المخزية رد الصهاينة بارتكاب مجزرة جبانة أخرى بحق المدنيين فعمدت مليشياتهم إلى مهاجمة قرية دير ياسين غربي القدس وأبادت سكانها فلم يبقَ فيها شيء ينبض بالحياة سوى ركام المنازل وأشلاء المدنيين الفلسطينيين. وكانت العصابات الصهيونية التي ارتكبت هذه المجزرة الدامية بقيادة المجرم مناحيم بيغن الذي اقتسم مع أنور السادات جائزة نوبل للسلام بعد سنوات. أما كريتش جونز كبير مندوبي الصليب الأحمر فقد صرح بعد المذبحة قائلا: "لقد ذُبح 300 شخص في دير ياسين بدون أي مبرر عسكري أو استفزاز من أي نوع، وكانوا رجالاً متقدمين في السن ونساءً وأطفالاً رضع"!

***

علاء اللامي

في صيف عام 1964 وقفت فتاة تبلغ من العمر "28" عاما امام قاضي شرطة الاخلاق الذي سألها: لماذا تكتبين بهذه الطريقة؟ ارادت أن تقول: هل يحق لأحد ان يسأل فنانا لماذا يكتب هكذا؟، لكنها استدركت لتجيب على سؤال القاضي بصوت مرتفع: لانني اعتبر نفسي اتمتع بحرية الرأي والفكر والعمل الممنوحة لكل شخص في لبنان. يقول لها القاضي وهو ينظر الى تسريحة شعرها الغريبة: ألا يتهيج المراهقون بعد قراءة كتابك.. تصمت قليلا ثم تجيب: " الكتاب يتكلم عن البشر، عن الناس، عن الاشخاص، في هذا البلد. يصور الواقع بطريقة ادبية فنية، واذا كانت تجب مصادرته فالاصح ان يصادر البشر هنا لانهم مادته "

وعندما يسالها القاضبي ثانية: لماذا استخدمت بعض الكلمات الخادشة للحياء. تصمت، فبماذا تجيب وهل عليها ان تفسر لماذا يستخدم الاديب هذه الكلمة بالذات دون غيرها. انتهى الاستجواب: " كانت الدقائق ثقيلة تزحف في عيني، والصمت يزيد غضبي واستنكاري الاخرس، كان المقصود ان يشعرني القاضي بالخجل مما اكتب، وبالذنب، واحسست فقط انني وجدي في غابة، وكنت مليئة بالحزن، حخزن كبير يغرق العالم " – ليلى بعلبكي دفاعا عن الحرية مجلة حوار 1964 –

خارج المحكمة انقسمت الصحافة بين مدافع عن ليلى بعلبكي وبين من يرى ان ما كتبته يسيء للاخلاق العامة كتب يوسف الخال: " سوقوها للسحن ولا تخيبوا ظننا. الماء ركدت واسنت بما فيه الكفاية، وحان ان تحركها هذه الصخرة "، وكتب جميل جبر: " القضية التي اثارت اهل القلم عندنا تتجاوز ليلى بعلبكي وكتابها. انها قضية كرامة كاتب واحترام رأي " وكتب انسي الحاج في صحيفة النهار ان ليلى بعلبكي: " ذهبت ضحية لأنها امرأة ولانها معروفة ولأن رايها صريح في النظام البوليسي " واصدر عدد من الكتاب بيانا استنكروا فيه مصادرة الكتاب واستجواب مؤلفته امام شرطة الاخلاق.

كانت شرطة الاخلاق قد القت القبض على ليلى بعلبكي بعد مصادرة مجموعتها القصصية " سفينة حنان الى القمر "، تم احتجاز الكاتبة لعرضها على قاضي التحقيق. بعد ضغط الراي العام والصحافة صدر القرار بوقف التعقيبات الجارية ضد بحق ليلى بعلبكي التي ستكتب: " جاء يوم خلاصنا.. نعم خلاصنا نحن. الذين عي القضية قضيتهم. يشرفني ان اكون سبب هذا الحادث التاريخي ".

نهاية عام 1963 اصدرت ليلى بعلبكي مجموعة قصصية بعنوان " سفينة حنان الى القمر - تضم " 12 " قصة نشرت معظمها في عدد من المجلات منها " شعر، حوار، ادب "، وكانت القصص امتداد لوجه نظر الكاتبة عن الحياة، حيث تدور معظم احداث قصصها حول فتاة تطالب بحريتها، فنجدها في قصة " لم يعد صدرك مدينتي " تقدم لنا الفتاة التي غادرت قريتها الى باريس، تسخر من الذين يؤجلون مشاعرهم لتعلن: " انا امراة مجنونة ياعزيزي، وانت ! وانت ياعزيزي رجل عاقل رزين يؤمن بالمساقبل.. خذ مستقبلك لك. خذه على حذائي " – بعلبكي سفينة حنان الى القمر صادرة عن.ستهدي ليلى بعلبكي نسخة من امجموعتها القصصية الى الصحفي المصري مفيد فوزي الذي كان يكتب زاوية في صباح الخير باسم مستعار " نادية عابد ". في العدد الصادر 4 حزيران عام 1964 من محلة صباح الخير كتبت نادية عابد – مفيد فوزي -: " اهدتني السيدة ليلى بعلبكي، الاديبة اللبنانية كتابها الاخير.. عبارة عن مجموعة قصص لم أكن قد قرأتها من فبل.. تسلمت الهدية بلهفة.. أنا متحمسة للكاتبات والاديبات.. مضى الوقت الذي يعبر فيه الرجل عن احاسيس المرأة.. قلبت كتاب ليلى بعلبكي بسرعة وتوقفت عند مطوية. عدلت الصفحة ولمحت عيناي اربعة سطور غريبة (وسألته أتذكر كم كانت حلوها جارحا جدا، ولم يعد السيد يحتمل فهتاج، واخيرا نطقها بشراهة.. برغبة: لن تذهبي.. لحوس أذني، ثم شفتي، وحام فوقي، ثم ارتمى وهمس انه ملتذ وأنني طرية ناعمة مخيفة.. وانه افتقدني كثيراً) شعرت – هذا كلامي أنا – بقشعريرة وبتقزز، وقلت لنفسي بضيق: ياست ليلى بعلبكي.. لحوس إيه، وحام إيه، وطرية وناعمة إيه.. وادب إيه.. ملعون هذا الادب ياشيخة "— مجلة صباح الخير حزيران 1964 -. عندما قرأت ليلى بعلبكي كلمات مفيد فوزي شعرت بالاستياء، لكنها لم تتوقع هذه السطور الساخرة زوبعة ادت الى مصادرة المجموعة القصصية واعتقالها من قبل شرطة الاخلاق. كانت المجموعة قد اثارت النقاد، فقصصها الجريئة وتصويرها للعلاقة بين الرجل والمراة جعل صحفيا مثل سعيد فريحة يكتب في مجلته الصياد: " كيف يمكن لليلى بعلبكي ان تكتب ادب جنس ما دام ادي الجنس هو ادب التجارب، وليى فتاة شرقية ما تزال في عمر الورود "3870 ليلى بعلبكي

لم تكن هذه هي المرة الاولى التي تتمرد فيها ليلى بعلبكي على واقعها، فابنة الجنوب اللبناني وقفت ذات يوم من شهر ايار عام 1959 لتلقي محاضرة بعنوان " نحن، بلا اقنعة " – نشرت خالدة سعيد نص المحاضرة في كتابها يوتوبيا المدينة المثقفة - ستتحول الى بيان لجيل جديد يرفض سلطة الكبار ويطالب بحريته، ويسعى للخلاص من هيمنة كل الكبار، من الأباء الى السلطة السياسية، يرفض القسمة الى حاكم ومحكوم، يرفض القيم التي لم يسهم في صنعها، ويرفض القوانين التي صنعت للقيود التي صُنعت للابناء والنساء والرعايا: " نحن.. جيل اليوم.. تفنن البعض في تسميتنا المتمردون، الكارثة، الضائعون. الشاذون، الفوضويون. المصيبة.. الى آخر ما هناك من القاب مرعبة " ووسط دهشة الحاضرين تعلن بصوت عال: " كل ما على الارض لا يمثلنا ولا يرضينا لأنه من صنع غيرنا ". اصدرت روايتها الاولى " أنا احيا " التي نشرتها مجلة شعر في ايلول من عام 1958، بعد ان روجت لها باعلان على صفختها الاخيرة جاء فيه: " ان هذه الرواية سيكون لها أثر بديع في مستقبل الرواية العربية وستصفها الناقدة يمني العيد فيما بعد بانها اولى الروايات النستئية الحديثة التي شكلت علامة بارزة على تطور الكتابة الروائية العربية ".

اتذكر الرواية في غلافها الكريمي اللون والخطوط الخضراء التي تصور امرأة كأنها تقف وسط الطريق واسم ليلى بعلبكي على يمين الغلاف، وعبارة منشورات مجلة شعر والمكتبة العصرية اسفل الغلاف، عثرت عليها بين اكوام الكتب عند عبد الرحمن السامرائي " ابو عوف " الذي كان يتخذ من دكان صغير في بداية سوق السراي مقرا له، أذهب اليه كلما زرت شارع المتنبي، وكانت العربة التي يستخدمها في عرض الكتب وفي التنقل مصفوف عليها كتب من كل شكل ولون، وانا انبش فيها بحثا عن رواية او كتاب في المسرح، لمحت غلاف " انا احيا "، كان الاسم قد مر عليَّ كثيرا في المكتبة التي اعمل فيها والزبائن يبحثون عن روايتها هذه ورواية ثانية بعنوان " الآلهة الممسوخة ". وعندما سالت عنها ذات يوم المرحوم الناقد الكبير عبد الجبار داود البصري وكان من زبائن المكتبة قال لي بهدوءه المعهود وصوته الهاديء، انها كاتبة لبنانية جريئة اثارت ضجة في بداية الساينيات لكنها اعتزلت الكتابة منذ سنوات. ادرك الآن ان ذلك الفتى الذي التقط الكتاب من عربة " ابو عوف " كان متلهفا لكي يعرف: ماذا كانت تريد ان تقول ليلى بعلبكي، وماذا يحمل هذا الكتاب المُصفر من اسرار وخفايا؟. لم انتظر طويلا،جلست في مقهى صغير يقع في زاوية وسط سوق السراي، فتحت الصفحات برفق لاقرأ: " فكرت وانا اجتاز الرصيف، بين بيتنا ومحطة الترام: لمن هذا الشعر الدافئ المنثور على كتفي؟ أليس هو لي، كما لكل ححي شعره يتصرف به على هواه؟ الست حرة في أن اسخط على هذا الشعر، الذي يلفت إليه الانظار حتى أمسى وجودي سببا في وجوده. الستُ حرة في ان امنح حامل الموس لذة تقطيع خصلاته وبعثرتهاا بين قدميه، ليرميها حامل المكنسة، في تنكة قديمة صدئة. تمضي السطور من امام عيني سريعة، تعلن الروائية انها " من الآن وحتى المساء، سابني مستقبلا لحياتي "، التفت حولي فقد توقغت ان زبائن المقهى ينظرون اليَّ وانا اتلصص على حياة بطلة الرواية، اغلقت الكتاب ووضعته بين كتب كنت اشتريتها وقررت ان اكمل الرواية في البيت من دون ان يعرف احد بانني اغوص في حياة امراة تريد ان تتحرر.تمضي الصفحات سريعة، ها هي بطلة الرواية لينا تقع في غرام طالب عراقي " بهاء " يقدم نفسهلها: " طالب في السنة النهائية من الجامعة، من الريف العراقي.. سئمت الحياة وجسدي بدأ يهرم وانا مازلت في الخامسة والعشرين من عمري ". تاخذنا ليلى بعلبكي في رحلة استكشافية داخل عالم فتاة تجد نفسها ضحية الشرط الانساني القاس الذي يفرضه عليها المجتمع، بطلة الرواية لينا تعلن ثورتها على فراغ الحياة، وعلى كل ما مترسخ من تقاليد بالية في اذهان الناس، وتثور على عائلتها وعلى مرؤسها بالعمل، انها رواية هجائية تؤرخ لفترة مهمة من تاريخ الشعوب العربية.. وتقدم شهادة على ان الطريق مختلف بين الرجل والمراة: " فالمرأة تنشد التحرر والرجل لا يستجيب إلا لرواسبه ". اننا نحيا في رواية ليلى بعلبكي احساسها الداخلي وطريقة تخيلها للعالم الذي تريد العيش فيه، نحيا معها بطريقة صاخبة غربتها وتمردها. ان قصة التمرد عندها تبدأ: " حين وعينا فجأة انفسنا، ومررنا بيدنا على وجوهنا وصدورنا، نتحسس اجسادنا، وتلفتنا بحذر نتمعن في ماضينا. وحملقنا باستغراب، ننقب عن صلة تربطنا بالاشخاص حولنا. ثم قفزناعلى الطريق هاربين "، تكتب خالدة سعيد: " عبرت ليلى بعلبكي عن جيلها بلغة هذا الجيل، ودافعت عن مشروعية تمرده، ورفضه بلا اقنعة ولا مساومة " – يوتيبيا المدينة المثقفة – يصف انيس منصور رواية " انا احيا " بالبصقة في وجه القرن العشرين: " ولم تكن لليلى بعلبكي رسالة ابعد من ذلك، فقد جائت روايتها خلاصة ما لديها فقالت كلمتها واختفت" - مع الآخرين -.

عام 1960 تنشر روايتها الثانية والاخيرة "الآلهة الممسوخة " وفيها تقدم عالما جديدا لا صلة له بعالم " انا احيا".هناك اسرة تتكون من الزوج " نديم " استاذ التاريخ والزوجة " عايدة " التي تتلهف لانجاب طفل. الزوج يعيش في عالم غارق بذكريات العلاقات النسائية عندما كان يدرس في اوربا، مشغول بدروسه وابحاثه، يدمن الشرب تخلصا من هموم حياته الزوجية، فالزوجة الغنية والتي لاتملك جمالا قد خدعته عندما تزوجها واكتشف انها على علاقة سابقة برجل، تقتصر علاقته بها على شؤون حياتهم اليومية، يتجنب النوم معها. يسمع الناس تقول: " مسكين نديم.. هذه المراة مرعبة. تزوج دراهمها التي تطير ساقيها الرخوتين. وعايدة لاتهتم لهجر زوجها لها، حيث تعوضه بدمية كبيرة اسمتها " نانا " تنام معها على السرير وتحتضنها، تشير عايدة مطرجي ادريس " ان شخصيات رواية " الالهة الممسوخة " ليس فيها من يستطيع ان يخلق لدى القارئ حس المشاركة ". انها تقدم رواية عالمها مكون من افراد كل منهم يسعى الى ذاته بالطريقة التي يراها تحقق غايته: " غداً سامارس كل هنيهات يومي واهنأ بها ".

ليلى بعلبكي المولودة في احدى قرى النبطية بجنوب لبنان في التاسع عشر من تشرين الاول عام 1936 لعائلة كان الجد فقيها يعلم الاطفال القراءة والكتابة، والدها يكتب الشعر العامي، تغقت بجدها كثيرا وفي مكتبته الصغيرة قرأت كتاب نهج البلاغة وتعلقت باشعارابي تمام والبحتري وقالت لجدها ان المتنبي يحب نفسه كثيرا.اكملت دراستها الابندائية والثانوية، دخلت جامعة القديس يوسف لدراسة الادب الشرقي، لكنها ستتوقف عن الدراسة لتعمل سكرتيرة في مجلس النواب اللبناني بين عامي 1957 و1960، ثم كصحفية في عدة صحف يومية. بين عامي 1960- 1961 تسافر الى باريس لتبدا دراستها في السوربون تجذبها مقاهي باريس، كانت الوجودية آنذاك في اوج تالقها، تترك الجامعة من جديد.. تقرا فرانسو ساغان فتتعلق بها.. تعود الى بيروت تنشر روايتها الثانية ومجموعتها القصصية الوحيدة ".. عشية الحرب اللبنانية تهاجر الى لندن لتستقر هناك، بعد ان تزوجت.. تتوقف عن الكتابة.. تعود الى بيروت عام 1979، تقضي سنواتها بين بيروت ولندن تظهر فجاة عام 2009 في معرض بيروت للكتاب بعد ان اقنعتها دار الاداب باعادة نشر كتبها الثلاثة، كتبت ليلى بعلبكي عن حب لم تسعد به، وباتت سيدة تعيش عزلتها مع ذكريات الماضي الصاخبة، موهوبة ومستقلة تدرك ما يدور حولها. ارتابت بالعواطف، وعرفت ظلم السياسة وجدت في البيت ملاذها الاخير من عالم وصفته ذات يوم بانه منحاز للرجال صرخت " نحن مخاوقات نفكر، ونحس، ونعي، ونستسلم، ونقاوم ".رفضت ان تتحول الى اداة بيد المجتمع: " لن انتظر امام المرآة طويلا.. من انتظر، ولماذا انتظر؟ لانني انثى؟ انتظر من يرفع لي الحجارة.. من يطعمني اللقمة..انا سجينة و لايمكنني ان اتجاهل ذلك ".. عبرت عن جيلها بلغة الجيل نفسه، ودافعت عن مشروع تمردها. في سنواتها الاخيرة اختارت عزلتها الطوعية حتى اعلان خبر وفاتها يوم 21 من هذا الشهر تشرين الاول عام 2023 لتسدل الستار على صفحة مثيرة من تاريخ الرواية العربية.

***

علي حسين - رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

مصدر هذه الأحداث هو المؤرخ اليوناني ديودور الصقلي، الذي اعتمد على ما قاله أحد الجنرالات اليونانيين المشاركين في المواجهات. وقعت ثلاث مواجهات عسكرية دموية بين القوات اليونانية والسكان الأنباط في مدينة سلع التي يسمونها باليونانية "بترا" عاصمتهم ومحيطها. بدأها الجنرال اليوناني أنتيغونوس الأول الملقب بالملك الجنرال الأعور لأنه فقد إحدى عينيه في إحدى المعارك، سنة 312 قبل الميلاد. وبعد الوصول إلى إدوم، إلى الشمال مباشرة من بترا، أصبح أنتيغونوس مدركاً لثروة الأنباط، الناتجة عن قوافل تجارة التوابل.

* جمع الأنباط ثروة كبيرة عن طريق التجارة التي كانت تمر بعاصمتهم سلع "بترا". وكان لديهم نظام خزانات مياه سرية محفورة في الجبال لا يعرفها أحد سواهم، فإذا ما هاجمهم العدو وغزا بلادهم انسحبوا منها الى الجبال الجرداء التي لا ماء فيها ولا طعام إلا ذاك المُخَبَّأ لهم بسرية وبدأوا ضد الغزاة حرب عصابات. وكانوا يتاجرون باللبان والمر والبهارات الأخرى في قوافل من اليمن، عبر شبه الجزيرة العربية، عبر البتراء وإلى ميناء غزة لشحنها إلى الأسواق حول البحر الأبيض المتوسط. وقد فرض الأنباط ضرائب على القوافل المارة بأراضيهم ووفروا الحماية التي دفعوا مقابلها.

* المواجهة الأولى: كلَّف أنتيغونوس بتعيين أحد ضباطه، أثينيوس، بمهاجمة الأنباط وأخذ قطعانهم وثرواتهم كغنيمة. سار أثينيوس مع 4000 جندي من المشاة و600 فارس في بترا، معقل الأنباط، أثناء الليل بينما كان الرجال النبطيون يتاجرون بعيدا. وبعد وصوله من مقاطعة يهودا، بعد ثلاثة أيام من السفر لمسافة 160 كم، سيطرت قوات أثينيوس على المنطقة والمدنية بسهولة حيث كان هناك نساء وأطفال فقط ولم يقاومهم أحد، ثم انسحبت القوات اليونانية محملة بكميات كبيرة من اللبان والمر كما سرقوا حوالي 13.7 طناً من الفضة. وأخذوا معهم نساء وأطفالا لبيعهم كعبيد.

* أعاد أثينيوس وقواته تجميع صفوفهم، وانطلقوا عائدين إلى المكان الذي أتوا منه، وجعلوا خيمهم على بعد حوالي 36 كم، على افتراض أنهم كانوا بسلام بعيداً عن الأنباط. وقد رصدهم بعض البدو أثناء مغادرتهم. ثم تجمع 8000 جندي من سلاح الفرسان النبطي، متفوقين على الخيول والجمال في مثل هذه التضاريس القاحلة، لمطاردتهم بعد ساعات فقط. وخلال الليل هرب عدد قليل من الأسرى الأنباط من المخيم وتمكنوا من تحذير القوة النبطية وإبعادها عن مكان المخيم. وعند الساعة الثالثة ليلا هاجمت القوات النبطية معسكر القوات اليونانية بالرماح بينما كانوا نائمين، وقتل المهاجمون جنود المشاة اليونانيين الأربعة آلاف كلهم لم ينجوا من سلاح الخيالة الأربعمائة إلا خمسون مقاتل كما نقل هيرونيموس عن ديودوروس، وتم تحرير العائلات من الأسر.

* وبعد المعركة، أرسل الأنباط رسالة شكوى باللغة الآرامية، اللغة المشتركة للشرق الأوسط القديم، إلى أنتيغونوس. جادلت الرسالة بأن الأنباط لم يكونوا يريدون الحرب، لكنهم اضطروا لمهاجمة الإغريق دفاعاً عن النفس ولإنقاذ نسائهم واطفالهم. أجابهم أنتيغونوس أن أثينيوس تصرف من تلقاء نفسه وأن الأنباط كانوا معذورين حقًا.

* المواجهة الثانية: ومع ما قاله أنتيغونوس للأنباط، فقد أرسل بعد ذلك ابنه ديميتريوس مع 4000 فارس و4000 من المشاة في مسيرة نحو أرض الأنباط. كانت القوة مسلحة تسليحًا خفيفًا وتم تزويدها بالمواد الغذائية. ومع ذلك، نظر الأنباط إلى رسالة أنتيغونوس السابقة بعدم ثقة، وأنشأوا ملاجئاً وبؤراً استيطانية أعلى الجبل. بعد ثلاثة أيام، تجمع اليونانيون للمعركة قبل أن يفاجئوا بأن الأنباط على استعداد تام لمواجهتهم. لقد أرسلوا قطعانهم وجمعوا ما تبقى من ثروتهم على جبلٍ عالٍ احتجزه المقاتلون الذين تمكنوا من صد عدد من الاعتداءات.

بحلول اليوم التالي، طالب ديميتريوس، المعروف للعالم اليوناني باسم «بيزير»، بتقديم الأسرى والهدايا الثمينة كجزية. ومع ذلك، لم يتلق الجزية المطلوبة ثم انسحب. ولكن المؤرخ اليوناني فلوطرخس ذكر في وقت لاحق: «من خلال قيادة ديمتريوس اللطيفة والحازمة، فقد تغلب على البرابرة لدرجة أنه استولى منهم على 700 جمل وكميات كبيرة من الغنائم وعاد في أمان".

المواجهة الثالثة: بقي ديميتريوس في البحر الميت بعد انخراطه الفاشل مع الأنباط، لمعرفة المزيد عن صناعة القار. كانت بقايا البيتومين "زيوت سوداء تشبه القار مكونة من خليط من الهيدروكربونات وتستعمل كمواد لاصقة" التي تطفو بشكل عشوائي على السطح تجعل سكان المنطقة، بما في ذلك الأنباط، يخرجون في قوارب (في البحر الميت القريب) لجمع العينات التي كانت سلعة باهظة الثمن في العالم القديم. أبلغ ديميتريوس والده عن هذه الصناعة المربحة وكيف يمكن تسخيرها لدعم طموحاته الإمبريالية. أرسل أنتيغونوس بعثة استكشافية بقيادة هيرونيموس إلى البحر الميت. قام الأنباط، الغاضبون من توغل يوناني آخر، بقتل معظم البعثة باستخدام سهام النار. في ضوء هذه الهزيمة، تخلى أنتيغونوس عن خططه ولم يعد يفكر بالأنباط.

***

علاء اللامي

...................

* اعتمدنا في تحرير هذه المادة على ما ورد في فيلم وثائقي إضافة إلى ما ورد في الموسوعات الحرة بشيء من التعديل والتوضيح وتوثيق.

كيف بدأ هذا التَحول عند المفكر حسين مروة؟ وكيف مالَ الى الشيوعيين مع عدم الإنتماء الحزبي؟ وكيف أُبعدَ من العراق قسراً؟

هذا ما سأتعرض إليه الآن مُحاولاً الإختصار ما استطعت:

ترك مروة وعائلته مدينة الناصرية متوجهين الى العاصمة بغداد في سنة 1941، وأصبح مروة أستاذاً للأدب العربي في "ثانوية شَمَاش" التابعة للطائفة اليهودية العراقية في شارع الرشيد.

(في بغداد كنت لدى إنتقالي إليها، معروفاً الى حدِ ما، فلم أجد صعوبة في تكوين صداقات وعلاقات في الوسط الثقافي والسياسي العراقيَيِن. أمضيت العام الأول من إقامتي في بغداد في خط الفكر القومي ـ حزب الإستقلال ـ المعادي للشيوعيين واليساريين، لم أبدأ التحول الى الماركسية إلا بعد تَعرفي بحسين محمد الشبيبي، وقد أعارني "البيان الشيوعي" لكارل ماركس، وقد قرأته مرات عدة وتَمعنت في معانيه، ثم إجتمعت به ثانية فأعطاني كتاب لينين "الدولة والثورة". فإطلاعي على هذين الكتابين أثار إهتمامي بالماركسية ودعاني الى إلتماسها والبحث عنها، وبقيت علاقتي بحسين الشبيبي سرية، فقد عرفت أنه أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي. لم أتعرف على "فهد" شخصياً، ولكنني تعرفت على بعض قياديي الحزب الشيوعي في جملة من تعرفت في الجو الثقافي والصحافي والسياسي، وخاصة بعد أن بدأت أعمل في جريدة "الرأي العام" لصاحبها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، ومجلة "الحضارة" لصاحبها الكاتب محمد حسن الصوري. ولكنني لم ألتزم خطأ فكرياً وتنظيمياً بواحد من هذه الأحزاب).

بدأ التحول عند مروة "حياتياً" أكثر منه فكرياً، بعد إعدام زعيم الحزب الشيوعي فهد، وحسين الشبيبي، وقد وقف مروة في التظاهرات آنذاك موقفاً مؤيِداً ومشارِكاً بحزم، وقد كتب مقالة "في عرس جعفر" بعد استشهاد الأخير في معركة الجسر، وهو جعفر الجواهري أخ الشاعر الكبير الجواهري.

(إنتهت الإنتفاضة بنجاح، وتشكلت وزارة وطنية شارك فيها حزب قومي، ما إن دخل الحكم حتى تخلى عن أهداف الإنتفاضة وشعاراتها... وإنطلاقاً من موقفي الوطني وملاحظاتي الموضوعية لسلوك ومواقف شتى الأحزاب صرت على يقين من أن الشيوعيين وحدهم يَتَحَمَلون بموقفهم وسلوكهم اليومي عبء صيانة الإنجاز الأساسي للإنتفاضة).

(من هنا تَكَونَ عندي ميل للشيوعيين يتقاطع مع نظرتي المادية وموقفي الوطني، ومن هنا بدأ يبدأ تَحولي الحاسم الى الشيوعية، رافق ذلك نَهَمُ الى الإطلاع الى الفكر الماركسي من مؤلفاته الأساسية، لكنني على الرغم من ذلك لم أنتمِ الى الحزب الشيوعي العراقي، فلم تكن قد نضجت عندي بعد فكرة الإنتماء الحزبي).

"التَعقل والعاطفة عند نوري السعيد"

آخر مقال نُشر لمروة في بغداد، وقد كتبه رداً على دعوة نوري السعيد للناس الى التَعقل. حاول مروة في هذا المقال تفسير ماذا يعني نوري السعيد بالعقل وماذا يعني بالعاطفة.

جاء نوري السعيد الى الحكم بعد أسبوع من نشر المقال، ولم يمر أسبوع آخر حتى أُخرج مروة من العراق وصودرت كل أوراقه الثبوتية.

"أنا عراقي .. وإن"

مقال تركه مروة عند رئيس تحرير جريدة "صوت الأحرار" البغدادية، ونُشر المقال بعد مغادرة مروة، ومما جاء فيه:

(وأنا ـ بعد ـ عراقي لأن حياة الشعب العراقي قد إنصهرت في حياتي، ولأن حياتي قد إنصهرت في حياة هذا الشعب، أكاد لا أعرف ألماً غير آلامه، ولا مطمحاً غير مطامحه، ولا عذاباً غير ما يلقاه من ألوان العذاب، وحتى أكاد لا أعرف لنفسي حاضراً غير حاضره، ولا مستقبلاً غير مستقبله. سواء عَلَيَ أكنت فوق أرضه المباركة وتحت سمائه المتجددة، أم كنت طريداً وراء الحدود.

وأنا منذ اللحظة التي ينفلت فيها من عينَيَ آخر مشهد من مشاهد العراق على "الحدود" أشعر أنني أول "عراقي" ينفلت من "عراقية" مقيدة مغلولة، الى "عراقية" طليقة من القيود والأغلال).

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

...........................

يُراجَع:

سيرة حسين مروة كما أرادها أن تُكتَب ـ وُلدتُ رجلاً وأموت طفلاً، إعداد: أحمد حسين مروة، دار الفارابي بيروت ط1 2018، يُنظَر الصفحات:

242، 255، 256، 271، 272، 276، 277، 278، 279، 280

كلّما وجدتني هارباً من مصير البنفسجة الطموح في"العواصف"، أراني أدلف الى حديث التواضع لدى نبي أورفليس، وعندما أتساءل عمّا دهى "خليل الكافر" في الأرواح المتمرّدة، أتساءل مع المطرة عن المحبة.

وعندما تفيض مشاعري أسىً وأنا أقرأ عن مرتا البانية في "عرائس المروج"، تراني ألوذ إلى نبيّ جبران، أغمر مداركي بطيف ما أتى به هذا العبقري من ملامح خالدة تلامس الوجد وتغافل أردان المجتمع الى كلّ ما هو علويّ.

بعد مئة سنة على كتاب النبي، جئتُ أقارب الحياةِ والموت، الطعامِ والشراب، الحبِّ والزواج، جئت أستمع الى «المصطفى» الذي ظلَّ بعيدًا عن وطنه اثني عشر عامًا، وعاش بين سكان جزيرة «أورفليس» كواحدٍ منهم، منتظرًا عودته إلى مسقط رأسه .

جئت الى الكتاب الذي تُرجم إلى أكثر لغات العالم، وجعل من جبران ثالث أكثر الشعراء مبيعاً عبر التاريخ، بعد شكسبير والشاعر الصيني لاو تزه.3847 JOUBPDF

جئت اصافح المصطفى، استعيد اقانيمه الثلاثة قبلةً لأسفاري، معه اقدّس الحب، معه اؤمن بالمساواة، ومعه اطبع الوفاء لوطني وشماً على جبيني. جئت أعيش اللحظة الجبرانية التي ما خانتني ولا خنتها يوماً. جئت أسيرُ في مواكبه انسج اثواباً بيضاء لعرائس مروجه انشد الصفاء خلف ارواحه المتمرّدة جئت أعبر مع عواصفه، انحني مع اقاح الجبال معانقاً بنفسج الوهاد، جئت اسكن في ليله ارصد النجوم لأنعم بنور الصباحات، وجئت أطير بأجنحته المتكسّرة التي كسرت الصمت وحطّمت اغلال التقاليد. انا الكافر الجبراني الذي اينعت حبّة الخردل في سطوره إيماناً في نفوس المُتعبين. انا المجنون الجبراني الذي ألهم العقلاء وعصر عناقيد الحكمة في كؤوسهم وسقاهم رحيق الرحمة والتسامح. انا العاشق الجبراني الذي أفرد للوطن قلباً لا تؤرّقه مفاتن النساء ولا ينال منه غبار المسافات. انا جبران النيويوركي ابكي جياع بلادي انا جبران الانسان انسج من دمعتي ابتسامة للفقراء احمل وجع الناس أغني لعصافير الشرق. انا جبران الذي قال : لو كنت جائعاً بين اهلي الجائعين مضطهداً بين قومي المضطهدين لكانت الايام أخفّ وطأة على صدري انا لست من يقيم المؤسسات والجمعيات لأخاصم اهلي باسم المراكز والمناصب. انا جبران الرغيف على موائد بلاده والسنبلة في ترابها والثمرة في بساتينها والطير في سمائها. ولست من يسحب اللقمة من افواه الجائعين ويعقر بطونهم برماح الجشع. انا جبران لبنان والشرق وكل الطوائف جبران الذي لم يجعل للقلم هوية دينية وللحرف حدوداً ولست جبران العصبية والمناطقية والانانية والاستئثار. انا دولتي الامداء والآفاق والادمغة وليست برجاً او قصراً او مربعاً. انا جبران الوفي اردّد تحت كل سماء: «إن لم يكن لبنان وطني لاخترته وطناً لي» ولست الذي يجعل لبنانه لبنانين يفتش عن وطن سواه. محبة الوطن عندي عاطفة وضعية وفضيلة علوية وليست ادعاءً وتودّداً للرذيلة أراني لا أمتهن العداء باسم المحبة والنيرونية باسم الفضيلة. اردّد مع جبران : «ويلٌ لأمّة مقسّمة الى اجزاء وكل جزء يحسب نفسه فيها أمّة». ولا انتمي الى قوم هذا الزمن الذين يقسمون ويمزّقون ويفرّقون باسم الحفاظ على الأمة انا جبران المؤمن بالاخوة الشاملة والعدالة والحرية والمساواة والتضامن الاجتماعي وطمأنينة اللبنانيين ورفاهيتهم. انا لست لا اتنكّر للحق وامارس الظلم والطمع والكبرياء انا جبران الذي قال ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين. ولست الذي يتمذهب ويتمترس خلف الطائفة والدين وينصب كمائن الحقد لأبناء وطنه. انا جبران القائل ويلٌ لأمة تحسب المستعبد بطلاً وترى الفاتح المذلّ زعيماً وويل لأمّة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودّعه بالصفير لتستقبل آخر بالتصفيق والتذمير. ولست اكتب لأمة اصبحت شوارعها ساحاتٍ للتطريب السياسي وجدرانها ملصقات فتنة وابناؤها رهائن العقائد وآلهتهم ابواق المنابر ومنتهى طموحهم جوازات السفر. انا جبران البوسطني الذي قال: انا ههنا بعيد عن النكبة والمنكوبين، ولا استطيع ان افتخر بشيء حتى ولا بدموعي. انا لست من يحوّل النكبة الى تجارة مربحة ويفخر بالصفقات على حساب سعادة الناس . فمن ضميره وجع الناس يبقى خالداً ومن حليبه نجيع الثلوج يبقى ناصعاً ومَن ضلوعه غصون الارز  يزداد صلابة ومَن جبهته شموخ المكمل ومرآته وجه الله يبقى مؤمناً ومن أمّه بشري وحضنه قاديشا يبقى لبنانياً خالصاً. معه اقرأ في البدائع والطرائف قائلاً للسياسيين : «لكم لبنانكم ولي لبناني، لبنانكم موّظفون ومديرون ولبناني تأهّب الشباب وحكمة الشيوخ. فهل من ابناء لبنانكم من يمثل الفرح في صخور لبنان ام النبل في ارتفاع جباله ام العذوبة في مائه. فهل بينكم من يتجرأ على القول: اذا متّ تركت وطني افضل قليلاً مما وجدته عندما ولدت؟ هل بينكم من يتجرأ ان يقول: لقد كانت حياتي قطرة من الدم في عروق لبنان ودمعة بين احضانه او ابتسامة على ثغره؟

 أنا بريء من قوم يحسبون القحة شجاعة واللين جبانة؛ وأنا بريء ممن يتوهم الثرثرة معرفة والصمت جهالة والتصنع فنًّا

أنا مع جبران الذي يرى أن العواصف القوية تقتلع الشجر الضعيف إلا أنها غالباً ما تدفع الشجر القوي لبناء جذور أعمق."

فمن يطبّق اليوم كلام جبران واين الساسة الذين يعطون اكثر مما يأخذون، اين التجرّد والشهامة والاخلاص في زمن الانتشاء بخمرة السلطة والمركز واذلال الآخر؟ فجبران لم يسيّس الأدب، بل ادّب السياسة، حرّرها، نقّاها ورقّاها جاعلاً اياها في خدمة الشعب ومصالحه. ألمح جبران عاشقاً في بوسطن، اقرأه اديباً في نيويورك واسامره رساماً في باريس وارافقه ناهلاً للحرف في بيروت ليغافلني نبياً في اورفليس، وبين هذه وتلك يلملم الضوء سطوراً ويعلّقه ثريات في وطنٍ قمح البيادر فيه حنطة تزيّن ثغور أطفاله وليست اكياس رملٍ للفصل بين ابنائه. معه اعلق النواقيس على شرفات الكون لتبقى القرنة السوداء منارةً للعالم. معه اراقص قناديل المصطفى فوق كل موجة، ارفع الشراع مع اغنية كل صياد واغرق في مكتبات العالم سائلاً عن المطرة والمحبة والاولاد، امتطي حصاناً ابيض في حديقة النبي، اطبع جبيني بوداعة الفلاحين وانحناءة السنابل. معه أثور ليكون الوطنُ وطناً وليس مزرعة، معه اتمرّد وارسم بريشة الوفاء، اخطّ درباً الى مرقد العنزة، معه اخبز ارغفة الناس سماحاً وليس حقداً، معه يفيض لبنان خميراً ورسالة، معه جئت اليوم سفيراً لبلادي ليس كالسفراء طيراً ليس كالطيور عابراً للآفاق بدون جواز سفر، هاتفاً للقلوب بمفاتيح الرحماء وليس الظالمين، ألوّح للبيوت بمعاصم الاحرار وليس بأغلال العبيد اشقّ امواج العودة بمجذاف قدموسي وليس بعصا من حوّلوا امّ الشرائع شريعة غاب، معه جئت انتصر لأهل الحرف وليس للطلاسم. انا جبران الأبعد من الامداء والاسمى من الحلم ولست الأديب الذي حاولوا تعليبه على قياس عقائدهم. جئت اليوم افتح معكم صفحات هذا العبقري الوطنية استلهم منها وجهاً واحداً ولساناً واحداً وولاءً واحداً لأن من له وجهان يموت بلا وجه، ومَن له لسانان يموت بلا صديق، ومَن له ولاءان يعيش بلا وطن.

جئتُ أقول مع المصطفى:

"المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار الحنطة، وتدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم

وتغربلكم لكي تحرركم من قشوركم، وتطحنكم لكي تجعلكم أنقياء كالثلج

وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا، ثم تعدكم لنارها المقدسة

لكي تصيروا خبزاً مقدساً يقرّب على مائدة الرب المقدّسة

المحبة لا تعطي إلا نفسها، ولا تأخذ إلا من نفسها

المحبة لا تملك شيئاً، ولا تريد أن يملكها أحد، لأن المحبة مكتفية بالمحبة.

أكتفي بقول المصطفى عن المحبة لأننا نفتقدها أكثر ونخسرها أكثر ونجانبها أكثر، وما أحوجنا بعد مئة سنة الى العودة الى نبيّ أورفليس؟!

***

أنطوان القزي – رئيس تحرير صحيفة التلغراف في سيدني - استراليا

الصوت الاول

استلمت كتاب محمد عارف الموسوم – أسفار في العلوم والتكنولوجيا، الصادر عن دار المدى الرائدة في بغداد قبل أشهر من العام الحالي (2023)، وتذكرت رأسا غائب طعمه فرمان، الذي قال لي قبل اكثر من خمسين سنة مضت، وبعد ان تحدّث عن مكانة واهمية عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي في مسيرة القصة العراقية، ان محمد كامل عارف لو استمر بنشر قصصه القصيرة لاصبح واحدا من أعلام السرد الادبي في العراق، ولكن الصحافة سرقته من الادب، لكن محمد يكتب في مقدمة كتابه (أسفار في العلوم والتكنولوجيا) قائلا – (...وعندما سألني العالم اللبناني الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء الياس جيمس خوري عن تخصصي العلمي وشهادتي قلت له انا كاتب قصصي احكي قصة العلوم فحسب ....) . تذكرت غائب طعمه فرمان، واردت ان اقول له، ان النبوءة قد تحققت فعلا يا ابا سمير، ولكن غائب قد رحل قبل اكثر من ثلاثين سنة، ولهذا، قررت ان (استخدم !!!) عنوان واسلوب روايته الرائعة - (خمسة أصوات) لمقالتي هذه عن اسفارمحمد عارف في العلوم والتكنولوجيا، احتراما واجلالا لغائب طعمه فرمان ولتلك النبوءة التي قالها لي آنذاك حول الموقع المحتمل لمحمد كامل عارف في خريطة الابداع الادبي العراقي (ومن غير غائب كان يمكن له ان يتنبأ بتلك النبوءة الدقيقة!!!) ....

الصوت الثاني

محمد كامل عارف عمل ثلاثين سنة باكملها لكتابة اسفاره هذه، من عام 1991 الى عام 2021، ولهذا لا يمكن لاي قارئ ان (يلتهم!!!) هذا الكتاب بسرعة ابدا (كما يحدث مع الكتب التي نحبها وننتظر حصولنا عليها بفارغ الصير)، اذ ان هذا الكتاب يحتوي على أكثر من ثمانين (قصة!!!) حول العلوم والتكنولوجيا بالتمام والكمال، أكثر من ثمانين قصة صاغها محمد كامل عارف بهدوء وعناية فائقة مثل اي صائغ من صاغة الذهب باسلوبه (السهل الممتنع) الساحر الجذاب والملئ بالمرح والعمق والجمال والصور الفنية المدهشة، وباسلوبه هذا يدخل الى قلب القارئ وعقله رأسا، وهي الصفة التي امتاز بها محمد طوال مسيرته الفكرية سواء في ابداعه القصصي، او، في عمله الصحفي، منذ قصصه الاولى في خمسينيات بغداد الى اصداره صفحة (آفاق) الرائدة  بجريدة الجمهورية في بغداد السبعينيات مع رفيق دربه المبدع سهيل سامي نادر، الصفحة التي كان ينتظرها يوميا مئات القراء . 

  الصوت الثالث

لقد مزج محمد كامل عارف موهبته القصصية مع موهبته الصحفية، واستطاع ان يمنحنا قصة قصيرة رشيقة وجديدة ومبتكرة بكل معنى الكلمة  باسفاره  في العلوم والتكنولوجيا ، قصة قصيرة ابطالها الكومبيوتر والانسان الآلي والتلفون المحمول، ولا علاقة لهم بتاتا بقيس الذي كان (يقبّل ذا الجدار وذا الجدارا) في تلك الاطلال، حيث كانت تسكن ليلى قبل الاف السنين . قصص محمد عارف تعتمد على الوقائع والوثائق، اي انها (واقعية !) و (وثائقية !) حسب مفاهيم النقد الادبي . لنقرأ ملاحظة وزير الاتصالات وتقنية المعلومات سابقا في السعودية عنه – (...معظم الصحفيين يكتبون مقالاتهم بالصيغة التقليدية وهي سؤال معد سلفا وجواب، الا ان اسلوب محمد عارف كان مختلفا عن الاسلوب التقليدي ...فاتفقنا على ان يقضي يومين او أكثر يلتقي مع الباحثين مباشرة في مكاتبهم ومعاملهم ويستمع الى قصصهم ويشاركهم أحاديثهم على الغداء وفترات القهوة والشاي، وبعد ذلك كتب انطباعاته وتحليله ....وخرج من تلك اللقاءات بمادة لمقالين او أكثر.... وقد اعطت تلك المقالات صورة صادقة ومتوازنة عن وضع العلوم والتقنية .....)، اي ان محمد (يرسم صورا !!!) في مقالاته، او بتعبير أدق، يكتب قصصا في تلك المقالات عن دور العلوم والتكنولوجيا في حياتنا . 

الصوت الرابع

عناوين القصص مثيرة جدا، وهي تدعو القارئ للاطلاع عليها حتما – تأملوا معي هذه النماذج – بابل ..سينهض العراقيون // عام ابن الهيثم // ابن خلدون في قلب العالم وعقله // اسراء العلوم والتكنولوجيا الى فلسطين // كل عام والانترنيت بخير //  اليابانيون صنعوا بشرا آليين يعلكون  ويرقصون // .......الخ ...الخ . وعندما تقرأ تلك القصص، تندهش، اذ انه يتحدث هناك عن (حقائق) لا يلاحظها القارئ الاعتيادي، وهكذا نكتشف في تلك القصص ماذا قال محمد عارف لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير عن غزو العراق، وكيف اعلنت الامم المتحدة عام 2015 السنة الدولية للضياء بمناسبة مرور الف عام على تاليف ابن الهيثم (كتاب المناظر)، وكيف اخترع ابن خلدون علوم الاجتماع واكتشف وجود ايقاع لصعود وانحدار السلالات الحاكمة، ونعرف لماذا تسمى بغداد ب (الوردة في تاريخ الحضارة الانسانية)......

الصوت الخامس

قال لي صاحبي – لو توجد في العراق جائزة نوبل للقصة القصيرة، فانه يرشّح كتاب محمد عارف (اسفار في العلوم والتكنولوجيا) لها، قلت له ضاحكا، العراقيون يبالغون دائما، ولكني ارشحه لجائزة البطولة والصمود، لانه كتب في مقدمة كتابه هذا ما يأتي –

ماذا كان الرحالة السندباد البحري سيعمل عندما يجابه جدارا لا يمكن عبوره ؟ لعله كان يغني، وهل غير الغناء معبرا من جدار العمى و الشلل اللذين اصاباني؟.

***

أ.د. ضياء نافع

مرآة الذاكرة لا تحتفظ بالملامح الدقيقة للوجوه الغائبة، انها قد تمنح فقط الزوايا الأكثر وضوحاً، استرجاع الاشياء والاحداث تفتقد الى الدقّة بعض الشيء، إلا أن اللقاء بذلك الاستاذ الوسيم الذي دخل قاعة الدرس، ثم اعتلى المنصة بشيء من البساطة والعفوية، لا أنساه مطلقاً.

كانت البداية أوائل تشرين من عام 1964، منذ خطواتنا الأولى في الدراسة الجامعية، نحن طلبة المرحلة الاولى في كلية التربية بإرثها العلمي والادبي، امتداداً لأهم صرح اكاديمي، تأسس في العهد الملكي، هو دار المعلمين العالية، ها نحن أمام الدكتور هادي الحمداني، يشد انتباهنا، نصغي اليه بشوق في محاضرة عن الادب العربي، كانت فرصة له في التعرف على اهتمامات الطلبة، بأسئلة هادئة، وديعة، غمرنا شعور من المحبة والألفة لم نعتدها في حياتنا الدراسية السابقة، لقد هجسنا منذ تلك اللحظة أن طاقة غير اعتيادية تتفجر بين جوانحه، وان مظهره الخارجي الذي يوحي باهتمام بالغ، يخفي ثراءً واضحاً بموهبة متميزة.

بمرور الأيام نمت العلاقة  واتسعت، لتتحول فيما بعد الى صداقات مع أولئك الطلبة الذين أظهروا ميلاً نحو الشعر والأدب عامة، كنت حينذاك من هؤلاء الذين حظوا برعايته وتوجيهه، تعلمنا من تواضعه وعلميته، كان داخله عدتّه وكلماته، أسمعني من كلمات الاعجاب وهو يستمع مع زملائي في الصف أثناء قراءتي لقطعة نثرية تميزت ببساطة لغتها وموضوعها، أذهلني شوقه وتعلقه بمدينة طفولته وصباه، وشبابه (الشطرة)، حين كنت أصف رحلتي لها عبر نهر الغراف.

قادتني هذه الذكرى لأستعيد مجداً علمياً وأكاديمياً شيده كبار مثقفي ومفكري وعلماء العراق، طواه الزمن، وعلاه الغبار، لأننا لانقيم اعتباراً لأساتذتنا ورموزنا،

للحمداني اهتمامات عديدة الجوانب، فهو المعلم والاستاذ والشاعر والخطاط والرسام، تنوعت مساهماته الثقافية، واتسعت دائرة معارفه، فأصبح اسمه من بين الاعلام العراقيين في ميدان اللغة والأدب والشعر، على الرغم من قلة انتاجه المنشور، إذ أعطى الدرس اهتمامه الأول، فكان نموذجاً متوهجاً ينير عقول طلبته بالمعرفة، ويثير زملاءه للاقتداء الجميل، والحذو المثابر، في التمكن من أدواته، بلغة شفافة جميلة، وصوت عذب.

ومثلما عرفه زملاؤه وطلابه عالماً جليلاً في تخصصه الأكاديمي، فقد عرفه الكثيرون شاعراً وخطاطاً، مازلت أحتفظ حتى هذه اللحظة بديوانه الشعري (ديوان الحمداني)، الذي ذيله لي بتوقيعه - وانا طالب انهل من علمه وادبه - بخطه الجميل الذي اعتز به غاية الاعتزاز. كما أعتز بأول طبعة لكراسة قواعد الخط العربي للخطاط هاشم محمد البغدادي، أهداني إياها، وهي موقعة من قبله.

بدأ الراحل الحمداني مسيرته معلماً في مدارس الشطرة، انتقل بعدها ليكمل دراسته الجامعية الأولى في دار المعلمين العالية في خمسينات القرن الماضي، ومن ثم الانتقال الى مانجستر البريطانية، ليكمل في معاهدها، دراسته العليا، ولشدة تأثره بالشاعر أبي فراس الحمداني، كانت رسالته للدكتوراه في شعر ابي فراس، ومن الطريف ان ديوان هادي الاول كان بعنوان (ديوان الحمداني)، وسمّى ابنه البكر (فراس)، فعرف هادي الحمداني أيضاً باسم ابي فراس الحمداني.

في قراءة سريعة لقصائده، نلمس بوضوح شدة حماسه للشعر العربي العمودي، ودفاعه عنه، غير ميّال للقصيدة الحديثة، واتجاهات التجديد فيها، على الرغم من انه عاصر جيلاً بدأ يكتب الشعر، متأثراً بهذه الاتجاهات. وتأخذ الأخوانيات مساحة واسعة من أغراض الشعر التي كتب فيها، إذ نكتشف عمق الصداقات النبيلة التي عاشها الحمداني، وتفجرت في قلبه بأصدق المشاعر، واسمى العواطف، وهي مقياس صادق لمبلغ الوفاء لأصدقائه.

كانت الاخوانيات بالنسبة له مرتكزا اساساً في حياته وشعره، لما ينطوي عليه من دلالات فكرية وأخلاقية، فضلاً عن أبعاده النفسية والحسية، فهو يدافع من خلال هذا المرتكز عن نفسه شاعراً، وعن محفزات الأخوّة في تفجير قدراته الشعرية.

أستاذي الحمداني...

لا أريد أن أرثيك، لكن هل يتسنى لي أن أردّ بعض الدين..؟؟ كنت مثل جميع الذين سبحوا في بحر المعرفة، لا يملكون سوى مجاذيف الحكمة والأمل، مضيت بعيداً في ارهاق قلبك، كنت جمالياً ذواقاً، تستثيرك الصورة الرائعة، وجمال الوجوه والعينين، وعذوبة الشعر.

أسفاً يوسدك الثرى!

***

جمال العتّابي

بقلم : تاتانج موليانا سيناجا

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لم يتوقع الكاتب والكاتب المسرحي النرويجي جون فوس (64 عاما) ذلك عندما أعلن فوزه بجائزة نوبل في الأدب لعام 2023. واحتفل بسعادة حصوله على هذه الجائزة المرموقة من خلال تناول العشاء مع عائلته.

شعر جون فوس ببعض الخدر عندما علم بفوزه بجائزة نوبل للآداب 2023. ولم يتوقع أن ينال الجائزة عن أعماله المبتكرة التي تعبر عما لا يمكن وصفه.

وكان فوس يقود سيارته في منطقة ريفية على الساحل الغربي للنرويج عندما اتصل به أمين الأكاديمية السويدية ماتس مالم لإبلاغه بفوزه بجائزة نوبل في الأدب يوم الخميس (2023/10/5). كانت المحادثة قصيرة حيث كان على فوس أن يركز على القيادة في طريقه إلى المنزل.

وفي مقابلة بثتها وكالة أسوشيتد برس، الجمعة، اعترف الكاتب المولود في هاوجيسوند بالنرويج في 29 سبتمبر/أيلول 1959، بأنه سعيد للغاية بالجائزة ويعتبرها شرفا كبيرا. ليس لديه طموحات كبيرة للحصول عليها.

قال: "أريد أن أكتب وأكسب رزقي بطريقة أو بأخرى. ويسعدني قبول كل الأشياء الجيدة التي تأتي في طريقي، لكن ليس لدي آمال كبيرة. أنا فقط لا أريد أن أستسلم ".

أصبح فوس رابع كاتب نرويجي يحصل على جائزة نوبل في الأدب. الكتاب الثلاثة السابقون هم Bjørnstjerne Bjørnson/ بيورنشتيرن بيورنسون  في عام 1903، وكنوت هامسون في عام 1920، وسيغريد أوندست في عام 1928. ونتيجة لهذه الجائزة، يحق لفوس الحصول على جائزة قدرها 11 مليون كرونة سويدية أو حوالي 15.6 مليار روبية.

تشمل أعماله العظيمة المكتوبة بلغة النينورسك النرويجية أنواعًا مختلفة، تتكون من الأعمال الدرامية والروايات والمجموعات الشعرية والمقالات وكتب الأطفال والترجمات. وترجمت أعماله إلى أكثر من خمسين لغة. وفي الوقت نفسه، تم عرض أعماله الدرامية أكثر من ألف مرة في جميع أنحاء العالم.

يعرض فوس في عمله مواقف يومية يمكن التعرف عليها مباشرة في الحياة الواقعية. يكتب بأسلوب مميز أصبح يعرف فيما بعد باسم  Fosse minimalism تتناول كتاباته أشياء قد يكون من الصعب التعبير عنها، مثل الأعمال الدرامية المفجعة للحياة.

أثارت روايته الأولى بعنوان راودت، سفارت (أحمر، أسود) عام 1983 موضوع الانتحار. تحدد هذه الكتابة المتمردة والعاطفية الاتجاه للأعمال اللاحقة في تقديم صورة مظلمة للحياة.

في روايته الثانية "Stengd Gitar" (1985)، يقدم فوس تنوعًا مخيفًا في أحد موضوعاته الرئيسية، أي اللحظة الحرجة من عدم اليقين. يُقال إن أماً شابة غادرت شقتها لرمي القمامة في البالوعة. أغلقت الأم الباب على نفسها، لكن طفلها كان لا يزال في الداخل. لم تذهب لطلب المساعدة لأنها لم تستطع ترك طفلها. يتم استكشاف هذه الرواية مع العرض المتعمق. وفي الوقت نفسه، هناك شعور قوي بالخوف والتناقض.

أسلوب حياة

بالنسبة لفوس، الكتابة هي أسلوب حياة. بدأ الكتابة في سن الثانية عشرة وجعلها ضرورة في حياته. وقال "إذا لم يكن لدي ما أكتبه، فلا أعرف ماذا أفعل. طالما أنني أستطيع الكتابة بشكل جيد، فهذا يكفي للنشر". ذكر فوس أن الكتابة هي عملية سلسة. إذا كان لديك الرغبة في الكتابة، يرجى الاستمرار. ومع ذلك، إذا لم يكن الأمر كذلك، فليكن دون إجبار.

أصبح فوس رابع كاتب نرويجي يحصل على جائزة نوبل في الأدب. الكتاب الثلاثة السابقون هم Bjørnstjerne Bjørnson في عام 1903، وكنوت هامسون في عام 1920، وسيغريد أوندست في عام 1928. ونتيجة لهذه الجائزة، يحق لفوس الحصول على جائزة قدرها 11 مليون كرونة سويدية أو حوالي 15.6 مليار روبية.

وقال "لا يمكنك الكتابة لأنك تعتقد أنك ستحصل على جائزة نوبل. بالتأكيد لن تحصل عليها. يجب أن تكتب لأنك تريد ذلك".

صرح رئيس لجنة جائزة نوبل، أندرس أولسون، أن عمل فوس يركز على انعدام الأمن البشري والقلق. تجمع كتاباته بين جذور اللغة والخلفية النرويجية والتقنيات الفنية الحديثة.

إن عنصر القرب في الكتابة يرسخه في عواطف القارئ. وهذا يجعل القارئ يشعر كما لو كان في البيئة الموصوفة في الكتابة.

قال أولسون: "الشيء المميز هو أنه يمس أعمق مشاعرك". تجمع بعض كتابات فوس بين الروابط المحلية اللغوية والجغرافية القوية مع النرويج.

وفقًا لأولسون، يعتبر فوس كاتبًا استثنائيًا في نواحٍ عديدة. كتاباته مؤثرة جدًا، مما يجعل من يبدأ بقراءة أعماله مهتمًا بقراءة أعماله الأخرى.

أربعة عقود:

نشأ فوس في منطقة زراعية صغيرة في ستراندبارم بالنرويج. درس الأدب في جامعة بيرغن. بالإضافة إلى كونه كاتبًا، عمل أيضًا كمترجم، بما في ذلك ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة النرويجية.

قبل نشر روايته الأولى Raudt, Svart,، كتب القصة القصيرة "هان" التي صدرت عام 1981. وكانت هذه القصة القصيرة بداية مسيرته الأدبية لأكثر من أربعة عقود.

تتميز كتابة فوس بعدد من الخصائص المميزة، مثل استخدام التكرار والمونولوج الداخلي والأسلوب الموسيقي المثير. في الثمانينيات، كان ينشر بانتظام النثر والشعر وكتب الأطفال.

وبعد أن أثبت نفسه كروائي وشاعر وكاتب مقالات، انطلق إلى عالم الكتابة المسرحية. كانت كتابته الدرامية الأولى في عام 1992 بعنوان Nokon Kjem Til å Komme (شخص ما سيأتي). وأعرب عن أن أقوى المشاعر الإنسانية هي القلق والعجز في أبسط العبارات اليومية.

مع ذلك، فإن أول دراما تم عرضها كانت Og Aldri Skal vi Skiljast (ولن نفترق أبدًا). عُرضت هذه المسرحية على المسرح الوطني في بيرغن عام 1994.

كان فوس كاتبًا مسرحيًا غزير الإنتاج. جاء ظهوره الدولي لأول مرة في عام 1999 عندما قام المخرج الفرنسي كلود ريجي بعرض Nokon Kjem Til å Komme. وفي العام التالي، جاء دور مسرح شوبوهن الشهير في برلين بألمانيا لتقديم مسرحية نامنيت في مهرجان سالزبورغ. ساعد هذان الإنتاجان في تمهيد الطريق لوصول أعمال فوس إلى المسرح العالمي.

على الرغم من أنه معروف عالميًا في المقام الأول ككاتب مسرحي، إلا أن فوس لديه أيضًا أعمال أدبية أخرى مثيرة للإعجاب. على سبيل المثال، تحكي روايتاه بعنوان "ميلانخولي 1" و"ميلانخولي 2" قصة حياة الرسام النرويجي لارس هيرترفيج، الذي يعذبه الحب بلا مقابل.

على الرغم من أنه لم يكن يتوقع الحصول على جائزة نوبل في الأدب، إلا أن فوس كان سعيدًا بهذا الإنجاز وأراد الاحتفال به بطريقة بسيطة. وقال: "أريد أن أحتفل بتناول عشاء لطيف مع عائلتي"

جون فوس:  ولد فى  هاوجيسوند، النرويج، 29 سبتمبر 1959

التعليم: جامعة بيرغن. الجوائز ومنها: جائزة نوبل للآداب 2023

وقائع تاريخ فكري ونضالي غير معلن

هل مازالت الكتابة عن القائد محمد هادي السبيتي (1930- الخالد) ممكنة؟ وما معنى أن نكتب عنه الآن، وقد رحل عن عالمنا منذ عقود من الزمان؟

عندما أقول معنى الكتابة، فإنني أشير بالتأكيد إلى أثر، وأهمية، والدور الذي لعبه ذلك الإنسان، والقائد، والمفكر الذي ملء الدنيا وشغل الناس بشخصه، وأخلاقه، وأفق تفكيره، وتمرده، وفي كيفية استشهاده.

تدعى هذه المقالة التي أكتبها راهناً تقديم سيرة محمد هادي السبيتي بشكل جديد ومختلف ومن خلال معطيات جديدة، تسعى إلى فك رموز بعض الإشكاليات التي تتعلق بالطبيعة النضالية في إطار نشاطه كقائد لحزب الدعوة الإسلامية في فترة الستينات، والسبعينات، والسنة الأولى من الثمانيات من القرن المنصرم، ولاشك أن واحدة من تلك الإشكاليات تكمن في إبراز شخصيته الحقيقية كمناضل سياسي ذي وجه إنساني نشطت دينامياتها في عمله كقائد لحزب تجلى نشاطه في لحظات مصيرية من تاريخ العراق المعاصر هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى أجد أن ما أكتبه عن السبيتي ستكون دعوة من أجل أن تتعرف الأجيال الجديدة إلى الأشخاص الذين يحضون بتاريخ مشرف وأصيل، فالتعرف على هؤلاء الأشخاص؛ ولاسيما السبيتي سيخلق نوعاً من التواصل، وصناعة المثل الوطنية العليا التي يحتاجها شبابنا في عراقنا الراهن، وأرى أنها من المسائل المهمة؛ وذلك لأن الجيل الحالي من الشباب ليس لديه معرفة بأسماء السياسيين الذي صنعوا التاريخ وأحدثوا فارقاّ في المجال التاريخي الذي نشطت دينامياتهم النضالية فيه؛ إذ إن سرد سير هؤلاء القادة سيضع تلك الأجيال على إطلاع بتجارب سياسية عراقية أصيلة ومخلصة قادرة على صناعة روح التحدي إنطلاقاً من تلك السير التي تكتب عنهم بموضوعية، فضلاً عن إعادة هيكلة الكيفية التي ينبغي بها مواجهة التحديات المصيرية؛ ولاسيما السياسية والفكرية منها.

ومما لاشك فيه أن هذه المقالة ستفجر العديد من الأسئلة في الأوساط السياسية والاجتماعية بشأن طبيعة النضال السياسي والفكري له؛ وذلك لما تنطوي على معلومات تنشر لأول مرة بشأن سيرته الفكرية، والنضالية، التي تختلف كثيراً، وبشكل جذري عمّا كتب عنه من قبل مؤيده، أومعارضيه.

بداية العلاقة

لقد عاصر والدي حسين الجاف (1918- 1998) شخص محمد هادي السبيتي منذ عام 1969 وتعرف عليه عن كثب عندما كان يدير خلية استخباراتية أستئنفها القائد الكوردي ملا مصطفى بارزاني، وقبلها كانت من مسؤولية الشيخ لطيف محمود الحفيد، وقد أشرف على بعض حلقاتها السياسية الشخصية الوطنية العراقية الكوردية اللواء فؤاد عارف؛ إذ كانت أحدى مهام هذه الخلية التواصل السري مع المرجع الديني للشيعة سيد محسن الحكيم عبر أنجاله سيد يوسف، والسيد مهدي، والسيد علاء، والشيخ عارف البصري، وعبد الصاحب دخيل (أبو عصام)، من أجل التنسيق بين المرجعية الدينية للشيعة، والثورة الكوردية التي كان يقودها ملا مصطفى بارزاني آنذاك.

وبعد الأحداث التي اتهم بها السيد مهدي الحكيم بالعمل على الإطاحة بنظام الحكم في بغداد عام 1969، ومن أجل حمايته من الإعتقال عندما كان يقيم في مدينة الكاظمية في حينها، فقد تم اختيار بيتنا في شارع فلسطين (منطقة الطرق والجسور) لتكون ملاذا آمناً له؛ وذلك بعد الاقتراحات التي قدمها عبد الصاحب دخيل  بأن يكون بيته في الحرية، أو بيت محمد هادي السبيتي ملاذا آمناً للسيد مهدي الحكيم، لكن شقيقه سيد علاء الحكيم وجد بعد (الاستخارة) أن بيتنا هو الملاذ الأكثر اطمئناناً وأمناً على حياة شقيقه سيد مهدي.

وبعد هذه المناسبة التاريخية الخطيرة في نوعها يتعرف والدي على المهندس محمد هادي السبيتي، وقد كان من الصدف الطيبة أن يكون من سكنة شارع فلسطين (حي 14 تموز) وهي منطقة قريبة جداً من محل سكننا، وقد اخبر أبو عصام والدي أن المهندس أبو حسن السبيتي هو من الثقاة (وهي لفظة يتداولها مراجع الدين الشيعة ويطلقونها على الأشخاص المخلصين، وعلى قدر المسؤولية)، ويمكن التعامل معه بحرية ومن دون قلق، أو خوف وبالفعل يتعرف والدي عليه، وقد جمعتهما صداقة سرية جداً بسبب نشاطهما السري والخطير جداً، وقد طلب والدي منه أن لا يعرّفه على عائلته؛ لأن العمل الذي يقوم به خطير وحساس جداً، وقد تعلم من ملا مصطفى بارزاني القاعدة الاستخباراتية الذهبية التي تقول: إن أي نشاط استخباري تقوم به يجب أن لا تعلم به يدك اليسرى ما تقوم به يدك اليمنى.

لذلك فقد كان التواصل مع الداعية الاسلامي المهندس أبو حسن السبيتي بالقرب من منطقة قناة الجيش التي تقع شرق شارع فلسطين والقريبة من محلات سكن بيتنا وبيت السبيتي، ومن الجدير بالذكر أن والدي لم يتعرف عليه بوصفه أحد مؤسسي حزب الدعوة الاسلامية، بل تعرف عليه بوصفه داعية اسلامية قريب من المرجعية الدينية، وهذا دليل على قوة السرية والكتمان الذي كان يمتاز به ذلك أشخاص ذلك الحزب، ولم يعلم بحقيقة، إلا في نهاية سبعينات القرن المنصرم، فكل ما يعلم عنه أنه داعية اسلامية ومهندس يشتغل في وزارة الصناعة، ويعمل ضمن مشروع معمل لإنتاج الطاقة الكهربائية في سامراء.

السبيتي ورفاقه في كوردستان

في ربيع عام 1971 اقترح أبو عصام على والدي زيارة كوردستان ولقاء القادة الكورد، وقد رحب والدي بالفكرة، وأرسل المقترح إلى كاك صالح اليوسفي وحصلت موافقة كاك إدريس بارزاني الذي كان مسؤول المكتب العسكري في حينها، وبالفعل تحققت الفكرة بزيارة كوردستان وقد ضمت مجموعة دعاة الإسلام كل من: أبو حسن (محمد هادي السبيتي)، أبو عصام (صاحب دخيل)،  والشاب أبو زينب ( مهدي عبد المهدي)، وقد تخلف عن ركب الزيارة الشيخ عارف البصري بسبب انشغاله في إدارة اعماله في الكرادة.

يخبرني والدي أن جدول الزيارة تضمن ضيافة ولقاء في مقر كاك وهاب آغا جندياني عضو مجلس قيادة الثورة الكوردية وثقة ملا مصطفى بارزاني، وقد فرح كثيراً بهذه الشخصيات التي تتعاطف مع الثورة الكوردية وتتبرع بالمال والأدوية، وقبلها تمت زيارة الشيخ محمد آغا ميركةسوري وعائلته بمناسبة مقتل ولده جميل، وقد كان في استقبالهم بطل معركة هندرين كاك فاخر ميركةسوري نجل شيخ محمد الذي تعرّف عليهم أصلا في بغداد، ولا سيما الأخ أبو حسن السبيتي، وأبو عصام، والشيخ عارف البصري.

وبهذه المناسبة أيضاً يحدث لقاء بين كاك إدريس بارزاني ومجموعة الدعاة وقد استقبلهم في منطقة قسري، ودار حديث عن هموم النضال في مقارعة البعثيين، وما يخلقونه من مشكلات ومؤامرات ضد قيادة الثورة الكوردية على المستوى العائلي والعشائري، وبهذه المناسبة سلّم أبو عصام معلومات لكاك إدريس عن مخططات لضرب البنية الاجتماعية لقيادة الثورة الكوردية يقودها جهاز الأمن العام لناظم كزار وطلب من قيادة الثورة الكوردية الحيطة والحذر، فجماعة ناظم كزار يمارسون نفس اللعبة داخل المرجعية الدينية عبر اطلاق الاشاعات وزرع وكلاء أمن من رجال الدين المقربين للمرجعية من أجل إشاعة الفوضى داخل المذهب الشيعي. وبمناسبة زيارتهم لكوردستان قدم الدعاة مبلغا مالياً لدعم الثورة الكوردية.

يقول والدي أنه أثناء لقاء كاك إدريس بارزاني مع محمد هادي السبيتي ورفاقه، سأل كاك إدريس الجماعة إن كان لديهم تنظيماً عسكرياً لمواجهة نظام البعث، فكان جواب السبيتي اننا كدعاة مؤيدين من المرجعية نسعى إلى تحقيق دولة الإسلام في نفوس المؤمنين سلماً، وليس بالقوة الآن، لكن الظروف هي التي ستفرض اشتراطاتها في المستقبل إن كانت المقاومة العسكرية لنظام حكم البعث ضرورة وطنية.

وبعدها حصل حوار شخصي وثقافي بين كاك إدريس الذي فتح حوارا فكرياً مع السبيتي، وقد اخبره أنه عندما كان تلميذاً في متوسطة الغربية إطلع على كتاب جمهورية افلاطون وقد كان معجباً بفلسفته، ولا سيما في تناوله موضوع العدل، وهنا يخبره السبيتي أنه أطّلع على كتاب الجمهورية باللغتين العربية في بغداد، والانجليزية في أمريكا، وكان يرى أن العنوان الأفضل للكتاب ليس (الجمهورية) بل (ما العدل؟) فالكتاب كما شرحه السبيتي يبحث في كل أجزائه عن العدل ويجدها في الدولة العادلة التي يحكمها الفلاسفة، وهنا يعجب السبيتي كيف ان كاك إدريس قد إطلع على الكتاب في المتوسطة وقد تكون لغته العربية ضعيفة جداً، لكن كاك إدريس يخبر السبيتي أنه كان من المتفوقين في مادة اللغة العربية بشهادة المعلمين الذين درّسوه وزملائه من بني قومه، وزملائه التلاميذ العرب أيضاً.

بعد أن تمت زيارة كاك إدريس في مقره العسكري يقترح أبو حسن السبيتي زيارة دهوك، فقد سمع أن جبالها تشبه جبال لبنان التي يعشقها كثيراً، وبالفعل يأخذ والدي مجموعة الدعاة إلى دهوك، وقد تم ضيافتهم من قبل شيخ الدوسكية العام والمناضل كاك ديوالي آغا، وقد كان معهم كاك جميل جميل برواري (والد اللواء فاضل برواري قائد العمليات الخاصة في جهاز مكافحة الإرهاب) الذي اصطحبنا برحلة جبلية في منطقة برواري بالا، وهي منطقة جميلة جداً تقع عند الحدود التركية، فضلا عن انها مكان تواجد عشيرة كاك جميل.

وفي هذه الزيارة طلب أبو زينب الخالصي أن نزور مقرات الثورة الكوردية، وقد نفذ والدي طلبه بزيارة منطقة زاخو حيث مقر القائد عيسى سوار الذي استقبل الضيوف بحفاوة شديدة، وقد أهدى مسدسات إليهم، وبدورهم جمع الضيوف الأسلحة  وأعطوها إلى أبو زينيب ليستعملها عند الضيق، وبعدها قال أبو حسن السبيتي باللغة الانكليزية ( In Kurd I trust ). وقد بقي تواصل السبيتي مع الكورد بعد لقاءه الأول بكاك إدريس بارزاني الذي يعد أول تواصل بين مجموعة الدعوة الأسلامية بالثورة الكوردية، وأما اللقاء الثاني في عام (1980) فقد كان في سوريا وفي بيت السيد مهدي الحكيم، وقد كان مع مام جلال، وكاك مسعود بارزاني، والدكتور محمود عثمان، وغيرهم من القادة الكورد.

لم يكن والدي مثقفاً  بمستوى أبو حسن السبيتي، لكنه كان ذكياً وقد تعلم منذ شبابه المبكر على يد الملالي والكتاتيب في الجوامع بين منطقة بينجوين، وسنندج، وكرمنشاه اللغة الفارسية، والعربية، والانجليزية، والتركية، بل وحتى الروسية، وقد تأثر بالشخصية الوطنية الكوردية (توفيق وهبي) على المستوى الثقافي، وقد كانت حصيلته الثقافية قراءة جمهورية أفلاطون، وأشعار الخيام، وسعدي، والجواهري، وزرادشت نيتشة الذي كان والدي يعتقد أنه كتاب النبي زرادشت حتى جاء السبيتي ليصحح لوالدي حقيقة الكتاب الذي ليس لزرادشت، بل للفيلسوف الالماني نيتشة الذي أختار زرادشت عنواناً لكتابه الفلسفي، لأجل تداوله كثقافة مضادة لكل ما هو روحاني، ومن أجل تعظيم دور الجسد، وإرادة القوة في صناعة تاريخ الوجود الانساني.

وبعدها تعلم والدي من السبيتي أن نيتشة يرى أنه يجب العناية بالجسد وعدم احتقاره، فعقولنا توجد في أجسادنا، وليست في أنفسنا؛ لذلك ومن خلال ماسمعته من والدي فقد كانت شخصية السبيتي الثقافية ذا ثراء فكري ومعرفي فهو شخص ألمعي أتقن الإنجليزية، وعلوم الهندسة، فضلاً عن جولاته المهنية في أوربا وأمريكا التي يبدو أنها شكلت أفقه الثقافي غير التقليدي، كما شكل الأخوان المسلمين، وحزب التحرير، وتراثه الديني أفقه الأسلامي، لكن بشكل أحدث الفارق في هويته الثقافية.

لقاء تاريخي بين السبيتي  وفؤاد عارف

في صيف (1971) إقترح أبو حسن السبيتي إقامة وليمة للشخصية الوطنية الكوردية فؤاد عارف؛ وذلك من أجل التعرف عليه عن كثب كونه كان متصرفاً لكربلاء، بعد ثورة 14 تموز، وله أدوار مشرفة كما يذكر سيد مهدي الحكيم في كل مناسبة يذكر فيها هذا الرجل، وبالفعل ينقل والدي الدعوة إلى كاك فؤاد عارف الذي يستعد في كل صيف السفر خارج العراق، وقد قبلها بكل سرور.

وبحسب خطة أبو حسن السبيتي كما يخبرني والدي تكون بداية اللقاء عند جامع المرادية مقابل وزارة الدفاع، وبعدها يتم سيراً على الاقدام لشرب الشاي في مقهى حسن عجمي، وبعدها الذهاب إلى الكرادة عند الشيخ عارف البصري حيث مكان إقامة الوليمة، وبالفعل حدث اللقاء بحسب الخطة المرسومة من قبل أبو حسن السبيتي الذي يتقن عمله بطريقة أنيقة، كإناقته التي تشبه إناقة نجوم السينما، ومرتبة ورقيقة وحضارية جداً.

لقد حضر فؤاد عارف ونجله فرهاد، ووالدي، بالموعد المقرر، وعند جامع المرادية يستقبل أبو حسن ضيفه كاك فؤاد عارف ويتجاذبان أطراف الحديث عن المدينة، والسياسة، ودور العسكر في إدارة العراق، وكان ذلك في مقهى حسن عجمي الذي تحدث عنه فؤاد بحسب والدي عن دور المقهى الذي كان مكان للقاء الوزراء والعسكر قبل الذهاب إلى وزارة الدفاع من أجل حضور اجتماعات الزعيم عبد الكريم قاسم التي تبدأ الساعة العاشرة مساءا وتنتهي عند الفجر مع فطور يقيمه الزعيم للمجتمعين على حسابه الخاص.

وبعد جلسة المقهى يذهب المدعوين برفقة السبيتي إلى الكرادة حيث مقر الشيخ عارف البصري الذي كان بانتظار الضيف ومعه عدد من الشخصيات من قبيل: السيد محمد باقر الصدر، والسيد علاء محسن الحكيم، والسيد محمود الشاهرودي، والأخ أبو عصام الذين احتفوا بفؤاد عارف وأثنوا على عمله ونشاطه ومواقفه، وبدوره شكر كاك فؤاد الحضور وأخبرهم أن كل ما قام به هو واجب، ولخدمة العراق، ويتشرف بخدمة الناس الشرفاء أصحاب المواقف، ولا سيما مواقف السيد محسن الحكيم في حرمة دم الكورد.

لكن الشيء المهم الذي وجده والدي في هذه الوليمة المكانة الرفيعة التي كان يتمتع بها أبو حسن السبيتي، ذلك الأفندي الأنيق الذي يجلس بين رجال الدين الذين يتمتعون بهالة القداسة، فقد كان أشبه بقائد كبير بين الحاضرين، وكان عندما يتكلم يصغي اليه الجالسون بشيء من القداسة والطاعة كالتي يشاهدها في مجلس ملا مصطفى بارزاني، فضلا عن ثقافته العالية جداً، وقد أخبر والدي انه ينتظر أن تستقر الأمور لكي يقرأ: إبن خلدون، وزرادشت نيتشة، وعلي الوردي، وجمهورية أفلاطون، والسياسة لأرسطو، والمدينة الفاضلة لكارل بيكر فهي كتب مهمة لتأسيس العقل المستنير على حد تعبيره.

في أواسط عام (1985) حدث لقاء في مطعم بشارع السعدون وكان القائم على هذا اللقاء كاك كريم فتاح بيك الجاف وحضرته أنا شخصياً، وكاك فرهاد نجل فؤاد عارف الذي أعتبره مثقفا من الطراز الممتاز قد تحدث بشكل مفصل عن دعوة السبيتي التي أقامها عند الشيخ عارف البصري صيف عام 1971، وكان من أهم ما أخبرنا به هو الثقافة العالية التي يتوافرها محمد هادي السبيتي عند حديثه عن الهموم السياسية، والفكرية، والاجتماعية للمجتمع العراقي بخاصة، والإسلامي بعامة، وقد كان معجباً بتجربة الحزب المسيحي الديموقراطي في المانيا؛ ذلك الحزب الذي جمع البروتستانت والكاثوليك، بل وحتى الملحدين جبهة واحدة بقيادة اديناور لإعادة إعمار المانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ورأى أن خلاص الأمة العربية والإسلامية هو بتكرار هكذا تجارب لحصول النهضة فيها من خلال توحيد المذاهب، والأديان، والأحزاب في كتلة وطنية تسعى لإعمار الأوطان، وهذا على المستوى السياسي.

وأما على المستوى الفكري فقد كان رأيه بالتجربة الوجودية، والشيوعية في العالم العربي، فقد أنتقد السبيتي كما يخبرنا كاك فرهاد بشدة الفلسفة الوجودية لا بسبب الحادها، بل بسبب تقديمها البعد الفردي للإنسان على حساب وجوده الإجتماعي بشكل متطرف وقد علمنا أرسطو بحسب السبيتي أن الإنسان كائن اجتماعي، وقد أعاب السبيتي ايضاّ على العقيدة الشيوعية التي تستنتد إلى دكتاتورية العمال والفلاحين وتهمل التعددية الاجتماعية.

ويستمر كاك فرهاد في الكلام ويقول أن السبيتي من الناحية العلمية كان معجباً بالقانون الثاني للثرموديناميك، ذلك القانون الذي يرى أن كل شيء يتجه نحو الفوضى ويفقد انتظامه الأصلي، ولا يمكن اعادته، أو تكراره، بإعادته إلى نهج أسلافه، لذلك فقد كان يقترح أمام ضيوفه فكرة تجديد أفكارنا وعقائدنا الدينية إنطلاقاً من المتغيرات العملاقة التي يتعرض له الوجود الانساني في مناحيه كافة، ويستمر كاك فرهاد في كلامه ويقول أن الشخص الوحيد الذي كان يتفاعل مع السبيتي بجدية هو السيد محمد باقر الصدر الذي كان يقول أن السبيتي هو ملهمه، ومصدر الافكار الجديدة التي يغتني بها، وأن كل لحظة يلتقي فيها بالسبيتي يكتسب عقله فكرة جديدة تنير وجوده الفكري والمعرفي.

هذا ما حدثنا به فرهاد فؤاد عارف لما سمعه من آراء فكرية لمحمد هادي السبيتي التي أرى أنها نتاج تجارب فكرية شخصية شكلت منظوراته الفلسفية ورؤيته للعالم، وهي أشبه بوجهات النظر التي أبتكرتها الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، والفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي اللذان نطلع على أعمالهما الفكرية راهناً، تلك الأعمال التي تعزز في الوجود الأنساني روح المشاركة والاعتراف بالآخر المتعدد، وتنبذ ثقافة الفكر الواحدي، والإقصائي من الفضاء العمومي الذي يلتقي فيه الناس.

تلك الأفكار التي تنبه اليها السبيتي في بواكير فكره السياسي والديني، والتي تعبر عن أصالته في التفكير، والروح الانسانية التي تقطنه التي هي على حد تعبير فرهاد فؤاد عارف نتاج ثقافة البحر المتوسط، ثقافة التعدد الثقافي والمشاريع الفكرية الغربية التي يتأثر فيها العالم كله؛ إذ إن السبيتي حتى وإن ولد في العراق فقد كانت جذوره الأولية (اللبنانية) سببا في تشكل ثقافته الإنسانية، وهي وجهة نظر لا تخلو من الصحة.

تشكلات "الظاهرة السبيتية": الحدود والآفاق

يمكن القول مما تقدم: لقد مثل محمد هادي السبيتي تجربة نضالية أصيلة يمكن أن نطلق عليها (الظاهرة السبيتية)، تلك الظاهرة التي تشكلت في ضوء تجربته السياسية والدينية، وتمكنت من أن توصل أسئلتها الخاصة عن الوضع السياسي العراقي في إطار الدولة الوطنية التي تأسست عام 1921، وانتجت تجربة سياسية إسلامية، إلى جانب التجارب الشيوعية، والقومية، والبعثية، لكن التجربة الاسلامية في حلتها السبيتية على عكس التجارب التي ذكرناها ابتكرت نسقاً ثقافياً، وفكرياً شكلت تجربة سياسية أصيلة، تجربة كانت تسعى إلى إثارة الأسئلة النضالية غير المحملة بالحمولات الأيديولوجية المغلقة، أسئلة تكتسب معطياتها في أطار راهنيات الواقع العراقي والإسلامي، وتمثل إضافة نوعية إلى التجارب السياسية النضالية العراقية، لكن المشكلة التي كانت تواجه السبيتي تكمن في التضاد الحاد بين هرم القيادة والهيكل الداخلي لتنظيمه؛ أي بين حداثته النهضوية، وأصولية رفاقه الذين يمثلون الجانب التقليدي، وهم بعض رجال الدين، أو مقلديهم في سياق التجربة الاسلامية الشيعية في العراق.

لقد نشأ السبيتي متمرداً وثائراً، وكانت ثورته تنبع على وجه التحديد من ردة فعله تجاه القيم، والعادات، والتقاليد التي تتأسس عليها ثقافته الدينية، والمذهبية، والسياسية السابقة؛ أعني تجربته مع حركة "الاخوان المسلمين"، و"حزب التحرير"، وبعدها تنظيمه الذي يقوده "الدعوة الاسلامية"، وقد كانت تلك الظروف والمناسبات هي التي شكلت تكوينه وتنشئته، وغذاه شعور عام بالرفض والتحدي الذي اجتاح جيله في الجامعات، والعمل السياسي.

لا شك أن من يطلع على تجربة السبيتي السياسية، سيجد أنها تتأسس على الاستقلال الذاتي لإرادة كل من تنشط دينامياته في العمل السياسي كقائد/ داعية اسلامية وهي في جوهرها فردية وتتحقق في إطار الحرية، وأن أي قيادة سياسية يجب أن تزيح من أدبياتها ثقافة القطيع والانقياد الأعمى في العمل السياسي، لذلك يجد السبيتي أن القيادة الحقيقية هي تلك التي تحول الدعاة إلى شخصيات بارزة تنشط دينامياتها في إطار "الارادة الحرة"، و"الوجدان الاجتماعي"، و"العقلانية" التي هي الاشتراطات المعقولة لعمارة الأرض كما عرضها في مانفيستو التفاهم عام (1980)،وهي بالتاي ليست في حاجة لمرجعيات مركزية( دينية، حزبية، سياسية)، بل حتى تلك المرجعيات تغدو افرادا، واعضاءا في تنظيماتها السياسية، وليست لديها ولاية على الآخرين، فالتنظيمات التي يؤمن بها السبيتي؛ ولاسيما في المجال السياسي يجب أن يكون القائد والجماعة التي يقودها أحراراً، وليس عبيداً، ويقودهم هدفاً مشتركاً؛ فضلا عن أنه يجب عدم الاهتمام بالأصول الفكرية والاعتقادية للمشاركين في التحالفات السياسية عند العمل في إطار إعمار الأرض حسب السبيتي، وهذا ما يمكن اعتباره مثالاً للمثقف العضوي الذي يسعى إلى تحقيق وجوده في إطار كتلة تاريخية تشكل مشروعاً ثقافياً وسياسياً من أجل تأسيس عراق يتحقق فيه مفهوم العدالة الاجتماعية، واحترام كرامة الإنسان.

خلاصة القول، وانطلاقاً من المعطيات اللامفكر فيها، والتي حجبتها عنا الظروف التي شكلت تحديات مصيرية للقائد الخالد محمد هادي السبيتي، نجد أنه كان يتعامل مع أشكال الحياة بوصفها منظومات ديناميكية مفتوحة، تلك المنظومات التي تأبى أن تكون ايديولوجيات مغلقة تعمل بشكل روتيني، أو مكيانيكي تؤسس لدوام الأشياء وثباتها على وتيرة واحدة لا تتغير مطلقاً؛ وذلك لأن أشكال الحياة يستحيل اختزالها في سياق عقيدة مغلقة، وهي مفتوحة على الاحتمالات كافة من أجل احتمال مستحدثات الأمور، وتجعل من أفرادها شخصيات بارزة ترتفع بوضوح بما حولها، وترفض الرتابة وتتعامل مع راهنيات عالمها بقوة حضورها الخاص، وليس بشكل آلي يسعى إلى التطابق مع ما هو سائد، بل مع ما هو ممكن يفسح المجالات للمفكر، أو القائد الاستراتيجي استئناف التفكير، والتحليل، والنقد؛ وذلك لأن منظومات الحياة المعقدة لاشيء مستقر في نظامها، وكل شيء فيها يتغير، أو يتحول بفعل الظروف، والمستجدات إلى واقع جديد قد يحدث الفوارق.

ولاشك أن هذا التأليف الجديد من التجربة الفكرية والسياسية التي أطلقنا عليها مجازاً"الظاهرة السبيتية" قد أحدثت صدمة كبيرة عند أصحاب الفكر التقليدي من الدعاة الذي يسعون إلى الدفاع عن مبادئهم بوصفها حقائق مطلقة؛ تلك التي كان السبيتي يرفضها رفضاً تاماً ان تكون منطلقاً للعمل السياسي والفكري؛ ولاسيما تلك التي تتعامل مع الواقع السياسي العراقي بالثقافات المذهبية المليئة بالتعقيدات التاريخية، والايديولجية الحزبية المغلقة التي رفض السبيتي أن تكون قواعداً لتأسيس ثقافة سياسية للدعاة الاسلاميين الذين يسعون إلى تغيير الواقع السياسي العراقي، وإحداث الفارق فيه*.

تكتفي هذه المقالة بسرد الواقع الفكري لنضال القائد محمد هادي السبيتي، وقريباً سيصدر كتاب بعنوان: "ذكريات رجل عادي: قصة العمليات الاستخباراتية للثورة الكوردية" فيها معلومات تقال أول مرة عن اعتقال السبيتي وما حصل له في العراق قبيل استشهاده.

***

الدكتور كريم الجاف

أكاديمي- العراق

الروائي الذي قرر أن يُشغل النقاد " 300" عام

لا يمكنك أن تكون من عشاق الرواية دون أن تتعثر برواية " يوليسيس "، وسيطلب منك مؤلفها المواطن الايرلندي جيمس جويس أن تكون صبورا، ولا يهم أن تتململ احيانا، وترمي الكتاب جانبا في احيان اخرى، وربما تعصر دماغك وأنت تقرأ كلماته، بينما يُخرج لك ابطال الرواية السنتهم ساخرين لأن معرفة كيف يكتب جيمس جويس رواياته هي دليلك للدخول إلى عالم الرواية الحديثة. عندما تعثرت للمرة الاولى برواية جيمس جويس، كنت تحت تاثير مسرحيته " منفيون " التي كتبها جويس عام 1918- صدرت ترجمتها العربية في اوائل السبعينيات ضمن سلسلة المسرح العالمي –،وهي المسرحية الوحيدة التي كتبها جويس، وكانت تجربة صعبة لابطال منعزلين يبحثون عن ذواتهم، وكنت اتمنى ان اقرأ روايته يوليسيس التي يتم ذكرها أكثر من مرة في المقدمة التي كتبها المترجم امين العيوطي.

مجلة الكاتب المصري كانت نفطة الانطلاق نحو جويس، فقد عثرت فيها على مقال كتبه لويس عوض بعنوان " جيمس جويس " وفيه ينبهني الى ان صاحبنها الذي سخرت من مسرحية يعد " إمام القصة في القرن العشرين ومجددها " قال عنه ت.س. اليوت انه اعظم من كتب بالانكليزية بعد الشاعر جون ميلتون مؤلف " الفردوس المفقود "، ويخبرني لويس عوض بما فعله برنادشو عندما قرر ان يجعل من رواية يوليسيس طعاما لنار المدفأة وهو يردد :" إن هذا الكتاب يثبت ان رجال دبلن وغلمانها لا يزالون على ما كانوا عليه في أيامي من قذارة في التفكير لا سبيل الى ازالتها ". هذه اذن رواية يوليسيس التي اصابت روائيا شهيرا مثل  د.ه.لورنس بالملل.

ألم يسبق لك أن وقعت في سوء فهم مع كاتب الى حد كنت تخشى الاقتراب من كتبه، وإلى عدم الرغبة في مواصلة قراءته، وبكلمة واحدة ان تشعر بالخوف منه ؟ سيفهم قصدي كل من جرب قراءة يوليسيس او رواية البحث عن الزمن المفقود أو حتى السيدة دالاواي، مثل هذه الروايات كنت اسمع زبائن المكتبة يتكلمون عنها دون أن يقرأونها كاملة، الكثير منهم جرب قراءة يوليسيس، لكنه بعد عدة صفحات يقرر اعادة الكتاب الى الرف، ألم يخبرنا جويس نفسه ان القراء والنقاد سينشغلون بحل الغاز روايته لمئات السنين.

في الثاني من شباط عام 1922 اعلنت مكتبة " شكسبير ورفاقة " التي اسستها السيدة الامريكية " سيليفا بيتش " عام 1919 في باريس عن اصدار طبعة كاملة من رواية جيمس جويس " يوليسيس ". كانت سيليفا بيتش قد قابلت جيمس جويس عام 1920 في احدى الحفلات الادبية وتصف لنا لحظة مشاهدتها للكاتب الايرلندي في كتابها " شكسبير ورفاقه " – ترجمة رياض حمادي " قائلة :"كان متوسط الطول نحيفا منحنيا قليلا، وبملاحظة يديه ستجدها هزيلتين للغاية يضع خاتمين في اصبعيه الوسطى والثانية، من يده اليسرى، مرصعين بحجرين ثقيلين، وعيناه ذات اللون الازرق القاتم. كانتا في غاية الجمال. لكني لاحظت العين اليمنى لها مظهر غير طبيعي، وان العدسة اليمنى لنظارته كانت اكبر سمكا من اليسرى. كان شعره كثيفا، رملي اللون، مموجا، ومنسدلا من جبينه العالي المسطر فوق رأسه الطويل. يعطي جويس انطباعا بالرقة والشفافية. كانت بشرته فاتحة جميلة، فيها قليل من النمش، ومتوردة الى حد ما. انفه جميل الشكل، وشفتاه رفيعتان ومحددتان بعناية. سحرني صوت جويس بنغماته الحلوة التي يلفظها كمغني تينور. نطقه واضح على نحو استثنائي ".

في نهاية عام 1917 أنهى جيمس جويس الفصول الأولى من يوليسيس واستعد لطباعتها على الآلة الكاتبة، وكان قد عرض ذلك على ناشرة مجلة " الفيردي"  وهي مطبوع صغير كان له تأثير في الحياة الأدبية، أن تحاول إصدار الرواية على شكل حلقات، وبما أن الآنسة ويفز صاحبة المجلة، كانت تؤمن إيماناً راسخاً بعبقرية جويس، فقد وافقت فوراً على نشر الفصول الأولى،  إلا أن الرواية لم تلاقِ النجاح المطلوب بسبب غرابة أحداثها، والتعقيد الذي تعمده جويس في لغتها، كما أن الحكاية تروى بطريقة معقدة جداً، لأنها تصوير لنشاط الإنسان في هذا العالم وليس مجرد وصف لجماعة من الأفراد في مدينة دبلن. وقد كان جيمس جويس يرى في أوديسة هوميروس الرواية الكاملة الأدب من خلال شخصية يوليسيس، وكان يحلم بأن  يعيد بعث هذه الشخصية في القرن العشرين ليعرض من خلالها الإنسان بكل جوانبه، فهو جبان وبطل معاً، حذر ومتهور في أن واحد، ضعيف وقوي في الوقت نفسه، زوج وعاشق أيضاً، كريم وبخيل معاً، طالب ثأر ومتسامح وسخيف، ولهذا فقد حاول جويس أن يجعل مغامرات بطله ليبولد بلوم تسير على غرار ذلك النموذج في ملحمة هوميروس، لذلك يمكن للقارئ أن يجد في كل الأحداث التي يمر بها بلوم خلال يومه الطويل في دبلن، ما يقابلها في مغامرات يوليسيس في الأوديسة، فبلوم هو كل إنسان عاش في هذا العصر، ودبلن هي العالم مصغراً. بعد أن شعر جويس بأن الرواية لم تنل حظّها في لندن، طلب من صديقه " عزرا باوند"، أن يساعده هذه المرة في نشر الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية.، تظهر الحلقة الأولى من الرواية في نيويورك في العاشر من آذار عام 1918. وقد لقيت الفصول الأولى نجاحاً كبيراً، لكن هذا النجاح لم يبدّد قلق باوند على الرواية، حيث كان متيقناً أن بعض أقسام يوليسيس سوف تُمنع من النشر. وكما توقع قامت دائرة البريد الأميركية بمصادرة وحرق المجلة التي نشرت فصول الرواية بعد ان قال الرقيب ان الرواية تحوي على ألفاظ بذيئة تسيء الى المجتمع، وقام سكرتير جمعية نيويورك لمحاربة الرذيلة برفع شكوى رسمية ضد الرواية، ليصدر قرار المحكمة باعتبار الكتاب مثيراً للقرف.

كان السؤال الذي طرحته سليفيا بيتش عند لقائها الاول بجيميس جويس هو: ما هي اخبار يوليسيس؟.. قال لها انها تعاني مزيدا من القمع .. كانت الرواية تخوض معارك في لندن ايضا حيث كانت المطابع الانكليزية متحفظة على اسم جويس.

ارتبطت سليفيا بلتش بعلاقة صداقة مع عائلة جويس، كانت تذهب الى بيتهم باستمرار.. وتقول في مذكراتها انها استغريت من استمتاع جيمس جويس لوصف زوجته " نورا " له بالكسول الذي لا يرجى منه خير. لم تكن زوجة جيميس جويس تحب قراءة الكتب، قالت مرة انها لم تقرأ ولا صفحة من " يوليسيس. تتذمر من زوجها الذي لايكف عن الكتابة، والذي يبحث دائما عن الورق وقلم الرصاص الذي " يخرمش" به على حد تعبيرها. كان جويس من جانبه يعتبر نورا افضل الحظوظ التي حالفته في حياته. كان في الثانية والعشرين من عمره عندما التقاها للمرة الأولى في ذلك اليوم عام 1904 على أحد جسور دبلن، كانت فتاة متوسطة الجمال، تعمل منظفة للغرف في أحد الفنادق. وما أن رآها حتى قرر أن تكون له، وأن يكون لها! وفي ما بعد سوف تحضر في معظم أعماله. وستكون مؤثرة فيها بشكل كبير، وستوحي له بكتابة مونولج (ليوبولد بلوم) الشهير الذي أنهى به روايته" يولیسیس".

جيميس جويس المولود في الثاني من شباط عام 1882 بمدينة دبلن في ايرلندا، أكبر الأولاد لعائلة من اثنى عشر فرد، عاشت سنبنها الاولى في بحبوحة وثراء، إلا ان ادمان الاب على الخمر والقمار  نقلها إلى الفقر، ارادت والدة المتدينة ان يصبح ابنها قسيسا، فادخلته مدرسة اليسوعيين، لكنه وهو في الثانوية اخذ يشكك في المعتقدات الدينية، فانتقل لدراسة اللغات، واخذ يقبل على قراءة الادب اليوناني وخصوصا ملاحم هوميروس، واغرم بدانتي وكان يحفظ بالايطالية مقاطع كاملة من "الكوميديا الإلهية ". عام 1905 حاول جويس نشر اول اعماله " ناس من دبلن "، قدمها إلى خمسة عشر ناشرا. الجميع رفض طباعتها إلا بعد اجراء تغيرات عليها خوفا من الرقابة، لكنها ستصدر عام 1906 من مطبعة صغيرة، وستواجه الناشر مشكلة بعد ان قررت الرقابة مصادرة الكتب المطبوعة، عام 1916 حاول جويس نشر عمله " صورة الفنان في شبابه مرة اخرى ستواجه بالرفض إلا بعد ان تتم مراجعتها وهو الامر الذي كان يرفضه جويس دائما.

عاني في حياته التي بلغت " 59 " عاما – توفي في الثالث عشر من كانون الثاني عام 1941 في سويسرا -  من مشكلات صحية، فقر دائم للدم والام في المفاصل، وخضع لخمس وعشرين عملية جراحية في عينيه انتهت الى اصابة احداهما بالعمى التام.

 ذات يوم ستقول سيلفيا بيتش لجويس: " هل تسمح لشكسبير ورفاقه ان تحظى بشرف نشر يوليسيس؟ لم تتوقع ان يوافق كاتب كبير ان تنشر روايته دار نشر صغيرة، لكنه سيعود اليها في اليوم التالي ليعلن موافقته. بعد ايام ستنشر سليفيا بيتش اعلانا في احدى الصحف بان رواية " يوليسيس " ستنشر كاملة. ونص الاعلان على ان الطبعة محدودة بالف نسخة وستوقع من قبل الكاتب وان باب الحجز مفتوح على نسخ من الرواية، ثم وضعت في الاعلان صورة صغيرة لجيمس جويس يبدو نحيلا وملتحيا.. لم تتوقع بيتش ان الاعلان سيحفز الناس على الاقبال لحجز نسخ من الرواية.. ففي الاسبوع الاول تراكمت الاستراكات. ترك لها عزرا باوند اشتراك بمبلغ محترم يحمل اسم الشاعر الشهير ويليام ييتس، كما حجز ارنست همنغواي عدة نسخ. وهناك نسخ حجزها سكوت فيتزجيرالد ولم يكن قد اصدر غاتسبي العظيم بعد – صدرت عام 1925 – ونسخة حجزها الناقد ارشيبالد ماكليش. ورفض برنادشو الاشتراك  قائلا :" انني سيد ايرلندي مسن، فانت كنت تتصورين بأن اي ايرلندي،، سيدفع 150 فرنكا في مثل هذا الكتاب، فانت تعرفين القليل عن ابناء بلدي "

انتشرت أخبار " يوليسيس سريعا في باريس وازداد الطلب عليها، لكن بعد مرور عدة شهور، بدأ المشتركون بشعرون بالقلق، وكانت سيلفيا بيتش معرضة لتهمة خداع الجمهور. وكان من بين من طالبوا بسرعة تزويدة بنسخته الروائي الانكليزي " د.ه.لورنس ".. لكن الطباعة ستتأخر، وكانت احدى المشاكل تتعلق بالغلاف حيث اصر جويس ان يكون لون الغلاف ازرق مثل لون بحر ايجه اليوناني.. وايضا واجهتهم صعوبة في تنضيد الرواية، لغرابة خط جيمس جويس والمفردات التي استخدمها، ويتذكر جويس ان احدى الضاربات على الآلة الكاتبة، قرعت جرس شقته ذات يوم وما ان فتح الباب حتى القت الصفحات في وجهه.. ظلت الطباعة تتقدم ببطء. وستتعرض اجزاء من الرواية المخطوطة الى التلف حين التقط زوج احدى كاتبات الطابعة اوراقا منها وما ان قرأها حتى القاها في النار وهو يشتم الكاتب. تمت الاستعانة بنسخة مخطوطة موجودة عند احد اصدقاء جويس في نيويورك.. في هذه الاثناء تعرض جويس لآلام في عينه توجب اجراء عملية جراحية له، في ذلك الوقت كان يعاني من مشاكل مالية، الافلاس يحاصره، يعمل في تدريس اللغات لاعالة عائلته، لكنه توقف عن العمل بسبب يوليسيس التي كان يخصص لها سبعة عشر ساعة كل يوم لمراجعتها، قررت الناشرة سيلفيا بيتش ان تمنحه بعض السلف المالية على حساب الرواية لاعالة عائلته المكونة من اربعة افراد. كان عيد ميلاد جويس يقترب وقررت صاحبة " شكسبير ورفاقه " ان تصدر الرواية في عيد ميلاده المصادف الثاني من شباط، وهذا ما حصل حيث وصلت نسختان من الرواية صبيحة الثاني من شباط عام 1922 الى مكتبة شكسبير ورفاقه، لتسرع سيلفيا بيتش الى شقة جويس تسلمه النسخة رقم واحد، اما الثانية فقد احتفظت بها في المكتبة. هاهي يوليسيس اخيرا بين يدي جيمس جويس بغلافها الازرق اليوناني، تحمل العنوان واسم المؤلف بحروف بيضاء وبعدد صفحات " 732 ". ستصل بعد ايام الالف نسخة الى المكتبة التي تم بيعها في غضون شهر. تمت إعادة طبع الكتاب بسرعة، ولكن بسبب المنع الذي صدر ضد الرواية ، لم يكن من الممكن نشرها في بريطانيا أو أمريكا. كانت الطبعتان الثانية والثالثة، قد نفذتا في تشرين الاول عام 1922، تم مصادرة عشرات النسخ المهربة الى امريكا وبريطانيا.ستصدر الطبعة الرابعة والخامسة والسادسة بغلاف مختلف اللون.عام 1933 صدر قرار المحكمة بالسماح بنشر يوليسيس في الولايات المتحدة الامريكية، وقد قال القاضي في قراره ان :" "الكلمات التي يتم انتقادها على أنها قذرة هي كلمات يعرفها جميع الرجال تقريبا  ". وخلص القاضي إلى أن جويس فنان عظيم في الكلمات وان الكتاب لا يمكن اعتباره إباحيا. في عام 1936 سحبت المحاكم البريطانية اعتراضاتها على يوليسيس ، لتصدر طبعتها الاولى في لندن .

هل يمكن تلخيص رواية " يوليسيس " ؟، قبل ذلك ساروي حكايتي مع الرواية. في منتصف السبعينيات عثرت في دار الكتب القديمة التي كانت تقع في شقة وسط شارع الرشيد على نسخة من يوليسيس بعنوان " عولس " ترجمة محمد لطفي جمعة الذي عرفت فيما بعد بأنه مترجِم ورِوائي، موسوعي، ويجيد العديد من اللغات، كتب وترجم في الفلسفة والاقتصاد والادب وكتابه الشهير " تاريخ فلاسفة الاسلام " يعد مصدرا مهما. الجزء السهل في كتاب محمد لطفي جمعة هو المقدمة التي كتبها للرواية وفيها يدافع بحرارة عن جيمس جويس حيث يصف روايته بانها " قصة رائعة، لا أول لها ولا نهاية ولا وسط، لانها قصة الحياة بفرحها وحزنها وعبرتها، قصة كونية رائعة خالدة ".بعدها يكتب بحماس مفرط :" جاهل من ظهر جاهل، سواء أكان في الشرق او الغرب من يزعم ان عولس ليس كتابا كاملا، راعى فيه مؤلفه تسلسل الزمان ووحدته، بل من يقول ذلك اعمى منه واضل سبيلا من يقلده قبل أن يقرأ تلك الملحمة الكبرى قراءة درس وفحص وتمحيص ".

قالت الرواية اشياء لم افهمها حقا، وكان لا بد ان استعين باحد زبائن المكتبة المترجم يوسف عبد المسيح ثروت سألته :" هل قرأت عولس؟ اكتشفت ان السؤال كان غبيا عندما ابتسم بضيق وهو يصحح لي الكلمة  : يوليسيس وليس عولس، واضاف : نعم. تحدثت معه عن جيمس جويس كان عندي فهم ضبابي للغاية عن هذا الكاتب المحير، معلوماتي مستمدة من مقدمة مسرحيته " المنفيون " كنت ارددها امام المترجم القدير مثل الببغاء، اضافة الى انني لم اقرأ من رواية " عولس " سوى صفحات قليلة. كنت اريد ان اقول شيئا لا يكشف عن جهلي ويظهر انني قارئ جيد، كما افعل مع معظم زبائن المكتبة، حدق في الكتب المرصوصة على احد الرفوف، كما لو كان يدرك جيدا انني وفعت في مأزق مع هذه الرواية قائلاً: من الصعب وضع طريقه لقراءة رواية مثل يوليسيس. قد يكون من الأسهل قراءة فصل واحد في كل مرة، مع مراجعة لادب جويس . فلت له: إلا يمكنك قراءتها بالكامل، قال وهو يمد يده لسحب احد الكتب : يعتمد ذلك على مدى قدرة دماغك على استيعاب الرواية. ثم اضاف : الترجمة التي نشرت للرواية ليست كاملة، أنها طويلة جداً، إنها رواية استثنائية لانها تروي لنا احداث يوم واحد فقط. بعدها قدم لي نصيحته الذهبية اقرأها باعتبارها رواية، صحيح انها معقدة بموضوعاتها، فهي وقبل كل شيء درس كبير في الاتقان الفني، إذا لم تتمكن من اكتشاف روعة الجانب الفني فيها، عليك ان تتركها لتعود لها بعد ان تصبح ناضجا. استغرق الأمر مني سنوات حتى اصبح قارئا ناضجا، واعود من جديد الى يوليسيس وهذه المرة بترجمة طه محمود طه، والذي اتحفنا قبل صدور ترجمته بموسوعة ثمينة عن جويس واعماله كانت مفتاحا للدخول الى يوليسيس من جديد رغم ان المترجم طه محمود طه ينبهني الى ان " عوليس " رغم انها لا تزال تثير اهتمام النقاد والادباء وحجزت لها مكانا في بحوث علم النفس، فانها تحتاج الى مفاتيح ليتمنك القارئ من الخوض في هذه المتاهة التي ما زالت ترفض البوح باسرارها. اعود الى يوسف عبد المسيج ثروت وهو يقدم لي نصيحة جديدة خلاصتها ان القراءة الجيدة لعمل مثل يوليسيس يتطلب البطء والتركيز، فالقارئ الجيد هو من لا يفوته شيء في النص. واضاف ان مثل هذا القارئ يتوقف عند كل كلمة أو عبارة ذات دلالة، وينظر إلى ما قبلها وما بعدها بيقظة، عليه ان يكون حريصا على ان لا يباغته الكاتب فيمرر عليه اشياء في غفلة منه. يصف نيتشه القارئ المثالي بانه شديد الفضول. في الترجمة الاخيرة التي قام بها الشاعر والمترجم القدير صلاح نيازي يضع عبارة مهمة "بالبحث المتأني تجد طريقك الى جيمس جويس ". يكتب جويس  انه استقى نظريته في الكتابة من جملة لتوما الاكويني يقول فيها :" ان الاشياء الثلاثة التي ينبغي توفرها في الجمال هي : الاكتمال.. التوافق.. الاشعاع ".عندما أعدت قراءة " يوليسيس " بترجمة صلاح نيازي وقعت تجت تاثير سحر ابطالها، وكنت الآن ارى دبلن التي يعيد جويس بنائها، شارع شارعا، قال جيمس جويس إن إعادة بناء دبلن اذا دُمرّت يوماً، يمكن ان تتم من خلال روايته " يوليسيس". اكتشفت انني عندما قرأتها للمرة الاولى لم اكن قادرا على ممارسة القراءة البطيئة، ولم اكن أريد اصلا أن امارسها، وكنت اشعر بالضيق حين اكتشف ان هذه الرواية ليست عملا واقعيا مسليا. لكن هل كانت قراءاتي آنذاك خاطئة ؟، اعترف يانني اشعرفي مرات كثيرة بشيء من الحنين عندما اتذكر ذلك المراهق وهو يصدق كل ما يقرأه، يكتب جيمس ميلر :" ان لم يقرأ المرء العمل الادبي قراءة بريئة اولاً، فهو يحرم العمل مقدما من فرصة في ان يكون له تاثير ذو قيمة على القارئ " – عن الادب ترجمة سمر طابه -.  

يعتبر كثيرون "يوليسيس" رواية القرن العشرين، وفيها اختار جويس ثلاث شخصيات تعمق في تصوير حياتها خلال احداث يوم واحد.

في النهاية إذا اردت ان تصبح قارئاً جيدا، عليك أن تكون اكثر شبها بجيمس جويس وهو يصر على اتقان الكتابة الجيدة. انه درس تعلمته ببطء وعلى مدى اكثر من اربعين عاما.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

أعلنت اللجنة المشرفة على جائزة نوبل في الطب والعلوم الأخرى والآداب في السويد خلال الأيام القليلة الماضية عن منحها الجائزة لعدد من العلماء كلا في مجال أختصاصه ولأديب واحد من النرويج... وهنا نلخص للقاريء الكريم أهم ما جاء في بيانات لجنة جائزة نوبل بصدد منح الجائزة للبحوث الطبية والعلمية الأخرى والآداب، والأسباب التي دعت اللجنة لمنح جوائزها لمثل هذه البحوث...

جائزة نوبل في علم الفيزياء لعام 2023

تم منح جائزة نوبل في علم الفيزياء للبحوث التي تتناول "الطرق التجريبية التي تولد نبضات ضوئية من الأتوثانية لدراسة ديناميات الإلكترون في المادة".

وقد تم تكريم الفائزين الثلاثة بجائزة نوبل في الفيزياء 2023 لتجاربهم التي أعطت البشرية أدوات جديدة لأستكشاف عالم الإلكترونات داخل الذرات والجزيئات. لقد أظهر بيير أغوستيني وفيرينك كراوس وآن لويلير طريقة لإنشاء نبضات ضوئية قصيرة للغاية، يمكن أستخدامها لقياس العمليات السريعة التي تتحرك فيها الإلكترونات أو تغير الطاقة.

فالحوادث سريعة الحركة تتدفق إلى بعضها البعض عندما يدركها الإنسان، تمامًا كما يُنظر إلى الفيلم الذي يتكون من صور ثابتة على أنه حركة مستمرة. إذا أردنا التحقيق في أحداث قصيرة جدًا، فنحن بحاجة إلى تكنولوجيا خاصة. في عالم الإلكترونات، تحدث التغيرات في بضعة أعشار الأتو ثانية - الأتو ثانية قصيرة جدًا لدرجة أن عدد التغييرات في الثانية الواحدة يعادل عدد الثواني التي مرت منذ ولادة الكون.

أنتجت تجارب الفائزين بنوبل الفيزياء لهذا العام نبضات ضوئية قصيرة جدًا بحيث تم قياسها بالأتوثانية، مما يدل على أنه يمكن أستخدام هذه النبضات لتوفير صور للعمليات داخل الذرات والجزيئات.

ففي عام 1987، أكتشفت آن لويلير أن العديد من الدلالات المختلفة للضوء نشأت عندما أرسلت ضوء الليزر تحت الأحمر عبر غاز خامل. وقد كان لكل دلالة ما يمكن أن نطلق عليه بالموجة لضوئية التي لها عدد معين من الدورات في ضوء الليزر. وكل هذا ناجم عن تفاعل ضوء الليزر مع الذرات الموجودة في الغاز، والذي يمنح بعض الإلكترونات طاقة إضافية تنبعث بعد ذلك على شكل ضوء. وقد واصلت آن لولييه أستكشاف هذه الظاهرة، مما مهد الطريق لتحقيق اختراقات لاحقة.

وفي عام 2001، نجح بيير أغوستيني في إنتاج ودراسة سلسلة من نبضات الضوء المتتالية، حيث أستمرت كل نبضة 250 أتو ثانية فقط. في الوقت نفسه، كان فيرينك كراوس يعمل على نوع آخر من التجارب، ومنها تجربة جعلت من الممكن عزل نبضة ضوئية واحدة تستمر لمدة 650 أتوثانية.

وقد مكنت مساهمات الفائزين الثلاثة بنوبل علم الفيزياء من التحقيق في العمليات التي كانت سريعة للغاية وكان من المستحيل متابعتها في السابق.

تقول لجنة تحكيم الجائزة حول ذلك:

"يمكننا الآن أن نفتح الباب أمام عالم الإلكترونات. تمنحنا فيزياء الأتوثانية الفرصة لفهم الآليات التي تحكمها الإلكترونات. تقول إيفا أولسون، رئيسة لجنة نوبل للفيزياء: «الخطوة التالية ستكون الاستفادة منها".

ومما يذكر فأن هناك تطبيقات محتملة في العديد من المجالات المختلفة في الإلكترونيات. منها على سبيل المثال، أهمية فهم كيفية تصرّف الإلكترونات في المادة والتحكّم فيها، حيث يمكن أيضًا أستخدام نبضات الأتو ثانية لتحديد الجزيئات المختلفة، كما هو الحال في التشخيص الطبي.

جائزة نوبل في علوم الطب ٢٠٢٣

تم منح جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في اليوم الثاني من شهر أكتوبر/تشرين أول الحالي لأثنين من العلماء الذين طوروا التكنولوجيا التي أدت إلى لقاحات فيروس كورونا المعروفة بتقنية ال mRNA  وستتقاسم الدكتورة كاتالين كاريكو والدكتور درو وايسمان الجائزة.

ومن المعروف أن التكنولوجيا الخاصة هذه كانت تجريبية قبل الوباء، ولكنها أعطيت الآن لملايين الناس في جميع أنحاء العالم.

ولابد من التأكيد على أنه يتم الآن البحث عن نفس تقنية مرسال الحامض النووي الريبوزي لمعالجة أمراض أخرى، بما في ذلك السرطان.

وقالت لجنة جائزة نوبل: "لقد ساهم الفائزان في المعدل الزمني غير المسبوق لتطوير اللقاحات خلال أحد أكبر التهديدات لصحة الإنسان في العصر الحديث".

وتقوم اللقاحات بتدريب الجهاز المناعي على التعرف على التهديدات مثل الفيروسات أو البكتيريا ومكافحتها.

وقد استندت تكنولوجيا اللقاحات التقليدية إلى النسخ الميتة أو الضعيفة من الفيروس أو البكتيريا الأصلية - أو بأستخدام نماذج العامل المعدي. بينما أستخدمت لقاحات مرسال الحامض النووي الريبوزي نهجا مختلفا تماما.

وخلال وباء كوفيد ١٩، أستند كل من لقاحات مودرنا وفايزر/بيونتك على تقنية مرسال الحامض النووي الريبوزي.

هذا وكان قد ألتقى الدكتوران كاريكو ووايسمان في أوائل التسعينيات عندما كانا يعملان في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة.

جائزة نوبل في علم الكيمياء 2023

منحت جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2023 لأكتشاف وتطوير النقاط الكمومية، والتي هي جسيمات نانوية صغيرة جدًا لدرجة أن حجمها يحدد خصائصها. تقوم هذه المكونات الأصغر من تكنولوجيا النانو الآن بنشر ضوئها من أجهزة التلفزيون ومصابيح LED، ويمكنها أيضًا توجيه الجراحين عند إزالة أنسجة الورم، من بين أشياء أخرى كثيرة.

ويعلم كل من يدرس علم الكيمياء أن خصائص العنصر تحكمها عدد الإلكترونات الموجودة فيه. ومع ذلك، عندما تتقلص المادة إلى أبعاد نانوية تنشأ الظواهر الكمومية؛ وهذه تحكمها حجم المادة.

لقد نجح الحائزون على جائزة نوبل في الكيمياء 2023 في إنتاج جسيمات صغيرة جدًا لدرجة أن خصائصها تحددها الظواهر الكمومية. والجسيمات، التي تسمى النقاط الكمومية، لها الآن أهمية كبيرة في تكنولوجيا النانو.

"تتمتع النقاط الكمومية بالعديد من الخصائص الرائعة وغير العادية. يقول يوهان أكفيست، رئيس لجنة نوبل للكيمياء: "الأهم من ذلك أن لها ألوانًا مختلفة اعتمادًا على حجمها".

لقد عرف الفيزيائيون منذ فترة طويلة أنه من الناحية النظرية، يمكن أن تنشأ تأثيرات كمومية تعتمد على الحجم في الجسيمات النانوية، ولكن في ذلك الوقت كان من المستحيل تقريبًا النحت بأبعاد نانوية. ولذلك، يعتقد عدد قليل من الناس أن هذه المعرفة يمكن تطبيقها عمليا.

ومع ذلك، في أوائل الثمانينات، نجح أليكسي إكيموف في إنشاء تأثيرات كمومية تعتمد على الحجم في الزجاج الملون. جاء اللون من الجسيمات النانوية من كلوريد النحاس، وأثبت إكيموف أن حجم الجسيمات يؤثر على لون الزجاج من خلال التأثيرات الكمية.

وبعد سنوات قليلة، أصبح لويس بروس أول عالم في العالم يثبت التأثيرات الكمومية المعتمدة على الحجم في الجسيمات التي تطفو بحرية في السائل.

وفي عام 1993، أحدث مونجي باوندي (من أصل تونسي) ثورة في الإنتاج الكيميائي للنقاط الكمومية، مما أدى إلى إنتاج جسيمات مثالية تقريبًا. وكانت هذه الجودة العالية ضرورية لأستخدامها في التطبيقات العملية.

ومن المعروف أن النقاط الكمومية تضيء الآن شاشات الكمبيوتر وشاشات التلفزيون المعتمدة على تقنية  QLED  كما أنها تضيف فارقًا بسيطًا إلى ضوء بعض مصابيح LED، ويستخدمها علماء الكيمياء الحيوية والأطباء لرسم خريطة للأنسجة البيولوجية.

وبالتالي فإن النقاط الكمومية تحقق أكبر فائدة للبشرية. ويعتقد الباحثون أنه في المستقبل يمكنهم المساهمة في الإلكترونيات المرنة، وأجهزة الأستشعار الصغيرة، والخلايا الشمسية الأرق، والأتصالات الكمومية المشفرة - لذلك بدأنا للتو في أستكشاف إمكانات هذه الجسيمات الصغيرة.

الفائزون بنوبل الكيمياء 2023

* مونجي جي باوندي، ولد عام 1961 في باريس، فرنسا. دكتوراه 1988 من جامعة شيكاغو، إلينوي، الولايات المتحدة الأمريكية. أستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، كامبريدج، ماساتشوستس، الولايات المتحدة الأمريكية.

*لويس إي بروس، ولد عام 1943 في كليفلاند، أوهايو، الولايات المتحدة الأمريكية. الدكتوراه 1969 من جامعة كولومبيا، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية. أستاذ بجامعة كولومبيا، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.

* أليكسي إكيموف، ولد عام 1945 في أتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابق. دكتوراه 1974 من معهد يوفي الفيزيائي التقني، سانت بطرسبرغ، روسيا. كبير العلماء سابقًا في شركة Nanocrystals Technology Inc.، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.

جائزة نوبل في الآداب 2023

حصل الكاتب النرويجي يون فوسه على جائزة نوبل في الأدب "لمسرحياته المبتكرة ونثره الذي يمنح صوتًا لمن لا يملك صوتا".وكان الكاتب البالغ من العمر 64 عاما يقود سيارته في الريف شمال مدينة بيرغن عندما علم بالخبر. وقال إنه "مرهق وخائف إلى حد ما". وقال فوسه في بيان: "أرى أن هذه جائزة للأدب الذي يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى أن يكون أدبا، دون أي أعتبارات أخرى".

ولد فوسه عام 1959 على الساحل الغربي للنرويج، وقد كتب العديد من الروايات والمقالات وكتب الأطفال والترجمات. وهو أيضًا أحد الكتّاب المسرحيين الأكثر شهرة وأداءً على نطاق واسع، وقد تمت الإشادة به لأسلوبه البسيط، والذي أصبح يُعرف باسم "البساطة Fosse". ومن المعروف أنه قد تم ترشيحه منذ فترة طويلة لجائزة نوبل.

يعتبر الكثيرون يون فوسه أحد أهم المؤلفين في عصرنا، حيث تمت ترجمة أعماله إلى أكثر من 40 لغة، وكان هناك أكثر من 1000 إنتاج من مسرحياته في جميع أنحاء العالم. حصل فوسه على عدد لا يحصى من الجوائز المرموقة، سواء في موطنه النرويج أو في الخارج، وظهر لأول مرة ككاتب روائي عام 1983 برواية Raudt, svart (أحمر، أسود)، ومنذ ذلك الحين كتب أكثر من 30 مسرحية، من بينها Nokon kjem til å komme  شخص ما سيأتي Draum om hausten (الخريف) الحلم) و Eg er vinden  (أنا الريح). إلى جانب الروايات والمسرحيات، يكتب فوسه الشعر والمقالات والقصص القصيرة وكتب الأطفال.

وتشير مصادر الأدب الى أن فوسه كان قد تعرض الى حادث خطير وهو في السابعة من عمره مما أثر على كتاباته كشخص بالغ. نُشرت روايته الأولى Raudt, svart (أحمر، أسود) في عام 1983، وجاءت انطلاقته ككاتب مع رواية Naustet (Boathouse) عام 1989. تمت الإشادة بفوسه لمزجه "التجذر في اللغة وطبيعة خلفيته النرويجية".

يتكون أحد أعظم أعماله من سبعة أعمال مجمعة معًا في مجلد واحد بعنوان Septology.  ويمتد الكتاب على حوالي 800 صفحة، ويتتبع قصة رسام عجوز يعيش وحيدًا بينما يحسب حسابه مع الإله. تمت الإشادة بالعمل بسبب أبتكاره الشكلي، حيث نادرًا ما يتم مقاطعة نثر فوسه بعلامات الترقيم.

وقال الكاتب فوسه في مقابلة مع صحيفة فايننشال تايمز في عام 2018: "أنت لا تقرأ كتبي من أجل حبكات القصة. لكن ليس لأنني أريد أن أكون كاتبًا صعبًا. بل لأنني أريد أن أكون كاتبًا صعب المراس". لم أحاول أبدًا الكتابة بطريقة معقدة. أحاول دائمًا أن أكتب ببساطة، وبأقصى ما أستطيع، كما آمل".

وقد أشاد أندرس أولسون، رئيس لجنة جائزة نوبل، بعمل فوسه المبكر، واصفًا كيف أن مسرحيته الأولى - شخص ما سيعود إلى المنزل - التي تم إنتاجها عام 1996، عكست تميّز الكاتب.

"حتى في هذه القطعة المبكرة، بموضوعاتها المتمثلة في الترقب المخيف والغيرة المعوقة، فإن تفرد فوسه واضح تمامًا. قال أولسون: "في أختزاله الجذري للغة والحركة الدرامية يكشف القلق الإنساني والتناقض في جوهره".

وقال رئيس الوزراء النرويجي إن البلاد بأكملها "فخورة". وقد غرد جوناس جار ستور: “جائزة نوبل في الأدب ليون فوسه! اعتراف كبير بالتأليف الفريد الذي يترك انطباعًا، ويمس الناس في جميع أنحاء العالم. النرويج كلها تهنئ وتشعر بالفخر اليوم!.

وينضم فوسه إلى قائمة الفائزين بما في ذلك توني موريسون وكازو إيشيجورو وإرنست همنغواي. وكانت الفائزة في العام الماضي هي الكاتبة الفرنسية آني إيرنو، التي فازت "لشجاعتها ودقتها العملية التي تكشف بها جذور وغربة وقيود الذاكرة الشخصية". اشتهرت بمذكراتها الشخصية والمعنونة ب  Les Années أو (السنوات).

***

د. عامر هشام الصفار

من جديد تفاجئنا جائزة نوبل للاداب، وتسخر من توقعاتنا عندما نُصر ان الجائزة يجب أن تذهب إلى كاتب نعرفة وقرأنا الكثير من رواياته .كانت التوقعات تشير الى فوز الروائية الكندية مارغريت آتوود او مواطنتها الشاعرة " آن كارسون " وكنت قد اطلعت يوم امس على قائمة المراهنات على الجائزة، فكان اسم الياباني الشهير هاروكي موراكامي في المراكز المتقدمة، وايضا احتل سلمان رشدي موقعا، ومن افريقيا لا يزال الكيني نغوجي واثيونغو على القائمة منذ سنوات، واضيف للقائمة الصومالي نور الدين فارح، إلا ان السيد أندرس أولسون رئيس لجنة الجائزة ابلغنا ان الجائزة من نصيب الكاتب النرويجي " جون فوس " كما تَّردد الاسم في وكالات الانباء العربية أو "يون فوسه " كما جاء في الترجمات العربية لاعماله وهي رواية " صباح ومساء " التي ترجمتها شيرين عبد الوهاب وامل رواش عن النرويجية "، ورواية " ثلاثية" بترجمة شيرين عبد الوهاب وأمل رواش أيضاً، وصدرت له عن سلسلة المسرح العالمي مسرحية " الكلاب الميتة " ترجمة محمد حبيب .

لم يَّثر فوز جون فوس بالجائزة استغراب المتابعين في الغرب فهو على قوائمها منذ سنوات وكادت ان تذهب اليه عام 2021 عندما منحتها اللجنة للروائي عبد الرزاق جرنه. لكن هل تفاجأ جون فوس مثلنا وهو يستمع الى صوت سكرتير اللجنة ماتس مالم عبر الهاتف يخبره بالفوز؟. كان حينها يقود سيارته في الريف، توقف قليلا ليلتقط انفاسه، لاحظ سكرتير اللجنة ارتباكه فاوصاه أن يقود سيارته الى البيت بحذر. امام باب المنزل الانيق الذي يقع وسط مدينة اوسلو قرب القصر الملكي، وقد منحه اياه ملك النرويج تقديرا لمساهماته في الفنون والثقافة النرويجية. امام المنزل الملكي كانت وسائل الاعلام بالانتظار قال للصحفيين ان الأمر مدهش واصابه بالخوف الى حد ما .يخبر مراسل هيئة الاذاعة النرويجية انه كان يعد نفسه بحذر منذ عشر سنوات لتلقي مثل هذه المكالمة المدهشة، مضيفا ان الجائزة منحت " للأدب الذي يهدف أولا وقبل كل شيء إلى أن يكون أدبا، دون أي اعتبارات أخرى".

بيان لجنة الجائزة وصف "جون فوس"، بأنه "كاتب رائع في نواحٍ عديدة". وان ما يميز اعماله: " هو التقارب في كتاباته. فهو يمس أعمق المشاعر التي لدينا - القلق، وعدم الأمان، وتساؤلات الحياة والموت - مثل هذه الأشياء التي يواجهها كل إنسان "، واضافت اللجنة في بيانها أن: " هناك نوع من التأثير العالمي لكل ما يكتبه. ولا يهم إذا كان دراما أو شعر أو نثر، فهو يتمتع بنفس القدرة من الجاذبية "، فيما قال أندرس أولسون رئيس لجنة الجائزة ان فوس: " يؤثر علينا بعمق عندما نقرأه، وعندما، نقرأ عملاً واحدا، نجد انفسنا نستمر ونستمر " واصفا اياه بانه يمزج بين تجذر اللغة وطبيعة خلفيته النرويجية مع التقنيات الفنية في أعقاب الحداثة.

ناشر أعمال فوس قال للصحفيين الذين امتلأت بهم مكتبته: إنه كاتب استثنائي، تمكن من إيجاد طريقة فريدة تماما لكتابة الرواية، ما ان تفتح أي كتاب له وتقرأ سطرين، فستكتشفه انه كاتب متفرد ليس بامكان غيره ان يكتب مثل هذه الروايات والقصص " .

الكاتب البالغ من العمر 64 عاما يعد اشهر كتاب المسرح في النرويج يصر ان يكتب بلغة نينوشك أو النرويجية الجديدة، وهي لغة اهالي الساحل الغربي للنرويج، كتب حوالي 40 مسرحية بالإضافة إلى الروايات والقصص القصيرة وكتب الأطفال والشعر والمقالات التي وصفها الروائي النرويجي كارل كناوسغارد بانها: " تقف خارج الفن وتُمعن النظر فيه، تسبره وتستقصيه، متسائلة عن طبيعته بطرق مفهومة لي، لك، لنا، وترتبط بالتالي بالعالم الاجتماعي، متنقلةً بطريقة تبدو فيها، تلك المقالات، تشبه زمانها "، وهي حسب كناوسغارد تختلف عن ادبه الذي ينظر ابطاله من الداخل إلى الخارج، إلى العالم والقارئ معاً " .

ولد جون أولاف فوس في التاسع والعشرين من ايلول عام 1959 في هوجيسوند على الساحل الغربي للنرويج، ونشأ في مدينة ستراندبارم، لعائلة من الطبقة المتوسطة، تعرض في السابعة من عمره لحادث كاد أن يؤدي بحياته، يقول بأنه "أهم تجربة" في حياته، وانه صنعه ككاتب وفنان. كان يطمح في مراهقته أن يصبح عازف غيتار يقرر الانضمام الى احدى فرق موسيقى الروك قبل ان يتركها بعد ان وجد ان الكتابة هي طريقه الوحيد. نشأ في بيئة قريبة من " الحركة اللوثرية التقوية " مع جد من جماعة " الكويكرز" - جمعية الأصدقاء الدينية -، كان الجد ناشطاً من أجل السلام وتمنى ان يصبح حفيده سياسيا، لكن الشاب فوس نأى بنفسه عن محيط عائلته واعلن تمرده والحاده قبل ان يقرر اعتناق الكاثوليكية .

درس الادب المقارن واهتم بالفلسفة، شغف بكتابات جاك دريدا ادهشه كتاب دريدا " في علم الكتابة " قرأه عندما كان يعيش في الريف، أول نص ادبي كتبه عندما كنان في الثانية عشرة من عمره، كان كلمات أغنية. كتب بعض القصائد والقصص الصغيرة. يقول انه كان يشعر آنذاك انه يكتب لنفسه وبنفسه وليس للآخرين: " كان الأمر خاصا جدا. لقد وجدت مكانا أحببت الإقامة فيه " .

في الجامعة تشغله الافكار الماركسية ينضم لفترة مؤقته الى حزب ماوي، قرر دراسة علم الاجتماع، لكنه وجده علم غريب على اهتمامته، يلتحق بقسم الفلسفة، يقرأ هايدغر باهتمامه ويناقش كتابه " الكينونة والزمان، وجد فيلسوف متعب، لظل متعلقا بدريدا، يعترف ان كتاب دريدا " في علم الكتابه " اثر على طريقته في كتابة الادب . يدرس الادب المقارن، يبدا بكتابة روايته الاولى " "أحمر، أسود" والتي ستنشر عام 1983، وفيها يصفي حساباته مع الحركة اللوثرية التقوية التي كان جده يعتنقها ..فيما عرضت مسرحيته الاولى لن نفترق عام 1992 . قال ان دراسته للادب المقارن جعلته يسعى لكتابة نظريته الخاصة عن الرواية، والتي يرى ان الكاتب فيها يجب ان يكون هو المفهوم الرئيسي.

توصف اعمال جون فوس بأنها تنويع قريبة من افكار صامويل بيكيت التشاؤومية، وذاتية توماس بيرنهارد، قالت لجنة جائزة نوبل في بيانها ان: " فوس يمكن مقارنته بكتاب عظماء سابقين مثل توماس بيرنهارد وجورج تراكل وفرانز كافكا" واضاف البيان ان: رواياته تم تقليصها بشكل كبير إلى الأسلوب الذي أصبح يعرف باسم "البساطة الفوسية "

يعترف أنه اقرب الى كافكا الذي ترجم روايته الشهيرة " المحاكمة " الى النرويجية. كان كافطا افضل أدب عرفه قد فتحت عينيه على الطريقة التي يجب ان يكتب فيها الادب.

يصر على ان الكتابة دون ضرورة لا تعني شيئا: " عندما أكتب رواية. أغلبهم يقولون لا لهذا، أو نعم لذلك. واتباع كل هذه القواعد والاستماع إليها يتطلب ذاكرة وقدرة عقلية أكبر بكثير مما أعتقد أنني أملكه كشخص. لكنني أعتقد أننا أكثر بكثير مما نعرفه. نحن قادرون على أشياء غريبة.ومن بينها القدرة، أو ربما الفهم، على تنظيم علاقات أجزاء الرواية أو العمل الفني بالكل."

لا يؤمن بوضع مخطط للعمل الروائي، فهو يثق فقط بحسه الفني، يخاطب قراءه بالقول: أنتم لا تقرأون كتبي من أجل الحبكة": "الطريقة التي أكتب بها عندما أركز، كل شيء يجب أن يكون دقيقًا وصحيحا."

حصل جون فوس على العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة المسرح الاسكندنافي الوطني، وجائزة مجلس الفنون النرويجي الفخري وجائزة الأكاديمية السويدية الشمالية (2007) وحاصل على جائزة الكاتب النرويجي هنريك ابسن والذي تاثر به كثيرا يقول فوس: "إنه الكاتب الأكثر هيمنة الذي أعرفه". يجد متعة بوصفالنقاد له بانه ابسن الجديد . ترشحت بعض رواياته وترشيح على القوائم القصيرة لجائزة البوكر. هاجس الاختبار جلب لجون فوس القراء والشهرة وتعيش شخصياته في عوالم شعرية مجردة تعاني واقعا باردا وقاسيا يشبه الملاحم الشهيرة، وتتحدث شخصياته قليلا في نصوصه، لكنها تكشف عن مشاعرها الداخلية الدفينة. يوصف بانه " كاتب الصمت " اشارت لجنة جائزة نوبل الى ان " أعماله النثرية تعطي صوتاً لما لا يمكن البوح به " . يغيب الوصف الخارجي المكثف عن أدب فوسه، لكنه يستعيض عنه بكشف العواطف عبر الشعر والموسيقى اللذين يعتمد عليهما في إنجاز الحبكة، وهو بذلك يخرج عن المسرح والرواية السردية التقليدية. "لا أعتقد أن اعمالي متشائمة للغاية، لكنها ليست متفائلة أيضًا". واضاف: لم أحاول أبدًا الكتابة بطريقة معقدة. أحاول دائمًا أن أكتب ببساطة، وبأقصى ما أستطيع."

يقول فوس: "عندما أكتب بشكل جيد، ينتابني شعور واضح ومميز للغاية بأن ما أكتب عنه مكتوب بالفعل .إنه في مكان ما هناك. عليّ فقط أن أكتبه قبل أن يختفي" .

إن قراءة مسرحيات فوسه ورواياته يعني الدخول في شراكة مع كاتب يشعر القارئ بحضوره بقوة أكبر بسبب جوه المشحون بالمواقف القاتمة والكوميدية في نفس الوقت، يقول انه يؤمن بالحقيقة الانسانية التي قرأها في كتب الفلاسفة وبالهيمنة الالهية التي وجدها واضحة في متب اللاهوت: " في الظلام يجد المرء النور فعندما نكون في حزن، فإن هذا النور هو الأقرب إلينا من كل شيء" ويضيف: " أشعر أن هناك نوعا من من المصالحة في كتاباتي. أو السلام " .

" أذهب إلى المجهول وأعود بشيء لم أعرفه من قبل"، هكذا قال في مقابلة مع صحيفة "إندبندنت"، متجنباً البحث عن معنى أبعد من الكتابة. كتب الروائي كارل أوفي كناوسغارد مؤلف الرواية الشهيرة " كفاحي "، والذي يعترف بانه االمذ على يد جون فوس بأن فوس: " يؤمن بالكتابة كتمرين غامض وأن التناقض بين اللامتناهي بداخلنا والقيود الخارجية هو الذي يحرك كل ما لديه".

امام الصحفيين ووكالات الانباء وقغف حون فوس هادئا متحفظا في الكلام، وبدا متوترًا بعض الشيء عندما أجاب على أسئلة الصحفيين وعلق على جائزة نوبل التي حصل عليها. واعترف بأنها "أهم جائزة يمكنك الحصول عليها، لا أكثر ولا أقل"، ولكن عندما سئل عما سيعنيه ذلك بالنسبة لمسيرته المهنية وأسلوب حياته، أجاب "القليل، وقال إنه سيحتفل بجائزته "بهدوء شديد، مع العائلة، وأشار الى ان الكتابة بالنسبة اليه اهم من الجوائز انها "حياتي". .

جائزة جون فوس هي الرابعة التي تذهب الى كاتب نرويجي ذهبت عام 1903 الى " بيورنستيارنه بيورنسون " والذي يعد من ابرز شعراء النرويج، كتب النشيد الوطني لبلاده ويصنف كواحد من عظماء الادب النرويجي .

بعد " 17 " عاما ستعيد جائزة نوبل النظر في الادب النرويجي، وتمنح جائزتها عام 1920 الى الروائي النرويجي " كنوت همسون " 1859 - 1952 " صاحب الرواية الشهيرة الجوع – ترجمها الى العربية محمود حسني "، وقد تعرفت على روايات همسون بالصدفة حين عثرت في منتصف السبعينيات في دار الكتب القديمة التي كان يملكها الراحل " ابو يعقوب " على نسخة قديمة من رواية الجوع " . لم اسمع من قبل بـ" كنوت همسون "، لكنني قرأت على الغلاف ان صاحبنا فاز بجائزة نوبل . عندما صدرت رواية " الجوع " عام 1890، كان همسون في الواحدة والثلاثين من عمره – ولد في الرابع من اب عام 1859 وعاش حتى سنة 1952 – وخلال حياته اثار ضجة كبيرة عندما قرر ان يدافع عن احتلال المانيا النازية لبلاده، ووصف هتلر بـ" آخر العمالقة " وكان من الطبيعي ان يقدم الى المحاكمة بتهمة الخيانة، ليصدر الحكم بالإعدام سنة 1947، لكن حملة قادها سارتر وهمنغواي وفوكنر، ابعدت عنه شبح المشنقة، واكتفت المحكمة بمصادرة امواله، لكنه قبل وفاته بثلاثة اعوام كتب عن تجربته في الحياة، حاول فيها ان يطلب من الجميع ان يسامحوه على ما ارتكبه من حماقات في الحياة ..

عام 1928 تعود جائزة نوبل الى النرويج للمرة الثالثة حيث تمنح الى الروائية سيغريد أوندست صاحبة الملحمة الثلاثية " كريستين لافرانسداتر " - ترجمها الى العربية توفيق الاسدي – وهو العمل الروائي الذي منحت بسببه جائزة تنوبل وبه تصف حياة امرأة من الولادة حتى الموت.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

كانت تبلغ من العمر " 30 " عاما عندما قررت عام 1985 مغادرة بلادها المجر لتحط الرحال في الولايات المتحدة الامريكية من اجل ان تتابع بحوثها الطبية. بعد ٣٥ عاما وفي صبيحة اليوم الثالث من شهر ايلول عام 2022 تلقت كاتالين كاريكو جرعتها الأولى من لقاح كورونا من شركة فايزر في جامعة بنسلفانيا، ولم تكن تدري ان هذه الجرعة ستمهد لها الطريق لتحصل على جائزة نوبل للطب لعام 2023 بالاشتراك مع زميلها الدكتور درو وايزمان، حيث كان عملها رائدا في الكثير من العلوم الكامنة وراء اللقاحات التي يتم إعطاؤها لعشرات الملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم .

كاتالين كاريكو المولودة في احدى احياء مديسنة زولنوك بالمجر في السابع عشر من كانون الثاني عام 1955، ابنة المهندس الذي يحمل افكارا ليبرالية وكان منتشيا بانتفاضة المجر عام 1956، والتي لم تستمر سوى اشهر قليلة بعد ان اعلنت القوات السوفيتية انهاء ما سمته بالتمرد الرجعي . واصلت الفتاة دراستها اضافة الى ولعها بقراءة الكتب الفلسفية التي كان والدها يحصل عليها من بعض المكتبات، قرأت ديكارت وهيغل، لكنها تعلقت بافكار بجان جاك روسو، كانت تأمل دراسة الفلسفة، إلا ان رغبة العائلة بان تصبح ابنتها طبيبة تغلبت على هوايتها لتحصل على الشهادة الجامعية في علم الاحياء من جامعة زيجيد، بعدها تحصل على الماجستير في علوم الكيمياء،، عام 1982 تحصل على الدكتوراه، بعدها ستنضم الى الأكاديمية المجرية للعلوم حتى عام 1985 حيث قررت السفر الى الولايات المتحدة الامريكية، لم تكن تملك المال فاضطر زوجها الى بيع سيارته ليوفر ثمن تذاكر السفر ومعها ما يقارب الالف دولار خبئتها في دمية طفلتها .

ذهبت كاتالين إلى الولايات المتحدة مُحملة بطموح كبير، تبحث عن فرصة ترضي شغفها تجاه البحث العلمي حول الحمض النووي الريبي وإمكانيات الاستفادة منه في الوقاية من الأمراض وعلاجها، وهناك انضمت إلى جامعة تمبل البحثية في ولاية بنسلفانيا في العام 1985، وتابعت بحثها الذي بدأته في المجر، ثم توّسعت فيه بعد انتقالها إلى كلية الطب في جامعة بنسلفانيا، حيث أظهرت التجارب التي كانت تجريها على الحيوانات احتمالية نجاح فرضية استخدام هذه المادة الوراثية في علاج الأمراض، مما حفزها على مواصلة البحث لإثبات إمكانية استعمال الحمض النووي الريبي، في معالجة السكتات الدماغية والتليف الكيسي. وفي عام 1989، تم تعيينها أستاذ مساعد في جامعة بنسلفانيا، حيث ظلت حتى عام 2013.

كانت كاتالين تؤمن بقدرتها على انجاز حدث علمي كبير قضت خمس سنوات تبحث عن منح لتمويل بحثها العلمي، سواء كانت منحا حكومية أو دعما ماليا من شركات، إلا أنها لم تتمكن من الحصول على أي منحة لمتابعة عملية البحث، وقوبلت كل طلباتها بالرفض. في العام 1995 توجه لها جامعة بنسلفانيا إنذارا رسميًا يضعها أمام خيارين، أولهما هو التخلي عن عملها البحثي المتعلق بالحمض النووي الريبي، بعد أن صار واضحًا استحالة استكماله في ظل انعدام فرص التمويل، وثانيهما هو القبول بتخفيض رتبتها الأكاديمية وتقليل راتبها الشهري، إذا أرادت المضي في بحثها الذي تراه الجامعة مضيعةً للوقت:" فكرت في الذهاب إلى مكان آخر أو القيام بشيء آخر تمامًا، وشعرت بأنني ربما لست جيدة بما يكفي، ولست ذكيةً بالقدر الكافي."

لم يكن ذلك هو الاختبار المؤلم الوحيد الذي وجدت كاتالين نفسها مضطرة إلى التعامل معه في ذلك الوقت، فقد علمت بإصابتها بالسرطان خلال الانذار الذي وجهتته الجامعة. وبينما كانت تستعد للعملية الجراحية، كان ذهنها منشغلا بمسألة الجامعة وتقييم الخيارين من زاوية شخصية وأخرى مهنية، حتى اهتدت إلى الاستمرار في عملها البحثي والقبول بتخفيض درجتها الوظيفية وراتبها قالت في رسالتها الى الجامعة انها ترى ان :" مقعد المختبر هو الافضل لها وعليها فقط ان تقوم بتحارب أفضل " .

العام 1997 كان نقطة تحول في حياتها ومسيرتها العلمية حيث التقت بعالم المناعة الشهير درو وايزمان، الذي انضم إلى جامعة بنسلفانيا، وكان يعمل آنذاك على تطوير لقاح مضاد لفيروس نقص المناعة، وبعد حديث بينهما ادرك وايزمان ان تعاونه مع هذه الباحثة المجرية سيؤدي في المستقبل الى انجاز علمي كبير، قدم لها وايزمان مقترح العمل معه خصوصا انه يحصل على تمويل حكومي، عاد الامل الى كاتلين التي بدأت في تحديد الأحرف الموجودة في الشفرة الوراثية الخاصة بمرسال الحمض النووي الريبي المُصنع التي تستثير جهاز المناعة، وتمكنا بعد سنوات من تطوير نسخة حديدة قادرة على إنتاج بروتينات تتصدى للفيروسات وتقي من الأمراض.

في العام 2005، نشر العالمان دراسة تثبت وتوثق إنجازهما العلمي، حملت عنوان " دراسة جديدة لجامعة بنسلفانيا تكتشف دورًا جديدًا للحمض النووي الريبي في الاستجابة المناعية البشرية" كما تقدم كلاهما بطلب لتسجيل براءة اختراع.

تصف كاتالين مشاعرها إزاء هذا الإنجاز قائلة :" لقد أدركنا في تلك اللحظة أن الباب فتح للحصول على علاجات للكثير من الامراض " . لكن الامور سارت عكس ما تمنت السيدة المجرية، فقد رفضت معظم شركات الادوية الاستفادة من ابحاثها، وحتى جامعة بنسلفانيا لم تعترف بإنجازها ورفضت إعادتها إلى منصبها الذي سبق أن أبعدتها عنه في عام 1995

عام 2013 تتلقى كاتالين عرضا من شركة شركة بيونتك الالمانية للصناعات الدوائية للعمل في مختبراتها، تعود الى المجر حيث تقوم بالتدريس في جامعة جامعة زيجيد التي شهدت انطلاقتها الاولى، اضافة الى عملها في جامعة بنسلفانيا.

كان ظهور فيروس كورونا وتفشيه قد أرغم شركات الأدوية على العمل والمنافسة في تطوير لقاح لمواجهة جائحة لم يشهد لها العالم مثيلًا خلال مئة عام، وكان من بينها شركة بيوأنتك التي كانت كاتالين تشغل فيها منصب نائبة الرئيس. وخلال أقل من عام، استطاعت الشركة بالتعاون مع شركة فايزر الأمريكية، تطوير لقاح بتقنية الحمض النووي الريبي للوقاية من فيروس كورونا.

في الحادي عشر من كانون الثاني عام 2020، اعتمدت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية، اللقاح الذي طوره العالمان كاتالين كاريكو، ودرو وايزمان للاستخدام الطارئ بعد تثبتها من مأمونتيه، ليصبح أول لقاح مُصنّع بتقنية الـحمض النووي الريبي، يحصل على تصريح بالاستخدام ويتلقاه البشر على نطاق واسع.

بعد ان سمعت بفوزها بجائزة نوبل للطب تلقت اول اتصال من شقيقتها التي تعيش في المجر قالت للصحفيين ان فوزها بجائزة نوبل حقق امنية ظلت تراود والدتها لسنوات حيث كانت تتابع بحرص إعلان الفائزات والفائزين بهذه الجائزة على أمل أن تجد اسم ابنتها بينهم. كان استخدام هذه التقنية العلمية ونجاحها، قبل ثلاثين عامًا مجرد فكرة تجول في خاطر كاتالين ثم صارت حلمها الكبير، بعدها تجولت الفكرة الى انجاز كان بمثابة طوق النجاة لمئات الملايين من البشر .

اثناء حصولها على جرعة من لقاح كورونا قالت كاتالين في حوار مع موقع CNN، أنها ستحتفل بهذا الإنجاز عندما تنتهي المعاناة الإنسانية الناجمة عن فيروس كورونا، وينقضي هذا الوقت العصيب، معربةً عن أملها أن يتحقق ذلك في الصيف القادم، وقالت «عندما ننسى الفيروس واللقاح، سأحتفل حقًا.

قالت لجنة جائزة نوبل في بيانها ان أن الباحثَين أُعطيا الجائزة، "لاكتشافاتهما المتعلقة بتعديلات القواعد النووية التي أتاحت التوصل إلى لقاحات فاعلة ضد كوفيد-19 قائمة على الحمض النووي الريبوزي المرسال". واضافت اللجنة أن "الفائزَين ساهما بوتيرة لم يسبق لها مثيل في التوصل إلى لقاحات في خضمّ أحد أكبر التهديدات لصحة الإنسان، وكانت اكتشافات الفائزين بجائزة نوبل حاسمة لتطوير لقاحات mRNA فعالة ضد كوفيد-19 خلال الوباء الذي بدأ في أوائل عام 2020، ومن خلال النتائج الرائدة التي توصلا إليها، والتي غيرت فهمنا بشكل أساسي لكيفية تفاعل mRNA مع جهاز المناعة لدينا، حيث ساهم الفائزان في المعدل غير المسبوق لتطوير اللقاحات" .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

منذ يوم امس ومواقع التواصل الاجتماعي مشغولة برسالة الماجستير التي قدمتها احدى الطالبات وكانت بعنوان " صناعة الحلويات والمعجنات في كربلاء "، وبعيدا عن حالة السخرية التي رافقت العديد من التعليقات، وبعيدا عن الفديو الذي انتشر للطالبة وهي تتحدث عن بعض الحلويات، فان موضوع الطعام يعد مبحثا مهما في الكثير من الجامعات العالمية او حتى في الدراسات الانثربولوجية، وكنا قد قرأنا باعجاب كتاب ايزابيل الليندي " "أفروديت" والذي تناولت فيه موضوعة ثقافة الطعام بين الشرق والغرب، وكانت دار المدى قد اصدرت قبل سنوات مجلد ضخم بعنوان " الطباخ ودوره في الحضارة " تاليف بلقيس شرارة، فيما نشر عالم الاجتماع العراقي سامي زبيده كتاب " مذاق الزعتر.. ثقافة الطهي في الشرق الأوسط" – ترجمه الى العربية احمد خريس – اكد فيه أن الطعام يعد علامة ثقافية بارزة . وصدر بالعربية كتاب كارول كونيهان " أيديولوجيا الطعام والجسد، النوع والمعنى والقوة "- ترجمة سهام عبدالسلام - وكنت قد قرأت كتاب بعنوان" في المطعم .. ثقافة الطعام من بطن الحداثة" للكاتب الأمريكي كريستوف ربات - وترجمة محمد ابوزيد صدر عن دار كلمة – واصدر مشروع كلمة للترجمة سلسلة كتب عن التاريخ الكوني للتوابل والشاي والحلويات وللبسكويت والكعك والزيتون وللشكولاته والشاي، وقبل مدة قرأت كتابا ممتعا بعنوان "الخبز.. الأهمية الثقافية والرمزية لدى حضارات العالم المختلفة". ويمكن لي ان اعدد مئات العناوين تتحدث عن الطعام واصنافه وتاريخه .

في زيارته الاخيرة الى بغداد كنت اتحدث مع الصديق الاستاذ جواد بشارة عن الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشيل أونفري وغرابة الكتب التي ينشرها، حيث اصدر عشرات الكتب في موضوعات متنوعة، وللاسف لم يترجم منها الى العربية سوى " كتاب نفي اللاهوت " صدر عن دار الجمل واصدرت له دار سبعة السعودية كتابه عن نيتشه " الحكمة التراجيدية "، اثناء الحديث اخبرني الاستاذ بشارة والذي يرتبط بصداقة مع اونفري ان الفبسوف الفرنسي البالغ من العمر " 44 " عاما يكتب في كل شيء وان اول كتاب نشره عام 1989 خصصه لطعام الفلاسفة، ثم اصدر عام 1995 كتاب آخر بعنوان " فلسفة الطعام "

يخبرنا ميشيل اونفري انه اصيب وهو في الثامنة والعشرين من عمره بنوبة قلبية، جعلته يرقد في المستشفى ويخضع لنظام غذائي خاص افقده اكثر من عشر كليو غرامات من وزنه، وقد اوصته اخصائية اغذية بالامتناع عن الكثير من الاطعمة على حد قوله وعدته: " بطعام كئيب من أجل ما تبقى من حياتي، لو كنت أرغب في البقاء على قيد الحياة ! " من هنا جاءته فكرة كتاب " بطن الفلاسفة " حيث تخيل ان اخصائية تغذية تجبر نيتشه على تناول انواع معينة من الطعام اثاء مرضه الاخير الذي ادى بالنهاية الى وفاته

لا يحب ميشيل أونفري الحديث عن حياته التي يرى انها كادت أن تنسل منه اكثر من مرة، عندما اصيب بسكتة قلبية نجى منها باعجوبة، وبعد سنوات سيتعرض الى جلطة دماغية تقعده في السرير لعدة شهور، وتمنعه من الكتابة لأكثر من عام .

ولد ميشيل أونفري في الاول من كانون الثاني عام 1959 لعائلة ارجنتية، الأب يعمل في الزراعة، والام قضت حياتها في خدمة البيوت، وقد توفيا وهو صبي حيث ينتقل للعيش في دار للايتام، ويتذكر في تلك السنوات كيف سيطرت عليه رواية الغريب لالبير كامو، فقد ظل يردد ولسنوات الجملة التي جاءت في بداية الرواية على لسان ميرسو: " اليوم، ماتت أمي "، وسترافقه كتب كامو في مسيرته الفلسفية لينشر عام 2012 مجلدا ضخما بعنوان " النظام الفوضوي .. حياة البير كامو "، يحاول ان يعيد فيه الاعتبار لصاحب " الطاعون " أمام الهجمات التي تشن عليه بين فترة واخرى باعتباره مواليا للاستعمار، ومناهظا للافكار الاشتراكية، وفي الكتاب يتحدث اونفري عن كامو كأنما يتحدث عن نفسه، فالاثنان عاشا طفولة اتسمت بالفقر وباليتم، والاثنان عانا من المرض بوقت مبكر، كامو اصيب بالسل، واونفري ظلت الجلطات القلبية والدماغية تلاحقه، لكنهما كامو وأونفري، احبا الحياة وعشقا ملذاتها الصغيرة .. ومثل كامو احب اونفري الطعام، وعشق المطاعم، كان كامو مغرما بالمطاعم الفاخرة ربما تعويض عن الفقر الذي عانلى منه في طفولته وشبابه .

قال اونفري ان غاية طموحه في الحياة، كان الحصول على عمل في محطة القطار، إلا ان الكتب التي كان يقرأها في مكتبة المدينة منذ ان كان في الثانية عشر من عمره، غيرت حياته، فقرر ان يصبح روائيا بعد ان قضى اشهرا يحل الغاز رواية مارسيل بروست " البحث عن الزمن المفقود " ويتمتع بقوة روايات سيلين، لكنه اليوم ينظر الى رفوف الكتب التي تحتوي الروايات، ويعتبرها ذكرى جميلة من الماضي، قرأ ماركس وهو في الرابعة عشر من عمره، وسيتركه ليغرم بسيرة الفوضوي الفرنسي بيير برودون، يعترف ان حياته لا تمت بصلة الى الفوضوية، فهو يؤمن بالثورة التي يمكنها ان توفر مناخا يتساوى فيه الجميع، دون ان يسيطر اصحاب الشركات الكبرى او رجال الأيديولوجيات على الاقتصاد، يناهض الحتمية الاجتماعية والعائلية والتاريخية، ويؤمن بقدرة الفرد على التحرر وتشكيل نفسه بنفسه . عام 1986 ينهي دراسته الجامعية بعد ان قدم اطروحة بعنوان " الآثار الأخلاقية والسياسة للأفكار السلبية لشوبنهور "، بعدها يبدأ بالكتابة حيث تتوالى كتبه بشكل غزير، قرر الاستقالة من وظيفة مدرس فلسفة، لان تدريس الفلسفة في فرنسا قد تم تحريفه وأدلجته ولم يعد يؤدي الوظيفة المنوطة به أساسا، ألا وهي تنمية الروح النقدية وتقديم الفكر الفلسفي الحقيقي المغيب للطلبة بدل إلهاء عقولهم بفلسفة رسمية غبية ورجعية على حد قوله .

عام 2002 يؤسس كلية للفلسفة يطلق عليها اسم " جامعة كاين الشعبية " وقد وضع لها منهاجا خاصا، حيث يمكن لأي شخص مهما كان عمره أن يدرس فيها، من دون شروط كالشهادة، وفيها يقدم مع عدد من الاساتذة دروسا مجانية في الفلسفة .

 في الجامعة سيلقي محاضرات بعنوان " التاريخ المضاد للفلسفة " والتي صدر منها اكثر من عشرة اجزاء تناول فيها تاريخ الفلسفة قبل سقراط وصولا الى العصر الحديث، وهو يشير الى انه كتب هذه الموسوعة للرد على الذين يريدون افساد الفلسفة . يعد من اكثر الفلاسفة رواجا في سوق النشر حيث تصل مبيعات بعض كتبه الى 250 الف نسخة، يبتكر طريقة حديثة لنشر الفلسفة، لا تؤمن بالمصطلحات المعقدة، وتمزج بين الادب والفكر وعلم الاجتماع . ويلاحظ أن الفلسفة يمكنها ان تقدم لنا نصائح لمحاربة الخوف والقلق والامراض .

يرد ميشيل أونفري على الذين ينتقدون نظريته في المتعة، حتى اطلقوا عليه لقب فيلسوف المتع الزائفة، مؤكدا انه يدعو للاستمتاع بأبسط الأشياء في الحياة كالسير بين الاشجار، اوالاستمتاع بالطعام رغم نصائح الاطباء .

يرى أونفري إن الاقتراب من الفلاسفة من خلال الطعام يقدم وجهة نظر مثيرة للاهتمام. بالنسبة للبعض منهم، كانت علاقة الإنسانية بالطعام جزءًا لا ينفصم من نظام أوسع للأخلاق أو الأخلاق. أولئك الذين دافعوا عن البساطة التقشفية رأوا في الوجبة اليومية انعكاسًا لأخلاقهم الأوسع، وفرصة لتوضيح نقطة ما، وضرب مثال، وانضباط الذات. ورأى آخرون أن التقدم الحضاري ينعكس في التقدم في تقنيات تذوق الطعام والتعقيد. ورأى البعض في الأنظمة الغذائية للشعوب المختلفة انعكاسًا للقيم المتأصلة وتطور تلك الثقافات والمجتمعات.

يحضر الطعام في الكثير من محاورات افلاطون، كان صاحب الجمهورية يؤمن بأنّ على الفيلسوف المثالي ألّا يحرم نفسه من الأطعمة المنتشرة، والمتعارف عليها في محيطه. بالرّغم من أنّه يعتبر أن الطّبخ المتكرّر معرفة جوفاء. ويرى في الطّبخ وسيلةً لتفسير نظريّة المعرفة عند الإنسان أو فهمها. لذلك شغل الطّعام حيزاً من النقاشات في كتبه . لكن الفيلسوف اليوناني ديوجين اعتبر ان الحضارة قضت على قيمة الطعام الحقيقة، وان النار افسدته زلهذا كان يلجأ إلى شرب المياه من الينابيع، والتقاط الثمار من الأشجار، فيما كان يرفض طهي الطّعام.

كان الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط مهتما بأمرين فقط، طبعا اضافة الى القراءة والكتابة: وهما أهمية مواعيد المشي، ووجبة الطعام التي سيتناولها، وهي وجبة واحدة فقط تقدم في المساء يدعو لها بعض أصدقائه المقربين، وكانت تتضمن ثلاثة اطباق من الطعام مع الجبن وقنينة نبيذ، حيث يتناول كاسا صغيرا. يعتقد إكانط بضرورة الهضم الجيد للطعام والجلوس مدة اطول الى المائدة، وكان ينزعج من تناول الطعام بمفرده ويقال إنه أرسل العامل الذي يعمل بحدمته للحصول ذات مساء للحصول على رفيق من الشارع إذا لم يحضر احد من الاصدقاء لتناول العشاء معه . في المقابل كان ضد الشراهة في الاكل او تناول النبيذ .

فيما كتب جان جاك روسو أول عن الأطعمة الطبيعية وأهمية تناول المنتجات الموسمية. واتنقد الهوس بالموائد الفاخرة التي قال انها إلى إفقار الآخرين، ويرى روسو ان كثرة تناول اللحوم تؤثر على شخصية الانسان، فاللحوم حسب راي روسويميل الذين يكثرون من تناولها إلى العنف والهمجية، بينما الناس الذين يتناولون الخضار يميلون إلى السلام والمحبة، وعلى النقيض منه كان فولتير يعشق الاطعمة ويقيم الموائج الباذخة لاصدقائه . وكان الفيلسوف والاقتصادي الفرنسي شارل فورييه يرى أن فن الطهو يجب أن يتم تدريسه منذ سن مبكرة باعتباره "علما محوريا" .

ويتساءل نيتشه عما إذا كانت الفلسفة بحاجة الى وضع نظرية مناسبة للتغذية، يصر ميشيل أونفري ان الفلاسفة ادركوا منذ فترة طويلة أن هناك علاقة عميقة جدا بين فعل الأكل وفعل التفكير ورغم هوسه بتناول اللحوم إلا انه يقرر الانحراط في النظام الغذائي النباتي،: "من الواضح أن الامتناع عن تناول اللحوم من حين لآخر، لأسباب تتعلق بالحمية الغذائية، مفيد للغاية. لكن، على حد تعبير غوته، لماذا نصنع منها " دينًا" ؟ وكتب إلى صديق: "إن أي شخص ناضج للنباتية، عموماً، ناضج أيضاً لـ "الحساء" الاشتراكي".

لكن نيتشه يثير قضية فلسفية أخرى تتجلى في الطعام: قضية الإرادة الحرة. ضد أولئك الذين جادلوا بأن تناول أطعمة معينة بطرق معينة من شأنه أن يؤدي إلى صحة جيدة وعمر طويل، يوضح أونفراي: اننا لانختار نظامنا الغذائي نظام، اننا تكتشف فقط ما هو الأكثر انسجاما مع احتياجاتنا ككائنات حياتية . من جانبه ظل جان بول سارتر كان يكره الأطعمة الطبيعية ويفضل الاطعمة الجاهزة او المعلبة التي تمت معالجتها وتسويتها وإعادة تشكيلها من خلال أيدي الإنسان.

ويتساءل أونفري ما الذي كانت حنة أرندت ستتغذى به وهي تمضغ كتاب " هايدغر " الوجود والزمان " ؟ بعد انتقالها إلى الولايات المتحدة من أوروبا، هل أعربت عن أسفها على تفاهة اللحوم والبطاطس الأمريكية؟ هل كانت الفيلسوفة الامريكية جوديث بتلر من محبي المعجنات؟ وما علاقة سيمون دي بوفوار بالاطعمة التي تتناولها سواء مع سارتر او بمفردها .

في معظم كتاباته يستند ميشيل اونفري إلى تراث الفلسفة الرواقية التي اكدت على معنى العظمة الانسانية، وكيف نتعلم ان نفهمها، وكيف نحفز رغباتنا تجاهها .. آمن الرواقيون بان ضمان سعادة الانسان تكمن في تعلمه كيف يكون مستقلا: " الشرط الوحيد لسعادة الانسان هو في ان يقود حياة فاضلة تقوم على المعرفة ". ميشيل أونفري صاحب المئة كتاب خلال ثلاثين عاما، يُشبه نفسه بـ " ديوجين الكلبي "، فهو مثله يصر على ان يحمل بيده فانوسا في وضح النهار .. قال أن الانسان المعاصر ارتضى لنفسه أن يستسلم لحياة ضائعة . أونفري الذي يوصف بانه " متشائم نيتشوي " يرى أننا يجب ان نترك العالم يتفسخ، لكي يفسح الطريق لشيء جديد تماما، ولنظام ثقافي جديد، لمائدة بشرية جديدة.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

منذ أن بادر بنشر ذكرياته عن عمله مُعيناً لعربة قطار، ثم ترقيته بعد ثلاث سنوات إلى فاحص بطاقات أو ما يطلق عليه شعبياً اسم «التيتي»، فإن عبد الجبار العتابي استطاع أن يكسب عدداً ممتازاً من المتابعين على صفحته في الفيسبوك والذين باتوا يتلهفون لقراءة المزيد من تلك الحكايات المثيرة والطريفة عن مشاهدات وأسرار ما يحدث في عربات القطار خلال رحلاته الطويلة أثناء الليل والنهار. وكنتُ من هؤلاء الذين يترقبون ما يكتبه لكونه يلج عالماً مجهولاً لأغلب الصحفيين، فليس من المعتاد أن يكتب الصحفي ذكرياته عن عمله غير الصحفي، وليس كل صحفي يمكن أن تتاح له تجربة العمل في السكك الحديد لمدة تسع سنوات، متنقلاً بين القطارات الصاعدة والنازلة بين بغداد والبصرة والموصل وكركوك والقائم، وفي المحطات التي يتوقف فيها القطار فيما بين هذه المدن، ويستمع إلى حكايات الناس، ويشاهد مواقف وحوادث ويشارك في الكثير منها مؤدياً واجبه كمعين عربة تارةً، وفاحص بطاقات تارةً أخرى، ومأمور سير في بعض الرحلات، ومسجلاً في الوقت نفسه بعين الصحفي وتطفله ما سمعه وما شاهده في تلك الرحلات منذ بداية عمله عام 1991 وحتى نهاية 1999 وهي مدة تقع ضمن سنوات الحصار الاقتصادي المرّة. غير أن صاحبنا « التيتي» الصحفي لا يكتفي بفحص البطاقات، فيزج بنفسه أحياناً في مواقف محرجة داخل العربات وخارجها، مثل ذلك الموقف الذي وجد فيه نفسه محاصراً ببدلته الأنيقة وربطة العنق، في شارع فرعي بين شابين غاضبين متحفزين ومجموعة رجال، بعد ان اغرته وأغوته شابة جميلة مكتنزة بحركاتها واشاراتها وغمزاتها، فتبعها خارج السوق مثل سكران بعد ان شتتت تفكيره وبعثرت مشاعره!. أو مثل تلك الفتاة الفاتنة التي دعاها لقضاء الليل على سرير شاغر في غرفته فلم تمانع فاقتادها والشيطان يزغرد في قلبه، ويرقص أمامه، حتى اذا دخلا الغرفة في هدأة الليل الشتوي أعلمته بأنها راهبة في طريقها إلى دير في الموصل، ليهرب الشيطان ويقضيا الليل في نقاشات عن المحرمات الدينية، وموضوعات لاهوتية في الإسلام والمسيحية، وبقيا يتجاذبان أطراف الحديث لأكثر من ست ساعات قبل أن ينتبها لأضواء الفجر وهي تتلألأ من النافذة معلنة الوصول إلى المحطة الأخيرة!.

أكثر من سبعين حكاية ضمها كتاب عبد الجبار العتابي «من ذكريات القطار .. أسرار ومشاهدات» تمثل خلاصة عمله في القطار الذي تعددت مسمياته بين الريل في جنوب العراق والترين في الشام والوابور في مصر، وتغنى به الشعراء والمطربون من ترين هوى فيروز» مشي .. مشي ترين الهوى .. يللا بينا نسهر سوا «، إلى ريل مظفر النواب وياس خضر الذي يصيح بقهر «صيحة عشك»، مروراً بوابور محمد عبد الوهاب الذي يريد أن يخبره «رايح على فين»، وتلك الحكايات متنوعة تنوع البشر وطباعهم ومزاجاتهم وتصرفاتهم وسلوكهم السوي، وانحرافاتهم التي يرصدها فضول الصحفي فيتحدث عنها بصراحة وجرأة قد تبدو غير مستساغة أو أنها تخدش الحياء العام، كما في ذكريات «الشواذ والخارجات عن الطريق» الذي يتضمن مشاهدات ومفارقات غريبة في الاختلاف بين أصحاب السلوك المنحرف بين القطارات الجنوبية والقطارات الشمالية، كما يرصد السبب الذي يدعو أحد معيني العربات لأن يعمل على أحد الخطوط ويرفض العمل على الخطوط الأخرى وهو سبب متعلق بشذوذه. وهناك العشرات من المشاهدات المؤثرة في المحطات والمدن والقرى والقصبات والصحارى والسهول والاهوار التي يلتقطها العتابي بعين الصحفي فيسجلها في ذاكرته التي سودت صفحات الكتاب، من اليوم الأول الذي قبل فيه العمل بوظيفة «معين عربة» - وهي كلمة ملطفة لوظيفة خادم عربة مؤهلاتها أن يكون المتقدم لها يقرأ ويكتب فقط – مضطراً من أجل لقمة العيش في ظروف سنوات الحصار مع أنه خريج كلية الآداب بالجامعة المستنصرية، مروراً بتحويل وظيفته إلى فاحص بطاقات لتتناسب مع شهادته الجامعية، وانتهاءً بالشهرين الأخيرين من العام 1999 إذ قرر أن يودع القطارات وأهلها بلا عودة بعد ان تعرض لموقف محرج ومجحف جعله يتمسك بعمله الصحفي ويقول للتيتي وداعاً.

واذا كانت السكك الحديد قد خسرت  «التيتي عبد الجبار العتابي»، فإن جريدة الجمهورية قد كسبته بلا شك، فهو من الصحفيين المثابرين المخلصين لمهنتهم الذين أعطوا المهنة أكثر مما أخذوا منها بكثير، وإذ يتوج سلسلة كتاباته عن ذكريات القطار بصدور هذا الكتاب الجميل المتميز بطباعته واخراجه وبمادته المُبتكرة، فإنه يكون قد فتح الباب لصحفيين آخرين لتسجيل انطباعاتهم وذكرياتهم عن مهن أخرى غير العمل الصحفي قد يكونوا اشتغلوا بها في مرحلة من مراحل حياتهم، وما كان للعتابي الإمكانية المادية لأن يطبع كتابه هذا لولا الدعم الذي قدمه زميلنا الصحفي والإعلامي والرسام والمصمم عاصم جهاد الذي تبنى بجهده الشخصي طباعة الكتاب من دون مقابل، وصمم الغلاف بنفسه، وأشرف على إخراجه في حلة جذابة وطباعة راقية.

حكايات « التيتي» عبد الجبار أشبه بمغامرات السندباد البحري، لكنه سندباد على ظهر قطار يسير على سكة حديدية هذا المرة!.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

يعود التاريخ الرسمي لتأسيس أمانة العاصمة إلى 13 شباط 1923 حين بارك الملك فيصل الأول اقتراح وزارة الداخلية بإنشاء بلدية واحدة لكل بغداد وأصدر بذلك إرادته الملكية، وتعيين صبيح نشأت أول أمين للعاصمة، غير أن محاولات تأسيس النظام البلدي تعود إلى تاريخ أقدم من ذلك بكثير، وبالتحديد إلى عام 1868 حين قررت ولاية بغداد العمل بهذا النظام تماشياً مع منهج الإصلاحات الجديدة في الدولة العثمانية. هذه المعلومات التاريخية وغيرها الكثير جاءت بين دفتي الكتاب التوثيقي الذي صدر لمناسبة مرور 100 عام على تأسيس الأمانة، وشارك في إنجازه الباحثان التراثيان رفعة عبد الرزاق محمد وعادل حسوني العرداوي، إذ قدما جهداً تاريخياً وتوثيقياً طيباً وممتعاً هو نتاج حبهما العميق لبغداد، ذلك الحب الذي جسداه خلال السنوات الأخيرة بالعديد من المقالات والندوات والمحاضرات ومختلف الفعاليات الثقافية والتراثية، ثم توجا محبتهما بإصدار كتاب « أمانة بغداد في 100 عام».

كان إبراهيم افندي الدفتري أول من رأس البلدية الأولى في صوب الرصافة التي اتخذت لها بناية قريبة من سراي الحكومة، وبسبب توسع مدينة بغداد أنشئت بلدية أخرى في الرصافة برئاسة عبد الرزاق الشيخ قادر، أما البلدية الثالثة فقد شملت جانب الكرخ وقد كانت برئاسة عبد الله الزيبق وكانت من « أكثر البلديات نشاطاً، فقد أنجزت إضاءة شوارع الكرخ سنة 1878م». وكانت هذه البلديات تأخذ على عاتقها خدمات الانارة واكساء الشوارع وأعمال النظافة وإنشاء الأبنية والجسور والمستشفيات وإسالة الماء وإطفاء الحرائق والإشراف على مدرسة الصنائع وإجراء الانتخابات البلدية، ومن مهامها أيضاً: «مراقبة كل ما يخل بالآداب العامة بين الأهالي ومنعها، ومن ذلك منع دخول الأشخاص عراة الأجسام إلى النهر، ومنع السقائين من حمل كميات كبيرة من الماء على ظهور الحيوانات أو معاملتها بقسوة، ومنعت الحوذيين من ضرب الحيوانات بقوة»، وانها لمفارقة حقاً أن تهتم بلديات بغداد قبل أكثر من قرن بالحيوانات وتمنع ضربها أو معاملتها بقسوة، وذلك ما يذكرنا بقول مدني صالح  الشهير: « يجد الحمار جميع مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة النظام والتقدم وشيئاً من مفردات لائحة حقوق الإنسان، ولا يجد الإنسان شيئاً من مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة الفوضى والتخلف ولا شيء من لائحة حقوق الحمار» !.

نطوي صفحات الكتاب التي تزيد على 320 صفحة معززة بعشرات الصور التاريخية، ونمر على تواريخ وأحداث ومفارقات وشخصيات وتغييرات مهمة شهدتها بغداد في المائة عام الأخيرة، لابد للقارئ المهتم أن يعود إلى تفاصيلها في تلك الصفحات، لكن بعض الطرائف واللطائف والأيام المميزة أو الصعبة التي مر بها سكنة العاصمة تفرض نفسها في هذا المقال القصير، ومنها دخول الكهرباء إلى بغداد منذ منتصف الثلاثينات « فأنيرت الشوارع والأفرع والأزقة، وغابت مهنة اللمبجي». ومن الأيام الصعبة حريق الشورجة الذي حدث عام 1939 بسبب احتراق محل للمواد الكيمياوية مما أدى إلى انفجاره وامتداد الحريق إلى الكثير من المحال والخانات، واستشهد في عمليات الإطفاء أكثر من خمسين شخصاً من رجال الإطفاء والشرطة، واصيب ما يقارب الخمسين شخصاً، وكذلك فيضان العام :1954 «وكانت ليلة 29 آذار من أسوء الليالي، ومما زاد من الخطر هبوب الرياح القوية.. في تلك الليلة اجتمع مجلس الوزراء برئاسة فاضل الجمالي وعدد من النواب والأعيان والمسؤولين، واتخذ المجلس قراراً يقضي بإخلاء بغداد جزئياً بترحيل أهل الرصافة إلى الكرخ ، وكاد القرار أن ينفذ لولا وقوف وزير الداخلية سعيد قزاز ضده»، والسبب لأنه سأل مهندسي الري فأخبروه أن درجة الخطر تصل إلى ما يقارب الثمانين بالمائة، فقرر مخالفة القرار وتحمل مسؤولية ذلك. وفي العام 1945 تأسست شركة «بغداد الجديدة» لإنشاء الدور السكنية على غرار ما فعلته شركة «مصر الجديدة» في القاهرة، وتم استدعاء المهندس المصري الذي خطط مدينة مصر الجديدة لتخطيط مدينة بغداد الجديدة. ومما يحز في النفس ويؤلمها أن بغداد عرفت» الترامواي» أو « الكاري « كوسيلة نقل منذ العام 1869 أي قبل أكثر من قرن ونصف، ومنذ ذلك الحين لم تتطور وسائط النقل في بغداد لتصبح من: « أسوأ عواصم الشرق الأوسط على صعيد حركة السير» بحسب وصف مجلة « إيكونوميست « البريطانية في تقريرها المنشور مؤخراً.

منذ تعيينه في أمانة العاصمة عام 1976 لاحظ الصحفي والباحث العرداوي، أن هناك مجلساً استشارياً يضم في عضويته «شخصيات بغدادية من الاكاديميين والأدباء والشعراء والمهندسين ووجهاء المدينة، يناقش العديد من القضايا والموضوعات المهمة الخاصة بمدينة بغداد»، كما تم لاحقاً تأسيس «منتدى بغداد الثقافي» للإستئناس بآراء وملاحظات عدد من الشخصيات البغدادية من بينهم علي الوردي وحسين أمين وسالم الآلوسي والشيخ جلال الحنفي وناجي جواد الساعاتي. يذكر أن طبيب العيون الدكتور فائق شاكر وهو من ظرفاء بغداد قد أصبح أميناً للعاصمة عام 1946 وترك في ذاكرة العاملين في الأمانة العديد من الظرائف التي يسجل بعضها الباحث رفعة عبد الرزاق.

تطوي مدينة السلام صفحات تاريخها العجيب الغريب، فهنيئاً لمن ترك لها صفحة بيضاء، وبصم على جبينها بصمة وفاء، وكان « أميناً» حقيقياً عليها، من دون منة ولا ادعاء.

***

د. طه جزّع – كاتب وأكاديمي

مبكراً جداً بدأ محمد حسنين هيكل مشواره فى الصحافة المصرية منذ أوائل الأربعينيات، أى أنه قضى ما يزيد على سبعين عاماً فى معترك الصحافة السياسية العسير..

منذ البداية وهو يطأ حقول ألغام غير عابئ بخطورة ما يعلم أنه سيتعرض له من أعباء مع كل خطوة يخطوها يميناً أو يساراً. ورغم طول الفترة التى قضاها فى الصحافة قلما وجدت له أعداء فى مجال الصحافة. بل حتى الذين كتبوا يهجونه من كبار المفكرين احترموه وأفادوا من علاقتهم به..

ربما كانت تلك أكبر مزاياه، شبكة العلاقات الهائلة التى كونها من كبار الشخصيات فى الداخل والخارج، تلك العلاقات التى جعلته قادراً على الوصول إلى أدق المعلومات قبل أى وسيلة إعلام معروفة. حتى بات كأنه سوبر كمبيوتر يمشى على الأرض.

فى شهر فبراير توفى هيكل عن عمر ناهز التسعين، وترك إرثاً ضخماً من مؤلفاته ولقاءاته ورؤاه وأفكاره، بل وترك من أبناء مدرسته الصحفية عدداً كبيراً من قادة الرأى ورجال الإعلام والصحافة ساروا على نهجه أو على الأقل حاولوا..

زمن  هيكل.. وزمننا!

زمن الفن الجميل والأدب الرفيع والصحافة الناصعة ذلك الزمن الذى نترحم عليه اليوم..

أعلام الصحافة ورواد الإعلام والأدب والفكر عاشوا خلال تلك الفترة الخصبة من تاريخ أمتنا المصرية والعربية فتناولوا هيكل وتناولهم فى الكتب وعلى صفحات جريدة الأهرام التى رأس تحريرها لمدة 17 عاما.. أول كتاب صدر له قبل أن يكمل الثلاثين من عمره كان بعنوان (إيران فوق بركان) بعد رحلة استغرقت شهراً تحت ظل حكم الشاه رضا بهلوى فيما عرف بالدولة البهلوية فكأنها نبوءة مبكرة عن انهيار الدولة البهلوية الذى جاء بعد هذا الكتاب بنحو عشرين عاما. لم ينقطع عن إصدار المؤلفات منذ ذلك الحين ولعل من أهم إصدارات فترة الخمسينيات كتاب عبد الناصر (فلسفة الثورة) الذى حرره له هيكل وعلى إثره بات هو الصحفي الملازم له دوما. وقبيل نهاية تلك الحقبة التاريخية المهمة أصدر كتابا شهيراً بعنوان (العقد النفسية التى تحكم الشرق الأوسط). وكانت أكثر كتبه من هذا النوع التحليلي الناقد.

وبرغم الخلاف الفكرى بينه وبين كثير من معاصريه إلا أنه ترفع عن القدح فى أى زميل له من زملاء المهنة لهذا كانت خلافاته معهم تنتهى بسرعة وبلا ضغائن. حتى خلافاته مع السادات استطاع هضمها والاحتفاظ بمكانته كواحد من رواد الصحافة فى مصر والعالم العربي.

فارق مهم وحيوي جعل الصحافة فى زمن هيكل مختلفة عن الصحافة اليوم. هذا الفارق لا يمس الشخصيات ولا الأفكار ولا الأحداث، وإنما روح العمل اليوم وأمس.. العمل اليوم صار روتينياً شكلياً خالٍ من العمق والالتحام بالواقع. أحداث اليوم ملتهبة أكثر من أمس، والصحافة تجرى فوق هذه الأحداث فتمسها مسا ولا تتغلغل فى أعماق الأحداث وما وراءها. لهذا غابت الوظيفة الاستشرافية والتحليلية فى صحافة اليوم رغم كل ما يحيطها من إمكانيات وتكنولوجيا. فهل نترحم على هيكل أم على الصحافة ؟

شاهد على عصور

بدأ هيكل حياته الصحافية عام 1942 فى عهد الملك فاروق وشهد فترة تألقه الأولى فى الخمسينيات فى أعقاب ثورة 52 وعمل وزيراً للإرشاد القومى وللإعلام وضمت له وزارة الخارجية لمدة أسبوعين ورفض الوزارة فى عهد السادات ، ثم شهد النكسة وانتصار أكتوبر ولم ينسجم مع السادات رغم أنه أراده مستشارا له وأصدر قراراً بنقله من الأهرام لقصر عابدين، فرفض هيكل تنفيذ القرار وقال : " إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجي من الأهرام، وأما أين أذهب بعد ذلك فقراري وحدي. وقراري هو أن أتفرغ لكتابة كتبي"!

وبالفعل أصدر عدداً كبيراً من الكتب منذ ذلك الحين بعضها بالإنجليزية، كما ترجمت بعض كتبه إلى عدة لغات حول العالم. وفى أواخر حياته اتجهت إليه الأنظار كقارئ للأحداث له بصيرة خاصة اكتسبها من طول ممارسته للصحافة السياسية محلياً وعالمياً، وظل محتفظاً بمصادره المتعددة التى تأتى له بالأخبار الطازجة أولاً بأول رغم تركه لمنصبه الرسمى لكن مكانته لم تهتز أبداً على مر الأجيال.

الغريب أنك إذا عدت لكتاباته أو لقاءاته تكتشف أنك أمام رؤية استثنائية وقراءة شديدة العمق والثراء تنسحب حتى على أحداث اليوم كأن لآرائه حياة متجددة.وكيف لا؟ وقد شهد على سبعة عصور تقلبت فيها المنطقة بين أحداث ساخنة كأنها ترقص فوق صفيح ملتهب.

نحو صحافة عالمية

أنشأ هيكل مجموعة المراكز المتخصصة للأهرام لعل أهمها: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ، مركز الدراسات الصحفية ، مركز توثيق تاريخ مصر المعاصر. وترك  بصمة لا تُنسي فى تاريخ مؤسسة الأهرام العريقة.

كان واضحاً أن طموح هيكل الصحفى ليس له مدى. إذ بدا أنه أراد لصحافتنا أن تبلغ مستوى عالمى كما تستحق، لهذا امتدت صداقاته إلى عدد من رؤساء كبريات الصحف العالمية فى أمريكا وبريطانيا وفرنسا. وقد التقى عدة مرات مع  عدد منهم ففى الثمانينيات التقى رئيس مجلس إدارة رويترز داني هاملتون ورئيس تحرير الإكونومست آندرو نايت وهارولد إيفانز رئيس تحرير التايمز، وفى التسعينيات اجتمع مع بيير سالينجر رئيس شبكة ABC الحالى والمتحدث الأسبق باسم جون كينيدى.

لم يكن كافياً أن يبحث هيكل وحده مع قلة من قادة الصحف القدامَى عن عالمية الصحافة المصرية، كما لم يكن من السهل أن تتطور منظومة الصحافة فى ظل عيوب ومشكلات عميقة قديمة لعله ناقش بعضها فى كتاب قديم أصدره فى أوائل الستينيات بعنوان: نظرة إلى مشاكلنا الداخلية على ضوء ما يسمونه "أزمة المثقفين". ثمة عراقيل كثيرة يمكن اجتيازها وعبورها لكن يبدو أننا توقفنا عن مجرد المحاولة!

ماذا لو أنه بيننا اليوم؟

أحداث تاريخية هائلة مرت على هيكل وتحدث عنها فى وقتها، واستشرف أحداثاً تأتى..

والحق أن وسائل الإعلام العربية منذ الألفية الجديدة وجدت ضالتها فى هيكل أمام متوالية الأحداث الساخنة إقليمياً وعالمياً لا تكاد الصحف والقنوات الإخبارية تلاحقها وهى تلهث خلفها فلا تتاح الفرصة لالتقاط الأنفاس لرؤية خفايا الأمور وقراءة ما بين السطور بنظرة بانورامية ثاقبة. فكان هيكل يقوم بهذا الدور. وحتى فى أواخر عمره التسعيني كانت تنتابه الحماسة وهو يتكلم باندفاع وقوة كأنك أمام شاب ثلاثينى عبقرى وكأن خارطة الأحداث قديماً وحديثاً منبسطة أمامه على اتساعها..

نعم نحتاج اليوم وكل يوم إلى مثل هذه العبقرية الملمة بالأحداث القادرة على استشراف ما يأتى على ضوء الحقائق التى تشابكت وتكاثفت واختلطت وجمعت بين تناقضات عدة، حتى لا تكاد تجد شخصاً له رؤية تحليلية عميقة واعية إلا نادراً.

الصحافة المصرية دائماً بها نبهاء ونابغين عدة يمكنهم حقاً ضبط الدفة الصحفية والإعلامية بل والاتجاه بها نحو العالمية لكن لابد أولاً أن نمتلك الإرادة لفعل ذلك. فإذا سعينا نحو هذا الهدف المشروع والمستحق فلن نلبث أن نحققه وأن نكتشف بيننا وحولنا ألف هيكل ينهضون بالصحافة المصرية إلى المكانة التى تستحقها.

***

محمد حسنين هيكل

التاريخ سيفٌ ذو حدين، وأحداثه يمكن أن تكون للعِبرة والاعتبار. فمن تفاصيل تلك الأحداث وحكاياتها يمكن للمرء أن يشحذ روح الكراهية والبغضاء ويؤجج رغبة الانتقام في النفوس، في عالم لم يعد يتسع للأحقاد بين البشر، ويكفيه ما يعانيه من كوارث طبيعية وأوبئة وفقر وجوع ومرض.لكن يمكن للمرء أيضاً أن يجعل من تلك الحوادث عبرة لإنسان الحاضر ودرساً في التسامح والمحبة والسلام.

في مثل هذا الشهر ايلول العام الماضي اتيحت لي فرصة حضور المعرض الذي اقامته كاتدرائية سانت انطونيو الكاثوليكية الواقعة وسط شارع الاستقلال في مدينة اسطنبول، وهو الشارع السياحي الذي يكتظ عادة بآلاف السواح من مختلف بلدان العالم، وضم المعرض لوحاتٍ فنية مع شروحات لكل لوحة، كما فتحت الكاتدرائية أبوابها للزائرين في ذلك اليوم لايقاد الشموع وسماع التراتيل الكنسية والتأمل في عجائب الفن المعماري لهذه الكنيسة التي أنشئت في العام ١٩٠٦.3736 سانت انطونيو

المعرض اقيم لمناسبة مرور أكثر من ٨٠٠ عام على أول حوار تاريخي مسيحي إسلامي جرى في شهر ايلول من العام ١٢١٩ بين القديس فرانسيس الأسيوزي والسلطان الكامل محمد الأيوبي في دمياط.

وعلى الرغم من أن المراجع التاريخية الإسلامية المُعتمَدة لا تذكر شيئاً عن هذا الحوار، إلا أن المصادر التاريخية الكنسية الكاثوليكية تؤكده، بل وتركز على ما تسميه إختبار النار الذي اقترحه القديس على السلطان، غير أن الأخير لم يوافق عليه، لكنه عامل القديس باحترام واستمع إليه وحاوره، وحمله الهدايا وهو يعود سالماً إلى معسكره.

تقول شروحات اللوحات ( شتنبر / أيلول ١٢١٩. عبر الراهب فرانسيس، قادماً من معسكر الصليبيين الذين يحاصرون معقل المسلمين بدمياط في مصر، صفوف المقاتلين للقاء الملك الكامل، سلطان القاهرة ورئيس جيش الهلال، رحب به الملك واستمع اليه. في نهاية الحوار، استأذن فرانسيس وعاد سالماً إلى المعسكر. ورد هذا الحدث في مصادر تاريخية مختلفة خارجية وداخلية للرهبنة الفرنسيسكانية. على الرغم من ان هذه المصادر لا تتطابق دائماً في التفاصيل والتفسيرات، فانها تثبت كلها حقيقة اللقاء المباشر بين الأثنين، ويبدو انها تتلاقى حول نقطة مهمة، وهي ان هذا الحدث - غير المسبوق وغير المتوقع والمثير للدهشة - أثار تعجب المعاصرين).3738 سانت انطونيو

بغض النظر عن تفاصيل هذا اللقاء وواقعيتها، فهو يؤرخ لمبادرة تاريخية قام بها القديس فرانسيس الأسيزي - على الأقل وفق ماأكدته المصادر الكنسية الفرنسيسكانية - من أجل الحوار السلمي بعيداً عن قعقة السيوف، وسار بشجاعة وايمان بالسلام بين البشر، وتحمل المخاطر ليصل إلى الملك الكامل في دمياط من أجل الحوار، فكان أول حوار بين المسيحية والإسلام.

وترى الناس من كل الأجناس والأديان، يدخلون كاتدرائية سانت انطونيو، ويبادر بعضهم لإيقاد الشموع داخل الكاتدرائية.

ما الذي يخسره المرء، لو أوقد شمعة في محراب المحبة والسلام ؟.

***

د. طه جزاع – كاتب وأكاديمي

لم أكن اتخيل يوما انني ساتحدث مع هذا الزبون الانيق، وان حواراً سيدور بيني وبينه عن الكتب، كان هذا الزبون كلما يدخل المكتبة ينهض صاحب المكتبة مرحبا، ويدعوه الى الجلوس، لياتي له بالكتب والمطبوعات التي صدرت حديثا كتب فرنسية او كتب تراث وبعض المجلات الثقافية، كنت اشعر دائما باهمية هذا الزبون الذي يملك وجها حضريا، جميل التقاسيم، الجبين مدور، العينان قويتان بارقتان، ابرز ما في وجهه الابتسامة الخفيفة التي تنم عن تواضع وطيبة، اناقته بسيطة لكنها ملفتة للنظر، الدهشة حين ينظر الى كتاب جديد هي كلمة السر المنتشرة بين ملامح الوجه والتي تفشي بأن صاحب هذا الوجه قارئ لا يستهان به . كان الدكتور علي جواد الطاهر من الزبائن الدائميين للمكتبة، ينقطع احيانا لأكثر من شهر او شهرين، ثم تجده امامك بابتسامته المحببة يقلب في الكتب.ذات يوم قال أنه عمل في مكتبه عندما كان طالبا في المتوسطة، وكانت مكتبة المدرسة، يفتحها صباحا، ويقف يلبي طلبات المستعيرين خلال فرص الاستراحة بين الدروس، ثم اضاف: كنت في تلك المرحلة مغرما بمجلة الهلال اجمع اعدادها، واقرأ باستمتاع روايات جرجي زيدان، العجيب ان الصبي عامل المكتبة  قال دون تردد: قرأت رواية " فتاة القيروان " لم استسغها . في تلك السنوات كانت روايات جرجي زيدان تباع بشكل جيد ونادرا ما يمر اسبوع دون أن يسالني احد الزبائن: هل عندكم روايات جرجي زيدان .يبتسم الدكتور الطاهر: وماذا يعجبك من الكتب . اجبت وبسرعة وكأنني انتظر هذا السؤال: سلامة موسى وطه حسين .

قال الطاهر: قرأت سلامة موسى عندما كنت في الثالث متوسط . كان اكتشافا بالنسبة لي، فتاثرت به كثيرا، وما زلت ارى أن اراءه كانت صائبة، حيث يدعو القراء الى العلم والمعرفة، واضاف اما طه حسين فقد شاهدته عن قرب وسمعته، وهو اقرب الكتاب الى نفسي، يتذكر الطاهر انه قرأ في المتوسطة كتاب طه حسين قادة الفكر:" فعجب ولم یّعجب، لطه حسين كیف یقرب البعید، ویدني القصي ویلينُ العصي فینتقل بك بين هوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وكأنه ینتقل بك من صدیق إلى صدیق وانك لتألف هؤلاء الأصدقاء حتى حين لاتكون مالكاً لعناصر الائتلاف – علي جواد الطاهر من كتابه اساتذتي -

اخذت انتظر زيارة العلامة الطاهر الى المكتبة لاطرح عليه بعض الاسئلة عن الكتب، وكان الرجل لفرط بساطته يجيب ويحاورني وكاأني احد طلبته . ذات يوم سيدخل الدكتور الطاهر ومعه شخص آخر، نادرا ما كان الطاهر يرافق احدا في زيارته للمكتبة، لكن هذه المرة كان يبدو سعيدا وهو يفسح المجال للضيف الجديد للدخول، وقبل ان ينطق باسمه نهض صاحب المكتبة ليرحب بحرارة بالزائر وهو يقول للطاهر: الدكتور زبون قديم للمكتبه، لكنه تركنا وسافر. كان الضيف طويل القامة جسمه ممتلئ يرتدي نظارة طبية، ملامح وجهه صارمة، رفض الجلوس وقال انه يريد أن يتجول في المكتبة، بعد دقائق التقط كتابا من احد الرفوف وقال للدكتور الطاهر: هل تدري لقد زرت بيت عائلة برونتي وشاهدت الغرفة التي  كتبت بها هذه الرواية – كانت الرواية التي بيده جين اير لشارلوت برونتي - . اخذ يقلب بالرواية ويقول للأسف الترجمة غير كاملة، فالرواية في نسختها الانكليزية بجدود تسعمائة صفحة بالحرف الصغير، ثم اضاف منير بعلبكي مترجم جيد، يعرف مزاج القارئ ولهذا يبدو انه حذف بعض المطولات المملة .كان الضيف الجديد الذي اشاهده للمرة الاولى والاخيرة هو الدكتور صفاء خلوصي، صاحب الرأي الجريء والمثير عن اصول شكسبير العربية، قال الدكتور الطاهر انه قرأ جين اير، لكنها اتعبته باجوائها السوداوية والكآبة التي سيطرت على بطلة الرواية والشعور بالأسى والحزن .

منعني الخجل من ان احشر نفسي في الحوار . اتذكر غلاف رواية جين اير الذي يبرز من احد الرفوف، فتاة ترتدي معطفا وقبعة وسط غابة، يبدو في الصورة شاب وحصان، فيما الثلج يملأ المكان، والقمر يبدو ساطعا . لم اكن قد قرأت رواية جين إير بترجمة منير بعلبكي، لكني تعرفت على ملامح القصة وحياة المؤلفة من خلال سلسلة كتابي.. ومثل أي قارئ مبتدئ كنت متلهفا لمعرفة نهاية جين آير اقلب الصفحات على عجل بحثا عن مصائر الشخصيات وهل ستنتهي الرواية نهاية سعيدة ام حزينة وكئيبة مثل صاحبتها التي عرفت انها عاشت في بيت منعزل لقسيس يخدم الكنيسة .في هذا البيت الذي زاره الراحل صفاء خلوصي قضت شارلوت ايامها وحيدة وتعيسة .

تكتب فرجينيا وولف:" عندما نفتح كتاب جين آير لا نستطيع ان نخفي توقعاتنا في أننا سوف نقابل دنيا عتيقة من صنع خيالها، دنيا لا تتفق والعصر الحديث " - القارئ العادي ترجمة عقيلة رمضان -

حين توفيت جين اوستن في في ١٨ تموز عام ١٨١٧ عن واحد وأربعين. كانت شارلوت برونتي صاحبة الرواية الشهيرة " جين آير " قد بلغت عامها الاول – فيما ولدت اميلي برونتي التي ابدعت "  مرتفعات وذرينغ " بعد عام من ولادة شقيقتها شارلوت، وفي مطبخ البيت كانت اكثر الطقوس اهمية للشقيقات برونتي، هي قراءة اعمال جين اوستن حتى أن شارلوت برونتي كتبت انها قرأت  " كبرياء وهوى "  سبعة عشر مرة.، ومثل والد جين كان والد شارلوت يجلس في غرفته التي يعد فيها مواعظه الدينية التي يلقيها في الكنيسة حيث يعمل كاهنا، يهوى كتابة الشعر ويعيش في غرفته عيشه وصفتها اميل برونتي:" في توحد محموم محتد وعديم القدرة "   في اوقات الفراغ يقرأ باستمتاع ما كتبته ابنته شارلوت من صفحات رواية سيطلق عليها اسم " جين اير "، والغريب ان اسرة برونتي عاشت قصص حب لم تكتمل، فقد احبيت شارلوت استاذها المتزوج واخذت تراسله، الى ان ابلغها بضرورة التوقف عن ملاحقته برسائلها، وقد نشرت " جين آير "  عام 1847 وبعدها بعام نشرت رواية  شقيقتها اميلي روايتها الوحيدة " مرتفعات وذرينغ " وبينما كانت شارلوت تشعر دائما بان وضعها كامراة  جعلها في مرتبة اقل، لم تشعر اميلي باي احباط لكونها امرأة .

سادت صورة " شارلوت برونتي  " العانس التي تجلس في زاوية من غرفتها تكتب بقلم رصاص على اوراق ملونة، وكأنها نسخة مكررة من كاتبتها المفضلة " جين اوستن " التي حرّضتها على الكتابة عن الحب الذي  لا يجتاز حدود العقل، لتقدم الى القراء صورا فنية عن المشاعر الانسانية الدفينة،  فيما اختارت " إميلي برونتي "، عالما أخرا أكثر ثراء من اي حقيقة اجتماعية، لا يشبه عالم شقيقتها المشغول بالبحث عن الراحة في الخيال، وإنما عالم تسير فيه مدفوعة بعواطف جامحة، حيث تقودها طبيعتها الخاصة، لأنها امنت أن حياتها أمر يخصها لوحدها، لا علاقة له برؤى الخيال .

ولدت شارلوت برونتي في 21 نيسان 1816 في غرب انكلترا، وكانت الابنة الثالثة من بين ستة أطفال لربة البيت ماريا برانويل و القس من اصول ايرلندية باتريك برونتي. في عام 1820، انتقلت العائلة  إلى قرية هاوورث، حيث تم تعيين الاب مشرفا على كنيسة سانت مايكل . في الخامسة من عمرها توفيت والدتها بمرض السرطان، تاركة خمس بنات، ماريا وإليزابيث وشارلوت وإميلي وآن، وابنها برانويل، لتعتني بالعائلة خالتهم إليزابيث برانويل.

في الحوار الوحيد الذي استمعت فيه للراحل الكبير صفاء خلوصي، قدم وصفا للبيت الذي عاشت فيه عائلة برونتي، كانت غرفة الاب على اليمين حيث اختار لنفسه حياة منعزلة بعد وفاة زوجته، وقبالة غرفة الاب كانت غرافة الاخوات، وفي زاوية من البيت غرفة الاخ برانويل وكان يعشق الرسم، فكان يرسم بورتريهات لشقيقاته، وهناك المطبخ الذي يجتمع فيه الابناء لتناول الطعام، واجراء مسابقات ادبية بينهم، وفي المطبخ يتوسط موقد ناري تصفه اميل برونتي في احدى قصائدها:

" البيت عتيق

الاشجار جرداء

وبدون قمر تنحني القبة المضيئة

ولكن أي شيء عزيز على وجه الارض

يثير اللهفة والشوق كموقد بيت دافئ ؟ " .

عند قراءتي لجين آير وبعدها مرتفعات وذيرينغ مرة ثانية، كنت في ذلك الوقت احمل الكتب معي في كل مكان، على السرير، اثناء تناول الطعام، اوقات الاستراحة في المكتبة، واحيانا اخبئ رواية بين كتبي المدرسية، ومع كل رواية كنت اتخيل كيف كان مؤلفها يعيش، سرحت مرة مع اجواء بيت القس برونتي والسكون الذي يحيط به، والمطبخ الذي تجتمع فيه الاخوات حول مائدة الطعام، وكنت اسأل نفسي ترى بماذا كن يتحدثن، وأي الكتب كانت تستهويهن ؟  

في آب 1824، دخلت شارلوت ومعها شقيقاتها إميلي وماريا وإليزابيث إلى مدرسة بنات رجال الدين، وستخبرنا شارلوت برونتي من  أن الظروف السيئة في المدرسة أثرت بشكل دائم على صحتها ونموها البدني، وسرعت بوفاة  شقيقتها ماريا التي توفيت بمرض السل لتلحقها بعدها باشهر شقيقتها اليزابيت  بنفس المرض، مما اضطر الأب ان يمنع بناته من اكمال دراستهن .

في البيت قامت شارلوت بدور الأم والشقيقة الكبرى لأخواتها، في الثالثة عشر من عمرها كتب اول قصيدة لها، وقد شجعها والدها فانجزت خلال اعوام كتابة اكثر من 200 قصيدة، كانت تبعث بها الى المجلة التي تصدر في مدينتهم الريفية وبعد عدة محاولات قرأت اسمها مطبوعا على احد الصفحات، وجدت شارلوت في حياتها الرتيبة ملاذا خاصا، حيث يمكنها أن تتصرف وفقا لرغباتها وهوياتها المتعددة، إلا ان هذه الحياة الرتيبة جعلتها تعيش في صراع نفسي داخلي بين ولائها للدين الذي لا يبيح الشهوة الجنسية ويطالب بكبتها، وبين ولعها بالحب . وقد دفعها هذا الصراع أن تقرر كتابة قصص تشرح فيها حالتها، لكنها كانت تحتفظ بها في خزانتها الخاصة خوفا من اطلاع والدها القس على خيالات ابنته واحلامها الرومانسية، الامر نفسه كانت تقوم به اميلي إلا ان خيالاتها كانت اكثر جرأة . بعد اعوام قليلة ستقدم شارلوت لوالدها دفترا ضخما يحتوي على رواية بعنوان " الاستاذ " . وفي هذه الرواية تسلط الضوء على موضوع طالما شغلها، وهو علاقة الطالبة باستاذها، وهو يمثل انعكاسا على بعض جوانب حياتها، فقد احبت شارلوت برونتي معلماً بلجيكياً  درست عنده اللغات . كان المسيو إيجيه متزوجا ولديه اولاد، لاحظ موهبتها في الكتابة وشجعها، ففسّرت اهتمامه على انه نوع من انواع العشق . كتبت له العديد من الرسائل وفي واحدة منها ترجوه أن لا يغضب منها وتخبره بان قلبها الممتليء بالحب هو الذي يدفعها للكتابة، لكن الاستاذ، طلب منها ان تتوقف عن مراسلته .

قرر الاب ان يبعث بروايته ابنته " الاستاذ " الى احدى دور النشر، لكن جميع دور النشر رفضت طباعتها، ولم تطبع إلا بعد وفاة شارلوت برونتي بعامين .

عام  1846 نشرت الأخوات شارلوت وإيميلي وآن مجموعة مشتركة من القصائد تحت الأسماء المستعارة " كورير بل - إليس بل - آكتون بل" كتبت شارلوت حول استخدام الأسماء المستعارة ما يلي: " تجنبا للدعاية الشخصية، أخفينا أسماءنا الأصلية خلف الأسماء المستعارة: كورير بل - إليس بل - آكتون بل.اخترنا هذه الأسماء الغامضة رغبة منا في استخدام أسماء ذكورية حيث لم نكن نود أن نكشف عن هويتنا كنساء، لأنه في ذلك الوقت كان سيتم التعامل مع طريقة كتاباتنا وتفكيرنا على أنها (أنثوية)، كان لدينا انطباعا قويا أن مؤلفاتنا سيُنظر إليها باستعلاء، حيث لاحظنا كيف يستخدم النقاد في بعض الأحيان أسلوب المهاجمة الشخصية كوسيلة عقاب وأسلوب الغزل كمكافأة، وبالتالي لا يُعتبر ذلك إشادة حقيقية لأعمالنا " . – الروارنولد كيتل مدخل الى الرواية الانكليزية ترجمة هاني الراهب -

عام 1947 توافق دار النشر التي رفضت رواية " الاستاذ " على نشر رواية" جين آير " ولم تصدق أن القراء والنقاد سيهتون بها وستوضع روايتها  ضمن قائمة الكتاب الاكثر مبيعا، وعندما قرأ ت ما كتبته احدى الصحف من ان جين اير "  رواية من صميم روح شهدت الكثير من الكفاح والمعاناة والتحمل."، اغمي عليها وظلت لاسابيع تعتقد ان الامر مجرد خيال يدور في رأسها .

عندما قرأت لاول مرة رواية " جين اير " باجزائها الثلاثة الصغيرة، وجدتها رواية مملة، فيها امرأة مجنونة واخرى تعشق صاحب البيت، ومشاهد الحريق، وعندما عدت إليها بعد اكثر من 10 سنوات، في ترجمة منير بعلبكي، اكتشفت انها رواية طويلة، لكن صاحبتها تتقن سرد حكاية انسانة متمردة عنيدة تقترب من سيرة شارلون برونتي نفسها، فالفتاة جين تسرد لنا احداث حياتها منذ طفولتها حين نشأت في مدرسة تتبع الكنيسة، وتلتزم المدرسة بمبدأ اذلال الجسد للقضاء على أية شهوات قد تراود الفتيات . فالفصول الاولى من الرواية توضح لنا خلفية جين التربوية وتاثيرها على تكوين شخصيتها التي سوف تنضج فيما بعد . وتعكس براعة شارلوت برونتي في تصوير الظروف المحيطة بالشخصية وما يسود عالمها من تجاذب بين الحرية والكبت . كانت " جين آير " الطفلة التي مات والديها بمرض التيفوئيد وعمرها سنة واحدة، تولى خالها السيد ريد رعايتها، تعاني من قسوة زوجة الخال التي تعاملها كالخادمة، تلوذ الفتاة بزاوية هادئة لتعيش مع عالم آخر من خلال الكتب التي تقرأها، تعلقت برحلات جالفر "، عندما تدخل المدرسة ستجدها أسوأ من المنزل الذي غادرته. المعلمات قاسيات ومعقدات مثل زوجة خالها، الطعام رديء، الغرف باردة جدا، اللباس رث والأحذية خشنة .تكمل دراستها وتصبح معلمة. وفي وظيفتها الجديدة تتعرف على روشيستر المتزوج من امراة مصابة بالهستريا، تقع في حبه لكنها ترفض الزواج منه في اللحظة الاخيرة، تترك بيت روشيستر وترتبط بعلاقة مع صديق قديم تتفق معه على الزواج، لكنها ستهرب ايضا لتعود الى منزل روشيستر وقد تحول الى اطلال بعد نشوب الحريق فيه وموت زوجته واصابة روشيستر بالعمى فتقرر الزواج منه .

بعد أن أعدت قراءة جين آير، أردت أن أعرف من هي هذه الكاتبة التي خلقت هذا العالم المليء بالآسى والاحباط، يصف المقربين من شارلوت برونتي انها كانت امراة نحيفة صاحبة وجه محمر وفم كبير، وشرود دائم . كانت خجولة، لديها ولع خاص بالمقبرة الموجودة مقابل منزلهم . تكتب في يومياتها:" هل سأقضي أفضل جزء من حياتي في هذه العبودية البائسة  ؟ اجلس يوما بعد يوم مقيدة بالسلاسل إلى هذا الكرسي المسجون داخل هذه الجدران العارية الأربعة، بينما شمس الصيف المجيدة تحترق في السماء والسنة تدور في أغنى وهجها وأعلن في نهاية كل يوم صيفي أن الوقت الذي أفقده لن يأتي مرة أخرى؟ " .

في المقابل ظلت رواية اميلي برونتي " مرتفعات وذرينغ " التي صدرت عام 1848 توصف بأنها نتاج غريب، وفي المقدمة التي كتبتها شارلوت لرواية شقيقتها قالت انها رواية:" لفتاة ريفية لم تخرج خارج بيئتها الضيقة " .انها قصة حب غامض  او كما تقول فرجينيا وولف ان مرتفعات وذيرينغ فيها " حب لكنه ليس بحب رجال ونساء "، لقد قررت اميلي التي توفيت في الثلاثين من عمرها بعد ان اصيبت بمرض السل مثل شقيقاتها ان تعلن حربها على الحب الزائف . كانت تتمتع بشيء قليل من الجمال، طويلة بقوام نحيف، لم يكن لها الصبر لسماع المواعظ التي يلقيها الاب كل مساء، كانت خجولة تخاف السير بمفردها، وصفها اهل القرية التي عاشت فيها بأنها اشبه بالصبي منها الى الفتاة، وقد قيل عنها انها لم تكن تجد الراحة مع البشر وتفضل الاهتمام بالحيوانات . كتبت شارلوت تصف اختها اميلي بانها:" لم تكن تنشد التعاطف أو العون، وكانت ترفض أن يقوم احد بأية خدمة لها " – سومرست موم عشر روايات خالدة ترجمة سيد جاد – . فتاة عنيدة، تقوم في البيت باشق الاعمال، تعشق الطهي، وكانت تلاحظ دائما والكتاب في يدها حتى، واحيانا كانت تمسك ورقة تسجل فيها بعض الملاحظات، لم يكن احد في البيت يتخيل أن هذه الفتاة ستصبح روائية، وعندما انتهت من روتيتها "  مرتفعات وذرينغ " لم يدر ببال شقيقتها شارلوت أن اختها قد كتبت هذه الرواية المدهشة، وعندما نشرت الرواية بعد وفاة اميلي باشهر قليلة كتبت شارلوت مقدمة قالت فيها:" اميلي لا تسمح للقارئ بلحظة سعادة خالصة، فكل شعاع من الشمس إنما ينفذ من خلال كتل سوداء من السحب التي تنذر بالمطر،وكل صفحة مشحونة بكهرباء اخلاقية " .يكتب سومرست موم ان اميلي برونتي افصحت في روايتها عن اعمق اعماق غرائزها .:" لقد هبطت الى اعماق بئر الوحدة التي تعيش فيها " – عشر روايات خالدة -

عندما توفيت شارلوت برونتي في 21 نيسان عام 1855 بسبب مضاعفات الحمل، كانت قد وصلت تقريبا إلى عيد ميلادها التاسع والثلاثين. ولعل قراءة حياة شارلوت برونتي تعني كشف حقائق رواياتها. فقد استطاعت ان تكج حياتها  في نسيج قصصها. كانت امرأة قوية، لم تستطع  الأحزان أن تسحقها، لم تفسح المجال للحظة  يأس واحدة ان توقف مسيرتها، تقول فيرجينيا وولف في مقال نشرته في كتابها القارئ العادي – ترجمة عقيلة رمضان -: "ان شارلوت رقيقة جداً وذكية التفكير. وتضيف: نحن نقرأ شارلوت برونتي لشخصيتها الرقيقة، التي لها ملاحظات جميلة، تعبر عن شخصيتها، التي تحمل افكارا فلسفية . وتقدم لنا وولف شرحا لرواية جين آير حيث تصفها بانها:" مكتوبة عبر مشاعرها واخطائها ايضا. فهذه الرواية توصيف عن النمو الثقافي، كتبتها روائية ذكية، وهي تدفعنا الى ان ننتهي من قراءة الكتاب دون ان تعطينا فرصة للتفكير أو التردد، ولا تسمح لنا بان نرفع اعيننا عن صفحاته .. نستغرق في القراءة لدرجة انه اذا تحرك احد في الغرفة، فان هذه الحركة تبدو كأنها ليست في غرفتنا وانما في منزل جين . ان الكاتبة تمسك زمامنا بيديها وتدفعنا الى السير في طريقها لا نرى إلا ما تراه هي . ولا تتركنا لحظة ولا تسمح لنا بان ننساها " .. وعندما توفيت اميلي برونتي في التاسع عشر من كانون الاول عام  1848  كان مخطوط روايتها "  مرتفعات وذرينغ " يرقد الى جانب سرير شقيقتها شارلوت . كانت قد انتهت من روايتها التي تصفها فرجينيا وولف بانها اصعب من رواية جين اير .

لا اعتقد ان الذاكرة ستخونني عندما اقول انني قضيت اوقاتا ممتعة لكنها مشحونة بالتوتر مع جين آير، وشعرت بالأسى وانا انتهي من مرتفعات وذرينغ، ولم اشعر ان الاختين كتبتا روايات من الخيال، بل وجدت نفسي اتجول داخل بيت ال بونتي، كنت مغمورا في عالمهم الصغير، مستغرقا ذاتيا للغاية لأرى انني كنت وحيدا مثل جين، في الوقت نفسه تمنيت ان اعيش وسط البلاد التي تصفها اميلي برونتي في مقدمة روايتها  مرتفعات وذرينغ:" إن هذه البلاد الجميبة حقا،ولا اعتقد،باستطاعتي أن أجد مكانا في جميع إنجلترا يشبه هذا المكان بهلوه كليا من ضجيج الحياة الاجتماعية " .

اقنعت نفسي بأن قدري ان اتماهى مع شخصيات الاختين برونتي،لقد انشغلت كثيرا بصراعي الداخلي بأن أبدو مثل ابطال الروايات التي اقرأها، وما عدت اعرف من أنا .كُنت عالقا في الخيال .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

ولد رسول حمزانوف في 8 ايلول / سبتمبرعام 1923 في داغستان، وتحتفل الاوساط الادبية الروسية منذ  بداية ايلول عام 2023 بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر الداغستاني الكبير، وقد خصصت صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا)  الاسبوعية كثيرا من صفحات عددها الصادر في 6-12 ايلول 2023 للحديث عن الذكرى المئوية لميلاد رسول حمزاتوف هذه لدرجة يمكن القول، ان هذا العدد من (ليتيراتورنايا غازيتا) خاص تقريبا بهذه الذكرى، ونعرض في مقالتنا هنا  للقارئ العربي قراءة وجيزة جدا (او بتعبير أدق نظرة سريعة ليس الا) للمواد العديدة والمتنوعة التي نشرتها هذه الصحيفة، وهي تحتفل بهذه المناسبة، لاننا نرى في تلك المواد وقائع جديدة وطريفة عن هذا الشاعر، الذي يعرفة القراء العرب حق المعرفة ويتقبّلون ابداعه باهتمام واعجاب كبيرين .

في الصفحة الاولى لذلك العدد من الصحيفة توجد صورة كبيرة للشاعر رسول حمزاتوف وهو يلقي قصائده على ما يبدو، وفوق الصورة مانشيت عريض عن الذكرى المئوية لحمزاتوف ومقطع من مقالة منشورة باكملها على الصفحة 22 حول تلك الذكرى، وتبدأ الصفحات المكرسّة لحمزاتوف في العدد المذكور من الصفحة 18 و19 و 20 و 21 و22 و23 و24 و 25 و26 و27، اي(10) صفحات باكملها (نكرر باكملها) عدا الصفحة الاولى، التي أشرنا اليها .

يكتب محمد محمدوف، وهو بدرجة بروفيسور وحاصل على شهادة دكتوراه علوم في الفيلولوجيا (اللغات وآدابها) ورئيس شعبة الادب الافاري في اتحاد ادباء داغستان، يكتب مقالا (وهو واقعيا بحث علمي واسع و عميق) وعلى صفحتين اثنتين (18 و19) بعنوان – (داغستان مهد الشعر لرسول حمزاتوف)، وتحته يأتي عنوان اصغر وهو – (... جيد النظر الى العالم، عندما تشعر بارضك الحبيبة تحت قدميك ...)، وهو مقطع من قصيدة لحمزاتوف، واختيار هذا المقطع لم يكن عفويا ابدا، اذ ان جوهر هذا البحث الكبير يكمن بالذات في هذا المقطع، فالباحث اثبت بما لا يقبل الشك، ان رسول حمزاتوف وصل الى مكانته العالمية في دنيا الفكر لانه كان يقف بثبات على ارض وطنه داغستان، ولانه كان يتحدث في ابداعه عن مشاعره الجيّاشة حول شؤون شعبه الانسانية الاعتيادية ليس الا. لقد جاء هذا البحث عن حمزاتوف في اول تلك الصفحات عن مئويته، اذ ارادت الصحيفة ان تتكلم عن الشئ الاهم والاكبر في مسيرة حمزاتوف، وهو الموقف من الوطن (اي داغستان)، اذ ان حمزاتوف اصبح الان رمزا لداغستان، فعندما نذكر حمزاتوف نتذكر داغستان، وعندما نذكر داغستان نتذكر حمزاتوف، وما أعظم هذا التمازج بين الفن والوطن، والذي استطاع حمزاتوف ان ينجزه عن طريق ابداعه .

في الصفحتين 20 و 21  نجد ملحمة في سونيتات بعنوان (ازمان وطرق) لرسول حمزاتوف مع صورة كبيرة له وهو يجلس قرب والده عام 1983 عندما كان رسول شابا، علما ان والده شاعر داغستاني شهير ايضا، وتشغل هذه الملحمة كل الصفحتين 20 و21 وتحتوي على 33 سونيت، ومضمون تلك الملحمة الكبيرة يتناول موضوع انهيار الدولة السوفيتية ويعبّر بشكل واضح وصريح عن موقف حمزاتوف الرافض لتلك الاحداث رفضا قاطعا، وهذه مسألة معروفة في الاوساط الثقافية الروسية، والتي ازداد الحديث عنها في الوقت الحاضر بالذات،  لان هذا الموضوع يرتبط الان بالوضع الحالي للدولة الروسية، اذ غالبا مانسمع بين الناس الرأي القائل، ان هذه الاحداث المأساوية التي تجري الان(بما فيها الحرب الروسية – الاوكرانية) لم تكن ممكنة الوقوع في اطار الدولة السوفيتية الموحدة آنذاك، وغالبا ما يذكرون هذه الآراء محبو حمزاتوف بفخر شديد.

لا يمكن الاستمرار حتى بهذا العرض الوجيز لكل ما جاء في صفحات (ليتيراتورنايا غازيتا) عن مئوية حمزاتوف، ولكننا لا يمكننا ايضا عدم التوقف عند صفحة رقم 23، والتي نشرت في نصفها الاعلى وبترجمة مراد أحمدوف مقاطع من كتابات رسول حمزاتوف تحت عنوان (المسموع  و المبتكر)، وهي كتابات نثرية قصيرة و مليئة بالحكمة والرشاقة والابتكار، وكلها صفات امتاز بها ابداع حمزاتوف،وتذكرنا بالقصة القصيرة جدا، وتذكرنا بقصيدة النثر، وتذكرنا بالحكم والامثال عند الشعوب،وباختصار، فانها لوحات فنية مرسومة بالكلمات تعبّر عن مواقف الشاعر الكبير حول شؤون الحياة عموما، ونقدم للقارئ نماذج مختارة منها:

الانسان الشرير لا يرى حبيبته  في الاحلام .

*

لا توجد جروح اكثر ألما، من الجروح التي تؤلمنا اليوم .

*

الشجرة الكبيرة القديمة تحمينا من الشمس ومن الثلوج ومن المطر . وكذلك الانسان العجوز .

*

ما فائدة الكراسي الكثيرة حولي، اذا كنت لا اقدر ان اجلس على اي كرسي منها .

*

عندما يبكي الطفل يصبح أكبر، وعندما يبكي العجوز يصبح أصغر .

*

اطلق تسمية بابا و ماما حتى على مئة شخص، فانك لن تجد ابا و اما بينهم، وكذلك لا يمكن ان يصبح البلد الغريب وطنا .

*

الذهب، حتى عندما يبقى لمدة عشرين سنة في الاوساخ، يبقى ذهبا برغم ذلك، والقصائد الجيدة مهما تبقى مجهولة طوال سنين عديدة، فانها تبقى رائعة برغم ذلك .

*

لا يمكن حلاقة اللحية من قبل اثنين رأسا، فواحد يحلقها بشكل قصير، والثاني يريد ان يحلقها أقصر، وهكذا الامر بالضبط مع القصائد في ايدي المحررين والنقاد .

***

تحية للذكرى المئوية لميلاد رسول حمزاتوف، وتحية لصحيفة ليتيراتورنايا غازيتا على احتفالها الابداعي بذكرى الشاعر الداغستاني والعالمي رسول حمزاتوف......

***

أ. د. ضياء نافع

أقف في المكتبة المكتضة بالعناوين، أدير مناقشةً مع أحد الزبائن حول كتاب "اصل الانواع" لتشارلز داروين، يسألني عن ثمن الكتاب، وهل توجد نسخة ملخصة منه، لم يتقبل الزبون مبرراتي بقراءة الكتاب الذي لم اقرأه انا في تلك الفترة، كانت تنتابني نوبة من الحماس عندما يطلب مني زبون أن اختار له كتابا ما، كنت الح بأن قراءة الكتاب الاصلي افضل من قراءة الملخص، قال لي وهو يلقي نظرة على الملخص الموجود على ظهر الكتاب:  احتاج كتاب يشرح لي مجلد داروين الضخم هذا . ثم اضاف:  احب قراءة ملخصات الكتب ليكمل بعدها قائلا: " لا أملك الوقت اللازم لقراءة كتب كهذة، واشار بيده الى بعض الكتب المجلدة .

طوال سنوات عملي في المكتبة لم اسمع قارئ يقول انه قرأ كتاب " اصل الانواع " من الجلاد الى الجلاد، كان المقربين من داروين يشكون من ضخامة كتابه، وفي رسالة يوجهها له صديقه توماس هنري هكسلي يخبره فيها ان كتاب اصل الانواع: " من أصعب الكتب استيعابا "، ومع ذلك فهو كتاب تتلاقفه الايدي منذ أن صدرت طبعته الاولى في الرابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1859 وكانت عدد النسخ " 1250 " نسخة، لم يكن الناشر متأكدا من اقبال القراء على مثل هذه النوعية من الكتاب، إلا ان النسخ بيعت جميعها في اليوم الاول .

ثمة مفاجأت اخرى تنتظر تشارلز داروين، فسيكتشف ان كتابه قسم القراء بين مؤيد لنظرية التطور، وبين من اعتبر المؤلف زنديق يجب الاقتصاص منه. يكتب الى احد معارفه: " لا عجب ان يكون مصير كتابي هذا كمصير غيره من الكتب التي يساء فهمها " .

قال لي ذات يوم الروائي الراحل غالب هلسا أن بعض الكتب ترغمك على تصفحها وقراءة بعض صفحاتها، بالنسبة الى" اصل الانواع " لا تكمن قوته بحجج داروين العلمية، وإنما بالجدال والشائعات التي لا تزال ترافق الكتاب .

في مقالته حول جمع الكتب يشير الفيلسوف الالماني والتر بنيامين الى ان معظم محبي الكتب قد قرأوا في افضل الاحوال 10 في المئة من مكتباتهم، ويؤكد بنيامين ان الروائي الفرنسي الحائز على نوبل انانول فرانس كان يملك مكتبة ضخمة وذات يوم طرح عليه السؤال المعتاد:  هل قرأت كل هذه الكتب سيد فرانس، فكان جوابه: " ليس عُشرهم لا افترض انك تستخدم أواني الخزف كل يوم " –مكتبة هتلر الشخصية ترجمة سارة جمال– .

كان جبرا ابراهيم جبرا يقول ان فن جمع الكتب يُصبح ناضجا بمرور السنين، فنحن في بداياتنا نختار كتب من كل نوع وشكل، ومع مرور الوقت لن يسمح لأي كتاب بالدخول دون قرار حاسم بقراءته . في صباي كنت اقدر الكتب لاسباب معينة، اللغط الذي يدور عنها في المكتبة، الغلاف الانيق، اسم الكاتب الذي تلهج به السن الزبائن . اصبحت حيازة الكتب غاية في حد ذاتها بالنسبة لي، كان هناك تسارع تنمو فيه مكتبتي البيتية بشكل تدريجي، حيث امتلأت خزانة صغيرة، بعدها تراكمت الكتب في اكوام موزعة في ارجاء الغرفة، ذات نهار سياخذني والدي إلى محل نجارة في احد شوارع البتاوين، تحدث مع النجار عن مكتبة خشبية بأرفف، وكنت انا غارقا في تخيل شكل المكتبة التي ساصبح من خلالها صاحب مكتبة خاصة .

في طريق العودة قلتُ لوالدي بحماس صبياني:  " سيأتي اليوم الذي املك فيه كتبا اكثر من المكتبة التي اعمل فيها .

تَطلَّع إليّ وهو يبتسم من سذاجتي:  نعم ! سنحول البيت من اجلك الى مكتبة .

في هذه السنوات لم تكن قراءاتي غير مراقبة من شقيقي الأكبر، اتذكر عندما قال لي قريبي صاحب المكتبة ان كتاب اصل الانواع لا ينفع لصبي بعمري، آنذاك كنت اتوجس خيفة من بعض الكتب، ولا اجرؤ على تصفحها اثناء العمل . وكان امرا غريبا بانني لم احصل على اجابات بخصوص الكتب التي يجب ان لا اقترب منها، لكني اتذكر في يوم من الايام، ذهبت الى الكشك الواقع مقابل نصب الحرية والذي كان يملكه الراحل حسن عذافة، قبل ان ينتقل الى الجهة المقابلة ويفتتح مكتبة النهضة العربية، كان الكشك اشبه بمغارة علي بابا، مليء بالنفائس، ولان صاحب الكشك صديقا لعائلتي فقد استغرب عندما اعطيته ثلاثة اوراق من فئة الربع دينار وطلبت منه نسخة من كتاب " اصل الانواع "، سألني هل ارسلك قاسم ؟ يقصد صاحب المكتبة، أشرت بالإيجاب، وكانت كذبة قبضت ثمنها ربع دينار اعاده لي من ثمن الكتاب ظنا منه ان الكتاب سيباع الى احد الزبائن . اخذت الكتاب بعد ان وضعه لي في كيس وذهبت مباشرة الى البيت، وجدت نفسي في حيرة، لأني لا استطيع أن اقرا " اصل الانواع " خارج نطاق الغرفة التي انام فيها، خوفا من ان اضبط متلبسا بالجرم الشنيع، قراءة كتاب يدعي صاحبه إن الانسان اصله قرد، وهو جدال لا يزال مستمرا كلما شاهد البعض كتاب اصل الانواع معروضا على رفوف المكتبات، بالطبع كنت آنذاك من هذا النوع من القراء، تملكني الفضول لمعرفة اصل الانسان، ولهذا عندما سنحت لي الفرصة ان اختلي بكتاب داروين، لم اهتم للمقدمة الطويلة التي كتبها المترجم اسماعيل مظهر وكانت بعنوان " المذاهب القديمة في النشوء "، ووجدت فيما كتبه من أن: " مذهب النشوء والارتقاء قديم يرجع تاريخه إلى آلاف من السنين، وقد نرى أثره في الخرافات الدينية التي وضعها حكماء بابل وآشور ومصر، فكانوا يقولون بأن أثر الكواكب واشتراك بعضها مع بعض كان السبب في نشوء الأحياء في الأرض"، لم يكن هذا الكلام يهمني، فانا ابحث عن اجابة لسؤال:  هل صحيح ان الانسان اصله قرد ؟، بعدها وجدت نفسي غريبا وانا اقرأ المصطلحات العلمية التي امتلأت بها الصفحات الاولى من اصل الانواع، قلبت المجلد الذي تجاوزت صفحاته الـ " 800 " صفحة، وايقنت ان مغامرتي في فهم الكتاب ذهبت أدراج الرياح، لم أدرك حينها ان الكتاب كتب بلغة علمية لكنها سلسة . كانت عيناي تتوقف على جملة احاول تفسيرها، أو احصاءات علمية . إلاعجاب بالكتب المملة أو الصعبة لا يجعل منك قارئا سيئا، العكس هو الصحيح، لأن هذه الكتب تشعرك بالتحدي .يكتب ديفيد كوامن: " علينا ان لا نغفل الحقيقة في انه ولمئة عام واكثر، قليل من القراء تمكنوا من هضم كتاب اصل الانواع " - داروين مترددا – وبالتاكيد كنت واحدا من هؤلاء القراء الذين سيكتشفون بعد سنوات من القراءة انهم امام أثر فكري عظيم . فكما أن القراءة الاولى لكتاب داروين كانت محبطة، إلا ان القارئ سيكتشف فيما بعد ان بامكانه التعامل مع كتاب لم يحبه في بداية الأمر، وان الصعوبات التي نواجهها مع بعض الكتب تدعونا لأن نتكبد عناء قراءة الكتاب كاملا مرة ومرتين .يكتب جورج اورويل والذي عمل في بداية حياته بائعا للكتب: " كان لدى متجرنا مخزون لافت على نحو استثنائي، ومع ذلك أشك ما إذا كان عشرة بالمئة من زبائننا قد عرفوا كتابا جيدا من آخر رديء، وكان المتفاخرون اكثر شيوعا " – لماذا اكتب ترجمة علي مدن – بالتاكيد كنت في ذلك الوقت من الذين يتفاخرون باقتنائهم اكبر عدد من الكتاب، ومن العشرة بالمئة الذين لا يفرقون بين كتاب رديء وآخر جيد، بدليل انني شعرت بالندم لكوني خسرت مبلغا من المال، وعشت لحظات من الخوف من اجل كتاب غامض كتبه رجل يبدو في صورته المنشورة مع الكتاب اقرب الى رجال الدين .

يكتب سلامة موسى الذي اصبح فيما بعد دليلي لعالم السيد تشارلز داروين ان ما قام به صاحب كتاب " اصل الانواع " يعد من اهم المغامرات الفكرية في تاريخ العالم، فهذا الرجل الذي بيدو في الصورة بملامح إنسان حذر وخجول، برأسه الأصلع ولحيته الكاملة، والذي أوصى بأن يدفن في كنيسة وستمنستر،. الرجل صاحب الوجه الذي يبدو خاملا، يضعه تاريخ العلم بمنزلة واحدة مع كوبرنيكوس الذي نبه البشر لحقيقة أننا لا نشغل وضعا محوريا في الكون. فجاء داروين لينقل ليمتد علم الفلك إلى البيولوجيا.

كتب داروين ذات يوم في أحد دفاتر ملاحظاته:  كثيرا ما يتحدث الناس عن الحدث الرائع لظهور الإنسان العاقل"، لم ينبهر كثيرا ببزوغ " الإنسان العاقل ، ويبين لنا في رسائله ويومياته أنه منذ بداية تأملاته حول كتاب " أصل الأنواع " كان ينكر المكانة المتميزة التي خصها البشر لأنفسهم، وكان يسعى لوضع الانسان في معترك الصراع والتغير.

عندما صدر كتاب " اصل الانواع " للمرة الاولى، لم يكن صاحب دار النشر يتوقع ان هذا الكتاب الذي تبدو على ملامح صاحبة حالة من الشرود ، ستباع جميع نسخه، وان اصحاب المكتباتت ظلوا يلحون بان تطبع نسخ نسخاً جديدة، لتتم اعادة طبعه ثلاث مرات في نفس السنة وتصل مبيعاته في السنة الأولى الى أكثر من عشرة آلاف نسخة، الجميع يقرأ الكتاب أو يتصفحه ثم يسأل نفسه: هل حقاً يريد منا صاحب هذا الكتاب الغريب ان نؤمن اننا جئنا سلالة القرود؟.

كان تشارلز داروين المولود في الثاني عشر من شباط عام 1809، طفلا بليداً، في السيرة الذاتية التي كتبها بفسه يقول: " لا بد أنني كنت فتًى ساذجًا للغاية في بداية عهدي بالمدرسة وذهابي إليها " – تشارلز داروين:  حياته وخطاباته ترجمة الزهراء سامي - . توفيت والدته وهو في الثامنة عمره: " من الغريب أني لا أستطيع أن أتذكر أيَّ شيء عنها سوى الفراش الذي ماتت عليه، وردائها الأسود المخملي، ومنضدة عملها ذات التصميم الغريب" .

في المدرسة يشتكى الأساتذة منه لأنه لايستوعب الدروس، كانت شقيقته الاصغر اكثر نباهة منه، قال له والده ذات يوم: "أنت لاتهتم بشيء غير الكلاب والصيد واقتناص الفئران، وإنك ستكون عاراً على نفسك وعلى أسرتك". إلا أن الصبي لم يهتم لكلام الاساتذة ولا رأي والده، فهو مشغول البال بالحيوانات والنباتات يسجل الملاحظات في دفتر صغير ويكتب في يومياته: "اعتقد إنني متفوق على زملائي في المدرسة من حيث ملاحظة الأشياء التي يخطئها الانتباه بسهولة، ومن حيث ملاحظتها بعناية كبيرة".

أراد الأب أن يصبح أبناؤه أطباء مثله، فأرسل داروين مع شقيقه إلى جامعة أدنبرة لدراسة الطب، وبعد سنتين قرر الأساتذة إنه لايصلح لهذه المهنة فترك الطب، حاول بعدها دراسة القانون لكن المدرسين وجدوه لايستوعب الدروس جيدا، وفي النهاية نجح في الحصول على شهادة في اللاهوت من جامعة كمبردج. كان ينتظر وظيفة قس في أحد الارياف، عندما جاءه عرض مفاجئ حيث دعُي للسفر على متن السفينة"البيجل"التي تقوم بمهمة المسح القومي في المياه الإقليمية. ولم يكن اختيارداروين مرتبط بشغفه في دراسة أحوال النبات والحيوان، لكن قائد السفينة كان يبحث عن شخص يرافقه في السفر بعد أن تركه مساعد القبطان، كانت مهمة قائد السفينة أن يضع خريطة للمياه الساحلية، لكنه كان مولعاً بالبحث عن تفسير ديني للخلق، وبما أن داروين درس اللاهوت فقد قرر قائد السفينة دعوته لمرافقته. قضى داروين على متن السفينة خمسة اعوام من عام 1831 الى عام 1836، كانت رحلة البيجل التي وثقها داروين فيما بعد بكتاب – رحلة البيجل ترجمة مجدي المليجي - - أشبه بمغامرة استطاع من خلالها أن يجمع كميات من العيّنات انشغل معها لسنوات، عثر على مجموعة نفيسة من النباتات البحرية، نجا من زلزال في تشيلي، واكتشف أنواعاً من الدلافين، وطوّر نظرية حول تكوين الشُعب المرجانية، وفي سن السابعة والعشرين من عمره عاد الى بلدته..الشيء الوحيد الذي لم يفكر به وهو على متن السفينة كان نظرية النشوء والارتقاء.. فقد كانت هذه النظرية قد طُرحت قبل خمسين عاماً، فقد كتبها جده الدكتور أرازموس وهو مهتم بعلوم الطبيعة ويكتب الشعر وله قصيدة بعنوان"معبود الطبيعة" يناقش فيها موضوع التطور لكنها لم تثر اهتمام الحفيد، إلا أن الصدفة تلعب دورها حين يقرأ داروين مقاله لهربرت سبنسر عن التطور، فيقرر ان يرسل له رسالة اعجاب، إلا ان الفيلسوف الشهير اهملها ولم يرد عليها ، ثم وقع في يد داروين كتاب توماس مالتوس"مقالة في مبدأ السكن"التي أكد فيها إن الزيادة في الطعام والمؤونة لا يمكن أن تتماشى أبداً مع النمو السكاني لأسباب رياضية، وهو ما أثار انتباه داروين الذي وجد خلال رحلته إن جميع الحيوانات تتنافس على الموارد، وأولئك الذين يمتلكون التفوق الفطري سيزدهرون ويمررون ذلك التفوق الى سلالتهم، بهذه الوسيلة ستتحسن الأنواع. قال داروين وهو يرمي كتاب مالتوس جانباً: "إنها فكرة بسيطة جداً، كم كنت غبياً لأنني لم أفكر فيها".واقتنع داروين أخيراً بأن الأنواع لم تكن دائماً كما كانت منذ الخلق ولكنها خضعت للتغيير.

وعلى مدى خمس سنوات، من كانون الأول عام 1831 إلى تشرين الأول من عام 1836، ظل داروين بعيداً عن المنزل حيث كانت السفينة تجوب جميع أنحاء العالم. كان يشعر بدوار البحر، لذلك أمضى معظم وقته على الأرض، وخاصة في أميركا الجنوبية. كان مراقباً ماهراً لجميع أنواع الظواهر الطبيعيةوالناس وعاداتهم، والنباتات والحيوانات والأحفوريات. جمع الآلاف من العينات وأرسلها إلى المنزل، وكانت كلها مصنفة بعناية. كان يحتفظ بكراسة يسجل فيها ملاحظاته، نشر محتوياتها بعد عودته إلى بلاده .نال كتابه الأول " رحلة على السفينة البيجل الذي صدر عام 1893 شعبية واسعة، وما يزال يمثل رواية كلاسيكية عن واحدة من أهم الرحلات العلمية التي تمّ القيام بها على الإطلاق.

أمضى داروين السنوات القليلة التالية في العمل على العديد من الأشياء التي جمعها في بعثته، وألف ثلاثة كتب. كما تزوج من ابنة عمه إيما ويدجوود، وانتقل إلى منزل كبير في ريف كينت. سيتحول فيما بعد الى متحف، عاني في السنوات الاخيرة من عمره من مرض غامض وكان كثير الشكوى من الامراض، لكنه كان غزير الانتاج من الكتب والمقالات. في هذا المنزل تلقى هديه عبارة عن مجلد كبير بعنوان " رأس المال " ، مع اهداء من كاتب اسمه " كارل ماركس " يقدم نفسه كاحد المعجبين المخلصين، فيرسل داروين رسالة قصيرة الى ماركس يشكره على الهديه ويعتذر عن عدم قدرته قراءة كتب من هذا النوع .

يشرح تشارلز داروين العناصر الرئيسية لنظريته في القسم الأول من كتاب " اصل الانواع"، حيث نجده يناقش الاعتراضات التي يمكن أن تثور ضد نظريته. أما في الأقسام الاخرى من الكتاب، فإنه يخصصها في الحديث عن الجيولوجيا والتوزع الجغرافي للنباتات والحيوانات والحقائق ذات الصلة بعلم الأجنّة.

أما الأساس الذي يبني عليه داروين فرضيته تلك، فيتعلق برصد التغيرات التي طرأت على النباتات والحيوانات الأليفة، لا سيما منها تلك التي يتحكم بها الإنسان. ويقارن داروين ذلك، أي الفروقات في الأنواع الناتجة عن "الانتخاب الصناعي"، بالتغيرات الحاصلة في الطبيعة من دون تدخل الإنسان، أي الناتجة عن "الانتخاب الطبيعي" ليخلص إلى أنه: " حيثما هناك حياة، ثمة تغير وتطور مستمران ناتجان أساساً من الصراع من أجل البقاء، حيث أن الانتخاب الطبيعي يتفحص كل يوم وكل ساعة وفي كل أنحاء العالم، أبسط التغيرات رافضاً السيئ منها ومضيفاً الجيد إليها، عاملاً بصمت ومن دون إحساس على تحسين كل خلية حية"،- اصل الانواع ترجمة مجدي المليجي - وهو يؤكد أننا في الحياة اليومية:  "لا نلاحظ أياً من هذه التغيرات البطيئة أثناء عملها، بل ستلاحظ حين تحفرها يد الزمن على مر العصور" .

احتفظ في مكتبتي باكثر من نسخة من كتاب " اصل الانواع " آخرها الترجمة المتميزة التي قام بها المترجم القدير مجدي المليجي والذي ترجم ايضا موسوعة دارين باجزائها الثلاثة " نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي " وكتاب " " التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوانات"، و" سرد أحداث رحلة البيجل"، لكن لاتزال النسخىة الاولى التي عانيت وانا ادخلها الى غرفة نومي تمثل لي ذكريات جميلة عن مغامراتي مع الكتب، وفي بعض الاحيان انالى صورة الرجل الذي غرد خارج السرب، فادرك ان المعركة حوله وحول كتابه " اصل الانواع " قائمة. فكثيرون حتى بين من يقولون إنهم يوافقون على نظريته عن التطور وانهم معجبون بكتابه " اصل الانواع "، يرفضون الاقكار الجريئة التي كتبها حول " الانتخاب الطبيعي" وينظرون لها بنوع من الريبة، ولهذا فان النقاش حول داروين ونظريته لم ينته حتى هذه اللحظة، ويثبت كل يوم ان صاحب اللحية الكثة البيضاء استطاع أن يغير الطريقة التي ننظر بها الى العالم وكيف نفهم انفسنا .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

أكتب اليوم عن الدكتور "خالص جلبي" ذلك المفكر السوري العملاق الذي أتحقنا بالعديد من الدراسات والأبحاث الفلسفية المتعمقة في مجال التنوير، وتحرير العقل الإسلامي ، ونبذ العنف في شجاعة نادرة تمثلت في مواجهة كل أنوع الاستبداد والفساد ، فهو والله ذو أصالة شامخة ، فممارساته كانت قادرة على إيصال رسالته الفكرية للسوريين وبأن الفكر المبني على الجهد بحثي دؤوب وشاق ومازال وسيزال.

ولهذا عُرف  "خالص جلبي" بأفكاره الجريئة في مختلف القضايا المحورية في المشهد السياسي العربي والإسلامي.. قادته آراؤه للسجن في سوريا، وعمل فترة في القصيم بالسعودية، ومنها واصل كتابته في الصحف وطرحه الجريء في القضايا الجدلية. كما عرف عنه اهتمامه الواسع بالثقافة، واقتناعه الراسخ بالفكر كضامن للتقدم والرخاء.

ويعرف خالص جلبي نفسه بقوله: "إنني سوري المولد، عربي اللسان، مسلم القلب، وألماني التخصص، وكندي الجنسية، وعالمي الثقافة، ثنائي اللغة، لغة التراث ولغة المعاصرة, وأدعو إلى الطيران نحو المستقبل بجناحين من العلم والسلم" .

ولد في مدينة القامشلي شمال شرق سورية، وتخرج من كلية الطب عام 1971 وكلية الشريعة 1974.. سافر إلى ألمانيا وأتم هناك تخصصه في جراحة الأوعية الدموية، وعاش فيها حتى عام 1982 حصَّل دكتوراة في الجراحة ـ ألمانيا الغربية 1982 م ثم عمل كرئيس لوحدة جراحة الأوعية الدموية في المستشفى التخصصي ـ القصيم ـ السعودية .

كتب جلبي مئات المقالات في الصحف والمجلات السعوديّة والعربيّة، وشارك في العديد من المؤتمرات العلميّة العربيّة والدوليّة.. وألّف كتباً علمية عديدة منها: الطب محراب الإيمان، وعندما بزغت الشمس مرتين: قصة السلاح النووي، وأين يقف العلم اليوم، والإيدز طاعون العصر، والعصر الجديد للجراحة -من جراحة الجينات إلى الاستنساخ الإنساني، والإيمان والتقدم العلمي، وحوار الطب والفلسفة..

ومن كتبه الفكرية: فلسفتي، ومخطط الانحدار وإعادة البناء، وقوانين التغيير ظاهرة المحنة- محاولة لدراسة سننية، وضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية، وسيكولوجية العنف وإستراتيجية العمل السلمي".

تأثر خالص جلبي  في فكره بمفكرين غربيين كما تأثر ببعض المثقفين العرب الآخرين في عصر النهضة حيث كانت من أبرز الأفكار التي نادى به نتيجة هذا التأثير هي أن تحقيق النهضة في المجتمع يستوجب التمثل بالغرب وذهب إلى القول أن الحضارات تسقط بالانتحار الداخلي، وليس بالهجوم الخارجي، وبالمرض الطويل الذي يسلّمها إلى النهاية المحتمة: الانهيار والاندثار".

كما انتقد خالص جلبي ما يسميها ظاهرة اغتيال المثقفين في العالم العربي، حيث يقول "لم يبق في الغابة إلا الضواري تسرح، وأما المثقفون فداخل أقفاص الغابة بين متهم وعميل ومشترٍ ومنسحب وخائف على نفسه يترقب أن يخرج من اعتقال إلى إقامة جبرية إلى ملاحقة قانونية، وأحيانا ضربا باليمين على الوجوه والأدبار".

وكان يرى أنه ليس هناك من مسألة عويصة وغامضة مثل الزمن، وليس هناك من قضية واضحة مثل الزمن، فهي العملة التي بها نتعامل كل لحظة، ولا نتحرك وننجز دون معرفة تدفق الزمن وكم الساعة؟ وليس من أحد لا يحمل ساعة يد، بغض النظر عن شكلها الجمالي وثمنها مرتفعا أو هابطا.

كان خالص جلبي قارئ للتاريخ حيث قال إن قراءة التاريخ مفيدة. ولولا ذلك لم يعتبرها القرآن مصدرا للمعرفة. «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل». وأنا أحياناً يعتريني شعور أشبه بالدوار، حينما يسبح خيالي في تصور البشر الذين سبقونا؛ فأقول هل يعقل أن يكون قد عاش قبلنا أجيال وأجيال، ولم نجتمع بأحد ولم نر أحداً؟ ولكن القبور تتحدث أخبارها ويكذبني الواقع!! فأقول ولكن من أين جئت أنا؟ ثم أقول كيف عاشوا وكيف عانوا وكيف ماتوا؟ وما شعورهم حينما دخلوا الأبدية؟ وكيف كانوا ينظرون إلى ظروف أيامهم؟ ويأتني الجواب من سجف الغيب؛ لقد عاشوا تماما مثلنا، فأكلوا وشربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا. وأحياناً أسبح في التفكير إلى درجة أن تدمع عيني، عندما أتصور طوابير لا تنتهي من أجدادنا، سلكوا إلى العالم الأخروي؛ فلا نسمع لهم ركزا.

كما كان خالص جلبي يؤمن أن هناك ثلاث أفكار رئيسية تجمل فلسفة هذا الرجل، الحرب هي أم كل الأشياء. ولن يضع المرء قدمه في نهر واحد مرتين. والكون يقوم على الصراع الذي ينتهي بالاتحاد والتناغم. وهناك صيرورة متدفقة في الكون. وكل يوم هو في شأن. وفي الغالب لم يفهم الرجل على نحو واضح، مع أن نظرته للعالم تتمتع بشيء كبير من القوة والتماسك، فحواسنا تضللنا كثيرا عن الحقيقة المختبئة.

وكان يرى على أنه إذا كان الواقع البشري هو محصلة طبيعية للأفكار السائدة والنظام العقلي المسيطر ، فإن وضع العالم الإسلامي غير السار اليوم يعود إلى النظام المعرفي ( الابستمولوجيا ) والعقلية التي تحرس شجرة المعرفة هذه ، وهذا المرض الثقافي ليس ابن اليوم بل هو محصلة تراكمية عبر القرون ، الذي أورث العقلية مجموعة من الأمراض المزمنة التي أصابته بالكساح ، لعل أهمها تكريس العقل باتجاه ( الوظيفة النقلية ) .

كما كان يرى أن إن الفوضى الاجتماعية في العالم الإسلامي هي ( فوضى عقلية ) قبل كل شيء ، وإن التنظيم الألماني المدهش هو عقل هيجل الممتد المنبسط على الأرض ، لذا فإن أعظم عمل يمكن أن ندشنه هو تفكيك العقلية الإسلامية ، لمعرفة الآليات المسيطرة عليها ، والتي أعطبتها العطالة . لذا كان الكاتب المغربي ( الجابري ) موفقاً للغاية عندما انتبه إلى هذا الحقل فكتب في ( بنية العقل العربي ) ( 12 ) ولعل أكبر نكبة مني بها العقل العربي هي مرض ( الآبائية ) ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ( 13 ) مع كل تكثيف القرآن على خبث هذا المرض العقلي .

وكان يرى أنه :" ليس أبغض على النفس من النقد ولا أحلى عسلا من الثناء، ولكن لا تصحيح بدون مراجعة، ولا تقدم بدون تعديل. قانون الحذف والإضافة أساسي في تصحيح أي مسار وكل مسار.. كارثة المسلمين اليوم أنهم يحيلون في تردي وضعهم إلى قوى خارجية؛ فلا يقومون بمراجعة للذات. وبهذا تحبط أعمالهم، فلا يخرجون من حفرة الخطأ.. إن مبدأ النقد الذاتي أساسي في أي وحدة عمل، سواء كانت عملية جراحية أو بناء هندسيا أو زواجا وتأليف كتاب. أداة نفض مستمرة للوعي. وليس مثل الوعي نور.

يقول جلبي:" إننا نعيش في عالم متوقف فقير أنهكه التعب، عالم فقير سياسيا، تغادره العقول وتهرب منه، ولدخول العالم المعاصر لابد من إدراك هذه الوضعية علي النحو التالي :

1- نحن أولا أمام (نقد) الفكر الديني وليس (نقض) الفكر الديني. بمعنى أننا من داخل هذا الإطار نحاول أن نقوم بتجديد الفكر الديني.

2- نحن أمام كسر التابو الثلاثي؛ المتمثل في الدين والجنس والسياسة؛ فالفقهاء والكهنة يحتكرون الحديث والحقيقة تحت مظلة الرب والله. ويحتكر السياسيون السلطة والمال والسلاح، ويأخذ الجنس قوته من التأرجح بين الستر والغطاء، فدخل الدين على الخط ليتحدث عن الحشمة حرصا على إبقاء هذا الدافع شغالا لإنتاج الحياة؛ ذلك أن مستودع الحياة هو الجنس.

3- يعد النقد مؤشرا للنضج، وإن كنا في الثقافة العربية الإسلامية لا نعرف (النقد) فضلا عن النقض.

4- ضرورة تشبع النفس الإنسانية بروح النقد؛ فاللوم الذاتي هو أعظم مؤشر على وضع آلية التصحيح، وليس الجلد الذاتي، اللوم الذاتي هو قدرة مراجعة النفس والاعتراف بالخطأ وعدم الإصرار عليه.

5-علينا أن نؤسس لعملية النقد الديني، لأنه ليس من نهضة بدون إصلاح ديني؛ ولتحقيق ذلك، لا بد من الاطلاع والاستفادة من علماء، أمثال ماكس فيبر، وهو من علماء الاجتماع الألمان (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية) والمؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي.

ولكن أعيب على خالص جلبي الحدية الشديدة التي كانت يكتب بها ضد النظام السوري ، ومن مظاهر ذلك قوله في 11 أكتوبر عام 2011 ، كتب مقالا بعنوان " الثورة السورية وحق الفيتو حيث كتب يقول : حق الفيتو أو (النقض) يعني أن العالم كله لو قال إن الشمس تطلع من مشرقها، فيمكن لأحد أعضاء مجلس الأمن الدائمين أن يقرر أن الشمس تطلع من مغربها بدون أن يبهت الذي كفر. وحق الفيتو، ثانيا، يعني أن العالم مكون من طبقتين، سادة وعبيد، فمن أصل ستة مليارات من البشر يتكلم بالنيابة عنهم أقلهم، والحل والعقد بيد خمس دول، يبلغ تعداد سكان أربعة منهم أقل من سكان الهند. وحق الفيتو، ثالثا، يقسم الكرة الأرضية إلى نادٍ يفرض الوصاية على العالم، ويمكن لديناصورات القوة في هذا المجلس أن تلغي إرادة العالم كله.وحق الفيتو، رابعا، هو ضد الديمقراطية، فيمكن لأعظم قرار أن يعطِّله أي عضو، مما يقتل أهم آلية في الديمقراطية من جانبين: التمثيل الفعلي لسكان الأرض، واتخاذ القرار بأغلبية الأصوات. والعصابة الخماسية دائمة العضوية فيه هي ألعن من حكومات العالم الثالث، فلا أمل في تغييرها بموت أو انقلاب، ويمكن لأعدل قضية أن تموت في ساحتها. ألا ساء ما يزرون.. حق الفيتو، بكلمة ثانية، هو ضد المنطق، وعنصري ضد الإنسانية، وضد الديمقراطية. وبتعبير جودت سعيد، حسب (الدين) يساوي الشرك بالله الذي لا ينفع معه أي عمل.. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. وللحديث بقية في قابل الأيام.

***

أ.د محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط.

(1930 –2014) Gary Becker

گـَـرِي بَكَر هو استاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا أولاً، ثم استاذ الاقتصاد والاجتماع في جامعة شيكاغو. وهو الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1992 على مساهماته النظرية التي وسعت رقعة دراسة الاقتصاد والتي تميزت بكونها جديدة وجريئة وسباقة في ادخال التحليل الاقتصادي على مواضيع وقضايا لم لم يتضمنها الاقتصاد من قبل. فولم يحاول أحد قبله بتحليلها ضمن النظرية الاقتصادية، ذلك انها صنفت في ميادين اخرى كالاجتماع والديموغرافيا والعلوم السياسية وغيرها. يقول ملتن فريدمن: " ان بَكَر هو اعظم اقتصادي-اجتماعي عاش وعمل في النصف الثاني من القرن العشرين". علما انه تتلمذ على يد فريدمن الذي كان درسه في الاقتصاد الجزئي سببا لاهتمام بَكَر بدراسة الاقتصاد والتعمق فيه.

منذ البداية، كانت أشرت اطروحة بَكَر للدكتوراه التي قدمها لجامعة شيكاغو عام 1955 بعنوان " اقتصاديات التمييز العنصري في مجال العمل" اهتمامه ، ثم استمر اهتمامه بدراسة مواضيع اخرى في حقل السلوك الانساني التي ، لاتلتقي مع المواضيع التقليدية التي اهتم الاقتصاد بدراستها والتي تميزت بتمحورها حول السلوك الانساني في انتاج وتوزيع واستهلاك المنتجات والخدمات التي تخدم السوق. ولذا فقد اطلق بَكَر على مواضيعه مصطلح Non-market products and behavior. أي المنتجات التي لا تروّج في السوق والسلوك المتعلق بانتاجها واستهلاكها. شملت هذه المواضيع التي اهتم بدراستها بَكَر رأس المال البشري، والجريمة والعقاب، والادمان على الكحول والمخدرات، وانتاج واستهلاك الأُسرة والعائلة وتقسيم العمل داخل المنزل وقضايا وقرارات العائلة كالزواج في الزواج والطلاق وانجاب الاطفال وحجم العائلة المرغوب ومعدل الولادات والميراث والتضحية والايثار وغيرها. وهكذا فقد فتح بَكَر الباب على مصراعيه لشتى المواضيع الاجتماعية التي خضعت اصبحت تحت مجهر الللتحليل العلمي بموجب النظرية الاقتصادية. وتجدر الاشارة هنا الى التمييز بين الاسرة Household أو اهل البيت أي الافراد الذين يسكنون منزلا واحدا وقد يكونوا او لايكونوا مرتبطين بقرابة، وبين العائلة Family التي تتميز علاقة افرادها بصلة الدم والزواج.

ولد بَكَر عام 1930 في پوتسفل – پنسلفينيا لعائلة يهودية بسيطة، حيث لم يستطع والداه مواصلة الدراسة بعد المرحلة المتوسطة. فكان والده يجاهد من اجل التمكن من امتلاك محل صغير لبيع المواد المختلفة. وبعد ان تمكن من ذلك بفترة قصيرة اصيب بالعمى فواصلت والدته ما بدأه الوالد. وكان ويذكر گـَـرِي انه اعتاد ان يقرأ لوالده ماينشر في الصحف حول اخبار السوق المالية والاخبار السياسية، مما زوده بالمواد الثقافية الاولى لتأجيج اهتمامه بالاقتصاد.. انتقلت العائلة من پوتسفل بوتسفل الى بروكلن – نيويورك عندما كان گـَـرِي في الخامسة من عمره، مما اتاح له ان ينشأ ويترعرع في مدينة نيويورك ويلتحق بمدارسها لغاية قبوله في جامعة برنستن في نيوجرسي عام 1948 . وقد تألق في برنستن فحصل على البكالوريوس بثلاث سنوات ليلتحق بعدها مباشرة بالدراسات العليا في جامعة شيكاغو، ويصبح طالبا وزميلا لملتن فريدمن وجورج ستگلر وگرگ لوس وثيودور شلتز وآخرين، . ويحصل على الدكتوراه عام 1955، حيث اُعتبرت اطروحته عن التمييز العنصري موضوعا غريبا على المواضيع التقليدية وجديدا في التحليل الاقتصادي.

في عام 1957 عمل استاذا للاقتصاد في جامعة كولومبيا في نيويورك، وباحثا في المركز الوطني للبحوث الاقتصادية NBER. وفي عام 1965 اصبح زميلا لجمعية الاحصاء الامريكية، وفي 1967 فاز بجائزة جون بيتس كلارك المخصصة للاقتصاديين الشباب اللامعين تحت الاربعين. في عام 1970 عاد الى شيكاغو ليبقى ليتبوأ درجة الاستاذية في حقلي استاذا لالاقتصاد والاجتماع. فبقي في هذا الموقع لغاية تقاعده من العمل الجامعي.

يقول بَكَر : "بعد ثلاثة عشر عاما من العمل المثمر في جامعة كولومبيا، عدت الى شيكاغو، حيث المناخ الاكاديمي الحيوي الذي افضله والذي كنت محظوظا ان اجد فيه اطيب الاصدقاء واحسن الباحثين. مع عودتي لشيكاغو تركز اهتمامي هذه المرة على اقتصاديات العائلة، فبدأت في العمل بالكتاب الرئيسي في هذا المجال، كما افتتحت سمنارا خاصا بهذا الموضوع شاركني فيه الزميل شيرمن روزن".

في عام 1972 اصبح بَكَر زميلا لاكاديمية العلوم والفنون الامريكية، وفي عام 1973 اصبح زميلا في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد، ثم في عام 1990 اصبح باحثا اقدم فيه. كما اصبح وعضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم عام 1975. في عام 1981 نشر كتابه المركزي الهام حول اقتصاد العائلة والذي اسماه Treatise on the Family. يقول بَكَر: "لم تثر دراساتي اهتماما كبيرا في الوسط الاقتصادي خلال الربع قرن الاول من عملي الاكاديمي. لكن الانتباه اليها والاهتمام بها كان قد تفجر في مطلع الثمانينات". وما دعوته ليكون استاذا مشتركا في قسمي الاقتصاد والاجتماع الا واحدة من علامات تأكيد ذلك الاهتمام المستحق المتأخر. و في عام 1985 بدأ بكتابة عمود صحفي في مجلة الـ Business Week ممثلا الاتجاه المحافظ في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والذي نشر بالتناوب مع عمود الجانب اليساري الذي كان يكتبه استاذ الاقتصاد في برنستن ألن بلايندر. وقد استمرت هذه المناظرة الصحفية لغاية 2004. وفي هذا العام بدء، بالاشتراك مع القاضي ريجرد ريچرد بوزنر تجربة صحفية اخرى تمثلت باطلاق ما سمي بـ Becker – Posner Blog الذي يخاطب الجمهور العام حول قضايا راهنة كانتشار الاسلحة وتفشي الجريمة وسبل السيطرة عليها وقضايا الضرائب والزواج والطلاق والاطفال وحمل المراهقات والعواقب الاقتصادية لهذه المشاكل ومسؤولية الدولة والقوانين المنظمة لذلك.

وكان بَكَر قد انخرط في العمل كمستشار اقتصادي للحملة الانتخابية الرئاسية للمرشح الجمهوري السناتور بوب دوول عام 1996. وفي عام 2000 حاز على الميدالية الوطنية للعلوم. في عام 2007 قلده الرئيس أوباما وسام الحرية الرئاسي من النوع المدني وهو اعلى تكريم تمنحه الدولة لمواطنيها المدنيين تقديرا لخدماتهم الابداعية. وفي عام 2008 نال شرف جامعة برنستن التي ادرجته بتسلسل 11 في قائمة اكثر خريجيها شهرة وابلغهم تأثيرا في المجتمع، حيث اخذ المرتبة الاولى الرئيس الامريكي وأحد الآباء الاوائل جيمس مادسن الذي كان ضمن دورة عام 1771.  في عام 2011 استحدثت جامعة شيكاغو مركزا للبحوث الاقتصادية اطلقت عليه اسم Becker-Friedman Institute for Economics .

نستطيع ان نلخص مساهمات بَكَر الاساسية في الموضوعات التالية:

التمييز العنصري في مجال العمل Discrimination in the Labor Market

كان هذا موضوع اطروحة الدكتوراه المقدمة الى قسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو عام 1955، والذي استمر بَكَر بتطويره وتنقيحه ونشره بكتاب صدر عام 1957. وقد، حيث اعتبرت هذه الدراسة أول معالجة نظامية تفصيلية لاستخدام النظرية الاقتصادية في تحليل الغبن والاجحاف في مجال العمل والتعيين وقضايا الادارة المدنية للعاملين في الرواتب والترفيعات والترقيات والعلاوات. في البداية لم يعتقد اغلب الاقتصاديين بأن هذا الموضوع ينتمي لصلب الاقتصاد اضافة الى اعتقاد اغلب علماء الاجتماع والديموغرافيا والادارة بأن ادخال النظرية الاقتصادية كان يشكل نشازا منهجيا في التحليل الاجتماعي السائد. إلا ان اغلب اقتصاديي شيكاغو رحبوا بالفكرة واشادو بشجاعة بَكَر لتناولها، واعتبروها مساهمة اصيلة لربط الاقتصاد بالعلوم الاخرى . وكان على رأس المتحمسين فريدمن وشلتز ولوس. وبدعم منهم اصبح بَكَر استاذا مساعدا وهو مايزال في سنة دراسته العليا الثالثة. في ملخص سيرته الذي كتبه الى لجنة جائزة نوبل تحدث بَكَر عن هذا الدعم العظيم، شاكرا وممتنا : " ان التبني والدعم المخلص الذي تلقيته في قسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو اشعرني بأن من الاصلح لي أن اخرج عن طوق تلك الرعاية المستفيضة من اجل ان لا اعول عليها فاصبح معتمدا وانا انشد الاستقلال والحرية. ولهذا فقد فضلت ان اترك عملي كاستاذ مساعد وألتحق بجامعة كولومبيا بوظيفة بنفس العنوان ولكن براتب أقل".

المقصود بالتمييز هنا هو تحيز بعض اصحاب العمل أو العاملين وكذلك بعض المستهلكين ضد بعض المجموعات الاجتماعية التي لايرغبون فيها من ناحية توصيفها على اساس العرق والعنصر والخلفية الاثنية واللون والدين او الجنس. ويتجلى ذلك بالامتناع عن استخدامهم كعاملين او عدم بيعهم المنتوجات كمستهلكين. ويشير بَكَر الى ان هذا التمييز يحصل بالرغم من انه يزيد كلفة العمل . فعدم تشغيل العمال السود مثلا سيزيد من اجور العمال الاخرين المرغوبين بالتوظيف. فاذا كان صاحب العمل مستعدا لتحمل نسبة مئوية قدرها d، من الاجور، فان كلفة الاجور ستكون w(1+d) . وبهذا سيكون بالامكان اعتبار d كعامل التمييز Discrimination Coefficient (DC) . وبنفس الطريقة سيتخذ عامل التمييز هذا اشكالا مختلفة كأن يشير كميا الى رغبة واستعداد جماعة من البيض لمقاطعة سلع ومنتجات منتج أسود، حتى لو كلفهم ذلك أكثر. كما يشير الى ان خسارة اصحاب العمل بسبب التمييز ستتحول الى كسب من قبل اصحاب العمل الذين لا ينتهجون التمييز. وكلما زادت المنافسة بين اصحاب العمل، قلت وطأة التمييز. وطبيعي فان التمييز يشتد في مجالات الانتاج غير التنافسية وتلك التي تقل فيها حمى الربح والخسارة، فيما تنخفض شدة التمييز في المجالات و المحكومة باجراءات وضوابط معينة كمؤسسات الدولة. كانت هذه الطروحات رائدة في وقتها ، وهي بالطبع غير معصومة من النقص والهنات لكنها فتحت الطريق فحدثت تحسينات كبيرة عليها ، خاصة في دراسات أررو (1972) وأكيرلوف (1976).

رأس المال البشري Human Capital

المصدر الرئيس في هذا الموضوع هو كتاب بَكَر الموسوم "نظريات رأس المال البشري" الذي نشره عام 1964 واعيد طبعه في عامي 1975 و 1993. يتمثل رأس المال البشري بالقيمة الاقتصادية لصفات الفرد المتجسدة بالمعرفة والمهارة والذكاء وحسن التطبيق والخبرة وامكانية الخلق والابداع والتي لها الاثر الفعال على الاداء الاقتصادي والانتاجية. على ان هذه الصفات بامكانها ان تنمو وتتطور بالتعليم والتدريب والممارسة. والكلفة التي تترتب جراء الانفاق على التعليم والتدريب والممارسةفي هذا المجال، اضافة الى مايخسره الفرد من دخل بسبب انخراطه ببرامج التعليم والتدريب.  وهذه هي الكلفة الاستثمارية التي يؤمل ان يغطيها ويتجاوزها المردود الاقتصادي. وبذلك سيكون الهدف هو ارتفاع معدل العائد من التعليم والتدريب للحد الذي يكون فيه صافي القيمة الحاضرة ايجابيا

positive Net Present Value (NPV)، ).  وستعكس الاجور الناتج الحدي الحقيقي للعمل

real Marginal Product of Labor (MPL).

لم يكن مفهوم رأس المال البشري جديدا، ولم يأت حصريا في دراسات بَكَر. فقد جاء عموما في أدبيات آدم سمث، وورد في أدبيات إرفنك فشر. وحتى ضمن مدرسة شيكاغو فقد درسه جيكب منسر (1958) وشلتز (1961)، إلا ان معالجة بَكَر (1962،1960، 1964) كانت أشمل وأدق وجاءت بنتائج عملية للبحث التطبيقي الذي رافق الدراسة النظرية. لقد ميز بَكَر بين التدريب العام والتدريب الخاص. يزيد التدريب العام من مهارة وامكانية العامل وبالتالي يرفع من ناتجه المتوسط والحدي. ولكن لا يتحمس له صاحب العمل لانه لايستطيع الحفاظ بكل العمال المدربين حيث سيخرج بعض منهم ويلتحقوا بشركات اخرى. أما التدريب الخاص فهو الذي يفصله صاحب العمل على مقاسه، فيستثمر في العمال والمهارات الخاصة بانتاجه هو حيث سيكون من المستبعد ان يتركه بعض العمال المدربين ويلتحقوا بشركات اخرى.

الجريمة والعقاب Crime and Punishment

بدأت دراسة بَكَر لموضوع الجريمة والعقاب في نهاية الستينات، وذلك بمقالته الموسومة :الجريمة والعقاب: معالجة اقتصادية"" المنشورة في مجلة الاقتصاد السياسي لعام 1968. اصبحت هذه المقالة فيما بعد من الاصول في هذا المجال. والفكرة الاساسية هنا هي ان قرار ارتكاب الجريمة بالنسبة للمجرم يخضع، ولو بشكل ضمني ومستتر، الى حساب الربح والخسارة. فلا يقدم المجرم على ارتكاب جريمته مالم يعتقد ان ما يجني منها يفوق ما قد يخسره جراءها. وما يخسره منها هنا لا يشمل الخسارة المعنوية والعاطفية، بل يقتصر على مدى احتمال ان يُمسك ويُحاكم ويُجرّم ويُنفذ فيه الحكم. وهذه قضية معقدة وطويلة تقبل الكثير من الاحتمالات التي تُبطل فاعليتها. ولهذا فللحد من تفشي الجريمة يقترح بَكَر ان يزيد المجتمع من كلفتها على المجرم وذلك بتوسيع رقعة العقاب وتأكيد عدالته وتقوية احتمال تنفيذه بسد كل الثغرات التي يمكن من خلالها ان يتملص المجرم من تلقي عقابه. كما يناقش بَكًر مسألة الانفاق العام الذي تتطلبه تلك الزيادة في كلفة الجريمة على المجرم، ويذكر ان دوائر العدل والقانون الحكومية التي تواجه نقصا مزمنا في مواردها أو تواجه فسادا اداريا في طواقمها ستلجأ الى تعظيم الغرامات وغض النظر عن امتلاك نظم السيطرة والمراقبة العالية التكنولوجيا.

وقد ذهب بَكَر في هذا المجال الى تناول المشكلة بتحليل شقيها ، التحليل الوضعي Positive الذي يتناول سلوك المجرم وقراراته وواقع الجريمة، والتحليل المعياري Normative الذي يتناول ما ينبغي ان يكون عليه التعامل مع المجرمين وفعالية وعدالة العقاب وما ينبغي ان تكون عليه القوانين المتداولة والسياسة العامة المثلى ازاء الجريمة.

الانتاج الأُسري Household Productionأو العائلي

بادئ ذي بدء، لابد ان نفرق بين الأسرة أو أهل البيت Household وبين العائلة Family. فالأسرة هي الوحدة الاقتصادية والاجتماعية التي لا يشترط ان يرتبط اعضاؤها بروابط الدم او الزواج. فقد تكون بين اعضائها روابط قربى أو صداقة أو لاتربطهم أي رابطة سوى السكن والعيش المشترك. أما العائلة فهي التي تتميز برابطة الدم الاولى والزواج. كان عمل بَكَر الرائد في تحليل دالة الانتاج الأسري Household Production Function رائدا في هذا المجال. فبموجب الموديل النيوكلاسيكي تسعى الاسرة لتعظيم منفعتها تبعا لثلاث محددات:

- دالة انتاج الاسرة بموجب معادلة المدخلات-المخرجات، حيث ترد المدخلات التي تأتي من السوق ومن المنزل كوالوقت الذي يصرف داخل الاسرة من اجل الانتاج. مثال على ذلك وجبات الاكل التي تعدها الاسرة والتي تتُنتج بمدخلات تشتريها الاسرة من السوق كاللحم والخضروات والرز والدهن وغيرها وتستخدم الخبرة والمهارة والاجهزة والتكنولوجيا المتوفرة كالطباخ والفرن ووقت التحضير والطبخ والوقت المستقطع من وقت واحد او اكثر من الاعضاء. المخرجات ستكون انتاج الاسرة المتمثلة بوجبة الطعام التي تستهلكها الاسرة ايضا. وبذلك فان مايجري داخل الاسرة من انتاج وتوزيع واستهلاك واستثمار وادخار يؤهل الاسرة ان تشبه نفسها بمصنع صغير فيه ادارة وعمال يمكن احتساب اجورهم بمثابة كلفة الفرصة opportunity cost وقد يشتركون في صنع القرارات الاقتصادية كالانفاق والادخار والاستثمار وغيرها. وهنا يعتبر بَكَر أحد ثلاثة اقتصاديين تنسب لهم صياغة نظرية الاستهلاك الجديدة The New Theory of Consumption أو مايسمى بنظرية انتاج الاسرة Theory of Household Production التي يشاركه فيها ريجرد مووث Richard Muth (1966) وكلفن لانكاستر Kelvin Lancaster (1966).

- ثاني المحددات هو تخصيص الوقت بين المطلوب منه لانتاج الاسرة وما مطلوب منه للعمل خارج الاسرة اضافة الى ماهو ضروري للنوم والنشاطات الاخرى كالراحة والاسترخاء والترفيه Leisure time.

- -وثالث المحددات هو الميزانية المالية التي تتطلب تساوي الانفاق مع الدخل المستحصل في سوق العمل.

اقتصاديات العائلة والمرأة والخصوبة Family Economics, Women, and Fertility

بدأ بَكَر دراسته في هذا المجال في مقالته المعنونة "حول الخصوبة" المنشورة عام 1960، وقد استفاد من دراسة صديقه جيكب منسر الرائدة حول عرض العمل النسوي المنشورة عام 1962. وتحمس اكثر فقام باستحداث وادارة السمنار الخاص باقتصاديات العائلة الذي شاركه فيه جيكب منسر في جامعة كولومبيا حيث سجل فيه وتخرج منه مئات الباحثين في قضايا العائلة سواء كانوا من طلبة الاقتصاد او الاجتماع والعلوم الاحرى. كتابه اللاحق كان عن تخصيص الوقت Allocation of Time عام 1965 والذي تطور واصبح فيما بعد موضوعا قائما بذاته ومن صلب اقتصاديات العائلة التي سيوسعها ويطورها بَكَر كثيرا في كتابه الشامل A Treatise on the Family المنشور عام 1981 والذي نقح واعيد طبعه عام 1991.

في هذا الكتاب تناول بَكَر تقسيم العمل بين الزوج والزوجة وافراد العائلة الآخرين وركز على اساسيات صنع القرار حول من ينجز هذا ومن ينجز ذاك، خاصة فيما يتعلق الموضوع بالعمل في السوق من اجل استحصال دخل العائلة والعمل في المنزل من اجل الانتاج العائلي. وقد لاحظ عمليا انه كلما ازداد معدل اجور العمل في السوق كلما شعرت المرأة بضرورة انتهاز الفرصة والانخراط في سوق العمل وتدبير اعمال المنزل بتعويضات اخرى كشراء الاجهزة المنزلية التي تخفف العبء وتختصر الوقت وشراء الاطعمة الجاهزة وتناول بعض الوجبات في المطاعم واستخدام مربيات الاطفال. وبذلك فقد اصبح واضحا ان دخول المرأة في سوق العمل سيعمل على رفع قيمة وقتها ويقلل من امكانيتها ورغبتها في انجاب الاطفال، مما سيترجم بمرور الزمن الى تقليل عدد الاطفال في العوائل التي تمارس نساؤها العمل خارج المنزل. وقد اثبتت البيانات الفعلية هذه العلاقة العكسية بين عدد الاطفال وبين عمل المرأة الخارجي ودخل العائلة. تشير الاحصاءات الاقتصادية في الدول المتقدمة الى انه مع ازدياد معدلات النمو الاقتصادي ومعدل دخل العائلة انخفضت معدلات الانجاب ورغبة العوائل في انجاب عدد كبير من الاطفال لكل عائلة. ومن هنا توسع بَكَر بدراسة ما اصبح في ذلك الوقت ولحد الان موضوعا مثيرا للجدل بسبب التوصيفات الاقتصادية، حيث كان الاقتصادي الاول الذي اعتبر الاطفال ناتجا للعائلة، يُنتج كما غيره بموجب دالة الانتاج العائلية ويُطلب كما تطلب السلع الاعتيادية Normal goods التي ترتبط بعلاقة طردية مع الدخل. أي ان الطلب يزداد عليها بازدياد الدخل ويقل بنقصان الدخل. وزيادة على ذلك فانها Durable goods بمعنى انها طويلة الاجل الاستهلاكي اي انها لاتعطي منافعها بشكل عابر ووقت قصير بل تمنحها بامتداد وقت طويل. الجدل الذي اثير كان من منطلق عاطفي غير متعلم يرفض مناقشة موضوع الاطفال بمنطق الانتاج والاستهلاك. ولو دققنا علميا في معاني المصطلحات لوجدنا ان الاستهلاك تعني استحصال المتعة من امتلاك او استخدام الاشياء، ولا شك في ان العائلة تنجب الاطفال من اجل ان تجعل الحياة ممتعة بهم وتربيهم وترعاهم وتسعى ان يكونوا بأحسن حال. واحسن الحال هذا يترجم الى مفهوم نوعية الاطفال Quality of Children التي تفسر بتعليمهم وتهذيبهم ونجاحهم في الحياة. وقد قاد هذا المنطق الى اكتشاف العلاقة العكسية بين كمية الاطفال ونوعيتهم. ولا شك فان تربية ورعاية وتعليم وتهذيب الاطفال مهام مكلفة ماليا ومعنويا. وكلما تمكنت العائلة من الانفاق الاستثماري على اطفالها كلما صح توصيفهم بانهم ذوي جودة عالية. وعلى العكس من ذلك، فان العوائل ذات الدخل المحدود لا تتمكن من توفير رأس المال الاستثماري مهما رغبت في انتاج اطفال بنوعية عالية، خاصة في هذا الزمن الذي يتطلب انفاقا عاليا على توفير السكن اللائق ووسائل النقل وادامة الصحة الجيدة وتسديد فاتورات المدارس والجامعات وشراء الكتب والمستلزمات ووسائل التعليم والثقافة الالكترونية الغالية الثمن.

تناولت اقتصاديات العائلة مواضيع عديدة اخرى كقرارات الزواج والطلاق والتضحية والايثار والارث وغيرها. وكانت اغلب الجوانب النظرية يدعمها البحث التطبيقي الذي يسفر عن النتائج العملية. فمثلا ليس صدفة ان تبوح البيانات بتزامن ازدياد معدلات الطلاق مع زيادة فرص عمل المرأة خارج البيت وزيادة قيمة وقتها ودخلها وشعورها بامكانية استقلال قراراتها نحو مستقبلها.

نظرية الطفل السيء Rotten Kid Theorem

جاءت هذه النظرية في معرض توضيح الانتاج العائلي الذي تتظافر فيه الجهود التي تجمعها المحبة ويكون نبراسها المصلحة العامة للعائلة والتي قد يساعد مناخها الصحي على من يميل الى الشذوذ عن الهدف العام. تنص النظرية على انه اذا كانت العائلة تضم على الاقل عضوا واحدا يتسم بالتفاني والتضحية والايثار من اجل الهدف العائلي الجمعي فان ذلك سيؤثر ايجابيا على اي طفل او عضو آخر اناني او متكاسل او اتكالي فيجد له الحوافز التي تدفع به في طريق السعي الى تعظيم منفعة العائلة الكلية والعودة للانسجام مع اعضائها وهدفهم الجمعي.

تزوج بَكَر مرتين، الاولى عندما كان في الرابعة والعشرين، عام 1954 ورزق ببنتين. لكن زوجته توفت عام 1970، فانتظر عشر سنين ليتزوج مرة اخرى عام 1980 وهو في الخمسين. كان اقتصاديا محافظا عبر بصراحة عن افكاره التقليدية المحافظة كالميل لتقليص حجم الحكومة ومهامها، وجعل الانتماء للقوات المسلحة بموجب التطوع الاختياري، وتفضيل كوبونات التعليم ليتسنى للعائلة اختيار مدارس اطفالها بدلا من التعليم العام الشامل، وتفضيل قوانين صارمة ضد الجريمة والاستثمار في الوسائل الفعالة لتطبيق العقاب، وجعل سوق المخدرات قانوني ومفتوح ، والتساهل مع فرض الحد الادنى لاجور العمل.

مؤلفاته الرئيسية:

- An economic analysis of fertility (1960). Demographic and economic change in developed countries

- Investment in human capital: A theoretical analysis (1962). Journal of political economy. 70 ,5

- A Theory of the Allocation of Time (1965). The economic journal 75, 299

- Crime and punishment: An economic approach (1968). Journal of political economy, 76,2

- A theory of marriage: Part I (1973). Journal of Political economy, 81,4.

- On the interaction between the quantity and quality of children (1973). Journal of political Economy, 81,2

- Law enforcement, malfeasance, and compensation of enforcers (1974). The Journal of Legal Studies 3, 1

- A theory of social interactions (1974). Journal of political economy, 82,6

- A treatise on the family (1981), (1991). Harvard university press

- Human capital, effort, and the sexual division of labor (1985). Journal of labor economics, 3, 1

- Human capital and the rise and fall of families (1986). Journal of labor economics 4, 3

- Human capital, fertility, and economic growth (1990). Becker, Murphy, and Tamura. Journal of political economy, 98,5

- Human capital: A theoretical and empirical analysis, with special reference to education (2009). University of Chicago press

- The economics of discrimination (2010). University of Chicago press

***

ا. د. مصدق الحبيب

منذ أكثر من اربعين عاما مضت، كنت اجلس في الفسحة الأمامية لبيتنا الكائن آنذاك في شارع النضال، أحمل بيدي الجزء الأول من رواية " الحرب والسلم " الصادرة عن دار اليقظة السورية، في تلك السنوات كانت هناك الكثير من الكتب التي لم اقرأها، ولكن لدي أمل في أن اقضي معها اوقاتا ممتعة ذات يوم، كنت قد قرأت كتاب " تربية سلامة موسى " وفيه يقدم لنا نصائحة للقراءة التي يجب أن تكون نافعة: " فالمعرفة قوة والجهل عجز، فلنقرأ إذن كي نعرف ونزداد علما بالأشياء، كي نزداد بذلك إدراكًا للحياة وإحساسا بها". كان سلامة موسى يحرضني وأنا التهم كتبه أن تكون لي مكتبتي الخاصة، وأن أعتبر الكتب ضرورة من ضرورات الحياة: " فالكتب هي أثاث الذهن ينقلب فيها ويرتاح إليها ويستفيد منها ويستنير بمعارفها " – تربية سلامة موسى -، وعندما عملت في المكتبة التي يملكها احد اقاربي لم اتمسك بنصيحته التي قالها لي وهو يشير الى بعض المجلدات بأن لا اقرأها حتى انضج، فمثل هذه النصائح لم تكن تهمني، كنت اقرأ بسن مبكرة، لا اعرف كيف يمكن أن يضع احدا شروطا لما يجب أو لا يجب قرأته، لدي اقتناع بفكرة انه يجب علي قراءة ما يقع بيدي من كتب، في البيت كانت والدتي تراقب تكدس الكتب في الغرفة التي اتقاسمها مع شقيقي الأصغر، لم تكن تهتم كثيرا بالنقود التي احصل عليها من عملي وادفعها فورا لشراء كتب جديدة، ولكن لديها محرمات ابرزها ان لا تؤثر هذه الكتب على دراستي. بدأتُ قراءاتي الادبية عن طريق سلسلة " كتابي " التي كان المرحوم حلمي مراد يقدم من خلالها ملخصات لروائع الادب العالمي، في الوقت نفسه اطمح بالحصول على الروايات بترجماتها الكاملة، اشتريت " جين آير " ومعها " احدب نوتردام " وحرصت على اقتناء اوليفر تويست واعمال قصصية لتشيخوف، وامني النفس بالحصول على الطبعة الكاملة لرواية البؤساء، التي كانت معروضة في المكتبة بمجلداتها الخمس وبثمنها المخيف في ذلك الوقت ستة دنانير، فقد صرفت بعض الدنانير على شراء الحرب والسلم

اتصفح الجزء الاول من رواية تولستوي، واتذكر ما قرأته في كتاب سلامة موسى " هؤلاء علموني " من ان تولستوي هرب من المنزل الذي قضى فيه كل حياته تقريبا. لماذا هرب؟ يقول سلامة موسى لأنه شعر بان الحياة ضاقت عليه في المنزل.التفتُ حولي وتخيلت نفسي هاربا من البيت مثل العجوز الذي تجاوز الثمانين عاما. كان تولستوي قد رحل من ياسنايا بوليانا في الرابعة والنصف من فجر يوم الثامن والعشرين من شهر تشرين الاول سنة 1910، يبلغ انذاك الثانية والثمانين، استيقظ سكان بطرسبورغ وموسكو على انباء تقول أن اديبهم العظيم تسلل سراً من منزله باتجاه غير معروف تاركا لعائلته رسالة يقول فيها انه يغادر إلى الابد، بعد يوم ستنشر الصحف الخبر التالي: " رحل ليف تولستوي بالأمس في الخامسة صباحا، وكان الظلام مسيطراً جاء ليف تولستوي إلى غرفة حوذي العربة وامره بتجهيز الخيول، وصعدا إلى العربة وتوجها الى محطة توكينو " – بافل باسينسكي الهروب من الجنة ترجمة نزار عيون السود –، بعد أن عرفت زوجته صوفيا أندرييفنا بهروبه قررت الانتحار، وراحت تنتحب طوال اليوم، اندفعت لتلقي بنفسها من النافذة وهي تصرخ: " ساعثر عليه، ساركض من المنزل، ساركض الى المحطة، آه لو انني اعرف أين هو " – يوميات صوفيا تولستايا ترجمة عبد الله حبه –

بعد ايام قليلة تتلقى العائلة برقية جاء فيها: " أصيب ليف نيقولايفتش بالمرض بمحطة استابوفو "، سافر الجميع بالقطار، تتذكر ابنته الكسندرا في كتابها الحياة مع الأب انه طلب منها ان تسجل من بعده ما يقول: " لكن كان هذا مستحيلا، لانه كان ينطق بكلمات متقطعة، غير مفهومة، وعندما طلب قراءة ما كتبناه، ضعنا ولم نعد نعرف ماذا نقرأ. وهو كان يرجو ويطلب: اقرأوا، اقرأوا ".

امضيت ساعة اقرأ في الصفحات الاولى من رواية الحرب والسلم، وجدت نفسي غارقا في دوامة ابتدأت ببرقية ارسلتها آنا بافلوفنا ولم تتوقف عند الامير بازيل وحديثه عن " الدجال " نابليون الذي تصوره الرواية في صورة الوغد. يكتب تولستوي: " يمثل نابليون للمؤرخين الروس، ويا للعجب مصدراً للحماس والإعجاب. يرونه عظيماً، وهو ذلك الأداة التاريخية المتناهية التفاهة، الذي لم يظهر أي قدر من الكرامة الإنسانية في أي مكان حتى في المنفى ".

يقال أن تولستوي كان يكتب صفحات الحرب والسلم ببطأ، لكنه كان دقيقا سريعا عند كتابته " آنا كارنينا "، وسيخبرني فؤاد التكرلي بعد سنوات ان قراءة الحرب والسلم اتعبته، فهي عمل اشبه بالملحمة، شخصيات تدخل وتخرج واحداث تتواصل، كان تولستوي يقول عن روايته إنها ليست رواية، وليست قصيدة، وليست سردا تاريخيا كذلك. تخيل لو انني قلت هذه الجملة وانا انتهي من المجلدات الاربعة للرواية، سأتهم بالجهل.في تلك السنوات كنت اقرأ لكي اعرف مضمون الكتاب، لا يعنيني موقف الكاتب، وعندما اخوض نقاشا مع بعض الاصدقاء اتكلم عن الروايات التي قرأتها لأنني قادر على شرح حكاياتها، فكل حديثي عن الكتب يخلومن الاحاطة بعناصر الكتاب، فلم اكن مهتما بعلاقة الرواية بمؤلفها ومحيطها.

في السادس من تموز عام 1863 يكتب تولستوي رسالة الى أحد أقاربه يخبره فيها بأنه يستعد لكتابة قصة تتعلق بتاريخ روسيا، كانت زوجته صوفيا تشاهده وقد وضع امامه عشرات الكتب التاريخية: "لم أشعر من قبل قط كما أشعر الآن باستعدادي الذهني والخلقي للعمل والجدارة به. وعندي ما أقوم به قصة تتعلق بالفترة(1810-1820) هذا العمل الذي شغلني منذ بداية الخريف"، كان تولستوي قد تفرغ لأكثر من سنتين لقراءة عشرات الكتب عن تاريخ نابليون، والإسكندر الأول، وقد وجد نفسه مغطى بأكوام الورق والخرائط: "امتلأ ذهني باحتمال القيام بعمل عظيم، كتابة قصة نفسية عن الإسكندر ونابليون، عن كل خسة حاشيتيهما وحماقتهم وكلامهم الفارغ وخياناتهم"، شغلته كتابة الحرب والسلم خمس سنوات، وأبعدته عن كل عمل آخر، وتتذكر زوجته صوفيا أن تولستوي كان كلما يخرج من غرفته بعد أن يكون قد كتب صفحات من الرواية يقول لها: "إن قليلاً من دم حياتي إنصب في المحبرة". عملت زوجته سكرتيره له منذ بداية كتابة الرواية حتى نهايتها، تتصارع مع المسودات التي كان يغيرها بين الحين والآخر، في يومياتها تكتب: "إني أقضي وقتي بأجمعه مستنسخة قصة ليون، وهذا فرح عظيم لي، وكلما استنسخ شيئاً أعيش في عالم كامل من الأفكار والانطباعات الجديدة". وبعد شهرين تكتب: "ظل ليون يكتب هذا الشتاء بأسره، وكان طوال هذه المدة منشغلاً تطفر الدموع من عينيه، ويغلي قلبه، أعتقد أن قصته هذه ستكون عظيمة".. يطلب من زوجته ان تنسخ رواية الحرب والسلم كاملة بخطها، الذي كان يصفه بالانيق والناصع.

موضوع الحرب والسلم، هو مصير البشرية التي تتخبط في نشوة الحرب العجيبة وفوضويتها. أما المشاهد التاريخية فيستخدمها تولستوي كسند توضيحي من أجل تعزيز مواقف الشخصيات. إن الحرب والسلم تتناول حياة أسرتين، أسرة روستوف الذين أفقرتهم الظروف، وال بولكونسكي الذين يقفون على قمة المجتمع ثراءً، ويقدم لنا تولستوي فكرتين عن الحب الأولى على لسان اندرو: "من الممكن ان تحب قريبك فهذا هو الحب الإنساني، أما أن تحب عدوك، فهذا هو الحب الإلهي"، أما بيير فأنه مشغول بسؤال آخر: "ما الخير، وما الشر؟ وما ذا ينبغي على المرء أن يحب؟ وماذا ينبغي عليه أن يكره، من أجل أي شيءيعيش المرء".

ليس في الرواية بطل واحد، وانما هناك اناس مثل كوتوزوف والأمير اندريا وبلاتون كاراتاييف، بل نابوليون نفسه، حيث يستحوذون على القارئ، البعض يثير العطف والبعض الآخر يثير الغضب ، فها هو نابليون في الرواية ليس اكثر من " أداة لا معنى لها في يد التاريخ". وفي المقابل هناك الجنرال كوتوزوف الذي اراد ان يرمز به الى الارض الروسية، يعرف كيف يصبر ويتكلم ومتى يصمت ومتى يدفع بنابليون ان يهزم نفسه بنفسه. والأمير اندريا المتطلع الى المجد العسكري، وهناك ناتاشا التي ترمز إلى الحيوية ، ووسط هؤلاء نجد بلاتون، الذي يحمل في أعماقه كل تلك الأفكار النيرة والعظيمة التي اراد تولستوي ان يبثها بين الناس.

بين فترات الاستراحة يحدث زوجته عن ابطاله كما لو انهم يعيشون معه في نفس المدينة يكتب في يومياته: " إنني اكتب واشطب.كل شيء واضح.لكن ضخامة المهمة الملقاة عليّ تبعث على الخوف " – ترجم يوسف نبيل اليوميات وصدرت بستة اجزاء-. كانت قائمة قراءته في ذلك الوقت تتضمن البؤساء لفكتور هيغو التي وصفها بانها رواية ملحمية عاصفة، التهم كانط وهيغل الذي سخر من اعجابه بنابليون، ثم شوبنهاور الذي اذهله: " ما من أحد كتب قط شيئا اعمق وأكثر صحة، عن ألم الانسان بكل رغبته في الحياة "، يكتب في احدى رسائله الى تشرتكوف: " اتعرف ماذا كان صيفي ؟ حماسة لاهوادة فيها امام شوبنهاور وسلسلة من الافراح الفكرية لم اشعر بمثلها من قط "، فكر ان يترجم كتاب " العالم إرادة وتمثلا " الى الروسية، اشترى لوحة شخصية للفيلسوف الالماني المتشائم وضعها في مكتبه، يعترف ان الافكار الفلسفية التي تدور في الحرب والسلم تنبعث من افكار شوبنهاور اعاد قراءة روسو، والاطلاع على ترجمة جديدة من الانياذة لفيرجل كان حلمه ان يكتب عملا شبيها بالالياذة: " أشعر بي محلقا من الفرح لفكرة انني قادر أن اكتب عملا عظيما ".

نشر الجزء الاول من الحرب والسلم في خريف عام 1865 في مجلة الرسول الروسي ، وكانت الاعداد التي تنشر فصول الرواية تنفذ من المكتبات حال وصولها، في المقابل ينزعج دستويفسكي من وصف الرواية بانها عمل عبقري ومقارنتها باعمال بوشكين، اما تورجنيف فقال ان في الحرب والسلم عشرات الصفحات المدهشة، وكتب في احدى رسائله: " تولستوي عملاق بين زملائه في الادب "، لكنه لم يتحمل فلسفته في الرواية: " عندما يأخذ عصامي من صنف تولستوي بالتفلسف فذلك بؤس حقيقي " – رسالة تورجنيف الى أنتكوف نشرت ضمن كتاب هنري ترويا تولستوي ترجمة خليل الخوري -

ولد ليف نيكولايفيتش تولستوي في التاسع من أيلول سنة 1828 في باسنايا بوليانا، لعائلة إقطاعية روسية، تملك المال والمكانة الاجتماعية، بعد وفاة الاب ينتقل الابناء للعيش في مدينة قازان، في تلك المدينة سيكمل دراسته، وسيقرر في السادسة عشر من عمره ان يختار طريق حياته دراسة القانون، لكن الانطباعات الاولى التي تركها في نفوس اساتذته كانت غير مشجعة، فظاهرة اللامبالاة كانت تلازمه، وقد اعترف في يومياته بانه " كسول جدا "، في تلك الفترة عرف عنه حبه للهو وعدم اهتمامه بالدراسة، وقد كان يقول لرفاقه: " ماذا سناخذ معنا الى البيت مما تعلمناه في الجامعة ؟ نحن لانصلح لاي شيء، من سيحتاجنا ؟ "، في نهاية السنة الدراسية الثانية يقرر ترك الجامعة فقد وجد نفسه اشبه بـ: " "إنسان تائه في مستنقع يسحب أقدامه بجهد كبير ".وضع تولستوي برنامجاً واسعاً لحياته حيث دراسة اللغات الاغريقية واللاتينية والانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية إضافة إلى التعمق بدراسة اللغة الروسية، كذلك دراسة التاريخ والجغرافية والرياضيات والطب والزراعة والرسم والموسيقى وغيرها. وقد حقق الكثير من ذلك البرنامج يكتب في يومياته: " قراءة من العاشرة الى الحادية عشرة، ثم تمشية حتى الثانية عشرة، وكتابة من الثانية عشرة للثانية، ثم قراءة حتى الرابعة، وكتابة من الرابعة للسادسة، وقراءة من السابعة "، وفي الوقت الذي كان الاساتذة يعتقدون ان اللهو والمجون يقفان حائلا امام دراسته، كان ليف تولستوي يصر على ان الدراسة تعيقه عن السير في الطريق الذي خطه لنفسه. في التاسعة عشر من عمره يكتب في دفتر يومياته: " اليوم الثالث من آذار عام 1947 من الساعة الثامنة الى العاشرة صباحا قراءة فاوست.. من الساعة العاشرة الى الثانية عشر ظهرا قراءة جان جاك روسو.. من الساعة الثانية عشر حتى الرابعة عصرا قراءة معجم القوانين..من الرابعة الى السادسة مساء قراءة القانون الروماني.. من السادسة الى السابعة مساء قراءة القانون المدني، من السابعة حتى الثامنة مراجعة دروس اللغة الانكليزية ". في الثامنة عشر من عمره كان قد هام حبا واعجابا بجان جاك روسو، حيث قرر ان يعكف على دراسة اعماله الكاملة. كان تولستوي قارئاً نهماً، يلتهم كل ما يقع تحت يده من الكتب بغض النظر عن الظروف المحيطة به.

عندما بلغ تولستوي سنّ الرشد قررت عمته ان تمنحه نصيبه في ارث عائلته، وكان لديه مطلبا واحدا أن يكون مسقط رأسه ياسنايا بوليانا من نصيبه، وقد استجاب أخوته لطلبه هذا، في تلك السنوات أخذت تلح عليه فكرة انه مسؤول عن مصير الفلاحين الذين يعملون في ارضه وقد كتب في إحدى رسائله إلى عمته: " إنني أحسّ بنفسي القدرة على أن أكون مالكاً صالحاً، ولكي أكون كذلك فلا أحتاج إلى شهادة دكتوراه ولا إلى المناصب التي تتمنينها لي".

يلتحق ضابطا في الجيش القيصري، يشارك في الحرب التي اعلنتها روسيا على تركيا وسيسجل هذه المرحلة من حياته في " قصص من سيباستوبول " ، يكتب في دفتر يومياته: " المناصب العسكرية ليست لي، وكلما تخلصت منها بسرعة لأكرس نفسي للأدب بشكل كامل كلما كان ذلك أفضل"..العام 1856 يقرر السفر الى اوربا وكانت وجهته الاولى فرنسا، هناك حيث يرقد المعلم جان جاك روسو ، تدهشه باريس بجمالها ولياليها الصاخبة ، ومتاحفها الفنية، وبالحرية التي يتمتع فيها الناس، لكنه سيسخر من عبادة الفرنسيين لنابليون.عام 1857 يعود إلى ياسنايا بوليانا فقد قرر ان يصبح معلما في القرية. وهذا التحول ناجم عن قناعته بان: " الهدف الاساسي يكمن في تعليم الشعب. فالامل الوحيد لطلب المعرفة هو صهر كافة الطبقات في سوح العلم "، وقد اتخذ من مونتاني وروسو قدوة له في عمله: " كم اود ان اتخلى عن وجودي كسيد، لأتحول الى فلاح، فاشيد في اطراف القرية كوخا واتزوج من فلاحة شابة، واعمل مثلهم: احرث واحصد واقوم بكل شيء آخر "

1862 يعلن زواجه من صوفيا ونراه يكتب في يومياته: لا اعتقد ان مستقبل حياتي مع زوحة يضارع ما يبدو لي الان مع صوفيا.. المستقبل السعيد الهادىء الخالي من المخاوف ".

يعيش ازمة نفسية، أعلن إنه مستعد أن يتخلى عن شهرته وماله وحياته إذا تطلب الأمر تقديم خدمة لبني البشر، يرتدي ملابس الفلاحين، وسوف يتوقف عن ممارسة الطقوس المسيحية، فقد أخذ ينكر على القساوسة تعصبهم وعلى القيصر طغيانه.. يكتب في إحدى رسائله لصديق: "لعلك غير مصدق، ولكن لك أن تتصور مدى عزلتي أو مدى زراية الناس بشخصي أو هوان أمري عليهم"، كانت مأساة تولستوي أن دعوته لمثل عليا لم تلقَ استحساناً عند المقربين منه، ولم يجد مفراً سوى الهروب.يعلن عن وفاته في العشرين من تشرين الثاني عام 1910.

انتهيت خلال ثلاثة اسابيع من قراءة الحرب والسلم، واجهت خلالها صفحات عصية على الفهم. كانت الرواية طويلة جدا، بعد سنوات وانشغالي بالعمل سألت نفسي: هل استطيع قراءة الحرب والسلم من جديد ، هل املك الوقت الذي يتوزع بين العمل في الصحافة والمكتبة وقراءة الكتب الصادرة حديثا ؟. قلت انتظر، كانت سلسلة اعمال تولستوي تصدر عن وزارة الثقافة السورية بترجمة سامي الدروبي الذي قرر ان يقدم تولستوي كاملا الى قراء العربية مثلما فعل مع دستويفسكي، وصلت نسخ معدودة من الاعمال الكاملة الى مكتبات بغداد، كانت الحلرب والسلم في جزئين فقط، فقد رحل سامي الدروبي في اوائل عام 1976 وكان قد انتهى من الصفحات الاخيرة من الجزء الثاني، سيكمل ترجمة الاجزاء المتبقية صباح الجهيم. خلال السنوات الفاصبة بين قراءتي الاولى لرواية الحرب والسلام، والقراءة الثانية كنت اجمع ما يصدر من الكتب عن تولستوي وحياته الغريبة وفنه، وقد خرجت بفائدة من هذه الملاحقة للاديب الروسي، انها منحتني فرصة كي ألملم شتات ذهني عند القراءة الثانية للرواية، فبعد صدمة القراءة الاولى ادركت ان مغامرتي مع هذا النوع من الروايات كانت مجرد نزهة عبثية، وأن نفوري من الحرب والسلم كان نوعا من انواع الجهل، فهذه الرواية التي صمدت امام اختبار الزمن، لا يمكن لها أن تخضع لتقييم قارئ مراهق. اقتربت من قراءة الرواية من جديد وانا اسعى لسد النقص في معارفي وتَّقبل انني لم اقرأها في المرة الاولى قراءة جيدة. يكتب ستيفان تسفايج أن قراءة مثل هذه الرواية لا يتم مرة واحدة، لان قراءتها هو " عمل لمدى العمر " – تولستوي ترجمة فؤاد ايوب -. عمل نتمرن عليه، انها " مثل ركوب الدراجة. حيث تكون هناك اوقات يكون فيها ركوب الدراجة بشكل متكرر ويبدو كأنه غريزة ثانية " – فيف غروسموب دروس مستفادة من الادب الروسي ترجمة مامون الزائدي – اعادة قراءة الحرب والسلم ربما تعلمنا كيف يمكن ان نكون قراء جيدين. يقال ان تولستوي كان قارئا ممتازا، لا نعرف كم امتلك من الكتب، لكنه كان يتحدث ويقرأ باكثر من عشر لغات.

بعد عقود على قراءة الحرب والسلم ماذا تعلمت من هذه الرواية ؟، بالتاكيد الكثير، حتى في حالة الملل التي اصابتني، وحتى من مطولاته عن التاريخ والبشر والفكر، حيث تمكن هذا الروائي العبقري أن يهز الكثير من قناعاتي، وأن يعلمني ان الثقافة الحقيقية دواء صحي للشفاء من الغرور البشري، وكشاف ضوء ساطع ضد الاستبداد والدكتاتورية والتسلط.

هل يمكن تلخيص الحرب والسلم ؟. يجيب الناقد الشهير هارولد بلوم: " انها مهمة صعبة، لاننا امام ملحمة اشبه بالالياذة قصة أناس بعينهم وهي تشبه الانياذة بانها حكاية امة حفظت في كتاب واحد، من لدن رجل واحد لم يكن يعرف انه كان هوميروس وفرجيل واحد بعد الآخر.لقد اراد تولستوي ان يضع قصة الحياة الازلية في مواجهة الفوضى".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

ولأن المجالس مدارس مثلما يقال، فإن أعظم الدروس، وأبلغ العبارات، وأعمق الحِكَم، وأطرف المواقف والنوادر، حدثت في مجالس الأدب والثقافة التي تحضرها شخصيات متنوعة من وجهاء المجتمع، جلهم من السياسيين والأدباء والصحفيين والفنانين. ولقد كانت مثل هذه المجالس والصالونات والمنتديات الثقافية المعاصرة شائعة إلى حد كبير في بغداد والبلدان العربية خلال عقود النصف الأول من القرن الماضي، ويندر أن نجد سياسياً أو أديباً أو وجيهاً اجتماعياً بارزاً لم يترك بصماته في تلك المجالس، بل وكانت مقصداً للزائرين من كبار الشخصيات الذين يقصدون البلاد للتعرف على وجهائها ومثقفيها للاستماع إليهم ومحاورتهم في مختلف شؤون السياسة والثقافة والأدب والحياة.

ولقد فاتنا من أدب المجالس وحكاياتها الشيء الكثير، لولا كتاب هنا وآخر هناك، ولولا بعض ذكريات منبثة بين كتب التاريخ والسير والذكريات. واذا كانت مجالس الأدب تعقد عادة في صالونات الأدباء العرب أو في بيوتهم مثل صالون عباس محمود العقاد الذي يلتئم كل يوم جمعة في بيته بمصر الجديدة، فإن مجالس الأدب في بغداد كانت تعقد عادة في المقاهي الشعبية إلى جانب البيوت والمقاهي وإدارات الصحف، مثلما يتحدث عنها حفيد الملا عبود الكرخي الكاتب والباحث الراحل حسين حاتم الكرخي في كتابه الشيق «مجالس الأدب في بغداد»، ومن تلك المقاهي: «مقهى سبع المواجهة لوزارة الدفاع القديمة، ومقهى عارف آغا قرب جامع الحيدر خانة، ومقهى الزهاوي في الميدان، ومقهى وهب في محلة البقجة، ومقهى عزاوي الشهيرة، ومقهى المميز ومقهى البيروتي في جانب الكرخ «، وقد سجل لنا الكرخي في جزئين من كتابه الطريف هذا عشرات الحوادث والحكايات التي شهدتها تلك المجالس في سنوات ازدهارها وتأثيرها. غير أن المجلس الثقافي للأب انستاس ماري الكرملي كان على خلاف تلك المجالس يعقد في كنيسة الكرملين، وعلى غرار مجلس العقاد كان يعقد كل يوم جمعة لكن صباحاً لا مساءً حتى الثانية عشرة ظهراً، وهذا هو المجلس الذي عقدت فيه المناظرة التاريخية حول التصوف والجدل حول الحّلاج بين المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون والمحامي البغدادي عباس العزاوي، وهي المناظرة التي طالما تحدث عنها بحماسة واعجاب شديدين في جلساته المحامي الراحل طارق حرب وكتب عن مجرياتها التي شهدها مجلس الكرملي صباح يوم الجمعة 27 نيسان 1945.

في كتابه عن مجالس الأدب في بغداد ينقل لنا الكرخي عن شيخ الصحافة عبد القادر البراك، ما حدث في مجلس «صالون الجمعة» وهو غير مجلس الكرملي الصباحي، انما يعقد أيام الجمع في بيت السياسي محمود صبحي الدفتري، فقد حدث أن زار العراق الفيلسوف والشاعر والوزير التركي رضا توفيق، وهو شخصية غريبة ومتناقضة في التاريخ العثماني، لعبت دوراً تحريضيا فعالاً للإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني لكنه سرعان ما ندم على ذلك بعد مجيء الاتحاديين ومن ثم وصول كمال أتاتورك إلى سدة الحكم في تركيا، وعبر عن خلجات نفسه وعظيم ندمه شعراً، ولأنه من الموقعين على معاهدة سيفر فقد اتهم من المجلس الوطني الذي أقامه اتاتورك في انقرة بالخيانة مما اضطره لمغادرة إسطنبول باتجاه الإسكندرية ومنها إلى مكة المكرمة، ثم استدعي إلى عَّمان ليساعد في تأسيس الامارة الجديدة، امارة شرق الأردن نواة المملكة الأردنية الهاشمية وتوثقت علاقته بعدد من الشخصيات المؤثرة وفي طليعتها شاعر الأردن مصطفى التل الملقب «عرار» نسبة إلى نبتة النرجس البري العاشقة للحرية في فضاء الصحراء. المهم وصل « الفيلسوف» رضا توفيق إلى بغداد عام 1940 وكان من الطبيعي أن يدعوه صديقه الدفتري لزيارة مجلسه الأدبي، ولما كان توفيق فيلسوفاً وقد عرف بذلك أكثر من كونه سياسياً أو وزيراً أو شاعراً فقد كان من المتوقع أن يخوض مناظرة فكرية أو يطرح قضية مهمة للنقاش مع الحضور، لكن أي من هذا الأمر لم يحدث، انما الذي حدث أنه أعرب عن « استعداده للمصارعة مع بعض المصارعين في العراق»! . قال له الدفتري صاحب الصالون الذي يحضره عادة جمع من السياسيين والوجهاء والمثقفين والأدباء: ليس في العراق من الفلاسفة مَن يصلح لمصارعتك إلَّا جميل صدقي الزهاوي. يواصل الكرخي نقل حديث البراك وهو يقول: فضج المجلس بالضحك لأنَّ الزهاوي – كما لا يخفى – كان مصاباً بالشلل!. ولكي تكتمل صورة هذا الفيلسوف المصارع، نشير إلى ما كتبه مير بصري في مقاله «مجلس الدفتري وطرائف الحياة الأدبية والسياسية في العراق الملكي» من أن رضا توفيق بقي أشهراً في ضيافة الحكومة العراقية: «وكان مولعاً بكثرة الكلام لا ينقطع سبيل حديثه حتى ضاق به جلساؤه ذرعاً وطووا عنه كشحاً «.

الحق يقال فإن الفيلسوف رضا توفيق أراد أن يحسم الأمر منذ البداية بطلبه مصارعة أحد مصارعي بغداد، ولا نعرف لماذا سخر منه الدفتري باقتراحه منازلة الزهاوي المصاب بالشلل، ولم يدعُ مصارع بغداد الشهير آنذاك عباس الديك لمنازلته على الطريقة الفلسفية البغدادية، وينهي النقاش معه بالصرعة القاضية!.

***

د. طه جزّاع – أستاذ فلسفة

كان يقود سيارته في رحلة الى مدينة أكابولكو،العائلة الصغيرة المكونة من الأب والام وطفلين قد قرروا الاحتفال بالنجاح الذي حققه الأب بعد أن وقع عقدا بترجمة اربعة من كتبه الى الانكليزية لقاء مبلغ الف دولار، قال لزوجته ان هناك امنية لم يستطع تحقيقاها، زيارة جنوب امريكا، حيث كان يسكن وليام فوكنر الذي وصفه ذات يوم بأنه معلمه الافضل، فهو لم يتعلم منه فن الرواية فقط، بل والكتابة عن الناس البسطاء الذين تسحقهم الحياة.كان فوكنر قد توفى قبل اكثر من سنتين – توفي عام 1962 -، لم تتسنى له الفرصة أن يراه، لكنه يتخيله مثل مزارع يرتدي قميصا ذا أكمامٍ طويلةٍ وبجانبه كلبين أبيضين، كما في الصورة الفوتغرافية الشهيرة التي التقطها له المصور الفوتغرافي الفرنسي هنري كارتييه بريسون.

فجاة يظهر امامه خيال لحيوان، اوقف السيارة وهو يقول لزوجته لقد وجدتها، استدار بسيارته الأوبل ليعود إلى منزله في مكسيكو سيتي.في تلك اللحظة طافت بذهنه جملة سيقدر لها ان تغير تاريخ الرواية في العالم:" بعد سنوات طويلة، وامام فصيلة الاعدام، سيتذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي اخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد ". طوال اكثر من عشرين عاما كان يفكر بكتابة رواية عن عائلة كبيرة تعيش في قرية صغيرة. الآن وجد الرواية، يمكنه أن يتصور ذلك بوضوح رجل يقف أمام فرقة إعدام ويرى حياته كلها في لحظة واحدة.

بعد مضي سنوات على هذا الحادث الغريب يقول غابريل عارسيا ماركيز لكاتب سيرته " جيرالد مارتن " – سيرة حياة ترجمة محمد درويش – إنه بعد أن عاد الى البيت جلس الى آلته الكاتبة، تماما كما يجلس كل يوم لكنه في هذه المرة:" لم انهض ثمانية عشر شهرا ". التفكير في الرواية قد استغرق منه اكثر من ثمانية عشر عاما ولم يكن يتوقع ان ينتهي منه ذات يوم:" لم احسب ان الكتاب سيصل الى نهايته ". كان يريد لروايته ان تكون بحجم دون كيخوته " 800 " صفحة، لكنه اختزلها الى اربعمائة صفحة سيحكي لنا فيها قصة اربعة اجيال من اسرة بوينيديا.

عندما انتهى من كتابة " مئة عام من العزلة "، قال لصديقه بيلينيو مندورا الذي استفسر عن الرواية:" اما انني كتبت رواية أو ان لدي كيلو غراما من الورق "، في واحدة من تأملاته التي يسترجع فيها علاقته بالكتابة يكتب:" تأليف الكتب مهنة انتحارية، إذ ما من مهنة غيرها تتطلب قدراً كبيراً من الوقت. وقدرا كبيرا من العمل ".

مثل بطل الرواية، العقيد اوريليانو بوينديا، الذي يختبئ في ورشته في ماكوندو، ويصنع اسماكا ذهبية صغيرة ذات عيون مرصعة بالجواهر، وجد ماركيز نفسه في حجرة الكتابة مع اكوام من الورق و 60 سيجارة كل يوم، ومشغل اسطوانات تتناوب عليه موسيقى بيلا بارتوك و كلود ديبوسي، الحائط مزدحم برسوم بيانية عن تاريخ مدينة كاريبية أطلق عليها اسم ماكوندو، وسلسلة نسب العائلة التي أطلق عليها اسم بويندياس. يوم بعد يوم تنمو الاوراق، فيما الاصدقاء االمقربين يقرأون الصفحات التي يرسلها اليهم، في البيت تواصل زوجته ميرثيديس معركتها في توفير المال اللازم للاسرة. في مطلع عام 1966 كانت النقود قد تبخرت، فيما صفحات الرواية تكبر وتكبر، يقود سيارته الاوبل البيضاء الى احدى الكراجات ويرجع بمبلغ كبير سيتبخر فيما بعد ، بدأت الزوجة ترهن كل شيء، الثلاجة والتلفاز والمذياع ومجفف الشعر والمدفأة الكهربائي، ولم ينجو سوى مشغل الاسطوانات، فلا كتابة من دون انغام موسيقى بارتوك واستهلالات دويبوسي، وبعض اغنيات البيتلز.

ينتهي من الرواية في الساعة الحادية عشر من صباح الثامن من تشرين الاول عام 1966، لم يكن احد في البيت ليخبره:" اتذكر جيدا مدى ارتباكي. لم اعرف كيف اتصرف، وحاولت ان اشغل نفسي بشيء ما كي ابقى على قيد الحياة حتى الساعة الثالثة بعد الظهر " – جيرالد مارتن سيرة حياة – بعد ساعة يشاهد قطة تقترب منه قال:" آه، لعل هذا الكتاب يلقى رواجا ".

وصلت رواية " مئة عام من العزلة "في ترجمتها العربية الاولى التي قام بها سامي الجندي وانعام الجندي الى المكتبة التي اعمل فيها نهاية عام 1979، إلا ان شهرتها كانت قد سبقتها، كنت قد قرأت حوار مترجما يتحدث فيه ماركيز عن روايته، نشر في مجلة الاقلام بترجمة الراحل سامي محمد ، وقبل وصول الرواية الى مكتبات بغداد، كانت رواية ماركيز القصيرة والمدهشة " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" قد حجزت له مكانة في قلوب زبائن المكتبة، الذين اختطفوا نسخ " مائة عام من العزلة "، وكانت حصتي نسخة لازلت احنفظ بها الى اليوم.

في ذلك الوقت كنت اطبق نصيحة قالها لي الراحل جبرا ابراهيم جبرا ان الكتاب الجيد هو الذي يبقيك في حالة من الانتباه المتواصل.

قلت له: وإذا لم يفعل ذلك ؟

قال لي: عليك ان تبحث عن السبب ؟، في تلك السنوات من عمري كنت اوهم نفسي بانني قارئ جيد.قرأت الكثير من الروايات وكتب الفلسفة وعلم النفس، واجلس امام اصدقائي متفاخرا بحصيلتي هذه، ولهذا وجدت نفسي اتعامل مع رواية " مائة عام من العزلة " من منطق الخبير لا القارئ الذكي انتهيت بعد ايام من قراءة الرواية بصفحاتها ال" 344 "، ما ان انتهيت من الجملة الاخيرة التي يقول فيها " السلالات التي قدر لها القدر مائة عام من العزلة لا يمنحها القدر على الارض فرصة اخرى " – ترجمة سامي الجندي، اصبت بحالة من التشوش لضخامة الاحداث التي اراد ماركيز ان يسردها، وضعت في متاهة الاسماء المتشابهة التي يطلقها آل بوينديا على انفسهم جيل بعد جيل، وبعد سنوات ساعرف لماذا وضع ماركيز خريطة على حائط غرفته بها اسماء ابطال الرواية وابنائهم واحفادهم. كانت الرواية بالنسبة لي اشبه بالرعب، لم يكن لي الصبر لاتتبع بدقة مصائر الابطال، سيخبرنا ماركيز في سيرته الذاتية " عشت لأروي " – ترجمة صالح علماني انه اصيب بالرعب عندما قرأ رواية جيمس جويس " يوليسيس " لأول مرة:" قرأته بتعثر، إلى ان لم يعد بعد الصبر يسمح لي بالمزيد. لقد كان رعبا مبكرا "..هل كنت قارئا جيدا لمائة عام من العزلة، احتفظت برأيي ولم ابح به، فقد كان الكثير من زبائن المكتبة قد قرأ الرواية وعلامات الاعجاب تبرز على وجوههم كلما جاء اسم ماركيز.

كان الراحل جبرا ابراهيم جبرا قد القى عليَّ من قبل درسا ثقافيا، عندما وصفت له حالة الملل التي اصابتني وانا اقرأ رواية وليام فوكنر " الصخب والعنف " –ترجمها جبرا الى العربية – قال لي آنذاك ان بعض الكتب هي نتاج عزلة الكاتب ومعاناته في سبيل اكتشاف لمحة من العبقرية في الصفحات التي كتبها والتي سيتحول من خلالها الى ايقونة ادبية.

يقال ان ماركيز عندما انتهى من كتابة " مئة عام من العزلة احس بالفراغ وكأن اصدقاءه وافتهم المنيه، الاحساس بالفراغ كان انطباعي الاول وانا انتهي من قراءة رواية ماركيز، وهو نفس الاحساس الذي شعرت به عندما انتهيت من الصخب والعنف وايضا مع رواية فرجينيا وولف " السيدة دالاوي " كان ماركيز شغوفا بالقراءة ، وعندما نراجع سيرته الذاتية " عشت لأروي " سنجده يتحدث عن الكتب التي رافقته خلال حياته ولعل ابرزها روايات فوكنر، الجبل السحري لتوماس مان، الف ليلة وليلة، نوستراموس لجوزيف كونراد، يوليسيس لجيمي جويس، اوديب ملكا لسوفوكليس، موبي ديك لهرمن ميلفل، ابناء وعشاق للورنس، المسخ لكافكا، الشيخ والبحر لهمنغواي، قصص بورخيس، عناقيد الغضب لشتاينبك، طريق التبغ لارسكن كالدويل، روايات فرجينيا وولف، وفي حوار مع مجلة باريس ريفيو يتحدث عن الاثر الذي تركته بعض الكتب في عمله الادبي قائلا:" يمكن أن أعزو تلك التأثيرات إلى بعض الكتاب الذين ساعدوني على التخلص من بعض مواقفي الفكرية التي درجت عليها قصصي " من هم هؤلاء الكتاب. انهم اصحاب الكتب المملة؟ ، فوكنر، جويس، فرجينيا وولف، هرمان ميلفل وملحمته موبي ديك، حيث يشير الى بعض الكتب ومنها كتب فوكنر التي كانت لها:" علاقة كبيرة بروحي "

ما الذي يجعل اي كتاب عظيما ؟ يعتمد الحكم على الكتاب احيانا، على ما يكتب عنه من نقد او مراجعات في الصحف، واحيانا اخرى على رأي القراء.. ولكن علينا الإنتباه إلى ان الاعجاب بكتاب ما يعتمد على وجهة نظرنا فيه، فبعض الكتب نقول عنها عظيمة لانها حازت على هذه السمعة عبر العصور مثل روايات دوستويفسكي وستندال وفلوبير، والبعض الآخر يعتمد على المتعة التي تمنحها للقارئ مثل روايات موراكامي او كتب كارلوس زافون اورباعية نابولي للايطالية فيرانتي، واحيانا نطلق على رواية انها عظيمة دون ان نقرأها، لانها حصلت على هذه السمعة الطيبة بإجماع الذين قاموا بقراءتها اوالذين شاهدوها فقط على أرفف المكتبات مثل يوليسيس او البحث عن الزمن المفقود. وقد تبدو صعوبة هذه الروايات لبعض القراء دليل على عبقرية الروائي.. إلا ان بعض الروايات تصبح عظيمة لان الجميع يُقبل عليها..كان برنادشو يقول اننا نقرأ احيانا بعض الأعمال الأدبية التي حازت على شهرة كبيرة بالطريقة التي نأكل بها الاطعمة الغريبة، فأنت لا تحبها تمامًا ولكن الجميع يقول عنها إنها أطعمة خارقة..ولعل روايات ماركيز وبالأخص " مئة عام من العزلة " مثل الاطعمة الغريبة التي تحوي اشياء لم تخطر على بالنا.. ولهذا سواء كنت قرأت، او لم تقرأ كلمة من روايات غابريل غارسيا ماركيز، فانت بالتاكيد تجد نفسك مدمناً على الحديث عنها.. فالواقعية السحرية التي برع بها ماركيز هي الوحيدة التي تجعل أغرب أحلامنا متاحة ويمكن تصديقها بشدة. فماركيز برع في ان يدمج عناصر خيالية في بيئة "واقعية"، نساء تطير في سماء طبيعية، جد يعيش على مدى قرون، ولكن لا أحد يلاحظ أن شيء تغير فيه، خلطة روائية غريبة فيها الشخصيات التي نحبها والتي نكرهها، القضايا الفاشلة في الحياة، الحب، والجنس، العنف، والخلافات التي لا نهاية لها، المأساة، والمؤامرات، الميلودراما، والواقعية ، فقد قرر ماركيز أن تصل اعماله إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ليحقق المتعة والتسلية.. يكتب الناقد الادبي الشهير هارولد بلوم:" انطباعي المبدئي، أثناء إعادة قراءة "ماة عام من العزلة" هو نوع من إجهاد المعركة الجمالية، طالما أن كل صفحة مفعمة بحياة كاملة فيما وراء قدرة أي قارئ واحد على امتصاصها. أن هناك بعدا جديدا مضافا للقراء بهذا الكتاب. قارئها المثالي يجب أن يشبه الشخصية المثيرة للتذكر بشكل أكبر، كولونيل أوريليانو بوينديا الغاضب المتعالي الذي بكى في رحم أمه ووُلد وعينيه مفتوحتين. لا توجد جمل بلا قيمة، لا توجد مجرد انتقالات في هذه الرواية، وعليك أن تلاحظ كل شيء في اللحظة التي تقرأها. كل شيء سيتماسك، على الأقل الأسطورة والمجاز إن لم يكن دوما المعنى الأدبي" – ترجمة امير زكي

في معظم رواياته سيحاول ماركيز ان يخدع القارئ لكي يصدقه ، وهو يستخدم مهارته الصحفية التي تعلم منها كيف يستخدام تفاصيل محددة للغاية عند وصف الأحداث الرائعة. وجد أن القراء كانوا أكثر ميلًا إلى تصديقه عندما وصف الاشياء الغريبة والخارقة، أصر على أنه كان يقدم الحقيقة ببساطة كما يراها:" الحقيقة ليست مجرد الطريق التي تحت قدميك. إنها أيضًا خرافات عامة الناس".

عندما صدرت مئة عام من العزلة عام 1967 كانت وجهات النظر عنها مختلفة عن تلك التي قيلت عنها بعد سنوات، وهذا ما حصل معي عندما عدت اليها بعد صدور ترجمة جديدة لها قام بها صالح علماني.

في كتابه سنة القراءة الخطيرة – ترجمة محمد الضبع - يصف آندي ميلر معاناته مع " مئة عام من العزلة " حيث يقول انه وجد من الصعب عليه ان يجد ارضا مشتركة بينه وبين رواية ماركيز:" كانت تعتبر رواية ثورية، رومانسية، العاب نارية للخيال، لكني لا اجد شيئا من هذا فيها. تبدو بالنسبة لي كخدعة جيدة تم تكرارها كثيرا ". بالنسبة لي لا اريد ان يكون تصوري عن الرواية شبيها بتصور السيد أندي ميلر، فانا مثله اعلم جيدا ان رواية ماركيز تعني الكثير للعديد من القراء الذين وصل عددهم الى اكثر من مئة مليون قارئ حول العالم.

لماذا تذكرني مئة عام من العزلة برواية فوكنر الشهيرة الصخب والعنف ؟، كنت اقرأ فوكنر بجدية برغم حالة الملل التي تنتابني، ولهذا احسست ان تقنية فوكنر هيمنت على ماركيز، وهذا ما يخبرنا به في حوار أجراه معه بيلينيو أبوليو مندوزا – نشر في كتاب رائحة الجوافة – حيث يشير ً إلى التماثل الجغرافي، لا الأدبي بين عمله وعمل فوكنر،وعندما يحشره مندوزا في زاوية ضيقة بتوجيه انتباهه إلى تشابهات تتعدى النطاق الجغرافي " هناك خط معين من النسب بين العقيد سارتوريس عند فوكنر والعقيد أوريليانو بوينديا في مئة عام من العزلة، بين ماكوندو ويوكناباتاوفا كونتي في الصخب والعنف، يقول له مندوزا: عندما تحاول ألا تعترف بفوكنر كعنصر مؤثر ومهم، ألا ترتكب بذلك جريمة قتل ضد أقرب الناس إليك"، يجيب ماركيز: " ربما أكون كذلك. لذلك قلت أن مشكلتي لم تكن في كيفية تقليد فوكنر، ولكن في كيفية تدميره. لقد كان تأثيره يشل حركتي"

ييدو ماركيز سعيدا وهو يرى روايته " مئة عام من العزلة " استطاعت ان ترضي القراء، يقول لمندوزا:" عندما قال لي ناشرها بالإسبانية أنه ذاهب لطباعة ثمانية آلاف نسخة منها صدمت لأن كتبي الأخرى بيع منها فقط سبعمائة نسخة فسألته لماذا لايكون العدد أقل مما قلته، قال أنه مقتنع بجودتها ويتوقع منها أن تباع ثمانية آلاف نسخة خلال الفترة المحصورة بين أيار و كانون اول، لكنها في الواقع بيعت جميعها خلال اسبوع واحد في بوينس آيرس".

عام 1949 يقف وليام فوكنر ليتسلم جائزة نوبل للآداب وليقول للعالم:"أنا أؤمن أن الإنسان ليس فقط سيتحمل: ولكنه سينتصر. إنه خالد، ليس فقط لأنه الوحيد بين المخلوقات الذي لديه صوت لا يهدأ ولكن لأن لديه روحاً، نفساً قادرة على الرحمة والتضحية والتحمل. واجب الشاعر والكاتب هو أن يكتب عن هذه الأشياء. إنه امتيازه ليساعد الإنسان ليتحمل عن طريق تعلية قلبه، بتذكيره بالشجاعة والشرف والأمل والفخر والرحمة والشفقة والتضحية، تلك التي كانت مجد ماضيه"، في ذلك الوقت كان ماركيز يبلغ من العمر 22 عاما، يبدأ مهنته في الصحافة ويجرب كتابة القصص القصيرة ، كان قد قرأ كافكا وتعلق برواية فوكنر الصخب والعنف، بعد 33 عاما سيقف ماركيز في نفس القاعة التي وقف فيها فوكنر ليستلم جائزة نوبل وليقول للجنة الجائزة:" في مثل هذا اليوم، قال معلمي وليم فوكنر في هذا المكان: ارفض تقبل نهاية الانسان. ولست اجد نفسي جديرا ان اشغل هذا المكان لو لا وعيي الكامل بأن الكارثة التي رفض تقبلها منذ ثلاثة وثلاثين عاما هي الآن، للمرة الاولى، منذ اصول البشرية، ليست اكثر من احتمال علمي. وحيال هذا الواقع المباغت الذي كان يمكن له أن يبدو عبر زمن البشرية كله اشبه بيوتوبيا، نشعر نحن مختلقي الخرافات الذين نصدق كل شيء، بأن لنا الحق في تصديق أن الوقت لم يفت بعد للانطلاق في إبداع اليوتوبيا المعاكسة. يوتوبيا حياة جديدة وساحقة، حيث لا يمكن لأحد أن يقرر عن الآخرين حتى طريقة موتهم، وحيث تجد، اخيرا وإلى الابد السلالات المحكومة بمئة عام من العزلة فرصة ثانية على الارض " – لم آت لالقي خطابا ترجمة صالح علماني -.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

بقلم: إلينورا كيج

ترجمة: صالح الرزوق

***

حملت أمي بين ذراعيها معزاة صغيرة تكافح للإفلات، ونعلا بوطها الشامواه البنفسجي يغوص في الوحل، وحولها حلقات صغيرة من الأولاد، يتابعونها ويصيحون "سينيورة، سينيورة". كانت قد خرجت مع زورا، وصيفتها، إلى الشرف - وهي بقعة متواضعة في أرض زراعية أمام بوابة المدينة تماما.

كانت أمي قد قررت شراء عجل معزاة،  وتوقعت أنها ستكون حيوانا منزليا أليفا ومؤنسا، ولم تنتبه لخطئها إلا بعد أن أسكنتها في أعلى شرفة من فندقنا المتداعي، فقد التهمت هناك بقايا ثيابنا الداخلية.  وبعد أيام قليلة، أهدت المعزاة لمحمد موزع الحشيش ليتركها لأبنائه.

أصابنا جميعا طفح جلدي، باستثناء والدي، فقد تجنب البثور الغريبة التي تسبب بها الفيروس، أو سوء التغذية، أو كلاهما. كنا حينذاك نعيش في طنجة، المغربية، المدينة البيضاء، وسبق لوالديّ أن جاءا إليها حسب رواية أمي " ليكتب أبي رواية أمريكية عظيمة". المغرب ثاني بلد أجنبي عشت فيه، مع أنني لم أتجاوز العامين من عمري. وبحوزتي صورة تذكارية، ولكن دائما أتساءل كم أتذكر من المغرب فعلا، وكم هي القصص التي نسجتها مما أخبروني به.

وعن طريق الوالدة علمت أنه بعد ست أسابيع من ولادتي، أخذتني هي ووالدي، معنا أخي، وعلبة كارنيشن عملاقة من الحليب المجفف، وعلبة بامبيرز، وميراث أمي المحدود جدا، وذهبنا إلى كويرنافاكا في المكسيك. وهناك استأجرنا بيت مالكوم لوري القديم، وتخيل والدي أنه سيكتب فيه شيئا يرقى إلى رواية "تحت البركان". كسب والدي من لوري نوباته الكحولية، وملأ دفاتره بخطوط مبهمة وليس كلمات، باستثناء العنوان على الغلاف وهو - "أحمق متهور". وأضاف له كولاجات ترمز لسرب من الديكة وكرات.   ثم نوهت له الوالدة  برواية "السماء الواقية" لبول بولز. وقبل نفاد النقود، قررا أن المغرب هو المكان المناسب للثوار والمتمردين الشرفاء، وهناك سيتمكن والدي من اكتشاف فنانين يمكنهم إلهامه. أي مكان في عام 1969 أفضل من شمال إفريقيا لكتابة رواية أمريكية عظيمة؟.

في المغرب كنا نحتاج لرحلة مشاق لنجد الحشيش والأفيون ومادة LSD التي تفيض في مرفأ المدينة المزدحم. بحث والداي عن آثار كتاب مثل ألن غينسبيرغ ووليام بوروز وجين وبول بولز، وفي النهاية وجدا أنهم لجأوا إلى مجتمع الوافدين الفاسد الموجود في مخيم المدينة والحي الفرنسي.  استغل والدي سحر هيئته  الصبيانية الهادئة ووقاحته لفتح عدة أبواب مغلقة. واستثمر أيضا ما يعرف عن بول وبوروز من رغبة بالفتيان الذكور.

وزاد تعاطي أمي للحبوب. فقد أتت إلى المغرب سعيا وراء الموسيقا والتصوف، ووجدت نفسها حبيسة غرفة في فندق مع ابن بكاء وبلد يعزل النساء في البيوت كأنهن سجينات. لا تستمتع المغربيات إلا بالشمس والسماء التي تلمع على وجوههن في باحات المنزل، أو على أعلى شرفة من بيت تحيط به جدران مرتفعة ومحرومة من النوافذ.  أخبر محمد أمي في إحدى المرات وهو يتناول شراب الشاي بالنعناع: "نحن نحب حجب نسائنا عن الأنظار". ويئست أمي من الهرب. فقد كنا لدينا جواز سفر عائلي واحد، وكانت مربوطة بزوجها الأنيق والطائش، مع أنه بخيل ومخمور ويغيب عنا أحيانا عدة أيام متواصلة.  وفي الأيام التي يختفي فيها، تجد القليل من الهناء، ولكن سرعان ما يخيم عليها الخوف حينما تسمع صوت خطواته على السلالم، وتبدأ بالتكهن عن المزاج الذي عاد به.

ثم جاءت فرقة رولنغ ستون إلى المدينة.

كتب والدي، على قفا شهادة ميلاده، يقول إنه ينتعش بوجودهم، وألقاها على طاولة الاستقبال في فندقهم. كانت أمي عاشقة لبرايان جونز ومهووسة بمايك جاغر. وكانت تستمع لألبوم "ما بعد الحدث الهام" مرارا وتكرارا، وهي تهز قوامها النحيل على سجادة قطن مندوف ممدودة على الأرض، وتغطي نفسها بملاءات بربرية زاهية الألوان، مصدر التدفئة الوحيد في الفندق. (وللأسف فاجأ والديّ الشتاء المغربي البارد والرمادي بالمقارنة مع الحرارة الساطعة في المكسيك).

كان الكيف والحشيش وفرقة ستون أشياء متلازمة بالضرورة. وهكذا أمكن لأمي أن تنسى أوجاعها. وغالبا ما كانت تلتف من رأسها إلى أخمص قدميها بوشاح تخفي به الطفح الجلدي المتورم الذي يغطيها بالكامل، حتى أنه ظهر في أذنيها وأنفها.  أما المرأة التي يشاطرها أبي الفراش فقد تعرفت على الستونز في يبيزا  وأحبت مرافقة والدي ومحمد لحضور حفلهم. لذلك أودعوا ابنيها برعاية أمي. وقال لها الوالد: "تحلي بالصبر معهما". وهبط السلالم وهو يلتفت ويصيح:" لا يمكنك أن ترافقينا وأنت تعانين من هذا الطفح الجلدي". وقبل أن يغادروا، استفسرت الوالدة من محمد بحياء عن المعزاة.

قال وهو يغطي شفتيه:"بحال جيدة".

وذهبوا لمشاهدة حفلة الستونز في فيلا متهاوية في القصبة التي تمتلكها تاتيانا، وهي كونتيسة روسية مدعية، وتدير قاعة.

وصلت أمي إلى خط النهاية. مرت أمسية أخرى بفلولها وهي تحدق من الشرفة نحو الأسفل. كانت الأبنية البيضاء ملتفة بظل بارد رمادي، وقامات الرجال، الذين تأنقوا بالجلابيات البيض، تدخل وتخرج بحرية في أبواب الضباب العائمة تحت في الشارع. أما حبتا المخدر الاثنتان اللتان تناولتهما فقد خففتا شعورها، وهي تنظر من فوق قمم الأسطحة إلى المدينة البعيدة المغسولة بلون أبيض. وكان أخي ذو الخمس سنوات يتعلم اللغة العربية والحساب ويرتل القرآن في مدرسة حكومية. تجولت على الشرفة، وهبطت حفاضتي المبلولة وأنا أراقب أمي كيف مدت يدها داخل ثوبها المنقوش بصور الورود الحمر، وانتزعت حمالة ثدييها وحشوتها، وألقت الصدر الصناعي على الإسمنت. جذبني هذا الشيء فاقتربت منه حين كانت أمي تعتلي جدار الشرفة المتحجر. أخبرتني لاحقا أنها كانت تسمع صوت مايك جاغر يناديها، وهو يسبح بين موجات الأثير ويمر بالمآذن البيضاء. وكان يغني قائلا:" أنا أنتظر… أنا أنتظر…". كأنه أذان يستهدف سمعها فقط، وينفذ من السماء الملوثة الوضيعة. وفي أحد الأيام أخبرتني أنها لم تتعمد أن تقتل نفسها، ولكن أرادت أن تلاقي ربها، وهي ترتل وتنشد بصمت ودون صوت: "إن كان هناك رب عادل، أنا إذا بريئة. وإن لم يكن للرب وجود، فأنا لا أعلم الحقيقة". وحينها وازنت بين الاحتمالات، إذا لم تقتلها السقطة، وانتهت بعاهة أو ضرر جسيم، على الأقل سيتركها والدي وشأنها، ويمتنع عن شتمها بقوله: "أيتها البنت المسكينة الصغيرة الغنية". ولكن في تلك اللحظة، من تلك الفترة البعيدة، بدأت أولول وأمي تطوي نفسها بشكل كرة صغيرة،  وتتدحرج من الشرفة إلى الأسفل أمامي.

ثم سقطت من ارتفاع ثلاث طبقات، واعترضتها الأسلاك الكهربائية، وصعقتها، ولكن خففت من قساوة سقطتها، وهي ترتطم بها، ثم تحط في حاوية نفايات محشوة بزجاجات كلوروكس، كانت قد تخلصت منها مصبغة في الأسفل. ما يدعو للدهشة أن السقطة لم تخلف آثارا ظاهرة على جسمها. ولكن تضررت رقبتها وكتفاها، وانكسرت من الداخل، ولم يمكن رؤية شيء. أسرعت السيدات المغربيات من البيوت المجاورة بالخروج، وحسروا الأغطية عن وجوه موشومة وهن يدمدمن بامتعاض خافت، ثم حملن بحرص كتلتها من النفايات، وعدن بها إلى داخل الفندق. كان الانتحار بنظر القانون المغربي جناية، وعقوبته تصل إلى الإعدام إذا كانت الجانية امرأة. ولكن غطى هذه المفارقة ابنتها بحفاضتها المبتلة، وهي تصيح بأعلى صوتها، وفي يديها زوج من الأثداء المطاطية لا زال دفء أمها فيهما، وكانت تتساءل: هل ستشاهد أمها بعد الآن.  

***

.....................

* إلينورا كيج Ellenora Cage: كاتبة وسينمائية أمريكية معاصرة.

ربما لم يسمع بهذه الكنية أحد من أبناء الأجيال الصحفية الجديدة، بل من المؤكد أنهم لم يطلعوا على سخريته يوم كان يكتب في سنوات العشرينيات الصاخبة مقالات نارية صريحة وجريئة تحت الاسم المستعار «علوان أبو شرارة»، غير أن الاسم الصريح لأبي شرارة لا يخفى على أحد في عالم السياسة والدبلوماسية العراقية، فهو من أشهر وزراء الخارجية في أصعب الحقب التاريخية التي مر بها العراق في مسيرة استقلاله عن بريطانيا وصراعه الطويل معها، ومنها استلامه لحقيبة الخارجية في وزارة رشيد عالي الكيلاني. ويوم رحل موسى الشابندر «علوان أبو شرارة « في العام 1967 عن عمر ناهز السبعين عاماً، فإن أثمن ما تركه من إرث ذكرياته البغدادية التي اتسمت بالصدق والعفوية لكونه الشاهد الحي على الكثير من الأحداث الجسيمة التي مرت على بغداد وهي تنتقل من سيطرة العثمانيين إلى البريطانيين يوم 11 آذار 1917، بل وفاعلاً في مسارات الدبلوماسية العراقية بين الاحتلال والاستقلال .

وقد تهيأت الفرصة لتلك الذكريات أن تخرج إلى النور بداية التسعينيات من القرن الماضي بتقديم السياسي والبرلماني العراقي فيصل الدملوجي، بعد أن أعدها ولده محمود الشابندر لتصدر في لندن وقبرص عن دار رياض الريس بعد مضي ما يقرب من خمسين عاماً على تدوينها من قبل والده، ومضي ما يقرب من ربع قرن على رحيله، ومثلما كان «الصحفي» والكاتب المشاكس علوان أبو شرارة ساخراً في مقالاته الصحفية، كان الدبلوماسي موسى الشابندر طريفاً في ذكرياته البغدادية التي لم تخلُ من سخرية ودعابة تدل على روح بقيت متوهجة حتى الرمق الأخير على الرغم من الاجحاف وأنواع الدسائس التي يتعرض لها عادة السياسي العراقي، ومنها سنواته نزيلاً في سجن أبي غريب، تلك السنوات التي اختمرت فيها فكرة كتابة ذكرياته البغدادية. ولعل من أهم الأحداث التي شهدها الشابندر في مطلع شبابه وهو في العشرين من عمره سقوط بغداد، ووصفه للمخاوف التي عاشها أهل بغداد في الأيام التي سبقت دخول الجيش البريطاني، حين أخذت الطائرات تحوم فوق بغداد وتقذف عليها ذات يوم القنابل التي اصابت محلات مختلفة أطراف السراي والقشلة : «وكانت الأخبار متباينة والشائعات متعددة. ولكن مما لاشك فيه أن الجيش التركي كان بانسحاب مستمر أمام التقدم البريطاني.. وكان الخوف في قلوب الناس على أشده. خوف من الأتراك المنسحبين وخوف من الجيوش البريطانية الفاتحة وأشد من كل ذلك خوف من العشائر المحيطة ببغداد خلال الفترة بين الانسحاب والاحتلال .. لأن الشائعات أخذت تدور بأن بعض العشائر أخذت تهاجم بغداد وتسلب وتحرق. وليلة 10/11 آذار/ مارس 1917  حوالي منتصف الليل سمعنا انفجاراً قوياً هز الدار هزاً فأفاق النائمون في هلع كبير وأخذ الأولاد في البكاء والامهات تصيح واستولى الخوف على الجميع وكان ذلك انفجار مخزن العتاد التركي في باب الطلسم وهذه علامة بأن الأتراك تركوا بغداد» وقد أعقب ذلك أعمال الفرهود، وما تعرض له والده وهو شخصياً من أذى على يد الانكليز جعله يقول: كنا حانقين وناقمين على تصرفات الأتراك ومظالمهم فأرانا الله على يد الاحتلال الإنكليزي ما يجعل « ظلم» الأتراك برداً وسلاماً. وفي مثل هذا المستوى من الوصف التفصيلي المثير للأحداث يسرد الشابندر ذكرياته البغدادية منذ طفولته حتى نهايات الأربعينيات من القرن العشرين، ومنها صفحات الحرب العظمى ونشوء الدولة العراقية وتنصيب الملك فيصل الأول، وبداية عمله السياسي وانطباعاته وعلاقاته مع رجال عصره أمثال نوري السعيد وتوفيق السويدي ومزاحم الباجه جي وطه الهاشمي ومحمد علي جواد ورستم حيدر والوصي عبد الإله وغيرهم. ومن ذلك أيضاً وصفه للفيضان الذي اجتاح بغداد في خريف عام 1914 وهدم السدود فدخلت المياه إلى أطرافها ووصلت إلى محلة السنك: «وكان أهل بغداد باضطراب شديد والتجأ كثير من الناس إلى صوب الكرخ خوفاً من الغرق».

لكن من أكثر الصفحات إيلاماً في ذكريات الشابندر، تلك المتعلقة بسجنه في أبي غريب منذ العام 1944، فهو وبعد أن يستعرض عمله الدؤوب وتضحياته لخدمة بلده، وتمثيله العراق في عصبة الأمم وفي العديد من العواصم الأوروبية، وما لقاه من جزاء ومعاملة سيئة في سجن عراقي، يقول نصاً: نعم أنا الآن في بغداد، في العراق، في « أبي غريب» في هذه الغرفة الموحشة من هذا البناء الموحش، سجيناً، والسجن انفرادي، وهذا الباب مغلق... وهذا الحارس يتمشى في الممر المظلم ذاهباً وعائداً أمام الغرف، هل هذا حلم مزعج أم حقيقة مرّة .

يكتب الشابندر: وإن كان معتقل « داخو» لطخة عار على جبين الشعب الألماني فإن سجن « أبي غريب» بالنسبة إلى العراق سيكون له نفس العار على موجديه .

وتلك كانت من نبوءات علوان أبو شرارة ! .

***

د. طه جزاع – أستاذ فلسفة

غادر فريدريش نيتشه عالمنا في مثل هذا اليوم " 25 " آب عام 1900 ، في منزل العائلة في فايمار عن عمر يناهز السادسة والخمسين، امضى سنواته الأخيرة يعاني من الامراض.. يصفه احد مريده، وكان شاهدا على الايام الأخيرة من حياته بأن: " هذا الرجل لا يمكن ان يموت، بل أن عينيه ستبقيان معلقتين إلى الأبد فوق البشرية ". كان نيتشه قد تعرض إلى اول جلطة دماغية في عام 1898، وضربته الجلطة الثانية في آب من عام 1900، تروي شقيقته اليزابيث لحظاته الاخيرة مع الحياة: " بدا الأمر  وكأن هذا العقل الجبار في طريقه الى أن يفنى وسط الرعد والبرق، ولكنه تعافى في المساء وحاول التكلم..عندما ناولته كوبا من الشراب المنعش كانت الساعة تشير الى الثانية صباحا، فدفع عاكس الضوء حتى يتمكن من رؤيتي.. فتح عينيه الرائعتين، حدق في عيني بإرادته ومات " – سو بريدو انا عبوة ديناميت ترجمة احمد عزيز وسارة ازهر -.

الفيلسوف العبقري الذي عاش وحيدا ومات وحيدا، لم يكن احد قبله بمقدوره ان يقلب التفكير الغربي رأساً على عقب، ولم يأت أحد بتاريخ متناقض وخطير النتائج كما فعل، وهو الذي يقول عن نفسه " انا ديناميت "، إلا انه يفزع في لحظة من اللحظات من الذين سيستخدمون كلماته:" كم من الناس سيستند يوما من الايام الى سلطتي من غير وجه حق "، وكانت مخاوفه معقولة، ألم يقل يوما وهو منبهر: اضع يدي على الألف القادمة، واليوم في عصر الانترنيت والالكترونيات لايزال الحديث عن نيتشه يشغلنا، ففي كل يوم يولد قارئ جديد سيقرأ فيما بعد سطراً من " العلم المرح " فيدهشه، أو كلمات من "هكذا تكلم زرادشت "  فتسحره، او تغريه عبارة من إرادة القوة، ويظل هذا الفيلسوف الذي مات مجنونا لغز عالمي، فنيتشه كما كتب يوما الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز:" لا يمكن استنفاذه، وقد غرف كل جيل من نبع رؤاه، وسعى الى استنفاذه ، وقد بليت كل الانية وتكسرت، غير انه في العمق، ما يزال النبع نضاحاً لا ينضب "  .

كان نيتشه رجلا ذا مظهر صادم، متوسط القامة، ملابسه بسيطة، له شعر مسحوب الى الخلف، شاربه الكث مرتب ترتيبا دقيقا تخبرنا لو سالومي في كتابها " سيرة فكرية " – ترجمة هناء خليف غني – انه كان هادئا في سلوكه، وله اسلوب واضح ودقيق في التحدث.وتختتم سالومي انطباعها بالقول:" كان الرجل الاكثر تاثيرا وجاذبية الذي قابلته على الاطلاق ".

عند النظر الى صورة نيتشه الشهيرة بشاربه الكثيف ونظراته الحادة التي تبدو متشائمة في كثير من الاحيان، والعينين التي تمنح صاحبها انطباعا بالعزلة والانطواء، وهيأته الانيقة المدروسة، نكتشف حالة الغموض التي حاول ان يحيط بها نفسه، ورفضه وجود مَثَلٍ أعلى،:" انتصتوا ! فأنني على هذا النحو أو ذاك. فبحق الله لا تخلطوا بيني وبين أي شخص آخر "  - هذا هو الإنسان ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد -.

في الرابعة والاربعين من عمره  كتب فريدريك نيتشه:" إذا قُدر لك يوما ما ان تكتب عني.. فاستعن بالحصافة التي لم يتمتع بها احد للأسف، حتى الآن، واذكر خصائصي، اي اكتب وصفا لي لا تقييما لي.. فليس من الضروري على الاطلاق، ان ينحاز احد الى صفي، بل على العكس، إذ يبدو لي ان جرعة من حب الاستطلاع، كالتي يتسم بها من يشاعد نباتا غريبا، الى جانب مقاومة ساخرة، تمثل موقفا ازائي لا يدانيه في الذكاء شيء ".

منذ صدور كتابه الاول " مولد التراجيديا " عام  1872 ادرك نيتشة قوة واهمية كلماته، حيث شبه نفسه " بالقوة القاهرة " التي تكتب لتنتشر الكلمات في العالم، تبرق كاصاعقة، ظل يؤمن ان بامكانه بجرة قلم أن يقسم تاريخ البشرية الى قسمين " قسم عاش قبله، وقسم يعيش بعده " هذه الكلمات التي كتبها في كتابه " غسق الاوثان  " قبل شهرين فقط من فقده عقله، لم يتوقع العالم ان ما كتبه هذا الرجل المجنون كان صحيحا. لكنه سيثبت فيما بعد بانه كان على حق بعد ان اعلن ان هدفه الاساسي كفيلسوف هو كشف الاوهام:" ان الانسان يصل الى العظمة عندما يصبح قادرا على الرقص من دون خوف وهو على حافة هاوية الموت. على حافة هوة وفراغ الوجود اللامعقول ودون ان يتراجع.

منذ سنوات وانا اتابع كل ما يكتب ويترجم عن نيتشه، ولست وحدي من القراء العرب من أغرم بهذا الفيلسوف الغريب الأطوار، والذي كتب عنه الكثير منذ ان كتب فرح انطوان عام 1908 سلسلة مقالات عن فلسفة نيتشة التي وصفها بالنقدية، ثم اصدر عام 1914 مرقس فرج بشارة كتاب بعنوان " هذا هو نيتشه "، مبرراً كتابته  بالسعي لبث الحيوية في التاريخ العربي وإلهام الأمم التي تريد أن تتقدم وتنمو وترتقي بالنوع الإنساني، وما خصصه سلامة موسى لنيتشه  من مقالات نشرها في مجلته الجديدة  ولقي نيتشه اهتماماً من دعاة النهوض العربي، فترجم فيلكس فارس " هكذا تكلم زرادشت " اراد من خلال الترجمة كما يخبرنا  سحق مشاعر الذل والمسكنة في الحياة العربية،  وبث روح القوة فيه، ثم توالت الكتب عن نيتشه واصدر عبد الرحمن بدوي  عام 1939 اول كتبه عن نيتشه وقد كتب في المقدمة:" ما نحن اولا نضع بين يديك اول صورة من صور الفكر الاوربي: صورة حية قوية فيها عنف وفيها قسوة، وفيها تناقض وفيها اضطراب،وفيها خصب وفيها حياة. ونحن نعلم مقدما انك لن تطمئن اليها، وان الكثير من القلق سيساور نفسك بازائها، ونخالنا نرى عينيك الآن وهما تتسعا دهشة واستغرابا، ونحس بقلبك وهو يهتز جزها منها وقشعريرة. ولكننا نعلم ايضا ان هذه  الهزة هي القادرة وجدها على انتشالك من الظلمة التي انت فيها الى نور الفكر الحر والنظر الصحيح الى الاشياء."، ثم كتاب فؤاد زكريا اضافة الى ترجمة معظم كتبه باكثر من ترجمة الى اخر كتاب اصدرته المطابع العربي عن نيتشه بعنوان " الحكمة التراجيدية " من تاليف الفرنسي ميشيل أونفراي والذي يقول انه يقدم في كتابه:" نيتشه الذي ادفع به هش، يحب النساء لكنه لا يعرف كيف يعبر لهن عن ذلك، لذا فانه يحتمي منهن فيظهر كالكاره لهن،إنه صاحب رقة وكياسة ووقار في حياته اليومية، لكنه على الورق يطلق العنان لأحصنته، ويُسمع دوي مدافعه، وازيز رصاصه، ويقتحم جبهات الفلسفة متسلحا بالحكمة الصادقة فقط، انه انسان معطاء، يكتب مثل شاعر كبير " – الحكمة التراجيدية ترجمة جلال بدلة -

لقد ادرك نيتشه منذ سنواته الاولى ان الظاهرة الأساسية القادمة في ثقافة الغد ستكون حتماً هي حاجة الفرد الى تمييز نفسه من الجماعة، ومن أكثر أوصاف نيتشه تاثيرا في النفس وصفه للانسان، والذي يرى نفسه شبيها بالأله، ففي هذا الوصف لايعود للانسان قمة اخرى يسعى اليها. وثمة طابور طويل من الادباء والفنانيين والفلاسفة  وجدوا في عالم نيتشه دغدغة لمشاعرهم وتحفيزا لافكارهم، ويتراوح هؤلاء من شبلنجر الى هرمان هسه،  ومن ريلكه الى عزرا باوند  ومن توماس مان الى أليوت  وحتى سارتر وهيدغر وكامو، هؤلاء جميعا  يجدون انفسهم في كتابات نيتشه، وفي اشعاره الفاتنه، ولا يمكن لاحد اليوم ان يتجاوز نيتشه فنراه أختار لنفسه قناع صاحب الفكر الحر، او الداعية الى الاخلاق، او عالم النفس، او النبي، او المجنون، غير ان فكره يبقلى في ذلك جميعه وجوديا  وتجريبيا  ونموذجيا، وجودي لانه عني بتشكيل حياة نيتشه نفسه، وتجريبي لانه يضع المعرفة والتراث الاخلاقي  جميعه موضع الفحص والاختبار، ثم ان تفكيره نموذجي في الاجابة على مشكلة العدمية التي نادى بها استاذه شوبنهور..لقد شكك نيتشه تشكيكا اساسيا في معظم المفاهيم الفلسفية، وقد جعل ما اسماه كانط " رحلة الجحيم لمعرفة لتعرف الذات " علما فلسفياً.

غالبا ما يعتبر نيتشه احد الأباء الروحيين للفلسفة الوجودية الحديثة التي ظهرت في القرن العشرين، ويكتب عبد الرحمن بدوي ان تاثير نيتشه على سارتر وهيدغر وكامو ربما يفوق تاثير كيركجارد. لا يوجد هدف أبدي ولا يوجد معنى أو مغزى مطلق للوجود البشري، هكذا يكتب كامو في مقدمة اسطورة سيزيف، وهو يقتبس هذه العبارات من هكذا تكلم زرادشت،  يصر نيتشه على ان ما نصادفه في الحياة   مجرد تفاهة ، اطلق عليها تعبير  تفاهة اللامعنى. أن أرادتنا  وقدرتنا  على اتخاذ القرارات هي التي تميز البشر عن باقي  المخلوقات  وان انحطاط الأنسان العصري يظهر في كونه جبانا يفتقر الى فضيلة الشجاعة، لكن ألأنسان المتفوق هو ذلك الذي لايخشى ان يمارس رغبته في بلوغ المجد حتى أعلى المستويات.

ورغم ان الفلسفة الوجودية تدين بالكثير الى نيتشه، وينظر اليه مع كيركغارد، على انهما من رواد الوجودية، الا ان نيتشه يقف في كثير من الاحيان بالضد من كيركغارد الذي يصور الانسان الفرد على انه ضعيف، وعاجز، وجبان، ويجرد الفرد من جميع القدرات الانسانية، ويرى ان فقدان الانسان للايمان بنفسه، يدفعه للايمان المطلق بالله لحل مشكلاته الحياتية. لكن نيتشه يرفض هذا الحل الديني ن وهو يرى ان كيركغارد يحاول حل مشكلات الانسان عن طريق ادارة عقارب الساعة الى الوراء، والعودة الى الحكم المسيحي الذي يفرض تسليم النفس لله، وهذا مستحيل في نظر نيتشه، لان الله قد مات، وربما تكون فكرة موت الاله هي ابرز اسهامات نيتشه في الفلسفة الوجودية.

والان ربما يسأل البعض: لماذا نقرأ نيتشه، ولماذا كتبه لاتزال بعد اكثر من 120 عاما الاكثر مبيعا، فيما لو قمنا بكتابة كلمة نيتشه في موقع " غوغل " ستظهر لنا الالاف الكتابات والصور عن هذا الفيلسوف الذي كان مؤمنا بان مهمة الفلسفة تعليمنا كيف نصير نحن..وتعلمنا كيف نكتشف اعلى مقدراتنا، وكيف نكون اوفياء لها.

قبل اكثر من عامين صدر كتاب يطرح فيه مؤلفه الكاتب الانكليزي باتريك ويست  فكرة تخيل عودة نيتشه الى حياتنا هذه الايام،  ويناقش تاثير نيتشه على عصرنا الحاضر، فهذا لفيلسوف الذي اخترع كلمة السوبرمان، لاتزال افكاره حول طبيعة الخير والشر، وارادة القوى ، تردد صداها في جميع أنحاء العالم، وفي وسائل الاعلام، ونجده يظهر في سلسلة هاري بوتر كانسان خارق ، يطرح الكاتب سؤالا:  هل نحن مدينون لنيتشه، الذي اكد ان " ما هو عظيم في الإنسان،  أنه جسر وليس هدفًا "..

يقول الكاتب أن نيتشه يحب أن يطرح أسئلة. وقد كان يعتقد أنه كلما زادت عدد الأسئلة التي نطرحها كلما زادت الحكمة التي نكتسبها ونطورها في حيانتا بشكل أفضل، وان الانسان عندما يعاني للوصول الى هدفه فان ذلك افضل له ، فالشجاعة هي  في مواجهة الصعوبة، والسماح لنفسك بالعيش بشكل تجريبي، واستكشاف خبرات الحياة بجرأة:" كن ممتنا لأنك لم تأخذ الطريق السهل وتستمر في ذلك مثل "متعرج ممل".

لقد احببت نيتشه منذ ان انتهيت من كتابه " هكذا تكلم زرادشت " قبل ما يفارب الاربعين عاما ، ورحت منذ ذلك الوقت  ابحث عن هذا الفيلسوف الغامض والغريب، جذبني شيئًا ما باتجاهه وبدأت أشعر بإغراء لكل ما كتبه وما كُتب عنه ، وتعلمت منه أن اقرأ بتمعن لاتمكن ان اجيب عن سؤاله الذي يطرحه في كتابه " هذا هو الانسان ": هل فهمت ؟.

يكتب كارل ياسبرز:"  سعى نيتشه إلى قيم الصدق والإلتزام  والحقيقية الاصيلة، متجاوز حدود القدرة الجسدية والنفسية على الاحتمال.  كان بالفعل استثنائي، نعجب به لكن لا نقلده.. فمثل سقراط عاش وعانى بسبب صدق تعاليمه، وكانت حياته اشبه بحطام سفينة، وهو يمثل انذاراً ضد الشطط الذي يجب أن لانتبعه، وفي نفس الوقت يمثل نموذجا للفضائل التي يجب ان نحاكيها ".ويختتم ياسبرز بمقولة نيتشه: " اجل اني لا اعلم من أنا، ومن أين نشات، أنا كاللهب، احترق وبكل نفسي. نور كل ما أمسكه، ورماد كل ما أتركه. اجل اني لهيب حقا ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في حديث شخصي لنا مع الراحل غائب  طعمه  فرمان عن تجربته الشعرية الأولى، أكد على أنه نظم الشعر في العراق قبل سفرته الأولى إلى مصرعام 1947، وكان ثمرتُها نشرَ قصيدتين في صحيفة "الشعب" العراقية آنذاك، إضافة إلى أول خاطرة نشرها فيها عندما كان طالباً في المدرسة المتوسطة1.

وقال غائب فرمان أيضاً، إنه أرسل قصيدةً بعنوان "ليلتان من ليالي شهريار" إلى إذاعة "الشرق الأدنى"، التي قرأها بصوته الشاعر المصري المعروف عبد الرحمن الخميسي، ويتذكر مطلعها أو أحد أبياتها:

مَلَّ طولَ السرى بليل عذابه

وانطوى بين كأسه وشرابه

لم نطّلعْ لحد الآن على القصيدتين، المنشورة إحداهما في صحيفة "الشعب" العراقية، والمذاعة ثانيتهما في محطة "الشرق الأدنى". ومع ذلك نعتقد أن قصيدتين أخريين منشورتين في مجلة "الثقافة" المصرية تكفي لإعطاء صورة واضحة عن تجربة غائب طعمه فرمان الشعرية القصيرة والبسيطة التي تركت آثاراً واضحةً في أعماله القصصية والروائية، وهذا ما سنتطرق إليه لاحقاً.3621 غائب طعمة فرمان

غائب طعمه فرمان وزهير ياسين شليبه 1981-82

نَشرَ غائب قصيدة "صمت" و"طفلة" في مجلة "الثقافة" كما ذكرنا، وأنهى بهما على الأرجح تجربتَه الشعرية، وسنوجه إهتمامنا هنا إلى الجانب الإنساني والروحي والفكري لهذه البداية المتواضعة وإستنباط علاقتها بعالمه النثري فحسب.

إن أهم ما يلاحظه القارىء هو أن غائب ط. فرمان الشاعر الشاب يعبرعن حالته الذاتيه وطبيعته النفسية، فقد كان ينوء بهموم وإرهاصات روحية ونفسية كثيرة. ولهذا نرى تكرار مفردات مثل: الليل، أحضان، الحلم، الحنين، الطير، السكون، الكآبة، الحنون، الصمت الرهيب، الروح الكئيبة، الهواجس، "فإن أسكرك الصمت فلا يرعبك السكر"، الشفق الباكي، العشب الظامي، الحب. فالشاعر ينشد منذ شبابه الحرية والسكون والهدوء وراحة البال كما لو أنه تعب من هموم الحياة وصعوبتها فيقارن نفسه التواقة للهدوء والحرية بالطير. في هذه المقارنة نرى روح الشاعر الشاب ونلمس فيها في أيضاً النزعة النثرية والصورة السردية، حيث يقول:

والطير في عش السكينة هادىء..متنعم

غافٍ على سرر الأمان  وبالسعادة يحلمُ

قد أطبق الشفتين في صمت فلا يترنمُ

أتراه تاه مع الخيال كما يتيه الملهم؟

*

وتطغى الكآبة على الشاعر كما يبدو من قوله:

كم مرة عصفت أعاصيرُ الكآبة في دمي

وترنحت نفسي بديجور الحياة المظلم

وشعرتُ أن دمي تضجر في وجودي المعتم

وضللتُ أنشدُ للوجود كآبتي وتألمي2.

إلا أن فرمان يحقق الإنتقالة الذاتية ليخرج إلى رحاب عالم "الآخرين" الكبير ويتذكر همومهم رغم متاعبه الروحية والنفسية. وحتى لو كان هذا التحوّل بسيطاً وغير رئيس، إلا أنه يبقى ذا أهمية كبيرة حيث نجد فيه روح القاص المتيقظة نحو هموم الآخرين، والإنتقال من الخاص إلى العام، من الذات والأنا والتجربة الشخصية الخاصة إلى الذوات الأخرى والعالم الأرحب. وهذا جانب من جوانب الوعي القصصي والبدء بالكتابة السردية.

ومن الطبيعي أن يتحقق هذا الوعي بضرورة الممارسة النثرية بنسب متفاوتة كما يمكن ملاحظته في إختيار المفردات ذات الطابع القصصي السردي في القصيدة، حيث يقول الشاعر:

وهناك عند نهاية الوادي المعرش بالشجر

في هجعة الروح الكئيبة بين أشتات الفِكَر

أرسلتُ نفسي خلف أركام الهواجس والصور

وقفت ابعث للطبيعة كلَّ آلام البشر3.

وكما ألمحنا، إن غائب فرمان كثيراً ما لجأ إلى الطبيعة في تصوير حالة أبطاله لتحقيق المغزى الفني، فهي إما أن تكون مرتبطةً بأحوالهم الروحية أو بفكرة ترد في حديث الكاتب أوالشخصيات الأدبية، لكنها قليلة الحضور لتركيزه على رصد الأحداث داخل المدن وحاراتها الشعبية.

أما التجربة الشعرية فهي غنية بالمشاهد الرومانسية ذات الصلة الوثيقة بالطبيعة، حيث تحضر بشكل ملفت للنظر، وتعكس حالة الشاعر النفسية الذي يهرب من عالم الزحام والمدن والشوارع إلى الخلق الجميل المتجسد في جمالها الأخاذ. وهذا بالتالي يعبر عن موقف الشاعر- الكاتب من الحياة ومن تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان، ولو بطريقة بسيطة أو "ساذجة" أحياناً، كما لو أنه يقول لنفسه وللناس: أنظروا إلى هذا الجمال، تمتعوا به، وأنظروا إلى الطبيعة المعرشة وستبهركم بالتأكيد، فَلِمَ لاتجعلون حياتكم جميلةً مثلها؟ نقية، صافية،  كهذه الوديان فتعيشون مرتاحي البال بدون هموم؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال يحقق الشاعر غرضه القصصي، كونه يفصح عن روحه القصصية ولهذا بالذات نراه يترك فيما بعد نظم الشعر ليبث هموم البشر بين سطور النثر الكثيرة وتصبح الأنواع النثرية أكثر إستجابة لرغباته ومتطلباته النفسية. فكانت الغلبة للقصة، التي صارت بالنسبة له بمثابة "صرخة إحتجاج" حسب قول الكاتب نفسه في جلساتنا الخاصة.

ويبدو أن العلاقة بالليل والسكون والطبيعة الهادئة والطفولة من أهم الموضوعات التي تناولها غائب في قصصه ورواياته وأقربها. هذا ما سيتضح للقارىء من خلال تطرقنا اللاحق في هذا المقال إلى قصصه المبكرة الأولى. ولهذا فلا غرابة أن يسمي الشاعر قصيدته بعنوان "صمت"، وهي الصفة التي يتميز بها الكاتب نفسه.

وأهم ما في الأمر أننا نلمس في هذا "الصمت" موقف الكاتب الإحتجاجي على كل التصرفات الخرقاء والظواهر السلبية. ويكفينا أن نتذكر الصمت الرافض الذي يمارسه السيد معروف بطل قصة غائب  فرمان "آلام السيد معروف". كان السيد معروف يعاني من آلام الآخرين ويتحرق من الممارسات السيئة التي يسلكها زملاؤه الموظفون الوصوليون ليزعجوه، وكانت تتجسد في آلام معدته فيهرب إلى الطبيعة والغروب حيث يبث له آلامه بهدوء، بل بصمت.

وليس عجباً أن ينظّم فرمان قصيدةً شعرية عن الطفولة، فلو تصفحنا قصصه ورواياته لرأيناها مليئة بالمقاطع المكرسة لذكريات الطفولة والصغار، وأن روح الدعابة تكاد تطغى على أغلب أعماله القصصية الأولى مثل "عصيد الرحى"، و"دجاجة وآدميون أربعة"، و"مولود آخر"، وغيرها من القصص التي تعبر عن الحب الكبير الذي يكنه الكاتب لأبطاله الأطفال الذين التقطهم من أحياء بغداد الفقيرة.

يقول الشاعر الشاب غائب طعمه فرمان ذو العشرين سنة في قصيدة "طفله":

سرتْ دجله بين الشجر الهادل أغصانه

تشارك بلبل الروضة في الوحدة ألحانه

وكنتُ هناك فوق العشب المخضل وسنانه

أضنّتك عروس الفجر  أم ضنّتك ريحانه؟

رعاك الله يازهرة كم هشّت للقياكِ؟

وحامت حول مغناك تذيع الأرج الذاكي.

ويقول أيضاً:

هنا لا شيء غير الحب يا طفلة أحلامي..

فكم قبّل هذا النهر ثغر العشب الضامي!!

وكم لف جلال الصمت أشعاري وأنغامي؟

رعاك الله ياطفلة ما أجمل دنياكِ!!

تنامين وعين الله ياحلوة ترعاكِ4.

وهكذا فإن الشاعر يربط بين مفاهيمه الإنسانية و"الطفولة والطبيعة، وبساط العشب وسحر الأغاني ونور الشمس والشاطىء الغافي وترانيم العصافير والموج المسحور..".

ولنرَ كيف يتجسد هذا الموقف بموضوعة براءة الطفولة وأحلامها في كتابته الروائية بعد عقدين من العمل الدؤوب في ميدان النثر.

يقول الروائي غائب ط. فرمان عن الشابة الصغيرة تماضر بطلة "النخلة والجيران" "...وكم كانت مشتاقة إليه. كم كانت تترقب مغيب الشمس وحضوره ... وإستلذت بالظلمة حين أطبق الباب، ظلمة مثل قط أسود تغوص فيه. وطاف في خيالها ذلك السرب الخائف من العصافير الذي رأته يفر من قلب الشجرة الأسود. ثم تذكرت نبكَة الخالة نشمية، وتخيلت نفسها مختفية بين الأغصان كما كانت تفعل وهي صغيرة. تذكرت كم كانت خفيفة وطليقة في صغرها".

ونقرأ أيضاً في مكان آخر من الرواية نفسها:

".... وفي الأصيل كانت النسمة تهب من النهر عبر شجرة توت معمرة تماوج الذهب على ذوائبها الغريبة. وكان قلبها أسود إنطلق منه سرب من العصافير، وقع على أرض الحوش في زفرة حادة ... وتذكرت تماضر شجرة التوت التي كانت تتسلقها في بيت الخالة نشمية عندما كانت صغيرة وتختفي بين أغصانها الكثيرة ..."5.

هذا هو صوت فرمان الروائي، وهو في الحقيقة لا يختلف كثيراً في جوهره عن أحاسيس غائب الشاب. وفي كلتا الحالتين طغت روح غائب الإنسانية في شعره ونثره، في قصائده الأولى وقصصه ورواياته، غائب المحب للطبيعة والطفولة، الولهان بجمال الدنيا ونقائها لدرجة الرومانسية. بل إنه كثيراً ما يربط ذكريات الطفولة والشباب بالطبيعة. يقول الروائي غائب: "... ولكن الخضرة كانت رائعةً، نفس الخضرة السندسية التي لها علاقة بالطفولة". ويكتب أيضاً "...كانت ذكرى أمها عزيزةً عليها. ماضٍ يبدو لها كالحلم: كانت ترقص فيه أو تسبح في الهواء، وفمها مملوء بالحلاوة، والدنيا صافية في عينيها. عذبة، طليقة رقراقة كماء غدير رأته في طفولتها تلك. كلما تذكرته داعبت قلبها نسمة ناعمة كذلك الثوب الحرير الملون الذي اشترته لها أمها في أحد الأعياد".

يلاحظ القارىء أننا نؤكد هنا على مفردات مثل: كانت، تذكرت، العصافير، صغرها، طفولتها، ماء غدير والخ، لأنها تؤدي وظيفتها الفنية في العمل الروائي، وبالذات في حالة الذروة التي تطفح فيها المشاعرالإنسانية الرومانسية حيث تسود عليها روح الكاتب الإنسانية ويصوّر الناستولجيا من خلال ذكرياته عن الطفولة، ويتقاطع هنا النثر بالشعر، وتتجه لغة الرواية لاحقاً نحو الفنية، التي إفتقرَ إليها أغلب الأعمال النثرية الطويلة الصادرة قبل "النخلة والجيران"، ولهذا عدّها بعض النقاد أولَ روايةً عراقيةً فنيةً، كما بينا ذلك في أطروحتنا المكرسة لأعماله6.

ويمكن للقارىء بسهولة أن يجد المقاطع االشاعرية في أعمال غائب الروائية، فيصور بطلةَ "القربان":

" .... كانت طفلة مدللة من أمها ذات ضفائر كضفائر النساء... إلا أن الطبيب أشار إلى أمها بأن تحلق شعرها. وقبلت الأم وبكت مظلومة بحرارة ... راودها مثل هذا الشعور الآن. فقدت شيئاً فمن يرده إليها؟ .... وطاف في ذهنها صباح. إنه شعرها الجديد الذي سيسترها"7.

هكذا يوظف فرمان الشعر لصالح النثرويخلق لغة روائية هجينة أحياناً، تتميز بالصور الشعرية لكي يصل إلى أعماق أبطاله ويجعلها قريبةً من القارىء بأقل عدد من المفردات فيحقق ما يسمى ب "الإقتصاد اللغوي" ويقدم لغة مضغوطة تتفجرعند تفاعل القارىء معها وتتخلص من الإنشاء.

ومن الممكن بسهولة ملاحظة أوجه الشبه بين وصف ذكريات تماضر "النخلة والجيران"، ومظلومه "القربان"، كما لو أن الكاتب أو "صورته" يقف وراء العبارات وخلف السطور محامياً مدافعاً عن الطفولة في وطنه، ولهذا يشعر القارىء بروحه وإنسانيته تسري في كل حرف ويعيد الحياة لكل شخصياته ويكسبها الحيوية والمستوى العالي من النمذجة فجائت قريبة لمختلف أنواع القراء ومستوياتهم.

ورغم إنّ غائب فرمان كتب عن أحداث دارت في بغداد، بل في أزقتها القديمة حيث تختفي الطبيعة الخلابة وتحل الأوساخ والرطوبة محلَّ "الخضرة السندسية" على حد تعبيره، رغم هذا كله نلاحظ أن خيال الكاتب لا يبخل عليه بوصف المناظر الطبيعية مما يذكرنا بتجربته الشعرية.

يُصوّر فرمان سليمة الخبازة بطلة "النخلة والجيران": "...وتذكرت الزورق الذي عبرت فيه سامراء ذات مرة. هدهدها في رفق على ماء رقراق رأت خلاله الحصى الملون الذي بدا لها قريباً لا يكلفها إلا أن تغمس ذراعَها وتلتقطه. كان الفصل صيفاً. نزلت من القطار وصعدت الزورق معتمدة على ذراع زوجها... ثم ما لبث الزورق أن تهادى فأغمضت عينيها في لذة خائفة، ...وفتحت عينيها على صوت يقول "شوفوا السمك يلبط"، لكنها لم ترَ السمك، بل رأت مواشير الضوء تحت الماء والحصى"8.

المنظر الطبيعي الخلاب يساعد هنا على إستيعاب مزاج سليمة الخبازة المرأة الفقيرة التي تعاني من الوحدة، لكنها تحلم باستمرار بالانعتاق والخروج من واقعها المتعب، وأنّ تذكّر السمك في أحلام اليقظة والمنامات إشارة خير في الموروث العراقي.

"وماذا بعد؟ أليس هذا... شيئاً من الشعر؟ أو بهذه السريالية النقية يحرك غائب أبطاله..." على حد تعبير الدكتور أحمد قاسم النعمان9.

وفعلاً، إن أعمال فرمان مليئة بالصور الشعرية كما أسلفنا، وقد اشار الناقد اللبناني محمد دكروب إلى شاعريته في معرض حديثه عن قصة "حلاّل العقد"، التي كتبها بعد فترة طويلة من تجربته الشعرية.

أجل، إن روح فرمان لم تكن قادرة على التقوقع في الذات بل خرجت إلى رحابة العالم وفضائه اللامتناهي والمدن والشوارع والأحداث التاريخية الكبيرة، مليء بالعوالم الروحية المختلفة، حيث الخير والشر والطفولة المقتولة في رحمها. ولهذا بالذات لم تعد القصيدة تلبي رغباته وتنسجم مع متطلباته الروحية فتوّجه نحو الأنواع النثرية: الخاطرة القصصية أو (المقاصّة) البدائية، الأقصوصة البسيطة ثم القصة القصيرة "الفنية" التي سعى من خلالها تحقيق مفاهيمِه الجديدة آنذاك عن النوع بفنيّة أعلى من السائد، فنلاحظ أن قصصه الخمسينية أدنى فنياً عن نظيراتها الستينية، بينما تميزت رواياته كثيرا عن بواكيره الأولى من حيث الكمال الفني.

أخيرا لابد لنا ونحن نختتم الحديث عن تجربة فرمان الشعرية الأولى، من الإشارة إلى أنها كانت تعبر عن إحساسات أديب شاب وتعكس همومه، وليس هناك أفضل من الشعر في تصويرها لاسيما وأنه كان لايزال يتبوء مركز الصدارة، أما القصة بمفاهيمها الجديدة المعاصرة والحديثة المتطورة فكانت من الأنواع الأدبية الجديدة على الأدب العربي في العراق رغم نشر العديد من القصص القصيرة والطويلة.

لهذا ليس عجيباً أن يلجأ فرمان إلى الشعر في بداية نشاطه الأدبي، وليس غريباً أن يتأثر بشعر علي محمود طه بالذات من حيث الشكل، كما أكد لنا الكاتب نفسه في أحاديثنا الشخصية.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

1985، موسكو

.........................

الهوامش:

1- الإغتراب الأدبي. العدد 17 السنة 1991، لندن. هذا المقال جزء من دراسة بعنوان "غائب طعمه فرمان – البدايات"، عن قصائده وقصصه الأولى المنشورة في الصحف المصرية في الأربعينات، نُشر قسم منه في مجلة الإغتراب الأدبي، على أمل أن يُنشر القسم الثاني :"غائب طعمه فرمان قاصاً"، لكن ومع الأسف فُقدَ ولم أعثر عليه حتى هذا اليوم.

2- غائب طعمه فرمان. قصيدة "صمت". الثقافة. العدد 461 السنة 1947 القاهره، ص 34

3- نفس المصدر السابق

4- الثقافة. قصيدة "طفله"، العدد 518 السنة 1948 القاهره

5- غائب طعمه فرمان. النخلة والجيران. بغداد، صيدا 1965، وأنظر أيضاً : المخاض. بيروت 1974 ص 10

6- د. زهير ياسين شليبه. غائب طعمه فرمان، دراسة أكاديمية مقارنة. 1996، بيروت

7- غائب طعمه فرمان. القربان. بغداد 1975 ص 63

8- - النخلة والجيران، ص 8

9- د. أحمد النعمان. الحنين إلى الوطن في أدب الروائي الكبير غئب طعمه فرمان. الوطن. الكويت 15-2-1983 ص4

اعتبر الكاتب الروائي السوري المبدع حنا مينة (1924- 21/8/2018)، منذ سنوات بعيدة واحدًا من أبرز الروائيين العرب، ولفتت رواياته ابتداء من روايته الاولى المصابيح الزرق، صدرت في أوائل الخمسينيات، الانظار إليه روائيًا مبشّرًا إلا أنه غاب عن الساحة الادبية مغتربًا في الصين وهنغاريا ودول اخرى، مدة عشرة أعوام، وكان أن عاد إلى وطنه الام سوريا بعد هذه السنوات للمساهمة في إنهاضه من عثرته الفظيعة ونكسته عام 1967. وقد أجمع مَن تعرضوا لإنتاجه الروائي أنه ارتاد آفاقًا جديدة للرواية العربية، هي آفاق البحر والمغامرة مما جعل ناقدًا ذكيًا يقول إنه رغم أن العالم العربي يقع على شطوط البحار إلا أن كتابنا العرب لم يقتربوا من عالم البحر حتى ظهور حنا مينا وتكريسه جلّ انتاجه الروائي للبحر والمغامرة. فيما قال ناقد آخر إن التفاتات متعمّقة للبحر والمغامرة في أدبنا العربي كانت في الف ليلة وليلة، موضحًا أن حنا مينة صاحب نهاية رجل شجاع أعاد إلى هذه الالتفاتة بهجتها ونضارتها.

تحل اليوم الاثنين، الذكرى السنوية الخامسة لمغادرة كاتبنا حنا مينة عالمنا، عن عمر ناهز الرابعة والتسعين عامًا، وقد ترك مينة وراءه أكثر من أربعين رواية تم تحويل عدد وفير منها إلى مسلسلات وأفلام سينمائية، كما تُرجمت أعمال له إلى نحو الاربعين لغة حيّة من لغات العالم، وقد اعتبر نقاد مشهود لهم حنا مينة كاتب البحر الاول في أدبنا العربي الحديث، فيما قارنه آخرون وقرنوه بالكاتب الأمريكي الشهير ارنست همنجواي، فوصفوه بـ" همنجواي العرب"، أما حنا مينة فقد رفع منذ بداياته الاولى في الكتابة شعار الصدق ومعايشة التجربة بعمق، شعارًا له.

لن استرسل فيما يلي في الكتابة عن حياة حنا مينة.. إذ بإمكان أي من الاخوة القرّاء أن يطلع بنقرة على شبكة البحث الالكترونية العالمية "غوغل"، على كلّ ما يريد ويرغب وأكثر عنه وعن نتاجه الروائي الغزير،.. وإنما سأتحدث عن علاقتي الادبية به.

منذ اطلاعي على روايته الاولى "المصابيح الزرق"، بات حنا مينة واحدًا من كتّابي الاثيرين القريبين من نفسي، وقد توطّدت هذه العلاقة سنة تلو سنة وعملًا ادبيًا إثر عمل، ومن اوائل المحطات التي توقّفت فيها معه، إعادة "منشورات صلاح الدين"، المقدسية، طباعة روايته "الشمس في يوم غائم"، بعد صدورها وكان هذا في أواسط السبعينيات، أما المحطّة الكبرى في علاقتي به، فقد تمّت بعد سنوات مديدة.. كان ذلك يوم عاد صديق طبيب متأدب من العاصمة البريطانية لندن، وفي جعبته عدد من الكتب الجديدة آنذاك، منها رواية "الياطر"، استعرت منه هذه الرواية، لاكتشف بعد قراءتي لها أنني أمام كاتب حقيقي يوجد لديه ما يقوله بإبداع ومسؤولية. بعد قراءتي هذه الرواية، ابتدأت في البحث عن بقية روايات مينة، ودأبت على الطلب ممن سافر من الاصدقاء والمعارف إلى إحدى الدول العربية المجاورة، تزويدي برواياته المتبقّية، إلى أن تمكّن أحد الاصدقاء من تلبية طلبي، فقرأتها مجتمعة لاكتشف أنني أمام كاتب إنساني وغير عادي ويستحق القراءة.. وحدث بعد قراءتي روايات مينة أن سألني ناشر صديق عن كتب جديرة بإعادة والطباعة والاصدار في بلادنا، فلم أتردّد باقتراح روايات حنا مينة، وقدّمت له هذه الروايات لترى النور في بلادنا، وليقوم بعض الناشرين، المجهولين لي حتى اليوم، بنشرها لتباع بالتالي مجتمعة وضمن رزمة واحدة.

علاقتي الادبية بحنا مينة مرّت بالعديد من المراحل أبرزها مرحلتان. إحداهما النشر عنه وعن انتاجه الروائي بغرض تعريف القاري العربي في بلادنا به. والاخرى تقديم المحاضرات وإقامة اللقاءات الادبية بغرض التعريف به أيضًا. فيما يتعلّق بالنشر عنه كتبت في العديد من الصحف التي عملت فيها وتلك التي كتبت فيها وأذكر من هذه الصحف كلًا من: "الاتحاد"، "الجماهير"، " الراية"، " الميدان " ،"الصنارة"، "كل العرب "، " " و"حديث الناس"، أما فيما يتعلّق بتقديم المحاضرات، فاذكر أنني قدّمت محاضرة عنه إبان الثمانينيات لطلاب مدرسة المطران الثانوية في مدينتي الناصرة، ومحاضرة أخرى في بلدة عبلين لنادي العائلة، إضافة إلى محاضرة قدمتها في بلدة مجدل شمس في الهضبة السورية المحتلة، وقد حظيت هذه المحاضرة باهتمام شديد من منظميها الجامعيين، حتى أنهم اخبروا مينة بأمرها، واعتقد أن اطلاق اسم حنا مينة على مكتبة في بلدة بقعاتا في الهضبة السورية المحتلة، كان واحدًا من أصدائها، ومما أذكره في هذا السياق أن إذاعة "صوت فلسطين"، أجرت معي مقابلة مطوّلة استغرقت ساعة من الزمن تحدثت فيها عن حنا مينة وابداعه الادبي.. الروائي خاصة.

ملاحظات سريعة عن انتاج مينة الأدبي:

* قال عن نفسه إنه كاتب الكفاح والفرح الانسانيين. وتنبأ مبكّرًا جدًا أن الرواية ستكون ديوان العرب، وهذا ما تم فيما بعد.

* ولد مينة لعائلة سورية فقيرة جدًا وربّما معدمة عام 1924. ولم يتلقَ تعليمًا منظمًا ويعتبر مثقفًا عصاميًا أسس نفسه بنفسه. عمل في بداياته حمّالًا في الميناء. مصلّح درّاجات هوائية وحلاقًا. وبعدها صحفيًا وكاتب مسلسلات تلفزيونية.

* قضى عقدًا من الزمان متنقلًا بين دول أجنبية منها الصين وهنغاريا. عن الصين كتب روايته "حدث في ببتاخو"، وعن هنغاريا كتب روايته "الربيع والخريف". عام 67 عاد إلى بلاده.. ليساهم في رد الهزيمة واستعادة الثقة.

* انتمى منذ بداياته الادبية الاولى إلى المدرسة الواقعية الاشتراكية، وكتب مستنيرًا بهديها.. لكن بشكل ديناميكي وخلّاق، فساهم بإعادة الرونق إلى هذه المدرسة التي ظلمت كثيرًا في أدبنا العربي. ولم تُفهم حق الفهم!!

* كرّس معظم نتاجه الروائي للتحدث عن البحر وأجوائية المغامراتية، حتى أن نقادًا وصفوه بأنه كاتب البحر الاول في أدبنا العربي. من رواياته في هذا المجال "الشراع والعاصفة"، "حكاية بحار"، "الدُقل"، و"نهاية رجل شجاع".

* تم تحويل العديد من رواياته إلى أفلام سينمائية. نذكر منها "الشمس في يوم غائم " ، "بقايا صور"، وقد جرى تحويل روايته "نهاية رجل شجاع"، إلى مسلسل تلفزيوني، مثّل فيه دور بطلها مُفيد الوحش، في شبابه نجل حنا مينة.. سعد مينة، ومثل دور بطلها فيما تلا من فترات أيمن زيدان، وكان لهذا المسلسل الذي بثته محطات عديدة في آن واحد، الاثر الاكبر في شعبية مينة وانتشاره.

* كتب أكثر من أربعين رواية، وعددًا من المؤلفات الادبية. من أهم مؤلفاته غير الروائية كتابه "ناظم حكمت. السجن المرأة الحياة"، "هواجس في التجربة الروائية"، "كيف حملت القلم " و"أدب الحرب"، وقد وضعه بالاشتراك مع الكاتبة، وزيرة الثقافة السورية في فترة سابقة، الدكتورة نجاح العطار، ويعتبر مينة واحدًا من الكتاب العرب القليلين الذين كتبوا رواية تتحدث عن الحرب وأقصد بها روايته "المرصد"، التي دارت أحداثُها حول حرب اكتوبر 73.

* معظم روايات حنا مينة تذكّر بروايات أجنبية سبق واطلع عليها القارئ العربي. مثلًا: "الشمس في يوم غائم"، تذكّر برواية "زوربا" للكاتب اليوناني المهم جدًا نيكوس كازنتزاكي. روايته "الياطر"، تذكر برواية "روبنسون كروزو" للكاتب الانجليزي دانيال ديفو، وروايته "مأساة ديمتريو" تذكر برواية "مستر جيكل ومستر هايد"، للكاتب الانجليزي روبرت لويس ستفنسون، ومع هذا بإمكاننا القول إن مينة كتب روايته الخاصة به.. فأبدع، علمًا أن رواياته تُرجمت إلى العديد العديد من اللغات الاجنبية.

* نشر مينة مجموعة قصصية واحدة هي "الأبنوس البيضاء"، وقد حَول عددًا من قصص هذه المجموعة فيما بعد، لتكون الفصل الاول لأكثر من واحدة من رواياته. أذكر منها "حمامة زرقاء في السحب"، التي تعتبر مرثاة مبكية لكريمته التي ماتت في الثمانينيات متأثرة بالمرض العُضال.

* تولّت" دار الآداب" اللبنانية، إصدار مؤلفات حنا مينة، وخصّصت له راتبًا شهريًا مدى الحياة.

* كان مينة واحدًا من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب، ويروي في كتابه عن "ناظم حكمت"، طُرفة ذات بُعد ثوري نقدي، مفادها أنهم عندما أسسوا اتحاد الكتاب العرب، طُلب من الكتاب المنتسبين إليه أن يقدّموا شهادةَ حُسن سلوك. فقدّموا جميعهم هذه الشهادة بمن فيهم هو نفسه. ويعلّق مينة على هذا قائلًا: ترى ماذا ستقول عنا الاجيال القادمة.. هل ستقول إنهم كان خرافًا ينامون مع أنفسهم؟

* أوصى حنا مينة في كتابة علنية، نشرتها صحيفة "تشرين" السورية وتناقلتها الصحف قبل نحو العقد من الزمان، بدفنه بعد وفاته بصمت، ودون خطابات طنّانة رنانة، لأنه سمع كلّ ما يتمناه المرء في حياته من ثناء واطراء.

صورٌ ماتعة من حياةِ الأمِ الرائعة

(أقدم فيما يلي قراءة خاصة في كتاب أشياء من ذكريات طفولتي لحنا مينه):

أحب حنا مينه، أمه كما يُحب ابن مرهف الحس، رقيق القلب والروح، مصدر وجوده وموئل ذكرياته، وقد أعلن عن هذه المحبة في أكثر من فرصة ومناسبة، أذكر منها هنا ما كتبه عنها في روايته " الرحيل عند الغروب"، من كلام مؤثر، أروعه أنها تدعوه، بعد أن اكتهل وشاخ، للعودة إلى اللعب بأشيائه الطفلية الصغيرة، فيردّ عليها، ضمن حوار فريد في نعومته، ما مفاده إن ابنك قد كبُر يا أمي، فما يكون منها إلا أن تقول له من عالمها الآخر: عُد يا بُني.. إن العابك الصغيرة ما زالت هناك على الحصيرة.

في كتابه "أشياء من ذكرياتي- ذكريات في رواية"، الذي عدت إلى قراءته مرة أخرى هذه الايام بعد مضي سنوات على قراءتي الأولى له، يعلن مينه عن محبته لأمه مجدّدًا، وقد بلغ من العمر عتيًا كما يردد في تقديمه لكتابه هذا. مُجليًا حبَه لامه، على طريقته الخاصة الممثلة بإشارات مكثفة لفضائلها، مفاداتها وعطاءاتها، في ظروف هي أقسى ما تكون، وقد صوّرها فأبدع في روايته المعروفة لدى القارئ العربي" بقايا صور".

يفتتح مينة، أحاديثه وجُلها عن أمه، بقول معبّر ومؤثّر هو: "وجه الأم، هو الوجه الاول الذي يتفتح عليه وعي الطفل، وقد كان وجه أمي هو أول الوجوه، وأحب الوجوه"، ويتحّدث ضمن حديثه هذا تحت عنوان" الوعي الاول بالوجود"، عن حاسة الشمّ الاولى التي تفتّحت لديه، يقول:" كنت أشم رائحة أمي فأعرفها، وأفرح بها، وأستريح اليها، وأندغم فيها وأتنشقها وأهدأ لها"، بعدها يتطرّق إلى صلته برحم أمه، متسائلًا: إلى متى تدوم الصلة الرحمية..، ويجيب:" ظني أن المرحلة الرحمية امتدت طويلًا، وأن وشائجها الخفيّة ما زالت قائمة"، مضيفًا: ان " الحب الامومي هو الحب القلبي وهو الحب الزوجي وهو الحب الاسروي، وكذلك هو حب الفكرة والقضية والكفاح والنشوة وكلّ ملذات العيش والبذل والعطاء". بعدها يتحدّث مينه عن المرأة عامّة منصفًا إياها، أسوة بحبّه لأمه، ويورد حكاية مؤثرة عن امرأة أنجبت البنات واحدة تلو الاخرى، فاغتاظت حماتُها وعبّرت عن اغتياظها هذا، بصورة جلية واضحة.. لتنتهي هذه القصة الحزينة بموت تلك المرأة، لذنب لم تقترفه قصدًا وكان خارجًا عن يدها وإرادتها.

في حديث آخر عن " الأم الخالدة ومفاداتها"، يورد حنا مينه قصة مؤثرة عن مفاداة الام لابنها، تقول القصة إن أسدًا تمكّن من انتزاع طفل من حضن أمه، فقادتها مشاعر الامومة المتفوقة، لأن تلحق به، وتركع قُبالته، ليتوقّف ويتعاطف معها، ويرخي فكيه معيدًا الابن إلى أمه، بعد أن قادتها غريزتها لإيصال رسالتها كأم مُحبة رؤوم، لا تتنازل عن ابنها فلذة كبدها حتى لو تطلّب الامر أن تتنازل عن حياتها.

في فصل آخر من كتابه، تحت عنوان " يوم رأينا الموت.. من خلال الجوع"، يعود مينه إلى روايته المؤثرة " بقايا صور"، (هذه الرواية تحوّلت، بالمناسبة، الى فيلم سينمائي أدت الدور الرئيسي فيه الفنانة المبدعة منى واصف)، يعود مينه ليشير إلى قصة ضمّنها إياها عن امه وتضحياتها من أجل ابنائها، تتحدث هذه القصة عن سنوات القحط التي عاشتها عائلته أيام كان طفلًا صغيرًا لمّا يتجاوز الخامسة من عمره، مفادها أن الام خرجت من بيتها الفقير المتواضع للبحث عمّا يُقيت أبناءها، الجوعى، وكان أنها اتكأت على شجرة وسقطت مغمى عليها، وهنا تظهر امرأة/ جارة، جارت عليها الايام، فوصمتها بالخطيئة والعار، لتأخذ بيدها، ولتنقذها من موتٍ ربّما كان محتّمًا، ولتشق العتم والظلام وتعود إليها بأبنائها، من بيتها المجاور، ولتقدم للجميع بالتالي ما يتوقون إليه من طعام ودفء، فما يكون من الام/ أمه، إلا أن تقدّم إليها غطاء رأسها عرفانًا بالجميل وردًا له، وذلك رغبةً منها في السترة كما سترت عليها وعلى صغارها في ليلة معتمة شديدة الظلام.

في حديث آخر تحت عنوان" شيء من الذكرى" يشير حنا مينه إلى اللحظات الأخيرة في حياة أمه بكلمات مؤثرة جدًا، يقول ربما ملخصًا ما بينه وبينها:" لقد أعطتني (يقصد أمه- ن.ظ) الحياة وكانت حياةً شقية، جاهدتْ، على طريقتها، لأن تجعلها رخيّة، لكن المجتمع أراد غير ما أرادت، فكان هو الاقوى، وكنّا الاضعف، وكان صراع، ولكن النصر لنا، وطريق الكفاح طويل والبشرية تسير.. طفولتُها كانت أشقى من شقية وطفولتي أشقى من طفولتها، ومن الايام السود إلى الأيام البيض، يحمل بعضنا بعضًا، ونناضل معًا في سبيل قومنا ونتعلّم محبة كلّ يوم أقوى وكلّ يوم أفضل، كما يقول ناظم حكمت".

في هذا الكتاب، الذي اقترح على الإخوة القراء قراءته، فهو متوفّر في المكتبات جنبًا إلى جنب مع مؤلفات صاحبه الروائية اللافتة، خاصة" الياطر" و"نهاية رجل شجاع"، يتحدّث مينه عن "وحدة الثقافة – العربية- واستعادة الدور التنويري النهضوي"، وعن " الكتابة والحرية" والبحر، وعن حياته بما تضمنته من اخفاقات ونجاحات ويلخّص رأيه قائلًا:" إن الطريق طويل جدًا، وإن الجزر الذي نحن فيه، لن يتحوّل إلى مدّ، إلا بعد عقود، فمن تعب فرغب في أن يستريح فله الحق، ومَن أصيب بالإحباط، والاحباط صار بالنسية الينا قدرًا، نعذره على إحباطه، ومَن ادركه اليأس نعذره على يأسه، ولا نطلب، مقابل ذلك كلّه، إلا أن يعذرنا، أو يعذروني، لأنني لم أيأس، ولن ايأس، لأنني " الحجر الذي رفضه البنّاؤون فصار حجر الزاوية، ولأنني والبحر( المغامرة- ن.ظ) عروة وثقى!".

يؤكد مينه في كتابه هذا الذي كتبه وهو في أرذل العمر، كما يقول، أمرين هما حُبه الرائع لأمه، وللمرأة بصورة عامة، كما يؤكد أنه كاتب الكفاح والفرح الانساني.. كما وصف نفسه وكما وصفه أكثر من باحث وناقد..

***

بقلم: ناجي ظاهر– كاتب وأديب فلسطيني

.....................

* "أشياء من ذكريات طفولتي"، كتاب أرى أنه احتاج إلى تحرير منعًا للتكرار الذي اتصف به، وليس رواية كما كتب ناشره في صفحته الاولى. صدر عن دار الآداب اللبنانية، ناشرة كلّ روايات صاحبه حنا مينه، صدر عام 2010، وجاء في 128 صفحة من القطع المتوسط

أعادتني الذكرى السنوية التاسعة لرحيل الشاعر الصديق العزيز سميح القاسم، إلى السنوات الاولى من حياتي مع الكلمة ومعايشتي لها. كان ذلك في أواخر الستينيات من القرن الماضي، يوم أرسلت قصة لي إلى مجلة "الجديد" الحيفاوية، واضعًا يدي على قلبي فهل سيقبل الشاعر المشهور محرّر تلك المجلة في حينها أن ينشر تلك القصة، لا سيّما وأنها تعارضت نوعًا ما مع كان يُنشر آنذاك في المجلة من مواد سياسية، وتحدثت عن حب الام وحب المدينة. وماذا سيكون موقفه؟ وتشاء الصدف أن التقي الصديق العزيز الكاتب الراحل نوّاف عبد حسن، في أحد شوارع مدينتي الناصرة، فيسألني عمّا إذا كنت قد أرسلت قصة إلى مجلة الجديد، فلا أجيبه خشية وتوقيًا، فيرسل إلي ابتسامة حافلة بالمودة مرفقًا إياها بابتسامة من طرف فمه، ويطمئنني على أن قصتي ستُنشر في العدد القريب من مجلة الجديد. عندها أسأله كيف عرفت هذا؟ فيبتسم مرة أخرى مرفقًا ابتسامته هذه المرّة بكلمات لا اتذكرها حرفيًا الآن وقد مضت عليها كلّ تلك السنوات، مُفادها أن سميح القاسم سأله عني ومَن أكون فأخبره أنني شاب متأدب وفدت عائلتي عام النكبة من قريتها سيرين إلى مدينة الناصرة للإقامة فيها، وقال لي إن سميحًا قرّر نشر تلك القصة لأنه رأى في صاحبها كاتبًا مبشّرًا وموهوبًا.

خلال علاقتي بسميح منذ ذلك العام حتى أيامه الاخيرة، تأكّد لدي حادثًا إثر حادث ولقاءً تلو آخر، أن سميحًا تعامل مع الحياة الادبية بشفافية، وأراد دائمًا أن تتفتّح في بستاننا ألف ومليون زهرة. كما أدرك ما لأهمية اعطاء مَن رأى فيهم أناسًا موهوبين الامكانية لأن يعطوا ويعطوا بلا حدود.

في الفترات التالي وخلال سنوات وسنوات كان سميح طابت ذكراه، يسعى للتعاون مع كلّ مَن يرى فيه مقدرة على العطاء ودفع عربة ثقافتنا العربية الفلسطينية في البلاد، كلّ ما يحتاج إليه ويتطلّبه للمزيد من التفتّح والعطاء، وأذكر بكثير من المودّة أنه طلب مني ومن آخرين في فترات تالية، أن نكتب عن كلّ مَن غادر عالمنا من فنانين وكتّاب. فعل هذا معي يوم رحل الفنان اللبناني الذي اشتركنا في محبته حسن علاء الدين الملقب بـ" شوشو"، ويوم طالت يد المنون شاعرنا الفلسطيني راشد حسين الراحل احتراقًا في لندن، في هذا الصدد لا أتذكر أن سميحًا ردّ إنسانًا جادًا عن بابه، وكان مقره في حي واد النسناس في حيفا، ملتقى للأدباء والفنانين، هناك في مكتبه التقيت عددًا وفيرًا من فنانينا وكتابنا ممن لم أكن أعرفهم، بينهم الفنانة الممثلة بشرى قرمان رحمها الله، والشاعرة البارزة المرحومة فدوى طوقان ابنة مدينة نابلس التي توطّدت معها العلاقة فيما بعد. وعندما توقّف سميح عن تحرير مجلة الجديد انتقل ليدير المؤسسة العربية للثقافة والفنون من مكتبه في شارع الموارنة، وأذكر بكثير من الدفء انه بادر في تلك الفترة لإيجاد تمويل لإقامة مهرجان الفلولكلور الأول في الناصرة بالتعاون مع الصديقين فوزي السعدي مدير جمعية المهباج والشاعر سيمون عيلوطي، وقد انتدبني في حينها لتغطية وقائع هذا المهرجان أولا بأول، لينشر ما أكتبه تباعًا في صحيفة الاتحاد الحيفاوية التي عمل فيها سميح أيضًا، محررًا فترة مديدة من الزمن.

عندما انتقل سميح إلى الناصرة ليعمل محررًا لصحيفة "كل العرب" تواصلت العلاقة بيننا، وأذكر أنني قمت بزيارته أكثر من مرّة في هذه الصحيفة، وأشهد أنه كان يفتح بابه لكلّ مَن طرقه، لا أتذكر أنه اغلق ذلك الباب بوجه أحد، وقد رافقته في هذه الصحيفة بنشري لعدد من المتابعات الأدبية الثقافية والفنية، بل إنه اقترح عليّ أكثر من مرّة أن أعمل معه وإلى جانبه، وأذكر أنني سألته في اللقاء الأول لي معه في مكاتب صحيفة كل العرب، عمّا إذا كان سيأتي من بلدته الرامة كل يوم الى الناصرة، فنظر إلي مستغربًا السؤال، فما كان منّي إلا أن حذّرته من الطرق وحوادثها، عندها ابتسم وقال لي لا تخف عمر الشقي بقي.. إلا أن ما حدث هو أن حادث طرق كاد أن يودي به وحدّ من حركته وقع له خلال تنقّله بين بلدته ومدينتي.

مما أتذكره عن سميح، أنني قمت قبل سنوات بالتعاون مع صاحب مجلة "الشرق" الفصلية الثقافية التي صدرت في شفاعمرو منذ السبعينيات الاولى، وتوقفت قبل سنوات عن الصدور، أقول إنني قمت بالتعاون مع الدكتور محمود عباسي، أمد الله في عمره، بتحرير عدد خاص عن سميح قدّمنا فيه مادة ضافية عن سيرته ومسيرته، كما قدّمنا فيه مجموعة اختارها هو ذاته من بين كتاباته، وأذكر أن سميحًا تعاون معنا إلى اقصى حدّ ليصدر العدد بحلة أنيقة تليق به وبالمجلة.

الشخصية الانسانية الحانية ميّزت سميحًا طوال عمر علاقتي به، وأذكر مما اتصف به من سعة صدر وتفهم عميق لمجريات الامور، أنني ضقت ذات يوم كما ضاق كثيرون سواي بالادعاء أن شعرنا في هذه البلاد اقتصر على ثلاثة أو أربعة أسماء، فكتبت سلسلة من المقالات أنعي فيها على هكذا حركة أدبية تتوقف على مثل هكذا كم من الاسماء، فما كان من سميح ألا أن قام بالثناء على تلك السلسلة من المقالات قائلًا إنه يوافقني الرأي وإن البلاد التي تتوقّف عن تقديم الشعراء تشبه المرأة العقيم التي لا تلد الابناء.. وبلادنا والحد لله بلاد حباها الله بالكثير من القدسية والعطاء.

هذا عن سميح الإنسان المثقف المُحرّر المشجع لكلّ موهبة ثقافية يقتنع بها، أما عن سميح الشاعر، فان الحديث يبدأ ولا ينتهي، ولعلّي أجد في هذه المناسبة المؤسية، مناسبة الحديث عن ذكراه، فسحة للتحدث عن علاقته بصديقه وأخيه الذي لم تلده أمه، شطر البرتقالة الآخر، الشاعر المرحوم محمود درويش، فقد ظهر كلّ منهما في نفس الفترة، وقد أعطيا الكثير وأحبهما الناس، كونهما شاعرين مبدعين يثيرهما ما يثير الجميع من أحداث سياسية جسام تمرّ بها بلدان العالم وبلادنا خاصة، وبعد أن غادر محمود البلاد في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، جرت مكاتبات بين الشاعرين تلقتها صحيفة "الاتحاد" أولًا بأول، ليقوم محرّرها الادبي في حينها الكاتب الصديق محمد علي طه بنشرها وليختار لها عنوانًا لافتًا هو " رسائل بين شطري البرتقالة"، وأذكر أنني عندما قام محمد علي طه بنشر تلك الرسائل كنت أعمل مساعدًا له في تحرير الصفحة الأدبية في الاتحاد، بل إننا تشارونا معًا في إطلاق عنوانها المذكور عليها، مع التشديد على أن طه هو مَن أطلق هذا العنوان اللافت عليها.

لقد رأيت دائمًا في سميح شاعرًا مبدعًا، وأذكر أن ندوة أقيمت في الناصرة في أحد أيام ذكرى الارض السنوية، شارك فيها أكثر من عشرة شعراء قدموا من أماكن ومواقع مختلفة من بلادنا، وكيف تألق سميح بينهم وكأنما هو من كوكب وهم من آخر، مع الاحترام لكلّ مَن كتب وقرأ في تلك الندوة.

إيماني هذا بقدرة سميح وتمكنه من ملكته الشعرية والابداعية بصورة عامة، دفعني لترداد رفضي لأية مقارنة بينه وبين شطره الآخر، الشاعر محمود درويش طابت ذكراه، وكنت أتذرّع برفضي لمثل هذه المقارنة، قائلًا إننا لسنا بحاجة للمقارنة بين أي شاعر وآخر، لأن لكلّ من الشعراء في عالمنا الرحب هذا، عالمه الخاص به، بل اختلافه عن سواه وهو ما يميّزه في عطائه، مشيرًا إلى أن لكل من شاعرينا قدرته المميّزة في القول الشعري، وان المطلوب منّا ألا نطلب من شاعر أن يكون نسخة من الآخر وإنما المطلوب منا أن نميّز الشعراء باختلافهم لا باتفاقهم.

رحم الله سميح القاسم، فقد أعطى الكثير وترك وراءه الكثير، وقد احسن رحمه الله بكتابته لسيرته الذاتية قبل رحيله بفترة وجيزة.. لتصدر في كتاب يمكِّن قارئه من معرفته أكثر. لقد عاش سميح القاسم حالته الشعرية حتى النخاع وأعطى الكثير، لهذا سيسجل اسمه بحروف من المحبة في أعلى قائمة شعرائنا الاماجد في بلادنا السخيّة المعطاء.

***

ناجي ظاهر

.................

*رحل سميح القاسم بتاريخ 19-8-2014

في مثل يومنا هذا من شهر تموز 2007 غادر عالمنا مدني صالح عن 75 عاماً، لكنه مازال يشغل المشهد الفلسفي والثقافي، وبقيت مقالاته ومقولاته ومقاماته وبحوثه وكتبه في الفلسفة والأدب والنقد والدرس الأكاديمي محط اهتمام تلامذته في الندوات والمؤتمرات الفلسفية وعلى صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، وكثيراً ما كانت حياته وفلسفته ومواقفه مدار الحديث والاستذكار في مجالسهم الخاصة والعامة، فالرجل الذي كان في حياته بعيداً متعففاً عن الاحتفاء والاحتفال بشخصه، مكتفياً بنفسه عن الغير، آنفاً من دون تكبر، متواضعاً من دون ضعف، قوياً من دون طغيان، لم يكن يرغب أن يكون في موضع الاحتفاء والتكريم، ومدح المادحين، انسجاماً مع قناعته التي مفادها: الاكتفاء بالذات وحدها.. وذات مرة اعتذر عن حضور مناسبة احتفالية، فكتب لي رسالة قال فيها: وأرجو منكم أن تقبلوا مني استغلال هذه المناسبة لإعادة الاعلان عن نفسي بأني غير احتفالي غير منبري غير خطابي، إلاّ الاحتفال الدائم بالاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير.. لم يخرج عن ذلك إلا مرة واحدة حين دعوته للكتابة في جريدة الزوراء، وكنا في العام 1998 حين زارني يوماً ومعه مقاله الأول، وطلب مني بوضوح أن أقدمه للقراء بما يشبه « الزفة « احتفاءً وفرحاً بإطلالته عليهم بعد طول اعتكاف.

ومنذ رحيله، كُتبت العديد من المقالات والانطباعات، سواء من تلامذته المباشرين أو غير المباشرين، أو من عموم الكتاب والمتفلسفين ممن قرأوه أو سمعوا به أو صادفوه يوماً هنا أو هناك، وكلها تأتي في باب المديح والعجب والتعجب من هذا الرجل الظاهرة الذي تم الاحتفاء به بعد رحيله حين لم يرغب بالاحتفاء به في حياته، ومما أذكره أنه أُخبر يوماً أن هناك فكرة لإطلاق اسمه على مدرسة في الرمادي لكونه قد أكمل الدراسة الثانوية فيها، فما استساغها ولا تقبلها ولا شجعها، إنما سخر من هذه الفكرة ورفضها بشدة، وتهكم من واقع يحتفي بإسمه، وهو معتكف في غرفة متواضعة بقسم الفلسفة، شأنه شأن قرندل الذي هو من صنف «الذين يدقون الكبة ولا يأكلون، والذين يلطمون ولا يأكلون، والذين يزرعون ولا يحصدون».. ويعرف تلامذة مدني صالح المقربون أنه لم يكن في الصف الدراسي خطيباً، ولا متجبراً، ولا عنيفاً، ولا متسلطاً، ولا هازئاً، إلا من أولئك الذين يأكلون من دون أن يدقون، أو يلطمون، أو يزرعون، لذلك قَرَب إليه من تلامذته أولئك الذين كانوا ينتمون إلى الصنف القرندلي يومذاك، وهم أقرب الأصناف إلى نفسه، لأنهم يدقون ويلطمون ويزرعون، بلا ضجيج، ولا مباهاة، ولا ادعاء، ولا تزاحم على المكاسب والمراتب.. شأنهم شأن الذين يحضرون في موسم الزرع، ويغيبون في موسم الحصاد، أو هم من أخوة الحاج عَذاب/ فرايدي بمواجهة الصاحب المستر روبنصن كروزو المتفوق على الحاج فرايدي وعلى قرندل! .. « ومثلما يأكل روبنصن كروزو من مال فرايدي ويطعمه منه متفضلاً يأكل الصاحب المستر من مال الحاج عذاب ويطعمه منه متفضلاً «.. وبعد أن غاب مدني عن مسرح الحياة، طفحت بيادرهم في مواسم الحصاد، وفاءً وتبجيلاً لمعلمهم الروحي الذي ما كان ليسمح للقرندليين وهو حي، بحمل مناجلهم في مواسم الحصاد، تعففاً، وتواضعاً، وزهداً، واكتفاءً بالذات عن الغير، فقد حصد بعد رحيله ما لم يحصده غيره، وحصاده كان بمناجل تلامذته الذين أحبوه بتطرف، والتطرف هو: « سيد المواقف كلها في الصدق وأن تصدق الصدق كله، وفي الوفاء وأن تفي الوفاء كله، وفي الإخلاص وأن تخلص الإخلاص كله، وفي الحب وأن تحب الحب كله.. وإلا صرنا صيارفة في الصدق وفي الوفاء وفي الإخلاص وفي الحب، وصرنا صيارفة ضد كل طبائع الفضيلة والعدل والجمال ومنطق الاخلاق»  على رأي مدني صالح.

***

طه جزّاع – أستاذ فلسفة / بغداد

قبيل وفاته في عام 1993 عن 71 عاماً، كان قد القى محاضرة قال فيها ان " الفيلسوف الحق هو الذي يتفاعل مع ظروف حياته "، وقد مرت حياة محمد عزيز الحبابي بظروف عصيبة، كان عليه خلالها أن يَعبر حاجز خانق من المصاعب.على لسان بطل روايته " جيل الظمأ "، يخبرنا بان ليس امامه ان يختار: " بل هناك واجب محتم مقدس يرغمني أن أرى الضياء، وأريد أن أهرول إلى الهدف دونما نكوص. من المخزي أن أبقى نكرة في دنيا الفكر اجتر أنظمة وتقاليد لا أحياها. والويل لي إذا بقيت قابعا في زاويتي، غريبا في مدينتي ووطني".

 انتقل من دراسة الكائن الانساني الى البحث عن الشخصانية، للوصول الى الشخصانية الاسلامية، لينتهي الى اشاعة " الفلسفة الغدية.كتب كعادته بحماس مؤكدا ان فلسفته تتفاعل مع احوال حياة مجتمعه في مراحله ومحطاته الحاسمة، معلناً ان الفلسفة يجب أن تُكتب في نص جاد متكامل. لُقّب بالاديب الفيلسوف. كان همّه ان يقدم تصوره الفلسفي من خلال الادب متاثرا بالفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، الذي عُرف بدعوته إلى أن تكون الفلسفة أكثر انفتاحاً على أساليب تعبيرية جديدة. بدت الرواية بالنسبة لمحمد الحبابي المثال الأعلى لِمَن يريد الاشتغال في التعبير عن الواقع:" فالفن نظرة تتجلى في الصفاء البدئي.فالفنان، حينما يعيننا على الخروج من الفوضى الوجدانية والفكرية، يساهم، من بعض الجوانب، في تحررنا." – من الحريات الى التحرر -.

تدور " جيل الظمأ " التي كتبها بعد عودته الى المغرب عام 1958، ونشرها عام 1967 في ستينيات القرن الماضي، وتسجّل أحداثاً خاصة حيث نجد الحبابي يتقمص فيها شخصية البطل، واحداثا عامة عن الجيل الذي يناضل من اجل التغيير في مواجهة قئات اخرى غارقة في قضاياها الخاصة، منشغلة بالثراء والتواطأ مع الفساد. يقف بطل الرواية ادريس المهموم بقضايا بلاده، يعاني من التناقضات التي تحيط به ومن عزلة المثقفين:" أن كل مدينة يتهرب مثقفوها من تحمل المسؤوليات، لابد أن يسود فيها الظلم، ويسيطر الإفك: المجرمون يجدون من يبرر أفعالهم والأبرياء لا يأبه لهم أحد ".كان ابن خلدون معلم الحبابي الأول يقول عن الثقافة بانها:" مجموع الجهود التي تبذلها جماعة من الناس كي تصل إلى توحيد خبراتها و تكييفها مع الوسط الذي تعيش فيه، بحثا عن الانسجام في الأعمال "، وعندما يتعرض المجتمع لمحنة فان على المثقف ان يواجه الاحداث ويبحث عن الحلول، لأنّ رسالته هي التغيير، وهذا ما كان يشغل ابطال رواية " جيل الظمأ "، وهذا التغيير لن يحدث من دون الاعتماد على الانسان الذي هو الرأسمال الحقيقي للمجتمع، ومن دون الانطلاق من واقع المجتمع العربي. يكتب محمد عزيز الحبابي:"ان الافكار التي تقدم بها كتاب عرب معاصرون لم تنطلق كلها من واقع المجتمع العربي، بعد تحليله بلا مجاملة وبلا قبليات. ومن هنا فشلها. فالمحك لكل فكر هو مقدار علاقته بالواقع كما هو ايضا مقدار ما يتركه من صدى في وعي وسلوك الجمهور – مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر –

يدخل الحبابي الى الفلسفة من باب السياسة. في باريس التي وصلها عام 1948 للدراسة بعد مرور عامين على تجربة السجن من قبل الفرنسيين انفسهم، يجد ان الثقافة الغربية تنظر باستعلاء الى كل ما هو عربي، في المقابل كان هذا الشاب نفسه يسعى الى فهم الثقافة الغربية، يقول انه عاش في تلك السنوات بشخصية مزدوجة، فهو يعيش في عالمين مختلفين حضاريا واجتماعيا. إنه يعيش " تمزقا عميقا بين مجتمعين يختلفان في اكثر من جانب "، فعانى بذلك من شعورا بالفراغ، وهو شعور دفع به الى التواصل، بدلا من العزلة، وبهذا التواصل، او الانفتاح على الآخرين، اكتشف ذاته. كانت الفلسفات الشائعة في فرنسا آنذاك الوجودية والماركسية، وكانت الاوساط الثقافية مشغولة بما يقدمه سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار، وبروز الحزب الشيوعي الفرنسي. الشاب الذي كان يبلغ 26 عاما ظل يواجه سؤالا وجوديا:" ان يكون او لا يكون "، كان بحثه الاول ان يعرف من هو وسط هذا المجتمع الذي يريد استلاب هويته مثلما استلب بلاده المغرب، فكان عليه ان يرسم مسارا جديدا لحياته من خلال الفلسفة التي ظل يؤمن بانها:" لن تكون ابدا مجرد تصنيف للعلوم والآثار. إن   ما هيتها الحق هي المجهود الذي نبذله حين نتأمل (والتأمل نشاط نقد وبناء في آن). على أن كل مجهود للنقد السليم، وإن لم يساهم في البناء، فإنه على الأقل، يفسح المجال للترميم " – من الكائن الى الشخص -. انها فلسفة تبحث في صلة الفرد بالاخرين وعلاقة الذات بالمجتمع. فالانسان يصر دوما ان يعرف " من هو ؟ "، ومن شأن هذه المعرفة ان ترسخ لديه القناعة بانه " شخص "، فان يوجد الإنسان معناه أن يكتسب القدرة على التشخصن لأن:" الكائن الانساني معطى خام يظهر ويصير، كلما ازداد اتجاهه نحو التشخصن. ونحو الاندماج في مجتمع من الاشخاص. فهو باقٍ كائنا وخاما ما لم يظهر للآخرين " – من الكائن الى الشخص –.  ان الانسان يلج الى هذا العالم مجهولا، لا اسم له، ولا ورقة هوية. ولكنه ما ان يندمج بالوجود، وفي اللحظة التي يتم فيها " تشخصنه "، ينقلب هذا الكائن المحهول إلى كائن تاريخي. فالتشخصن هو الكائن البشري الذي يحدد لنفسه حقل نشاطه، والمجتمع لا يعمل بنا بعصا سحرية او عن طريق نداء نخبة (كالاولياء والابطال)، بل يدفعنا دفعا الى النشاط والى تاكيد ذاته:" إن وجودي باعتباري كائنا بشريا، إنما معناه انني (كرامة)، وانني أعي ذلك، وأن الآخرين يقرون لي بذلك ويقرون لي بوصفي كذلك " - - كم الكائن الى الشخص.

***

يكشف لنا محمد عزيز الحبابي أن المعاناة هي التي ارشدته الى الفلسفة. يتذكر أنّه عندما كان في الخامسة عشرة من عمره كان ذا مزاج كئيب، أرشده زوج خالته الذي ساهم في تربيته إلى وصفة يمكن أن تساعده في تخطي ما يعانيه، وكانت هذه الوصفة عبارة عن كتب في الفلسفة. تعلم من سقراط ان الفلسفة تساعدنا على تبنّي منهج البحث الدائم.وانها وصفة سحرية لمعرفة النفس، اكتشف من خلال جده الذي قام برعايته ان يفكر في تنمية قدراته، وان يجد لنفسه مكانا وسط هذا المجتمع القاسي.، ومن زوج خالته الشيخ محمد العلوي مبادئ واهداف وقيم دينية متنورة.وكانت اول الاسئلة التي يوجهها محمد الحبابي لنفسه: ما معنى الانسان؟ كيف عليه ان يتحول من مجرد كائن الى شخص مؤثر، وما هي الطريقة، وكيف نجدها ؟ ليجد الحلّ في الفلسفة التي هي حسب رأيه نوعا من انواع التمرد السياسي، لأنها تدعونا إلى أن نجد لانفسنا مكانا في مجتمع تتصارع فيه قوى كبرى تريد ان تستلب منا معنى العيش بكرامة.

ولد محمد عزيز الحبابي في الخامس والعشرين من كانون الاول عام 1922 في مدينة فاس، لم يمر عام على ولادته حتى توفيت امه، وقرر والده التاجر ان يتزوج لينتقل الطفل الصغير الى العيش في بيت جده عثمان الحبابي الذي كان استاذا في جامعة القرويين، وكان فقيها ويصفه الذين عرفوه بانه كان " فأر كتب "،، ويتذكر الصبي محمد أن الكتب كانت ترافق جده حتى حتى عندما يذهب الى مكان عمله، كان الجد يؤمن باهمية التعليم، فادخل حفيده الى الكُتاب ليحفظ القرآن ويتعلم اصول القراءة والكتابة، بعدها يدخل المدرسة الابتدائية، ثم ثانوية مولاي ادريس في فاس، في هذه السنوات، ينتمي الى حركة سياسية تاسست عام " 1939 " باسم " الحركة القومية " والتي تحولت فيما بعد الى " حزب الشورى والاىستقلال "، وكانت هذه الحركة التي ضمت نخبة من الشباب المثقف، تطالب بالغاء معاهدة الحماية الفرنسية، وتنادي باستقلال المغرب، وعلى اثر مشاركته في تظاهرة كبيرة شهدتها فاس عام 1944 تم اعتقاله وطرده من المعهد الذي كان يدرس فيه، وحكم عليه بالسجن لمدة عامين، اطلق سراحة بعد ثمانية اشهر بسبب سوء حالته الصحية حيث تعرض الى ضربات شديدة في الرأس، يقرر عام 1946  السفر الى باريس ليبدأ مرحلة جديدة من حياته، كانت فرنسا قد خرجت لتوها من الحرب العالمية الثانية، وبدأت الجامعات الفرنسية تحاول اعادة الروح الى الفكر الفلسفي. كانت فلسفات الوجودية والماركسية والعدمية تشهد رواجا كبيرا، وامتلأت مقاهي باريس بحوارات عن الوجود، الحياة، الانسان، الوعي، الحرية، الالتزام، القلق، العبث.كما شهدت المقاهي والتجمعات الثقافية حوارات حول دور الفلسفة في المجتمع والالتزام الانساني للمثقف. وقد وجدت هذه الموضوعات اهتمام لدى الشاب الحبابي الذي كان يبلغ من العمر آنذال " 24 " عاما "، يقرر بمساعدة عائلته دراسة الفلسفة في السوربون على نفقته الخاصة بعد ان رفضت سلطة الاحتلال منحة بعثة دراسية، في الوقت نفسه يدخل معهد الاداب ليدرس اللغة والادب، على مدى سنوات اقامته في باريس حرص على قراءة المشهد الفلسفي فاستهوته فلسفة برغسون، الفيلسوف الذي توفي قبل خمسة اعوام من وصول الحبابي الى باريس، لكن فلسفتة ظلت حاضرة كونها خاضت صراعاً مع الأفكار السائدة في الفلسفة لتقدم أسلوبا جديدا في فهم العالم المحيط بنا، والذي يقوم على الحدس والغريزة، اطلق عليه برغسون تسمية " الوثوب الحيوي "، حيث اراد برغسون ان يحتفي بتجربة الفرد التاريخية الذكية والنشطة، كتغير مستمر حيث:" الكائن يتحدد عن طريق الديمومة: الكائن هو ما يدوم ". الفيسوف الثاني الذي تأثر به كان ايمانويل مونييه الذي نشر عام 1935 كتابه " الثورة الشخصانية " وهو الكتاب الذي قلب مفاهيم الحبابي الفكرية، كان مونييه المتوفي عام 1950 قد اصدر عام 1932 مجلة متخصصة بالفلسفة الشخصانية التي ظهرت ما بين الحرب العالمية الاولى والثانية، وكان هدفها الدفاع عن قيمة الانسان " الشخص ".يكتب مونييه:" إنه يكفي لكي نحدد وضعا شخصانيا، أن نفكر بأن كل شخص له معناه، حتى إنه لا يمكن أن يحل محله آخر في المكان الذي يحتله في عالم الأشخاص. تلك هي العظمة الرائعة للشخص الذي تمنحه كرامة عالم من العوالم، وتمنحه تواضعه في الوقت نفسه، وذلك لأن كل شخص معادل له في هذه الكرامة، ولأن أعداد الأشخاص أكثر عددا من النجوم." الشخص جسب مفهوم مونيته وفلسفته الشخصانية "ذاتٌ "متميزة، يرفض ما هو سائد ويسعى إلى إقامة مجتمع جديد، من خلال عملية اسماها " التشخصن " والتي هي عبارة عن حركة مستمرة للتحرر من كل عبودية داخلية أو خارجية، في إطار الجمع بين ماهو ذاتي وماهو موضوعي، وقد أكد مونييه على هذه العلاقة الجدلية بين الذات والموضوع، أي بين الفرد والمجتمع، فالفيلسوف الشخصاني هو الذي يسعى لتحقيق الكمال لذاته، لينخرط فيما بعد في علاقة متكافئة مع اللآخرين وهي علاقة يسميها مونييه " فاعلة وليست منفعلة "، وكان مونييه يرى ان تجربة " التشخصن " ليست عامة، فلا يحياها، بشكل متميز، إلا تخبة الناس. لم يتسنى للحبابي التلمذة على يد مونييه فقد توفي الفيلسوف الفرنسي عام 1950، لكن ستتاح لمحمد عزيز الحبابي خوض حوارات حوال الفلسفة الشخصانية من خلال الكتب التي اصدرها مونييه اثناء دراسة الحبابي وكان ابرزها كتاب " ماهية الشخصانية " الصادر عام 1947، حيث يجد الحبابي أن فلسفة مونييه بذلت مجهودا كبيرا:" لفرض الانسان على العالم وإدماجه في العالم، مع الحرص ان يتميز الانسان عن العالم " – من الكائن الى الشخص –. كان مونييه قد اعلن انه لم يكن يسعى " لدراسة الانسان فقط، بل أردنا ان نحارب من اجله ". ستتاح للحبابي فرصة المشاركة في المؤتمر الذي اقامته مجلة " فكر " عام 1948 والذي تم فيه تحديد المهام الاساسية للشخصانية.

لم ينشغل محمد الحبابي بالفلسفة الفلسفة عن العمل، فقد كانت النقود التي تصله من المغرب قليلة وسرعان ما تتبخر، وكان عليه ان يقسم وقته بين العمل والدراسة، إلّا أن هذه الصعوبات لم تمنعه من التفوق بالدراسة، فحصل عام 1945 على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون عن اطروحته " من الكائن الى الشخص: دراسات في الشخصانية الواقعية " وقد صدرت الاطروحة في كتاب بالفرنسية عام 1949، بعدها سيقدم عام 1956 اطروحته الثانية بعنوان " من الحريات الى التحرر "،التي ستصدر ايضا بالفرنسية بمقدّمة للفيلسوف ومؤرخ الفلسفة موريس غونديلاك. بعد استقلال المغرب يعود الحبابي الى بلاده، يعمل بالتدريس ويساهم بتأسيس اتحاد كتاب المغرب حيث يتولى رئاسته للفترة من " 1959 " الى 1968، يعين عميدا لكلية الاداب والعلوم الانسانية، ويرأس الجمعية الفلسفية في المغرب، يتم ترشيحه لحلئزة نوبل للاداب بدعم من الاكاديمية الفرنسية، في سنواته الاخيرة تتفاقم عليه الامراض التي رافقته طوال حياته بسبب ما تعرض لم من اصابات اثناء فترة سجنه، ليتوفى في الثالث والعشرين من ايلول عام 1993.

****

من بين المفكرين العرب في القرن العشرين، أمتلك محمد عزيز الحبابي مشروعه الفلسفي المتفرد، من خلال موضوعه الموسع الذي رافقه طوال حياته: " الشخصانية "، حيث واصل العمل على وضع نظرية فلسفية تُمكن الانسان العربي من التأمل في انسانيته. يتساءل الحبابي: ما هي الفلسفة ؟ ويكون جوابه:" كل افعال الانسان موضوعات للتأمل الفلسفي، وكل فعل يطالب الفلسفة بأن تنير له الاهداف والطرق، وتبتعد عن الفكر الاسطوري وتزيل الحجب عن رؤية الواقع كما هو " – مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر -. ولهذا يرى الحبابي ان من وظائف الفيلسوف أن يعلمنا الوسائل لاثارة الانتباه والتمسك به.، كما ان من خصائصه اأن يمتلك " القدرة على الربط بين الفكر والفلسفة ". ووظيقة الفلسفة ان تنقلنا الى افق التحرر اولا، ثم السعي الى اثبات الذات. دخل محمد عزيز الى الفلسفة عن طريق تراكم خيبات الامل التي رافقت حياته السياسية وما تعرض له من حرمان وأسى خلال حياته، فكانت الفلسفة كما يقول اشبه بطوق نجاة لبعث الأمل في نفسه، فقد مارس الفلسفة لانه لم يجد يديلا اصلح منها. كانت الفلسفة محاولة لبعث الامل وتجديده وطريق يسلكه " الكائن " المُستعمر ليتحول الى الشخص ثم يرتقي الى الانسان المتحرر، بعدها سيتطلع هذا الانسان المتحرر الى " الغد "، حيث يكشف التفكير الفلسفي للحبابي عن تطوره، فمن المهم ان يتطلع الانسان الى فلسفة حديدة تذكره بحقيقة الشرط الانساني المطلق، وهو شرط يتمثل في اجتماعية الإنسان، فالانسان " كائن اجتماعي " كما وصفه ارسطو وأكد عليه ابن خلدون في مقدمته:" الانسان مدني بالطبع، أي لا بد له من الإجتماع ". يكتب محمد عزيز الحبابي أن:" اصالة ابن خلدون تكمن في الجهود التي بذلها لاجلاء البعد المجتمعي في تكوين إنسانية الكائن البشري " – ابن خلدون معاصرا ترجمة فاطمة الحبابي -.كان الحبابي يرى نفسه مثل ابن خلدون، فصاحب المقدمة تعرض ايضا لمصير مليء بالاحداث والمتغيرات " ولم يكن لطموحاته المتنوعة نظير ". هذه الطموحات كانت هاجس الحبابي الذي جعل من فلسفته الشخصانية رحلة متواصلة للتطوير والتجديد، فكان لا بد ان يبحث عن فلسفة جديدة اسماها " الغدية " لينشر عام 1980 كتابه عالم الغد: العالم الثالث يتهم " وفيه يرى ان النظر إلى عالم الغد يتطلب منا ان نسير في ثلاثة مسارات متوازية، اولها: استقصاء ودراسة اهم ازمات عصرنا في صلتها بالقيم، والثاني: البحث عن الوسائل الكفيلة بتجاوز هذه الازمات والسعي الى ما اسماه " تطهير الوضع " والمسار الثالث: النظر في امكانية مساهمة الاسلام في حل ممكن لهذه الازمات، وقد كان الحبابي يرى ان الاسلام الحقيقي علاج لبعض انحرافات الحداثة،مثل النزعة النفعية الضيقة، كما ان الاسلام: " يوفر امكانات عملية لضمان انسجام في وجود بني البشر وتعايشهم في اطار مجتمع انسي " - الشخصانية الاسلامية. في كتاباته يشير الحبابي الى نوعين من القيم: القيم الروحية والقيم الاخلاقية.. وقد كان يرى ان القيم الانسانية في ازمة بسبب ما يعانيه الانسان من " الفراغ والتيه "، الامر الذي يؤدي الى تفكك الروابط الاجتماعية. ولذا كان الحبابي يدعو الى " اخلاقية جديدة " تعيد الى الضمير الخلقي مكانته، وتعطي للشخص توازنا جديدا. فهو يرى ان ازمة الانسان المعاصر ناجمة عن التخلي عن القيم، فقد تحول الانسان في زمن الحداثة الى " فاوست " يبيع روحه لأقرب شيطان من اجل الظفر بمكاسب باطلة وواهية:" ان البشرية فقدت الحس بكنة الاشياء ومقياسها، وصارت الاحاسيس البشرية متيبسة ومتشققة، واستحال الشغل من مؤنس الى مستعبِد، ومن محرر الى استعبادي " – محمد سعيد الحبابي.. من المنغلق الى المنفتح –

ما بين " الشحصانية " و " الغدية "، ثمة رابط هو محمد عزيز الحبابي المفكر الذي تميز بالتنوع والاختلاف. ان القارئ لمؤلفات الحبابي سينتبه الى ان فلسفته مكونة من حلقات متصلة جميعها تبحث في الوجود والقيم وعن الحرية والتحرر ومجابهة ازمات مجتمعه، فالفيلسوف لا يمكنه ان يتفلسف ويلتزم إلا من خلال مجابهته لتاريخ شعبه، لان الفيلسوف:" مثقف نوعي، لامثقف شمولي يتحمل اعباء الدفاع عن قيم الجميع، ولو راودته فكرة التحول الى المثقف الشمولي لكان مثله كمثل من يتحمل عبء تنظيف بيوت الآخرين بينما لا يجد من ينظف بيته " – من الحريات الى التحرر –".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

الصفحة 3 من 7

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم