ثقافة صحية

بهجت عباس: التقنية الجينية في علاج الأمراض المستعصية.. مرض الخلية المنجلية أنموذجاً!

أخذ الباحثون والعلماء يتسابقون في إنتاج عقاقير تعالج الأمراض الجينية المستعصية باستعمال تقنية كتابة الجين CRISPR التي تقتضي باقتطاع جزء معين من الجين المشوّه لإصلاح الخطأ فيه أو إزالته كلياً وإدخال جين سليم بديل عنه، يعني إحداث تغيير في الجينوم (المواد الجينيّة في الخليّة) باستعمال CRISPR وكان من روادها د. جنيفـر دودنا و إيمانوئيل شاربنتير اللتان نالتا جائزة نوبل عام 2020. أخذت هذه العملية تتقدم بسرعة وتستعمل بنطاق واسع في المجالات العملية بإجرائها على بعض المرضى، فأخذت تعطي بعض الثمار، وخصوصاً على مرض الخلية المنجلية. فما هو هذا المرض؟

مرض الخلية المنجلية

هذا المرض وراثي ناتج عن خلل جيني ذلك بتشوّه حاصل في جين سلسلة الغلوبين بيتا لخلايا الدم الحمراء يؤدّي إلى إحلال الحامض الأميني (فالين) محل الحامض الأميني (گلوتاميك) في المركز السادس من السلسلة، فبهذا يتغيّر شكل خلية الدم الحمراء من (الكرويّة) إلى (المنجلية أو الهلاليّة) التي قد تلتصق بجدران الأوعية الدموية وتسبب تلفاً في الأنسجة وألماَ شديداً، إضافة إلى قصر عمرها إلى عشرة أيام أو أكثر بقليل (عمر خلية الدم الحمراء 120 يوماً) وعدم قابليتها في نقل الاوكسجين الكافي إلى الأنسجة وإعاقتها الدورة الدمويّة وليس له من علاج حتّى الآن سوى نقل وزرع الخلايا الأولية أو الجذرية Stem Cells الموجودة في نخاع العظم Bone Marrow وهذا صعب جداً في إيجاد المتبرع الملائم.

(FDA) ولكن قبل أيام قلائل (8 كانون أول - ديسمبر 2023) أجازت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية عقارين لمعالجة هذا المرض الخطير، وهذه المرة الأولى التي يُستعمل فيها الجين لعلاج الأمراض. هذان العقاران هما:

Casgevy يعتمد على تقنية CRISPR من شركة Vertex Pharmaceuticals and CRISPR Therapeutics (CRSP)

و Lyfgenie التي تصنعه شركة Bluebird Bio مستعملة العلاج الجيني القديم.

وكلاهما يستعمل للمرضى الذين هم بعمر 12 سنة فما فوق ذلك والذين يعانون من آلام شديدة نتيجة المرض. فالعقار Casgevy لا يُؤخذ داخل الجسم بل خارجه وهذا يعني أن كتابة/تعديل أو تحوير الجين سيكون خارج جسم المريض، ذلك أنّ الطبيب المعالج يسحب الخلايا الأولية (الجذرية) من نخاع عظم المريض ويعالج/ يصلّح الخلل فيها وبعد ذلك يحقنها، وهي بالمليارات (بلايين)، مرة أخرى في المريض. وقد أجرت شركة Vertex Pharmaceuticals هذه العملية على ثلاثين مريضاً وكانت النتيجة ناجحة لتسعة وعشرين منهم. وبعد متابعة دامت ثمانية عشر شهراً لم تجد، حسب تقريرها في تشرين الأول / اكتوبر 2022، أيّ عوارض جانبية هامة. أما كلفة هذا العقار Casgevy، الذي يستعمل أيضاً في علاج بيتا ثلاسيميا (نقصان كمية الهيموغلوبين) فهي أشبه بالخيال أو المحال للطبقات الفقيرة أو المتوسطة أوحتّى الميسورة نوعاً ما، إنْ لم يكن ثمة ضمان صحيّ. فالكلفة هي مليونان ومئتا ألف دولار!

أمّا العقار الثاني Lyfgenia من شركة Bluebird Bio ، فيتضمن التقنية الجينية القديمة باستعمال فيروس virus يحمل نسخة صحيحة من الجين الذي ينتج الهيموغلوبين ليدخلها إلى الخلية فيجعلها تنتج هيموغلوبين سليماً. وهذذه العملية تتطلب إزالة الخلايا أيضاً وتصحيح الخطأ فيها وإرجاعها مرة ثانية إلى الجسم. أمّا كلفة العقار Lyfgenia فهي ثلاثة ملايين ومئة ألف دولار في الوقت الراهن!

هناك مئة ألف مريض يعانون من هذا المرض في الولايات المتحدة الأميركية وأغلبهم من السود الأمريكان. فهناك طفل واحد من كل 365 طفل أسود يولد حاملاً هذا المرض حسب CDC (مراكز المرض للسيطرة والمنع) الأميركية. ولكنّ هذا المرض منتشر في كل مكان في العالم وخصوصاً في أفريقيا والهند.

فهذا العلاج الجيني أو الجراحة (الجزيئية) هي في الحقيقة انقلاب في عالم الطب، وسيغيّر طبيعة انتاج الأدوية التقليدية من شركات الأدية المنتجة. فبدلاً من معالجة الأمراض باستعمال حبّة يومياً مثلاً، سيكون هناك علاج لمرّة واحدة طيلة العمر! وهناك عدة عقاقير صودق عليها هذا العام (2023) في هذا المضمار. فالعلاج الجيني سيشفي نظريّاً الأمراض النادرة والمستعصية كمرض الخلية المنجلية Sickle cell بتغيير الكود في سلسلة غلوبين الدم أو إصلاحه ليكون ثمّة هيموغلوبين سليم كالمعتاد، فيشفى المريض من هذا المرض الوبيل، فهو بهذا يعالج التشوّهات الحاصلة عند الولادة أو نتيجة تأثير تلوّث البيئة التي يتعرض لها الفرد.

ولكنّ مثل هذه التقنية ليست دونما مخاطرات، فالتساؤلات كثيرة فيما يتعلق بعواقب تأثير هذا العلاج وهناك أيضاً ما يمكن أن يسبب هذا العلاج، عن دون قصد، تشوهات أو تغييرات غير مرغوبة في الجينوم، مما يستدعي التأنّي والحذر ودراسة أكثر عن النتائج الخطيرة التي يُمكن أنْ تسببها هذه العقاقير، إضافة إلى كلفتها الباهظة جداً.

***

د. بهجت عباس

 

في المثقف اليوم