صحيفة المثقف

التفسير السوسيولوجي لحروب الجيل الرابع (4)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الرابع عن بزوغ حروب الجيل الرابع؛ حيث  نكمل حديثنا عن أهم مفاهيم حروب الجيل الرابع، وفي هذا يمكن القول بأن الجيل الرابع من الحروب هو نوع جديد من الحروب سيكون القتال فيه حسب تصورهم مشتتا بشكل أكبر، فساحة المعركة ستشمل المجتمعات، ولن تقتصر الأهداف العسكرية علي تدمير الجيوش النظامية، بل ستتعداها لتشمل تدمير المساندة الشعبية للمقاتلين في مجتمع العدو. وفسر هؤلاء الخبراء تصورهم أكثر حين ذكروا في مقالهم  أن " نشرة الأخبار ستصبح سلاحا أكثر فتكا من عدة لواءات مدرعة"، كما ذكروا أن الفرق بين الحرب والسلم سيتلاشى لدرجة أنه "لن يبقي هناك تحديد علي الإطلاق لميدان المعركة أو جبهة الحرب".

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة يؤكد عليها هؤلاء الخبراء، وهي أن حروب الجيل الرابع تعتمد من الناحية الاستراتيجية علي التأثير علي نفسية وعقل مخططي العدو، ليس عبر الوسائل العسكرية فقط كما كان الحال سابقا، ولكن كذلك عبر استعمال كل الوسائل الإعلامية والشبكات المعلوماتية  المتوفرة في هذا العصر للتأثير علي الرأي العام ومن ورائه النخب الحاكمة .

أما من الناحية التكتيكية، فقد ذهب هؤلاء إلي "أن حروب الجيل الرابع ستكون عبارة عن حروب صغيرة الحجم تسعر في مناطق مختلفة من الأرض ضد عدو شبح يختفي ويظهر. وهذه الحرب وإن استعملت فيها تكتيكات وتقنيات متبقية من  الأجيال السابقة إلا أنه سيتم التركيز فيها علي كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والعسكرية، وسيخوضها أطراف دولية ووطنية وجهوية – قبلية بل ومنظمات كذلك . ثم عاد "وليم ليند" بمفرده للكتابة حول هذا الموضوع في مقال بعنوان  Understanding Fourth Generation War، نشرة المجلة Military Review، في عام 2004 .

وفي هذا البحث قام "ليند" بتقسيم أوسع للحروب إلي أجيال، وانتهي إلي أن العالم يتجه إلي جيل جديد وهو الجيل الرابع، والذي يعنى كيفية تجنب دولة ما لأكبر قدر ممكن الخسائر مع إيقاع الدول المعادية بأكبر الخسائر الممكنة؛ حيث يتم استغلال نقاط الضعف وضرب الركائز الأساسية في الدول المعادية لتكبد الخسائر بها دون المواجهة المباشرة .

وقد ذكر "ليند" أن هناك ثلاثة أجيال سبقت حروب الجيل الرابع، وهي علي النحو التالي:

حرب الجيل الأول: يعرفها ليند بالحرب التقليدية : Conventional War بين دولتين لجيشين نظاميين .وهذا الجيل يعتمد علي القوة البشرية الهائلة جيدة التنظيم والتي تحارب باستعمال الجيل الأول من البنادق الملساء غير الملحزنة في مساحات ضيقة إلي حد ما وضرب مثل بهذا بالحروب الأوروبية ما بعد معاهدة (ويستفاليا) 1648م وانتهي هذا الجيل من الحروب بعد الاعتماد بصورة واسعة علي البندقية المحلزنة والمدفع الرشاش ويري "ليند" أن أشهر قادة حروب الجيل الأول وصاحب أبرع التكتيكات كان القائد الفرنسي الشهير (نابليون بونابرت).

حرب الجيل الثاني: يعرفها ليند بحرب العصابات (بالإنجليزيةGuerilla War) والتي كانت تدور في دول أمريكا اللاتينية، الخبير الأمريكي ويليام ليند يعرفها بالحرب الشبيهة بالجيل الأول من الحروب التقليدية ولكن تم استخدام النيران والدبابات والطائرات بين العصابات والأطراف المتنازعة . ويعتمد الجيل الثاني: وهي الجيوش المحاربة بالبندقية المحلزنة والمدافع الرشاشة والأجيال الجديدة من المدافع العملاقة ذات المديات الكبيرة وتنتشر الجيوش في خطوط دفاعية وهجومية متوازية ويري ليند أن الحروب الجيل الثاني استمرت علي هذا المنوال حتي بدايات الحرب العالمية الأولي .

حرب الجيل الثالث: ويعرفها "ليند" ويوصفها بأنها طوُرَت من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية وسميت بحرب المناورات وتميزت بالمرونة والسرعة في الحركة واستخدم فيها عنصر المفاجأة وأيضاً الحرب وراء خطوط العدو. يري "ليند" أنها هي التكتيكات التي استعملها الألمان في نهايات الحرب العالمية الأولي وبدايات الحرب العالمية الثانية من إسقاط خلف خطوط العدو واستعمال الألوية المدرعة بكثرة للتقدم بسرعة صوب المدن (البليتز كريج) وضرب المدن والتجمعات المدنية بطرق مباشرة . ويري الكاتب ان الولايات المتحدة مازالت تنتهج حروب الجيل الثالث (وقتها بالطبع).

حروب الجيل الرابع: فيؤكد " ليند" أنه نوع جديد من الحروب، سيكون القتال فيه حسب تصورهم مشتتاً يشكل أكبر مساحة ستشمل المجتمعات، ولن تقتصر الأهداف العسكرية علي تدمير الجيوش النظامية بل ستتعداها لتشمل تدمير المساندة الشعبية للمقاتلين في مجتمع العدو. وفسر هؤلاء الخبراء تصورهم أكثر حين ذكروا في مقالهم أن "نشرة الأخبار ستصبح سلاحاً أكثر فتكا من عدة لواءات مدرعة " كما ذكروا أن الفرق بين الحرب والسلم سيتلاشى لدرجة أنه " لن يبقي هناك تحديد علي الإطلاق لميدان المعركة أو جبهة الحرب" .

ويؤكد "ليند" أن الأجيال الثلاثة السابقة من الحروب كانت تعتمد على الاستخدام المباشر للقوة الصلبة أي القوة العسكرية لتحقيق أهداف الدولة المعتدية أما حروب الجيل الرابع فليست نمطية كحروب الأجيال السابقة، فهي تعتمد على استراتيجية الهدم من الداخل للدولة المستهدَفة، بهدف تحويلها إلى دولة فاشلة غير قادرة على حماية حدودها، ولا إدارة مؤسساتها تمهيداً لفرض الإرادة عليها لاحقا، لافتاً النظر إلى أنه برغم خطورة هذا النوع من أجيال الحروب، فإن مواجهته ليست مستحيلة؛ فمواطنو الدولة المستهدفة هم المكوِّن الداخلي الذي سينفِّذ بنفسه الجزء الأكبر من هدم الدولة، ولذلك يجب أن يكونوا مدركين للخطر الموجَّه ضد بلادهم، وأن يستوعبوا هذا الشكل الجديد من أشكال الصراع وسماته، وأدواته، وأساليبه، وطبيعته التي تختلف كلياً عن أجيال الحروب السابقة.

ثم يستطرد قائلاً:" إن حروب الجيل الرابع ستشمل جميع أركان العدو الاقتصادية والثقافية والعسكرية بالطبع، وأن حروب الجيل الرابع لا بد وأن تتميز بالانتشار الكثيف واستعمال أعداد بسيطة من القوات علي الأرض (بدلاً من الجموع البشرية الهادرة) وتقليل المركزية والاعتماد علي الدعم اللوجيستي بوسائل أخري (لم يذكرها الكاتب) .... وفي النهاية يصف الكاتب حروب الجيل الرابع بأنها مكانة ما بين الحرب والسلام.

