صحيفة المثقف

ميشيل فوكو: أركيولوجيا النظرة الطبية

حيدر ناظم محمدبعد مضي ربع قرن ونيف من السنوات على رحيله المبكر، يُتَرجمْ كتاب فوكو مولد العيادة، الكتاب الذي يستكمل فيه ثلاثياته المبثوثة في ثنايا مشروعه الواعد، نعم فهو الأركيولوجي الذي يزيل الغبار عن الوثائق، ويزيح الستار عن المسكوت عنه، في الحضارة الغربية، وهو الصرخة التي اخترقت حُجُب رتابة الحداثة الكثيفة المهيمنة على العقل الغربي، فمن الكلمات والاشياء وابيستيميات التشابه والتماثل والتاريخ وأفول الإنسان الحداثي وتلاشيه، بعد اضمحلال العلوم التي أنتجها وأنتجته، الاقتصاد، البايولوجيا، اللغة، الى المراقبة والمعاقبة وتمظهرات السلطة على الجسد المسكون بالهشاشة انطولوجياً، من تعذيب الجسد متموضعاً ومشخصاً ومعلناً (حالة دميان) الى الجسد مُغيباً، الجسد اللامرئي الذي ينتزع منه الاعتراف سِراً في غُرف مظلمة تحت ظلال مشحوذة بالخوف، الى المراقبة السائلة ونموذج البرج الذي يرى كل شيء ولا يُرى، الى تاريخ الجنسانية إرادة المعرفة الانهمام بالذات ومن ثم استعمال الملذات، وتكوين الأرشيف في غرف الاعتراف داخل الكنيسة الارشيف الذي سيكون لاحقاً العلوم النفسية، يكشف فوكو بعبقرية فذة وغير مسبوقة، من ثنائية المعرفة والسلطة الى تشكل الخطاب المحكوم بنمط المعرفة المشرعنة من قبل السلطة، من السلطة كممارسة علنية ومتموضعة الى السلطة المتشظية المبثوثة في كافة ارجاء الجسد الاجتماعي الى ما دعاه مايكروفيزياء السلطة، ان متن التأويل الواسع في كتابات فوكو هو ركيزة محورية في عمق وقوة فكر فوكو، هذا الفضاء الرحب الذي يجعلنا نرى أبعد مما نعتقد اننا قادرون على رؤيته وفِي حالتنا التفكير فيه، ان نقطة التمركز التي تميط اللثام عن فكر فوكو الذي طالما وصف بالثعلب، في إشارة الى مكره ودهاءه، من الممكن فهمها في تخوم ومتن نيتشه الذي لم يخفي فوكو استحواذ جينالوجيا الفيلولوجي عليه في نهاية المطاف، مع فارق قاطع، فمن قدرة نيتشه على التشذير وفتح باب التأويل على مداه، الى قلب الشذرة الى نص مفتوح ذات مخارج ونوافذ عدمية خالصة لدى فوكو، وهذا يعني، ان التيار النيتشوي المغامر في ربوع الممتنع نجح في التأسيس لمركزيات تتشكل وتزول في الآن لمجاوزة أقانيم الحداثة وشعاراتها، مما فسح المجال لنسف كل اشكال التقديس التي تتمأسس وفق خطاطات المركز ومحورية الثابت وليس المتحول وكذا الحال مع السياسي الذي يسعى الى إيلاج السُدُم والأقانيم في رحم الممارسة السياسية ليُنتِج سلطة مشوهة لا علاج لها الا عبر هولوكوست نازي ولكن بطريقة شعبية، أرجو ان تكون ترجمة (مولد العيادة، من أجل أركيولوجيا النظرة الطبية) بمستوى الفهم الذي يستحقه مفكر فذ مثل فوكو، هذا الكتاب الذي أجمع الكثير من المختصين والدارسين ان فوكو كان متأثر في هذا الكتاب او قريب من النزعة البنيوية، فالمرض في التجربة العيادية يعرف ويشخص بأعراضه وعلاماته، العرض يحدد المرض، والعلامة تعلن وتصف ما سيحدث، العرض يتخذ صورتي الدال والمدلول، حين يكون مدلولا يكون معناه في ذاته، اما عندما يكون دالاً فانه يحتاج الى من يدلل عليه، فالاعراض طبقة أولية متراصة من الدال والمدلول، أما الوعي والذي يتمثل بالطبيب فهو يحول العرض الى علامة، ليقولا الشيء ذاته في نهاية المطاف، ان المريض كائن منطوقي بكليته وحقيقته، فلا يوجد المرض الا في المجال المرئي، وما المنطوق إلا ما يمكن ان يظهر وبالتالي الذي يقال، اي لا انفصال بين اللغة والشيء، بين العلامة والعرض بين الكلمة والمرض، ان موضوع هذا الكتاب يتوزع بين عناصر وموضوعات أساسية هي المكان، الحيز، اللغة، الموت، الرؤية، انه السؤال حول وعن، كيف تحولت وحدثت النقلة في اللغة، من لغة طبيعية الى خطاب علمي؟ ان هذا النص المكتنز بالغوص في الأعماق مبكراً هو محاولة للكشف عن التحالف القائم، ربما، بين الكلمات والاشياء، بين اللغة والموت، بين الجسد كمسرح لأعراض وعلامات، والمراقب كمجال رؤية، من الممكن ان يكون اصماً منعدم الدلالة، انه كتاب يسائل وينقب في أعمق تجارب الكائن البشري في المرض،الجسد، الموت، كتجربة تخضع لتأويلات اللغة وسلطة الكلمة وانعدام او تمظهر الذات.

 

د. حيدر ناظم محمد، آداب المستنصرية، قسم الفلسفة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم