شهادات ومذكرات

علي حسين: قطار الليل يتوقف برحيل باسكال مرسييه

توفي الكاتب السويسري بيتر بيري، المعروف باسمه المستعار "باسكال مرسييه"، في برلين عن عمر 79  عاما. وقد برز عام 2004 ب 1977 مع روايته الثالثة "قطار الليل إلى لشبونة". والتي ترجمت الى 40 لغة وبيع منها ملايين النسخ وحُلت الى فيلم من اخراج بيل أوغست عرض عام 2013.

استاذ الفلسفة الذي تخصص بدراسة الوجود والزمن استعار اسمه من فيلسوفين فرنسيين هما بليز باسكال ولويس سيباستيان مرسييه.كتب مدير دار النشر التي تتولى نشر اعماله:" فقدنا مفكرا وروائيا عظيما، لقد أظهر بيتر بيري طوال حياته باسمه وتحت اسمه المستعار، كيف تلهم الأفكار والقصص بعضها البعض، فقد تعلم الفيلسوف من الراوي، وتعلم الراوي من الفيلسوف، تجلب رواياته أسئلة الإنسانية العظيمة إلى الحياة. كتبه باقية ونحن نشكره على ذلك". وصفته  مجلة دير شبيغل بأنه "كيس الملاكمة" يتلقّى لكمات النقد الأدبي.

في الخمسين من عمره قرر "بيتر بيري" ان يجرب حظه مع الرواية قال لزوجته:" لقد وجدت هدفي " يعترف ان كتابة الرواية هي اكثر الاشياء حميمية في حياته، نشر روايته الاولى عام 1995 تحت اسم مستعار قال ان الاسم الجديد يمنحه اناقة يفتقر اليها اسمه الحقيقي " بيتر بييري"، لم تحظ روايته الاولى ولا الثانية بالاهتمام فقد اعتبره النقاد مجرد استاذ للفلسفة يحشر انفه في عالم غريب عليه. العام 2004 سيصبح عام السعد بالنسبة له حيث نشر روايته الثالثة " قطار الليل الى لشبونة " التي وضعت في مصاف الروائيين الاكثر مبيعا، عام 2007 ينشر روايته الرابعة " ليا "  وعام 2020 نشر روايته الاخيرة " وزن الكلمات " وفيها يقرر مترجم ان يتحول الى روائي، بعد ان شعر بالملل من ترديد كلمات اآخرين.

 ولد بيتر بيري في الثالث والعشرين من حزيران عام 1944 لعائلة من الطبقة المتوسطة  في إحدى ضواحي مدينة بيرن السويسرية. كان والده موسيقيا، تعلق بالرياضه في صباه، لكنه سيتحول الى دراسة اللغات حيث تعلم اللغة اللاتينية و درس فقه اللغة الكلاسيكية في جامعة بيرن، انقطع عن الدراسة ليسافر الى لندن بعد ان ارتبط بعلاقة عاطفية، التحق بجامعة روبرت كارل في هايدلبرغ لدراسة الفلسفة واللغة. عام 1971 يحصل على الدكتوراه عن فلسفة الوقت عند الفيلسوف الانكليزي  جون ماك تاغارت، عمل استاذا للفلسفة في عدد من الجامعات الالمانية، عام 2007 اعلن تقاعده وانتقد النظام الجامعي الذي قال ان اموال بعض الجهات اثرت كثيرا على هيبة وجديته.

تركزت أبحاثه على الفلسفة التحليلية وعلم النفس الفلسفي ونظرية المعرفة والفلسفة الأخلاقية. عاش سنواته الاخيرة  في بيت صغير في ضواحي برلين، كان يمارس هوايته في تعلم اللغات حيث اتقن  اليونانية والفرنسية والإنكليزية والعبرية والسنسكريتية، ودرس اللغتين الروسية والعربية.

في روايته " " قطار الليل الى لشبونه " يخوض باسكال ميرسيه في مسألة الهوية الوطنية والشخصية، ونرى في ملامح بطل الرواية ريموندوس غريغوريوس الاستاذ المتخصص في اللغات القديمة، ما يذكرنا باوديسيوس ورحلته 20 عامًا من البحث عن المدينة والذات.

بطل ميرسييه في الخمسينيات من عمره يعيش منعزلا مع كتبه ودروسه وطلبته، تبدأ ازمته الوجودية عندما يلتقي امرأة برتغالية تطلب منه البحث عن كتاب بعنوان "صائغ الكلمات"، يتخلى غريغوريوس عن حياته الرتيبة ليبدأ برحلة اوديسية الى لشبونة، رحلة يمكن ان نصفها بانها مغامرة لمعرفة الإنسان لنفسه التي تبدو غريبة عنه، وسنجد ميرسييه يقتبس من كتاب المقالات للفيلسوف الفرنسي مونتاني هذه الفقرة التي تعبر عن الهدف من رحلة بطله  غريغوريوس:" لقد خُلقنا جميعا من قطع غير متجانسة ومن نسيج في غاية التشوه والاختلاف. لكل قطعة منه ولكل حلقة هويتها الخاصة. إننا مختلفون عن ذواتنا اكثر من اختلافنا عن الآخرين ".