ويقول "ليند" :" إنها تحتاج لأنواع جديدة من السلاح تمتاز بالقدرة علي إحداث تدمير كبير بواسطة أسلحة صغيرة فائقة الطاقة (مثل أسلحة الليزر الجديدة والمدفع الكهرومغناطيسي) واستعمال الأنظمة الروبوتية وغير المأهولة بكثرة، بالإضافة إلي وسائل الاتصال التي يصعب اعتراضها (رادارات الـLPI) ـ) وأن تلك الأسلحة الجديدة لن يتم توجيهها فقط إلي أهداف عسكرية، بل إلي الأهداف السياسية والثقافية كذلك" .

ثم يضيف "ليند" قائلاً :" إن علي الغرب البدء بتطبيق نظريات حروب الجيل الرابع، لأنه إن لم يفعل فقد تسبقه إليها بعض الدول الأسيوية (يقصد الصين علي الأرجح) أو الإسلامية ... وقال ليند أنه رغم أن حروب الجيل الرابع تحتاج لإمكانات تكنولوجية كبيرة لا تمتلكها الدول الإسلامية حالياً، إلا أنها قد تلجأ لطريقة جديدة للحروب، وقال ليند أنها الإرهاب؛ حيث إن المنظمات الإرهابية والإرهابيين تستعمل بعض خصائص الجيل الرابع التي ذكرها ... فهي تنتشر عبر مساحات واسعة من الأراضي باستعمال عدد قليل من الأفراد كما أنهم لا يحتاجون لي دعم لوجيستي مركزي من وطنهم الأم، وهم يحاولون التأثير علي المقومات السياسية والثقافية للمجتمعات الغربية، وهم كذلك قد يستعملون في المستقبل وسائل تكنولوجية معقدة لتحقيق أهدافهم" .

ويتميز الإرهاب كما يذكر "ليند" باستعماله مميزات العدو لضربه ويقصد الكاتب بمميزات العدو (بالطبع العدو هنا هو المجتمعات الغربية) "الديموقراطية، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وسيادة القانون، فهو يستطيع القيام بعملية قتل كبيرة وسيجد من يدافع عنه" .

وقد اكتسب المفهوم شهرته منذ مطلع التسعينيات بسبب تداعيات حرب العراق، وما تزامن معها من هجمات حملت توقيع تنظيم القاعدة في العديد من دول العالم، ثم تأكد استخدام المفهوم مع تورط الولايات المتحدة في الصومال، ثم تعرضها لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وأعلاها الحرب علي حركة طالبان في أفغانستان، ثم شنها حرب العراق الثانية، وهي الأزمات التي تحول بسببها المفهوم إلي ما يشبه النظرية التفسيرية كما يري بعض الباحثين .

ملخص المفهوم أو النظرية، أن الحرب الحديثة قد تطورت من استخدام "القوة البشرية المكثفة"، إلي استخدام "قوة النيران"، إلي استخدام " المناورات"، وأخيراً إلي استخدام "توليفة من الأدوات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية " لإقناع الخصم أن أهدافه إما غير قابلة للتحقيق أو مكلفة للغاية . والأمر المهم أن الطرف الذي يشن الحروب في جيلها الرابع – وفقاً للنظرية – هو فاعل من غير الدول، ميليشا أو جماعة مسلحة.

كما يذكر ليند أن هذه الحروب تعمل على تجنُّب السلبيات التي تخلِّفها عادة الحروب التقليدية، ولاسيما مشاعر العداوة التي تنتاب شعب الدولة المغلوبة، تجاه الدولة الغالبة وللوصول إلى هذه الغاية يتم استعمال جملة أدوات داخلية وخارجية، وتتم الاستعانة بوسائل الاتصال الحديثة، ويقع توظيف التطور التكنولوجي، لتشديد الخناق على الدولة المستهدَفة وحرمانها، أي مساعدات إقليمية أو دولية.... وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم