ثقافة صحية

بهجت عباس: هل تحُلُّ تقنية التحرير الجيني لغـز السرطان؟

اكتشف الباحثون الذين يستخدمون أدوات تعديل (تحرير) الجينات الحديثة أن حدس العلماء منذ أكثر من قرن كان صحيحًا: الخلايا التي تحتوي على عدد غير عادي من الكروموسومات هي محركات للسرطان.

فالدراسة، التي نُشرت يوم الخميس (6 تموز2023) في مجلة Science، أعادت الاهتمام العلمي بفكرة قديمة الطراز يمكن أن تشير إلى طرق جديدة لاستهداف الخلايا السرطانية بالأدوية.

لاحظ العلماء هذه الظاهرة لأول مرة عند فحص الخلايا السرطانية تحت المجهر في أوائل القرن العشرين، فشاهدوا أنَّ تكاثر الخلايا السرطانية ينتهى بالكثير من الكروموسومات ببعضها وينتهى الأمر بالبعض الآخر إلى القليل منها.

قادت هذه الملاحظة المتناقضة عالم أجنة ألماني إلى اقتراح أن الأعداد الشاذة من الكروموسومات لم تكن مجرد سمة مميزة للسرطان - ربما كانت مسبِّباً له. لم تحظ الفكرة بالاهتمام إلى حد كبير حيث بدأ العلماء في اكتشاف عشرات الجينات الفردية التي تسببت في الإصابة بالسرطان وأنتجوا أدوية لاستهدافها.

لكن اختلال الكروموسومات في الخلايا السرطانية ظل شيئاً مستَغرَباً، فهو موجود في 90% من السرطانات، عرفه الجميع ولكن لم يعرف أيّ واحد منهم لِمَ وماذا يعني. وقد تمّ تجاهلها لصعوبة حلّ لغزها!

ولكن في الدراسة الجديدة، اكتشف العلماء كيفية معالجة هذا اللغز باستخدام تقنية CRISPR. فقد أظهر عملهم أنه بدون كروموسومات إضافية، لن تتمكن خلايا سرطانية معينة من زرع الأورام في الحيوانات.

سائق السرطان أو مع التيّار؟

يمتلك الانسان 23 زوجين (46) من الكروموسومات، وهي هياكل طويلة تشبه الخيوط تتكون من الحمض النووي والبروتينات التي تحمل جيناتنا. عندما تنقسم الخلايا، تصنع الكروموسومات نسخًا من نفسها ثم تنفصل بشكل مرتب ومتناسق إلى خلايا جديدة. لكن في السرطان، فإن هذا التصميم لا يحدث، حيث ينتهي الأمر بالخلايا أن تحمل أعداداً غير طبيعية من الكروموسومات؛ ظاهرة بقيت غير معروفة عقوداً من الزمن.: هل كانت الانحرافات هي سبب السرطان، أم مجرد علامة على أن الأشياء قد ذهبت شذر مذر في الخلية؟  لم يكن من السهل إضافة الكروموسومات أو إزالتها، لذلك كان على العلماء الباحثين عن إجابات الاعتماد إلى حد كبير على تفسيرات مثيرة للاهتمام وكانت غير مقنِعة.

عرّضت إحدى الدراسات خلايا الورم الميلانيني إلى مادة كيميائية زادت من تشويه كروموسوماتها ؛ كانت هذه الخلايا أسرع في تطوير مقاومة لعقار مستهدِف، مما يشير إلى أن تشوهات الكروموسومات قد تلعب دورًا في قدرة السرطان على إبطال فعل الأدوية. وجدت دراسة أخرى أنه كلما زاد عدم استقرار خلايا الورم لدى المريض من حيث الكروموسومات، زادت احتمالية عدوانيّة السرطان وضعف التكهّن أو التنبؤ بمصيره.

وهنا تلوح مسألة السبب والتأثير مرة أخرى: هل يمكن أن يكون ذلك الاختلال الكروموسومي لعب دورًا في تلك السرطانات، أم أنه مجرد (مع مجرى التيّار؟)

مع اختراع تقنية تحرير الجينات CRISPR قبل عقد من الزمن، اكتسب العلماء القدرة على إضافة الجينات أو حذفها أو تعديلها. لكن حذف كروموسوم كامل أمر مختلف.

للقيام بهندسة كروموسوم واسعة النطاق، كان على جيسون شيلتزر، عالم بيولوجيا السرطان في كلية الطب بجامعة ييل، وفريقه أن ينشروا تقنية اختراق CRISPR. أولاً، أدخلوا جينًا من فيروس الهربس في الكروموسومات الإضافية للخلية السرطانية. في البداية، اختاروا الكروموسوم 1q، وهو واحد من أوائل الجينات التي  اكتسبت أو فقدت نسخًا إضافية أثناء نشوء سرطان الثدي.

ثم استخدموا علاج الهربس، ganciclovir، لاستهداف الكروموسومات المعدلة. وجدوا هذه التقنية قتلت الخلايا ذات النسخ الاضافية، تاركة وراءها خلايا سرطانية ذات أعداد طبيعية من الكروموسومات.

عندما حاولوا زراعة أورام من هذه المجموعة الأخيرة من الخلايا السرطانية (ذوات العدد الطبيعي)، وجدوا أن الخلايا لم تعد قادرة على زرع الأورام في طبق بتري أو في الفئران الحية. كان هذا دليلاً واضحاً لـ Sheltzer على أن الكروموسومات الإضافية لم تكن مجرد تأثير، بل كانت محركًا (سائقاً) للمرض "فلها دور مركزي" كما يقول شيلتزر.

طرق جديدة لمهاجمة السرطان

في الوقت الراهن تعتبر هذه التقنية أداة وليست علاجًا. إذ ليس من الممكن حتى الآن التفكير في استعادة الأعداد الطبيعية للكروموسومات في الخلايا السرطانية كوسيلة لدرء المرض.

لكنها قد تشير إلى طريقة مختلفة لاستهداف السرطان في المستقبل. فقد أدّى الفهم الجيني للسرطان إلى علاجات تستهدف طفرات معينة تدفع تطوره أو استفحاله. لكن السرطان عدو ماكر وغالبًا ما يطور مقاومة لأي نهج علاجي .

فالدليل على أن الكروموسومات الزائدة ضرورية لـ(قيادة السرطان) يعني أن الباحثين يمكنهم الهجوم من اتجاه جديد: العثور على الخلايا التي تحتوي على كروموسومات إضافية وقتلها.

ولأن الكروموسومات تحتوي على مئات أو آلاف الجينات، فإن مثل هذا النهج يمكن أن يوسع عدد الأهداف. حتى لو أصبح السرطان في النهاية "مقاومًا" لمثل هذا الدواء بفقدان كروموسوماته الزائدة، فإن الدراسة تشير إلى أن القيام بذلك قد يؤدي أيضًا إلى القضاء على قدرته على التسبب في السرطان.

يقول شيلتزر: "في الأساس، يصبح الكروموسوم الإضافي نقطة ضعف علاجية جديدة. نظرًا لأن الخلايا تحتوي على كل هذه المواد الجينية الأخرى، فقد تصبح هذه الخلايا حساسة تجاه الأدوية التي تستهدف الجين، حتى وإنْ لم يكنْ لها علاقة بالسرطان".

***

د. بهجت عباس

.........................

* (عن جريدة الواشنطن بوست الالكترونية الصادرة في 6 تموز 2023 بتصرّف)

* للاطلاع على هذه التقنية يرجى النقر على الرابط

بهجت عباس: تحرير الجينوم.. جراحة جينيّة لأمراض عصيّة (almothaqaf.com)

في المثقف اليوم