تطرح الرواية عددامن الأسئلة حول تعدد الذات الإنسانية... "إذا كان صحيحاً أننا لا نعيش إلا بجزء صغير مما يعتمل في دواخلنا فما مصير بقية الأجزاء إذاً؟". حتى إن رحلة القطار في الرواية هي لاستكشاف الذات والبحث داخل النفس البشرية ومحاولة استكشافها بكل ما فيها من تناقضات عصية على التفسير والفهم. كما انها تناقش من زوايا اخرى الكثير من القيم، مثل الإخلاص والكرامة، وتسلط الضوء أيضاً حول الانظمة الدكتورية التي كانت تحكم البرتغال وتوحشها. فالطبيب اماديو في قطار الليل يعاني من إشكالية أخلاقية بين مهنته كطبيب تحتم عليه أن يعالج الجميع دون تفرقة، أو أن ينتصر لحسه الثوري، وذلك حين يصاب الضابط الذي يلقب بجزار لشبونة، فيحتار بين تركه يموت لأن في موته راحة للبلاد  او أن ينتصر لمهنته وينقذه من الموت المحقق، فيقرر ان ينتقذه مما يجعل اهالي يعاملونه باحتقار وكراهية شديدة، بعد ان كان بطلا في نظرهم .

في الكثير من الحوارات الصحفية يطرخ على مرسييه سؤال: هل كتابتك ذاتية؟ لا يستطيع  صاحب قطار الليل ان ينفي صفة الذاتية عن روايته، لكن يحاول ان يثبت ان معظم رواياته ذات طابع انساني. ان ابطال الروايات ينشغلون باللغة والفلسفة والبحث عن معنى الحياة، وهي اسئلة طالما تناولها باسكال مرسييه في ابحاثه ومقالاته الفلسفية  لكنه تعود ان يقول  إن رواياته لا تستند الى حياته، لكنه يتراجع احيانا ويعترف ان هناك صفحات داخل الروايات الخمسة التي نشرها تمثل جانبا من حياته، يصر على ان الرواية محاولة ذاتية لاستكشاف العالم، تعلم من كافكا كيف ان على الادب ان يكافح من اجل نصرة القيم الاخلاقية والانسانية. ما هو الادب ان لم يكن نوعا من انواع بث اليقظة في النفوس ؟ يعمل الكاتب على خلق عالم يتمتع بالغرابة والحيوية لكي يتمكن القارئ أن يجد نفسه فيه  ويختبر معتى وجوده

كيف انتقل مؤلف كتب "عمل الحرية" و"الكرامة، أسلوب حياة" من الفلسفة الى الادب يقول انه تعلم من الفيلسوف الفرنسي باسكال ان الانسان يبحث في داخله عن مكانٍ له.في اخر عمل روائي له " وزن الكلمات " يخبرنا ان الحياة ليست هي الحياة التي نعيشها، إنها الحياة التي نتخيل أننا نعيشها.".

قال بيري ذات مرة إن رواياته تتطرق  إلى نوع العلاقة التي تربط الانسان يذاته. يشرح بيري الأفكار الفلسفية الكامنة وراء "العلاقة التي نتمتع بها مع حياتنا الخاصة تسترشد بالسؤال: هل أفعل ما هو مهم حقا بالنسبة لي مع الوقت المتاح لدي. أم أن الوقت الذي سُرق مني بطريقة ما". "ثم يأتي السؤال التالي: ما الذي يعنيه المهم؟ الجواب يمكن أن يكون حقًا فقط: ما يساعدني في أن أصبح ما أتمناه." يقول ان معظم رواياته هي اشبه بمفاتيح مفاتيح تفتح ممرات للخيال، وتكمن السعادة في هذه الأروقة".

يرسم لنا في رواياته أجواء المدن التي يتجول فيها ابطاله، ويدع القراء يجمعون أجزاء الخارطة، ينهي روايته " فطار الليل الى لشبونة " بهذه الجملة الملهمة " الحياة ليست ما نعيشه، إنها ما نتخيل ان نعيشه ".

كان مرسييه قد قرر التوقف عن النشر، عَبر لناشره عن يأسه مما يجري في العالم، عام 2019 حمل كومة  من الأوراق لفها بشريط ووضعها في خزانته الشخصية  وأغلق عليها . قال للناشر " هذه الرواية سكتون آخر اعمالي، اتمنى ان تصدر بعد موتي". لكن " وزن الكلمات " ستظهر بعد عام، ولم يتخيل باسكال مرسييه انها ستكون  الكتاب الاخير في حياته وان قطار الايام سيتوقف وهذه المرة لم تكن لشبونه مجطته الاخيرة، وانما ضاحية من ضواحي برلين.

***

علي حسين

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم