نصوص أدبية

نصوص أدبية

رواية قصيرة

بعض من سيرة أخي الخطاط أسعد

***

العتبة السادسة: السجن يسبق

السجن قبل أيّ عذاب

أظنك لم تكن محقّا حين اخترت الوزارة

أنت فنان، موهبتك أكبر من أيّ منصب وإن يكن عصرنا لا يراك من ذوي المواهب

فاخرج مادمت اخترت الوزارة أخرج - بعد أن عشت مرفها- متخفيا

بعدة صور:

مرة بهيئة رجل أعجمي

ومرة بشكل شحاذ

وأخرى تصبح امرأة منقبة

وثالثة

ورابعة

ومازال أمير الأمراء محمد بن رائق يطاردك حتى أودعك السجن

الفصل السادس: أنا وسيادة العقيد

هشام محمد مجيد حمادي

العقيد هشام... اسم محفور في ذاكرتي

بعد سنة من اعتكافي في البيت دخلت العسكريّة وكانت الحرب قد اندلعت

كنت خلال تلك السنة أمارس هوايتي: الخط بيدي اليمنى السليمة أطرد رتابة الزمن وفي الجندية تشكلت لجنة طبية فأقرّت عوقي

وعند أطراف مدينة البصرة وسط الصحراء في مركز الدريهمية (6) عشت مع المتدربين.. أيام لابد منها..

في بداية حياتك العسكرية سواء أنت سليم أم معاق يقذف بك مع من يتدربون على السلاح. كنت أمارس الخط وسيادة العقيد آمر المركز يعجب بي وإذ حل عيد الجيش سأل بعض الحنود والمراتب الآخرى عمن بستطيع أن يلقي كلمة بالمناسبة ، فتطوعت. كنت من قبل سمعت عن جدي الشيخ عسكر (7) كيف دخل الجيش وانتقل مع الفوج إلى بنجوين.. فأعجب بي سيادة العقيد وجعلني خطاط المركز ومسؤولا في الرقابة والإعلام.. وفي اليوم ذاته جاءنا وفد عسكري. يتحدّث عن الحرب والشجاعة والجبهة الشرقيّة وحالما انتهى الرمز الكبير من مهمته، وفُتِح باب النقاش استأذن جندي ساذج أو يبدو ساذجا ونهض يوجّه كلامه إلى الضيف الرمز الكبير كان يستشهد بقول الرمز الأكبر السيد الرئيس: سيدي العميد الرئيس صدام حسين حفظه الله يقول العراقي بعشرة فرس مجوس، ومادمنا كذلك نحتاج إلى طعام كاف وهو لا يكفينا يذهب أحسنه إلى المراتب العليا

عمّ سكوت واستحسن الضباط شجاعة الجندي، هي الحرب والساكت عن الحق شيطان أخرس، ولا بدّ أن يكون هناك طعام يكفي جنديا يعادل عشرة من جنود العدوّ، ولم أقرأ شيئا على وجه سيادة العقيد هشام

ملامح طيبة

ابتسامة استحسان

هزّة رأس خفيفة

همسة مع الضيف الرمز

كأن الأمر انتهى بهذه الصورة

أمّا عند التدريب اليومي للرمي الحقيقي فلم ينته حلم الطعام بعد

العميد يقف مع كل صلية يرشقها الجنود المتدرّبون على شواخص خططتُ رموزها وأشكالها بيدي السليمة:

يراقب

ينظر بطرف عين

أحيانا يوجّه بندقيته فوق رأس الجنود

وفي إحدى الرميات رأينا الجندي الذي اعترض على الطعام يسبح بدمه.. رصاصة اخترقت رأسه: رصاصة خاطئة

ظلت طريقها

هل قتله العقيد انتقاما لاعتراضه؟...

جاءت كلمة لجنة التحقيق التي شكلتها الفرقة: أن العقيد هشام صوّب البندقيه في الهواء فاصدمت الرصاصة ببقايا حجر انفلق من صخرة عُدّت هدفا للرمي فغيرت الرصاصة اتجاهها لتصيب الجندي...

شعرت بنوع من الفزع والقرف

لقد اعجبت بالعقيد هشام ثمّ بعد الحادث لم أعد أميّز بين الحقد والكراهية فأنا نفسي تعرضت لمجلس تحقيق

مع ذلك بقيت أستند إلى سيادة العقيد القاتل البرئ

إذ بعد ختام الرمي جاء نقيب إلى مركز التدريب وقرأ بعض الأسماء.. كان اسمي من بين هؤلاء الذين يتوجهون بسيارات الشحن إلى الجبهة. بعضهم يقفز من شاحنات (سكاينا) المكشوفة منتصف الطريق متسللا إلى أهله، وبعض الأكراد يغادرون نحو كردستان.. كانت الحرب في بدايتها والجيش العراقي دخل عبادان وااندفع في أراضي إيران. من بقبض عليه هاربا يعاد ويسجن بضعة أيام. ولم يكن قانون إعدام الهارب من الجبهة قد صدر بعد.. وقد اغتنمت عند الفجر كثافة الضباب ففي تلك الأيام فاجأ البصرة ضباب كثيف ساعة الفجر خنق الأنفاس صعدت السيارة بعد أن قرأ النقيب اسمي وتسللت ثانية إلى مقر السريّة.

لم يعد الضابط الذي رافق الحافلة

لكن اللغط حولي ظهر بشكل يثير الريبة حين بقيت نسخة من أسماء المدعوين إلى القتال في مكتب الفوج فتشكلت لجنة تحقيق يرأسها ملازم أول استدعاني

قلت بين الخوف والشك:

سيدي أنا لا أعرف الرمي لا أقدر أن أمسك البندقية بكلتا يديّ... يدي الييسرى العاطلة بدرجة كبيرة

أنت غير مسلح؟

نعم

لكن قد يحتاجونك في خطوط القتال لأعمال خفيفة. تنقل بريدا ترسل طعاما...

فقلت وقد رأيت ليونته:

أنا مستنعد لذلك مستعد لأي أمر عسكري حتى لو كنت لا أقدر على الرمي لكنّ السيد العقيد استدعاني إلى السرية معه ولا أستطيع المغادرة إلا بإذنه

فهزّ الملازم الأول رأسه وصفن لحظات وأمرني بالخروج على أمل أن يستدعيني في وقت آخر

ولم أسمع أيّ خبر بعد!

العتبة السابعة: صحيفة ضاعت

أتدري لم ستدعاك خليفة المسلمين؟

ستكتب للدولة تصبح موظفا..

ستة دنانير كل شهر

ولك أجر على سفرك ورفقتك للوفود

وستسافر مع الوفد لتكتب بيدك الذهبية بنود معاهدة سلام بيننا وبين الروم

ولم تدر أن تلك المعاهدة التي تكتبها ستبهر الروم بخطها البهي الجميل

تحفة فنية سحرتهم فوضعوها في مكان عال في كنيستهم المقدسة

ولم تدر لسوء حظك أن محمدا الفاتح سيمزق تحتفتك الجميلة حين دخل القسطنطينية

الفصل السابع: الرحلة إلى الصويرة

بعد فترة الدريهمية نقلني العقيد هشام إلى مركز تدريب الصويرة هناك عملت في مقر التوجيه السياسي في معسكر الكوت الذي بدا أشبه بقلعة مغلقة كبيرة، غرفة التوجيه السياسي

تجاورها غرفة المخابرات، بين الغرفتين من الخلف برميل كبير ناره دائمة التوقد، على حسب الأوامر، نلقي فيه أوراقا مهمة ووثائق تبقى تخص المعسكر وحده.

هل أسميها النار الأبدية التي تلتهم الأوراق؟

ثمّة عن مسافة غير بعيدة غرفة تتجمع فيها جثامين الشهداء القادمة من المعركة قبل أن تبعث إلى ذويهم، كانت الروائح الكريهة تصدر عن الغرفة وتزداد أو تنقص مع شدة الريح وخفوتها.

غثيان

نفور

اشمئزاز

وليس بالإمكان أن يبدو ذلك على وجه أيّ منا

كان العقيد (أدهم محمود شكر). آمر المعسكر يقال إنه في الأصل نائب ضابط اقتحم قصر عبد الرحمن عارف يوم الانقلاب فَرُقِّيَ إلى رتبة عقيد

ربما أصدق أو لا إن العقيد أدهم. طيب القلب إلى حدّ بعيد دائما يقف في صفّ الجندي لا الضابط يُؤمن بمقولة اخترعها لنفسه أو اختُرِعَتْ له إنّ الجنديّ لا حول له ولا قوّة

وربما لا أصدّق أني في قسم الإعلام.. التوجيه السياسي

والذي يثير في نفسي الريبة أكثر أن (شريف عبد الحالق) الجندي المسؤول في المخابرات حيث غرفته جنب غرفتي يحب عبد الكريم قاسم ويمدحه على الرغم من أنّه من أهل الأعظميّة

كنت أخط وأعمل في الرقابة العسكرية

أنا من مواليد 1959 ولا أتذكر عهد غبد الكريم

قلت ذلك لكي أتحاشاه فقد يكون افتعل الموضوع ليستدرجني:

أنا أيضا ولدت عام 1959 وسمعت من أبي عن عبد الكريم قاسم

طيب أنت من الأعظمية يا شريف والمعروف عنهم أنهم لا يحبونه

أبي كان كذلك لايحبه لكن في أحد الأيام وقف أمام دكانه كان في سوق السراي الوقت فجر والباب ثقيل انحنى على الباب ليرفعه فساعده رجل من الشارع وعندما التفت ليشكره وجده عبد الكريم منذ ذلك اليوم تحول كرهه إلى حب.

بين مصدق ومكذب. شاك.. كأني في ريب أمام أسطورة وددت لو كان وقت الفجر حينها ضباب مثل ضباب ساعدني ذات يوم على التسلل من الشاحنة قلت بتساؤل:

ما الذي ذكرك الآن بتلك الحكاية؟

إنها الحرب..

تسللت روائح جديدة إلى أنوفنا من مستودع جثث الشهداء فتحاملنا على أنفسنا من غير امتعاض.

قلت: الرحمة لهم

وواصل:

الحرب ذكرتني عبد الكريم قاسم كاد يدخل في حرب مع إيران وجعلهم يتراجعون والرئيس صدام حقق أمنية سلفه فدخل الحرب!

عجبت من هذه الحكاية الغريبة التي أثارت تساؤلي وفضولي وجعلتني أشكّ كثيرا في نية الجندي شريف. أو سلامة عقله.. الحكومة خلال الحرب لاتحاسب على ذكر الجمهوريين الأوائل فالإعلام مشغول الآن بالحرب والتنظيم الديني الجديد الذي وضعته الدولة في حسابها بعد ثورة إيران والحرب.. لقد أكملت كلمتي أو المحاضرة التي ألقيها على حشد من الجنود القادمين إلى المعسكر من مراكز التدريب

كنت أتهيّؤ لكتابة بعض رؤوس الأقلام لكلمة عن الجيش سوف ألقيها على بعض الجنود الجدد. استفدت من بعض الكتب العسكرية المهملة فوق رفّ خشبيّ، قبل أن اغادر اقتحم (شريف عبد الخالق) غرفتي وحين تأكد من خلو المكان أخرج ورقة كان قد أخفاها في جيبه.

ماذا عندك؟

الآن وصل البريد إلى غرفتنا.

ليس عندي وقت فالسيد آمر المعسكر نفسه سيشرف على أول لقاء لي مع الجنود الجدد.

اسمع هل عندك أخ معارض في الخارج؟

نعم

ذهول

صدمة

غيبوبة

مصيبة

لا أدري

لا وقت لدي للتفكير

عندي أخ يعمل في المغرب في التدريس بعقد عمل بعث لنا صورة منه قبل الحرب

كان عليك أن تخبرهم بذلك قبل أن ينسبوك إلى العمل في التوجيه السياسي.

بسط أمامي الكتاب فقرأت المصيبة التي تنذر بالويل.. الإشارة الموجزة تقول أن لي أخا مجرما هاربا يعمل مع المعارضة في الخارج فكيف ينتسب جندي مثلي لشعبة التوجيه السياسي

وكان الخوف يدبّ في صدري وعروقي ويزداد مثل تلك الروائح الكريهة التي تنبثق من غرفة الموتى:

مالعمل أنجدني؟

لاتخف.. اكتب إلى مسؤلك الآن فورا.... أنك في التوجيه السياسي وإن لك أخا يعمل في الخارج

وبسرعة البرق رحت أخطّ على ورقة ما أملاه عليّ الخوف وتذكرت كما لو أني عثرت على طوق نجاة:

أظن أخي بعث لنا بصورة من عقد العمل

الآن لا تضيع الوقت اذهب للضابط

خرجت إلى غرفة الضابط مسؤولي المباشر وقدمت له الطلب ثم عدت إلى الغرفة ألتقط أنفاسي التي تهدجت لا بسبب الروائح الكريهة الهابة من غرفة الموتى الشهداء بل من القلق. لقد اطمأنت نفسي قليلا ، إن رفضوا وجودي فسوف يبعثوني إلى المطبخ هنا في المعسكر أو لمطبخ معسكر آخر.

وعلى الرغم من القلق وبعض الخوف فقد ألقيت محاضرتي عن الجيش والالتزام واحترام الضباط. كان العقيد أدهم يقف عن بعد ويستمع ، وحالما انفض الجنود، بعث مراسله إليّ فدخلت عليه ووقفت بكل احترام، رفع رأسه إليّ علت وجهه ابتسامة وقال:

رائعة محاضرتك.

سيدي أنا لي أصل في الجيش فقد كان جدّي أوّل إمام فيه زمن تشكيل لواء موسى الكاظم وعندنا في البيت صورتان قديمتان له.

أنت من البصرة؟

نعم من التنومة وقد تركت أهلي هناك ولا أعرف هل نزحوا إلى مكان آخر أم مازالوا في البيت.

فهز رأسه وقال:

عشرة أيام إجازة ليأتوا معك وليسكنوا في بيت من البيوت الخاصة بالنواب الضباط حتى تجدوا بيتا في المدينة

شكرا ياسيدي لفضلك لكن لدي شئ أود أن أقوله لسيادتك

نعم؟

أنا لدي أخ يعمل في المغرب في مجال التعليم.

هل أخبرت مسؤولك

نعم

مادام يعمل بعقد عمل فهذا أمر طبيعي

عندئذ تنفست الصعداء

وخرجت

وحين عدت بعد عشرة أيام ومعي أهلي أبي وأمي

وأختاي

وأخي الأوسط

ومعي أيضا صورة لعقد عمل أجراه أخي مع وزارة التعليم المغربية وبعثه لنا لنطمئن عليه، لكنّي حسبت من قبلُ حساب ضابط مخابرات المعسكر الملازم الأول (وداع عبد علي) الذي له اليد الطولى في المعسكر وقد صدق حدسي فقد استدعاني وسألني عن أخي فأجبته أني كتبت بالأمر إلى ضابط السرية المسؤول عني وإن معي صورة من عقد عمل أخي في المغرب

حقا

أنقذني الأعظمي الجندي شريف عبد الخالق

فلم أعد أشك فيه.

العتبة الثامنة: موت

ياسيدي

أنت هارب

يطمئنك أمير الأمراء محمد بن رائق

يمكن أن تلتمس سماحة الخليفة

وطيبته

وعفوه

وقد حصلت لك على كل ذلك

أنت الفنان الأكثر شهرة في دار الخلافة التي تمتد من الصين إلى المجيط

قلمك

وفنك

إبداعك وصيتك

ثمّ

ذهبت تسعى لتكون حرا

تطلق يديك في كل مكان وقتما تشاء

فدخلت دهليزا تعمدوا أن يعمّه الظلام

فلا تدري فيه أين تسير

وفاجؤوك

داهموك في الظلام

وقادوك إلى حتفك

الفصل الثامن: حياة

قد يقتل الضجرَ شريطٌ لأغنية ما وربما أغنية فاضحة

أغاني أم كلثوم

عبد الحليم حافظ

فريد الأطرش

وردة الجزائرية.. ياس خضر.. الهدل.. طالعة من بيت أبوها.. سيرة الحب...

شريط غناء بذئ بصوت يوسف عمر عن العاهرات واللمجي والقوادة

كان كل جندي قبل أن يساق إلى القتال يترك ماجلبه من أشرطة في الغرفة لعلها تجعله ينسى ولو دقائق روائح جثث من ماتوا وقد يرثي لنا الهواء فيغير بضع ساعات مسيره باتجاه آخر غير مكان غرفتنا.

لم أكن أرغب في الغناء لكني كنت مضطرا إلى أن أجلس ساعات لأفحص كل شريط فأسمع مافيه كي أتاكّد مما فيه

ولو كنت قادرا على الرمي لاستدعيتُ إلى الجبهة بعد شهر أو شهرين من عملي في التوجيه السياسي، هي سيرة من كان قبلي، ولا مفرّ منها إلا أن تنتهي الحرب وهو احتمال بعيد، وقد أجد نفسي الوحيد الذي لم يترك شريطا في الصندوق الجاثم على الدكة عن اليمين من رف الكتب!

وفي لحظة تأمل وسكون. جاءتني إحدى مفارز الفرقة بشاب نحيف.. عيناه تحومان في المكان مثل أرنب تطارده كلاب مسعورة... كان أفراد المفارز التي تعترض الطرقات وتفتش العابرين على الطريق السريع وفي الطرق الفرعية من أنشط وأشرس الجنود. مُنِحوا صلاحيات واسعة ، كان يحق لهم بحجة الحرب تنفيذ حكم الإعدام بأيّ فرد يشكون فيه..

يقلب عينيه وينظر إلى الأرض

ينظر إلي يتطلع إلى جدران الغرفة مرعوبا ثم تهبط عيناه إلى حذائه

رمى العريف الكيس على المنضدة وقال بخشونة وصلف

استلم إفحص الأشرطة. أي شريط فيه شبهة يعدم صاحبه ، ثم مسك جندي آخر الشاب المرعوب من ذراعه إلى نقطة الحراسة. أمرهم أن يلقووه في الحجز حتى أفرغ من سماع الأشرطة. فتحت الكيس وإذا بي أجد خمسة عشر شريطا عليها أسماء أم كلثوم... فريد الأطرش ناظم الغزالي.. فاضل عواد.. فحصت على عجالة أكثر من عشرة أشرطة. كان الجندي المساعد لي في دورة تدريبية وأحتاج وحدي إلى وقت.. خمسة عشر شريطا تعني جلوسي أمام جهاز التسجيل يوما كاملا. تبدو أنها أغان ولفتت في لحظة التأمّل تلك أشرطة أربعة خط عليها كلمة منوعات، وفي أعلى كلّ شريط نقطة سوداء خافتة لا تلفت النظر. دسست أحدها في جهاز التسجيل فكانت المفاجأة

صوت رجل دين عراقي هارب إلى إيران

استمعت دقائق..

ووضعت الشريط الآخر ففوجئت بصوت مغن عراقي شيوعي يترنم بأغان شيوعية

الشريط الثالث كان لمجموعة مغنين يسارية تتخذ من سورية مقرا لها

الرابع حديث ابن الرافدين باللهجة العامية العراقية **من إذاعة إسرائيل

هل صاحب تلك الأشرطة مجنون؟

أهو من المعارضة. أم مجرد مغامر يحمل معه هلاكه فلا تدري أهو من جماعة سورية أم شيوعي أم متدين.

يهودي؟

أراه أقرب للمعتوه

الإصغاء إلى إذاعتي طهران ودمشق جريمة يُعاقب عليها زمن الحرب بالموت فكيف بمارق يتجول بأشرطة تناهض الدولة ؟

هاي هيه القصة اتفضلوا اسمعوها.. ابن الرافدين... لاح لي أن الشاب الذي لم أعرف اسمه كان يقرأ موته في غرفتي.. مصيبة أقف عاجزا أمامها ولو كان معي الجندي الآخر لما قدرت على أن أفعل شيئا.. جمعت الأشرطة المشبوهة، ولففتها في كيس قديم.. ثمّ خرجت إلى المحرقة ذات النار الأزلية

كأني لص

أتلفت

لم يرني أحد

ألسنة النار اشتعلت بالاشرطة

لاكتها مثل أفعى تبتلع فأرا

تنفست الصعداء وعدت إلى الغرفة، لم تكن وقتها روائح موت تنبثق.. فقد تكون حاوية الموت خاوية تنتظر جثثا أخرى.. قصدت كدس الأشرطة التي تركها الجنود الذاهبون إلى الجبهة.. استللت أربعة بدل التي أحرقتها، ومن الغريب أن أحد الأشرطة كان أغنية اللمبجي(البذيئة) ليوسف عمر حملت الأشرطة إلى الضابط المسؤول. وكنت أنطق كأني أزيح ثقلا عن صدري:

سيدي فحصت الأشرطة كلها أغاني ماعدا شريطا واحدا إباحيا بذيئا للمغني يوسف عمر ترددت.. اللمبجي

هز الضابط رأسه ونادى على الموقوف فحضر مع الحارس.

اقرأ ثانية الموت بعينية

الوجه الأصفر

العينان الغائرتان

سحنة موت تحوم على جبينه

قال الضابط كما لو كان ينهر كلبا:

طاح حظك إخوتك في الجبهة يستشهدون في سبيل الوطن وأنت تسمع أغاني فاسقة؟

ظل الشاب ساكتا. لا يدري بماذا يجيب كأنه لم يفهم ، فتح الكيس وسألني:

أين هو الشريط الفاسق؟

أشرت إليه، فقد حفظته وسمعته عدة مرات أنا وجنود سبقوني ورحلوا:

خذ الشريط إلى المحرقة، ثم إلى الشاب:

استلم أيها العار أشرطتك ولا ترني وجهك. !

***

رواية قصيرة

د. قصي الشيخ عسكر

فوق الجسر

أنا وحبيبتي ديانا والمطر

تبتلع أعيننا النوارس والمراكب

أنا وحبيبتي ديانا

موجتان من الفضة

تختزلان الضوء والموسيقى

بينما العالم يجر ضحاياه الجدد

باتجاه الأقاليم  البعيدة

السماء تفاحة زرقاء

ملطخة بالدم

السحرة يجلبون القمر من البرية

أجلب كنوزا نادرة

من عينيك الحلوتين

قلبك نورس سكران

ويدي رصاصة طائشة

حبيبتي ديانا

لم يبق أحد في القلعة

ذهبوا جميعا باتجاه المحيط

مخلفين حفرا عميقة من النوستالجيا

أصواتا تبني أعشاشها في شجر المخيلة

أنا حزين جدا يا ديانا

لأن الموت يناديني

من أعلى التلة

حيث شجرات الصنوبر مسكونة

بالعتمة وبوم الدوق الكبير

حيث الفراغ

يحمل مسدسا أشيبا

ويهدد الحشود

أنا وحبيبتي ديانا والمطر

فوق الجسر

حيث تمطر الهواجس

على مدار اليوم

ننتظر سقوط ملاك

من درب التبانة

ننتظر سلما طويلا من النواقيس

ننتظر أن يفتح باب الله الأعظم

ننتظر مسكنا آمنا  في قلب الأبدية

الصلاة والمحبة والسلام.

***

فتحي مهذب - تونس

الفصل (12) من رواية: غابات الإسمنت

كنت مرهقة متعبة، على الرغم من ذلك ينبغي عليّ أن أواصل التمرين، جاءني شخص آخر ملثّم اقتادني إلى غرفة فسيحة، فيها عدد من الدمى المنفوخة من المطاط الصلب... لنساء ورجال، أكثر من عشر دمى، وجدتُ الوقت الكافي لعدّها قبل أن ينطق الحارس، بالضبط إحدى عشرة دمية بحجم الآدميين، قال إنه درس في المساج، وعليّ أن أقلّده فيما يفعل من دون مقاطعة أو سؤال.

أحرّك يدي.

أنثني بجسدي.

أطوّع أناملي.

التقطَ دمية رجل وأقلبها على البطن، راح يدلّك منطقة الكتفين، أصابعه تلتم وتنبسط، تنقبض دقائق طويلة ثم تنبسط أسفل الكتف وتدور وأنا أقلده، نزل إلى الظهر كان يؤدي عمله باحتراف عال، ذكرّني بمحل مساج في مدينتي لسيدة زرتها يوم كنت متزوجة، بعدئذ هبط إلى أسفل الركبتين، استمر وقتا بالمساج حتى تحرّكت أنامله إلى باطن القدمين، عندئذ راح يتحدّث بإسهاب:

علينا أن نعرف فوائد الطب الصيني التي يُغرم بها الناس، هنا في هذه النقطة الأمعاء، هناك عند الأعلى الدماغ، وتحت إلى اليمين القلب، ثم العين وفي اليسار الأعصاب، في باطن الرجل تكمن كل نقاط الجسم، كنتُ أستند إلى ركبتيّ وأتابعه باهتمام، ثم نهض من أمام الدمية وبدأ يتعرّى، أخذني الشّكّ بعيدًا، وتنفّستُ الصعداء عندما رأيته يُبقي على قطعة تستر عورته.

أكاد أراه عاريا أمامي وإن لم يتعر تماما.

أقرف منه.

لا أهتم بجسده إطلاقا.

يمكن أن أقول إنني تحررت من عقدة الرجل ...

وضع وسادة تحت صدره، وحثنّي بصوت حاد يخلو من صرامة، باشري طريقة المساج معي، بدأتُ بكتفيه رحت أدلكهما بأربعة أنامل والسبابة، بقيت أدلّك وأقرأ ساعة الحائط، ثم طلب منّي أن أهبط إلى ظهره، كانت أناملي تسرح تحت عصعصه، شعرتُ ببعض التعب وقرأت الساعة من جديد، فوجدتني قضيت عشر دقائق، وقبل أن أتوقف بعض الوقت ألتقط أنفاسي، قال:

الآن عضلتا الساقين، لا شيء غير أناملي وحركة يدي، وبعد عشرين دقيقة، فوجئتُ به ينقلب على ظهره ويطلب مني أن أتعامل مع باطن قدميه.

سألني أن أدلّك عضلة القلب والكبد والرئتين، بعضها نسيته، فذكرّني به بصوت حازم جاد، فعلت الأمر مع القدمين كلتيهما، وعندما انتهيت توقفت والخدر يدّب بأناملي وعضدي، حينذاك نهض وارتدى ملابسه وقال بصوته الرزن الجاد:

يمكنكِ أن ترتاحي نصف ساعة، هذه الدمى أمامك، استمري في عمل مساج لكل واحدة منها، وأمامك على الطاولة خريطة الطب الصيني، احفظيها جيدا ولا تتوقفي عن العمل حتى آتي إليك من جديد.

أنهى عبارته وخرج، وكانت أمامي مجموعة من الدمى تنتظر، وعيناي تقعان عليها تارة، وتارة أخرى على ورقة فوق منضدة قريبة تنتظر أن تدلف في ذاكرتي، وقد دخلت وبقيت معي وسوف تظلّ حتى آخر العمر.

في الوقت نفسه بدأت أتحرك نحو الجثث الهامدة أمامي، بالإبهام والأصابع الأربع، أدلّك براحة اليد اليمنى وباليسرى أدعك.

تسرب الهواء من دمية لأمرأة، فنحيتها جانبا، وانصرفت إلى الدمى الأخريات بالسبابة والإبهام، وأنا أطالع القدمين والخارطة أمامي؛ أعمل وألتقط أنفاسي، أحدّث نفسي: هل ينقذني العمل بعد أن أخرج من السجن؟ حتى جاءني صوت بعد ساعات:

توقفي.

فرحت، التقطت أنفاسي، ولم يمر وقت طويل حتى وضعوني في غرفة ذات سرير مريح، وملابس للنوم نظيفة، قدموا لي عشاءً فاخرًا؛ كبابا وفخذ دجاجة وفاكهة وعصيرا، فالتهمت الطعام بشغف ونمت تلك الليلة نوما هادئا، واستيقظت عند الصباح على يد تهزّني، فرفعتُ رأسي فرأيت مقنّعا، أدركتُ من نبرة صوته أنه حارس آخر، تناولت فطوري في الغرفة ذاتها، تلذذتُ بجبنة ومربى وقطع من التوست المحمّص، وارتحت لكأس شاي ساخن.

بعد الانتهاء من تناول وجبة الفطور، قادني الملثّم إلى غرفة وجدتُ فيها بعض النساء المقنعات.

لا أدري إن كن من سجون أخرى، خمس مقنعات وأنا سادستهن، أمامنا لوحة... درس جديد بعد التجربتين السابقتين، دخل رجل أنيق لا يلبس قناعا، ذو وجه طويل، نحيف... يسرّح شعره إلى جانب اليمين، عيناه تختفيان تحت نظارة قاتمة سوداء.

ـ عليكن أيتها المتدربات أن تنهضن.

خامرني شعور لذيذ، متدربات ولسنا سجينات!

نهضنا... وأردف: حين آمركن تنفذنّ وتقلن نعم سيدي.

فصحنا بصوت واحد وفق ما أمرنا به فقال: حسنًا جلوس.

جلسنا فتقدم نحونا وسألنا، كانت يده تقبض على بطاقات مربعة، سلمني بطاقة، فقرأت فيها الرقم 25؛

كل واحدة تحمل رقمها، ولن يتغير إلا بأمر أو طلب من صاحبة الرقم لأسباب معقولة، ولعلكن تسألن كيف يكون السبب معقولا؟ أقول يمكن أن يبعث الرقم في نفس حاملته عدم الراحة، أو تشاؤما مثلما يتشاءم بعض الاشخاص من رقم ما.

هذا سبب غير معقول، نحن لا نعرف التفاؤل والتشاؤم، بل تجنب الخطأ، لأنّ عملنا لا يستند قط إلى العواطف، تذكرن هذه المقولة جيدا، وتذكّرن كل كلمة أقولها.

ثم توقف لحظة وقال:

درسنا اليوم النظارة، بعدها امتحان الذاكرة... وطلب منا أن نستدير فتنظر إحدانا إلى الأخرى ثمّ سأل: الرقم 37 من ينظر إليك؟ فردَّ صوت ناعم: نظرت إليّ 25 وحولت عني نظرها، سألني: أي من الأرقام نظر إليك؟ فقلت كان الرقم 55 و69، وطلب منّا أن ننظر ونحول نظرنا ونجيب بلغة الأرقام، بعدها استدرنا نحو اللوحة على الحائط، استطرد في ملاحظته:

رأيتن كيف أن الأقنعة لم تمنع تشخيصكن للعيون؟ عرفتن النظرات، افرضن أن الأرقام وجوه وأن لا قناع؛ لكن حين يرتدي الشخص نظارة سوداء قاتمة، فإن نظراته ستكون محجوبة، ولن يتبين للآخرين إلى أي اتجاه ينظر، لهذا السبب يرتدي مرافقو الرؤساء والملوك والأشخاص المهمون نظارات قاتمة، إنهم يستطيعون أن ينظروا بجميع الاتجاهات دون أن يعرف أحد إلى أين ينظرون، كأن المساحة مفتوحة أمامهم.

بعد ذلك رفع من درج أمامه مجموعة أوراق وضعها أمامنا... أخبار وجمل وألغاز، نظرت فيها وانتبهت إلى عبارته:

اقرأن هذه الأخبار جيدا، تمعّنّ فيها، وسأعود إليكنّ بعد ربع ساعة، تذكّرن، الكلام ممنوع.

خرج ولم تحاول أي منا الحديث مع الأخرى، رحت أطالع...

أول كومبيوتر في العالم اخترعته ألمانيا كان يحتل عمارة بثلاثة طوابق. إذا راقبت السوق ورأيت الناس يتهافتون في بلد ما على التفاح أكثر من أية فاكهة وبلدك ينتجها... فيمكنك أن تبعث بالخبر إلى بلدك، ذلك هو التجسس الاقتصادي. فينيسيا مدينة على الماء. لماذا يلبس القضاة والمحلفون في كل المحاكم الملابس السوداء؟ كان هناك اتحاد بين دائرة الأمن في زمن الإمبراطوريات ومهنة البريد.  أين أقيمت أول بطولة لكأس العالم في كرة القدم؟ خمسون لغزا قرأناها من ضمنها مجموعتا أرقام 668990 و 9753124، لا أدري لم زجّوا بهذين الرقمين ضمن الخمسين سؤالا، ولا أظنّ أنهما حقيقيان؛ لكنهما لفتا نظري إلى درجة أنني حفظتهما، وحينما عاد ليجمع الأوراق منّا، وضع على طاولاتنا أوراقا بيضاء وأقلاما قال:

أمامكنّ ربع ساعة للإجابة، الحد الأدنى هو أن تتذكر الممتحنة عشرين نقطة من النقاط الخمسين .. عشرون كافية، إن العمل المخابراتي يعتمد على الذاكرة بالدرجة الأولى ... سأعود بعد ربع ساعة.

كانا الرقمان الغريبان أول ما كتبته قبل أن أنساهما، تذكرت أكثر من عشرين سؤالا... وربما أجابت الأخريات مثلي أو أكثر، وحين عاد وجدنا نكتب؛ لكنه جمع الأوراق ووضعها على المنضدة... التفت إلينا وقال: لا تقلقن، مجرد امتحان للذاكرة ، نظر في الأوراق ورقة ورقة وهتف فينا مشجعا:

عظيم جدًا، ما زالت ذاكرة كل منكن في أوج سطوعها، والأجمل أنكن كلكن حفظتن عن ظهر قلب الرقمين ... هذا ممتاز، هل من سؤال؟ صمتنا كلنا فهز رأسه وقال:

حسنٌ إذن، استيعاب تام ، اليوم انتهينا، ويمكنكن الانصراف، فدخل رجال ملثمون اقتادوا كلا منا إلى غرفتها.

بعد ذلك توالت التمارين، طرائق جديدة سريعة لخطف أوراق مهمة من جيوب أشخاص ، تقرب للكلاب البوليسية المدربة، لفّ رَجل مخابرات يدي اليسرى بخشبة وأصدر أمرا لكلب يترقب من بعيد فانطلق نحوي، وأخذ يدي بين أسنانه حتى جاء الرجل نفسه، فتركني الكلب.

طرائق جديدة في استخدام الكامرات الصغيرة، وأقلام للتخدير تشبه أقلام أحمر الشفاه،  ووعدونا بدورات أخرى نتابع فيها دروسنا لكي نكون نساء مخابرات، لا أعرف إن كانت الأخريات سجينات مثلي، فلم ترَ أي منّا وجه صاحبتها قطّ؛ لكن غلب على ظني ذلك.

كنت سعيدة حقا بهذه الدورة، على الرغم من أنها كانت متعبة، لأنها أبعدتني عن أجواء السجن، فقط كنت أفتقد صديقتي مديحة.

***

ذكرى لعيبي

خبرني قلبي

أن للحب مناسك

وأن للقلوب مفاتيح

وأن للعناق أطياف

تحوم حولي...

وفي فجر كل يوم

تحتضن عروقي

ونبض شرياني....فأسجد طوعا

في محراب حبك

مع الساجدين

مبتهلة....وما الروح

بلا حب

إلا شبح باهت

مدفون في بدن...

منك الوجود

يا سّر الوجود

بابك سر الخلود...

مدد....مدد....

من غير عدد

***

راغدة السمان

عِنّْدَمَا كانَتْ لِسُلّْطَةِ الظُلّْمِ سَطّْوَةٌ عَظيْمَة.

كانَتْ تُراقِبُني مُراقَبَةً شَدِيْدَةً لَئيْمَة.

لأَنَّي لَمْ أَنسَجِمْ مَعَ أَفْكَارِ النِّظَامِ السَّقيْمَة.

فقَررتُ أَنْ أَهرُبَ مِنْ مَديْنَتي الجَميْلَة.

حَتَّى أَتَّقيَ شَرَّ رِجَالِ الأَمّْنِ مِنْ كُلِّ تُهْمَةٍ عَليْلَة.

فَهَرَبْتُ مِنْها بلَيّْلَةٍ مُظّْلِمَةٍ كَئيْبَةٍ هَضِيْمَة.

مُتَسَلِّلاً تَحْتَ جُنْحِ الظَّلامِ، وكأَنَّني مُجّْتَرحٌ لجَريْمَة.

وَ مَرَّتْ سِنيْنُ العُمّْرِ؛ تَطّْوي جِراحَاتِ الحُزّْنِ الأَليْمَة.

وَ بَعّْدَمَا انْقَشَعَ الظَّلامُ؛ وانهَزَمَ نِظَامُ الجَوّْرِ شَرَّ هَزيْمَة.

قَرَّرتُ أَنْ أَبيْعَ دَاري، وأَشْتَري دَاراً في مَديْنَتي القَديْمَة.

وَ لمَّا بِعّْتُ دَاري؛ أَرسَلوْني إِلى دَائِرَةِ الضَّريْبَة.

لأُحْضِرَ لَهُمّْ بَراءَةً لِذِمَّتي؛ مِنْ كُلِّ دَيّْنٍ لدَوّْلَتِنَا المَجيْدَة.

قُلّْتُ لحِمَاري:

يَا أَبا (الحَيْرانِ)؛ هَيءْ نَفّْسَكَ غداً سَنُراجِعُ دَائِرَةَ الضَّريْبَة.

قَالَ لي حِماَري (أَبو الحَيْرانِ):

يا ابنَ سُنْبَه؛ أَبْشِرْ... سَتَكونُ سَفرَتُنَا بَعَوّْنِ اللهِ سَعيْدَة.

قُلْتُ يَا (أَبا الحَيْرانِ)؛ مَنْ يَصحَبُكَ؛ فَالخَيْرُ رَبيْبَه.

وَصَلّْنَا إِلى دَائِرَةِ الضَّريْبَةِ، بَعدَ سَفّْرَةٍ عَصِيْبَة.

دَخَلّْتُ عَلى مُوَظَفِ الضَّريْبَةِ؛ وقَدَّمْتُ لَهُ أَوّْراقَ مُعَامَلَتي الحَبيْبَة.

قَلَّبَ الأَوّْراقَ، ضَرَبَ على مَفاتِيْحِ الحَاسُوبِ ضَرَباتٍ عَجيْبَة .

نَظَرَ مُحَدِّقاً بشَاشَةِ الحَاسُوبِ وقَالّْ:

مَعلومَاتٍ عَنّْكَ كَثيرَةٍ غَزيْرَة!.

قُلّْتُ يَاسَيّدي؛ أَنا مُتَقَاعِدٌ بَعدَ خِدّْمَةٍ جَليْلَة.

وَ لا مُلْكَ لي؛ إِلاّ تِلّْكَ الدَّارِ الوَحيْدَة.

قَالَ مُؤَنِّباً بِنَبْرَةٍ قَويَّةٍ شَديْدَة!.

وَ تِجَارَتُكّْ... تَظُنُها بَعيْدَةٌ عَنّْ عيُونِنَا الرَّقِيّْبَة؟.

استَوّْرَدْتَ أَنواعَ السَّياراتِ؛ وقَائِمَةً مِنْ البَضَائِعِ النَّفيْسَة؟.

اذّْهَبّْ.... واحْضِرْ لَنا بَراءَةَ ذِمَّتِكَ السَّليْمَة.

مِنْ وزارَةِ الصِناعَةِ والزِراعَةِ ودائِرَةِ  الخَزيْنَة.

قَالَ ليْ حِمَارِي (أَبو الحَيْرانِ) بِهَمّْسٍ وخِيْفَة:

دُسَّ لَهُ بَيّْنَ أَوراقِ المُعامَلَةِ؛ وَرَقَةَ دُوْلارٍ ذَاتِ المِئَةِ؛ إِنَّها مَحْبُوبَةٌ حَبيْبَة.

قُلتُ:

أَخْشَى أَنْ يَقُولَ لي هَذهِ رَشّْوةً مُريْبَة؟.

قَالَ لي حِمَارِي (أَبو الحَيْرانِ):

كَلّا... إِنَّهُ سَيَفْرَحُ وتَغْمُرُهُ نَشْوَةٌ طَريْفَة!.

وَضَعّْتُ المَقّْسُوْمَ بَيْنَ الأَوْراقِ السَّقِيْمَة.

وَ قَدَّمْتُها بَيْنَ أَيَادِي الموظَّفِ اللطيْفَة.

وَ لَمَّا رَأْى المُوَظَفُ مَا في دَاخِلِ المُعَامَلَةَ الرتيْبَة.

زَمّْجَرَ بوَجّْهي وقَالَ لي بِلَهْجَةٍ مُرْعِبَةٍ مُخيْفَة:

إِمّْسِكّْ أَوراقَكَ بالخَمّْسَةِ؛ ولتَكُنْ أَفكارُكَ حَصيْفَة.

وَ على الفَوّْرِ بادَرَني حِمَاري (أَبو الحَيْرانِ) قَائِلاً:

إِنَّهُ يُريْدُ مِنّْكَ خَمّْسَةَ أَوْراقٍ مِنَ الدُّولاراتِ الرَّهيْبَة.

قُلْتُ:

للهِ دَرُّكَ يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ لِفِطْنَتِكَ الشَّديْدَة.

و لمّا اكمَلّْنَا تِلْكَ المُهِمَّةَ العَصيْبَة.

ابتَسَمَ الموَظَفُ؛ ونَظَرَ إِليَّ نَظّْرَةً خَفيْفَة.

وَ خَتَمَ الأَوْراقَ بِلَطافَةٍ وأَناقَةٍ رَشيْقَةٍ رَفيْفَة.

وَ قالَ باحْترامٍ وبِلهْجَةٍ مُتَمَلِقَةٍ ظَريْفَة.

إِذْهَبّْ أَيُّها الحَاجُّ رَاشِداً؛ إِلى مُوظَفَةِ التَدّْقِيقِ القَريْبَة.

ذَهَبّْتُ إِليّْها باسْتِحْيَاءٍ تَمّْلَؤهُ رِيْبَةً لَهيْبَة ؛

كانَتْ امْرأَةً شَمّْطاءَ سَميْنَةً؛ ذَاتِ سِحنَةٍ لَئيْمَةٍ خَبيْثَة.

قَدَّمْتُ إِليّها بِخَوّْفٍ؛ أَوْرَاقَ مُعَامَلَتي التَّعيْسَة.

قَلَّبَتْ الأَوْراقَ وكأَنَّها إِنْسَانَةٌ كَفيْفَة.

مُبْدِيَةً عَدَمِ اهتِمَامِها بمُعَامَلَتي الفَقيْرَة الذَّلِيْلَة.

و ضَرَبَتْ على مَفَاتيْحِ الحَاسُوبٍ العَتيْقَةِ اللعيْنَة.

شَزَرَتْني بنَظّْرَةٍ؛ أَشْعَرَتْنِي بِخَوّْفٍ وجَعَلَتْني بِحَيْرَة.

ثُمَّ قَالَتْ:

سِنِيْنٌ طَويْلَةٌ وأَنْتَ تَعْمَلُ خَارِجَ ضَوابِطِ الضَّريْبَة.

قُلّْتُ:

يَا سَيّدَتِي... أَنَا مُوَظَّفٌ وإِلى التَقَاعُدِ أَحَالَتْني الحُكُومَةُ الحَكيْمَة!.

قَالَتْ:

إِنَّكَ مُسْتَثّْمِرٌ؛ تَكَرَرَ اسْمُكَ في الحَاسُوبِ مَرَّاتٍ عَديْدَة.

وَ مُعَامَلَتُكَ لا تُروَّجُ إِلاّ بقوَّةِ أَصْحَابِ الكَهْفِ العَتيْدَة.

إِلتَفَتُ إِلى حِمَارِي وأَنَا حَيْرانُ؛ وقُلْتُ لَهُ وكأَنَني في نَائِبَةٍ كَئيْدَة:

يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ وَضِحّْ لي مَعَانِيَ القَصِيْدَة.

قَالَ لي حِمَارِي مُبْتَسِمَاً:

إِنَّها تُريدُ مِنْكَ سَبْعَةَ أَوْراقٍ مِن الدُّوْلاراتِ المُفيْدَةْ.

و أَردَفَ حِمَارِي قَائِلاً:

إِدْفَعّْ تَربَحْ... إِنَّهُ شِعَارُ المَرحَلَةِ الجَديْدَة.

إِدّْفَعّْ... تَربَحّْ... سَتَنَالُ مَا تُريْدَه!.

حَوّْلَقّْتُ بِقَوّْلي، ثُمَّ وَضَعّْتُ بَيْنَ الأَوْراقِ سَبْعَةً خُضّْرٍ كَريْمَة.

قُلّْتُ لَها: تَفَضَّلي يَا سَيّدَتِي؛ إِليّكِ مُعَامَلَتي العَقيْمَة.

قَلَّبَتّْ الأَوْرَاقَ عَلى عَجَلٍ؛ فَرَأَتْ المَقْسُوْمَ بِنَظّْرَةٍ حَديْدَة.

قَالَتّْ مُبْتَسِمَةً بابتِسَامَةٍ مُفْرِحَةٍ بَهيْجَة:

لا تَثّْريْبَ عَليّْكَ؛

لقَدّْ تَشابَهَتْ الأَسْمَاءُ عَلى الحَاسُوبِ؛ فَذَاكِرَتُهُ عَتيْقَةً بَلِيْدَة.

خَتَمَتّْ على الأَوراقِ، ثُمَّ خَتَمَتْ خَتّْمَةً أَخِيْرَة.

وَ قَالَتْ:

إِذْهَبّْ راضِيَاً مَرضِيّْاً؛ لِدائِرَةِ العِقَارِ فَهيَ لَنا رَبيّْبَةً مُجيْبَة.

قُلْتُ:

سَلَّمَ اللهُ الضَّريْبَةَ؛ مِن كُلِّ سُوءٍ ونَائِبَةٍ سَلِيّْبَة.

خَرَجّْتُ مِنْ دَائِرَةِ الضَّريبَةِ، وحِمَاري يَهْتِفُ بِنَبْرَةٍ وَئيْدَةٍ بَريْئَة:

إِدفَعّْ... تَربَحّْ ؛ عَاشَتْ دَوّْلَتُنَا العَجِيّْبَةُ النَّجِيْبَة.

إِدفَعّْ... تَربَحّْ ؛ عَاشَتْ دَوّْلَتُنَا العَجِيّْبَةُ النَّجِيْبَة.

***

مُحَمَّد جَواد سُنْبَه

كما لو أَنني

أُحلِّقُ وحيداً

في سماواتِ

البلادِ المُقْفَلَةْ

*

كما لو أَنَّ نسراً متوحشاً

يطاردُني باللهبِ والنعيق

ناوياً إِختطافَ اجنحتي

خشيةَ أَنْ أُنافسَهُ

على كنوزِ السماءْ

*

وكما لو أَنني أمسكتُ بالثريا

ولمْ أعُدْ أَكترثُ

لكلِّ ماهو أرضيٍّ

لأنَّ الأرضَ أَصبحتْ ضيقةً

وملوّثة وليستْ حنوناً علينا

ولا رحيمةً بنا

كما لو أَننا لمْ نعدْ

نحنُ ابناؤها اليتامى

والمشردونَ وعابرو الطرقاتْ والقاراتْ

والمرميونَ كلُّ واحدٍ تحتَ نجمةٍ

وكلُّ واحدٍ غارقٌ

في بحرِ الأحلامِ

والاوهامِ والأُمنياتِ

وفخاخِ الخديعةِ

والخساراتِ والفجائعِ السودِ

مثل عباءاتِ أُمهاتِنا الممزقاتِ

من الوريدِ الى النشيجْ

ودائماً يصحْنَ بالعراقِ:

اللهُ عليكَ ياواهبَ البترولِ

والدموعِ والمطرْ

وسلاماً عليكَ

يا عينَ العسلِ والماءْ

فكُنْ مُطمئناً لأَننا

إذا أَردْتَ نُشعلُ القلوبْ

ونبذلُ الدماءْ

حتى تَظَلَّ أَنتَ

سيدَ الاشياءْ

والعارفَ بالأَسماءْ

وتبقى ناصعَ الصفاتْ

ومانحَ الحياةْ

للطيرِ والحَيَوانْ

والبشرِ الظمآنْ

وتبقى أَنتَ طيّباً

وطاهراً ...

مثلَ ضميرِ الفراتْ

***

سعد جاسم

2023-3-27

برْحاءُ ضَمَّتْنا إلى برحاء ِ

ومعيشةٌ..

بنا تستبدُّ بأضنك ِالإشياء ِ!

*

وتُلينُ جانبها

لمن عاثوا بنا

واستغفلوا أيامنا

وتقاسموها شطارةً

واستفحلوا.. بتجارة ٍسوداء ِ!

*

وتفارقوا بتوافق ٍ

ولكاعة ٍ..

ووضاعة ِ الرُّخَصَاء ِ

*

كلٌّ يُزايدُ باِسْمِنا

ويزيد في أوجاعنا

ويذر ملحاً

كي ينامُ

ولاتــنامُ من اللهيب ِبلادنا!؟

وتظل  دامية الرؤوس تَشُقُّنا

ونظل نخبطُ بعضنا

ليعضنا

ويقودنا

نحو المتاهة ِ

أتفه الأجراء ِ!

*

بَرْحَاءُ آلام ٍ

وإيلام ٍ

وأسقام ٍ

بما لا ينتهي…!

هل تنتهي؟

ونعيش يوماً

فسحة  الأمراء ِ!

***

محمد ثابت السميعي

أبعاد ثلاثية لشجرة تختفي وراء الظل

تحت ظل الشجرة

تلعب الفتاة بالحبل

2

السنجاب يبحث عن فستق

في الاوراق الميتة

3

استند الشاعر على عمود الظل

والقى قصائده المملة جدا

4

منذ بدء الخليقة والشمس تتهرب من الظل

ولكن دون جدوى

5

الظل المتعب في موسم الصيف

يتوسد اغصان الشجرة البهية

6

الشمس تتجعد عند الحر

والظل يرتوي من شظايا الغروب

7

الخريف يعزف الحانا حزينة

والظل عند الحرور يداعب اوراق الشجر

8

على غصن شاهق تغطيه ظلال شاردة

ثمة عش يتأرجح في مهب الريح

9

في ليلة عاصفة

قمر يتدلى من غصن شجرة يابسة

10

ثمة ثقيل الظل

لا يقوى على رفع اشعة الشمس

11

ظل تكوم بالندى

وفراشات عطشى تحوم حوله

12

الطفل تحت ظل الشجرة

تنزلق من يديه بالونة

13

كلب حراسة

يتابع بلهف عناكب تعلو سقف الظل

14

هناك قرب الظلال المفروشة بضوء الشمس

الثعالب تبتهج برقصة الارانب الوديعة

15

متى سمحت له الشمس

يبالغ الظل في امتداده

16

امام خيوط الشمس

الظل يتباهى بفيئه

17

الحطاب يتغزل بجذع الشجرة

ويراودها عن نفسها

18

القيظ يستحم في الظل

ويفرد خيوطه على زوايا الشجرة المتعبة

19

يغتاظ الظل

عندما يتوسل الحطاب الى فروع الشجرة طمعا في وقود للدفء

20

وحدها الشجرة

شاهدة على لصوص الخشب

***

بن يونس ماجن

عَيْنَاْكِ لَيْلٌ دامسٌ وصبَاْحُ

وسهامُ لحظكِ للهوى مفتاحُ

*

فسكرتُ لا خمرُ يُعَاقِر مهجتي

أو مسّني كأسٌ ولا اقداحُ

*

هي كالطلاسمِ لا يفكُّ رموزَها

إلا خبيرٌ في الهوى لمّاحُ

*

عُلّقتُ فيها مُنْذُ أول نظرةٍ

فاستوطنتْ في الجانبين جراحُ

*

وتحرّكتْ بعد السكونِ زوابعٌ

وعواصفٌ مجنونةٌ ورياحُ

*

بعد التصحّرِ في ربوعِ مشاعري

عاد الربيعُ وعادت الأفراحُ

*

تسبي وتقتلُ باللّحاظ بومضةٍ

ولها جيوشٌ بالهوى تجتاحُ

*

قذفت عليّ من العيون سهامَها

فأصابَ قلبي طائشٌ جُمَّاحُ

*

ماذا أقولُ و كلُّ جزءٍ قاتلٌ

فالشُفْرُ سيفٌ و الرموشُ رماحُ

*

وأنا الذي للموتِ يسعى جاهداً

فالموتُ في محرابِها إفلاحُ

*

ما ظلّ عندي من خيارٍ أخر

إِنّي عَشِقْتُكِ وَالْهَوَىْ ذَبّاْحُ

*

فمتى الركون إلى شواطئِ رملِها

والقلبُ بعدَ عنائِه يرتاحُ

***

بقلم:عبد الناصرعليوي العبيدي

ثوبها الأسود الملتف حول جسدها النحيل جعلها تبدو كفسيلة نخيل صغيرة، تحاول ان تقف شامخة بعد ان اجبرت على ان تنحني وتلميع زجاج المركبات في التقاطعات و المتوفقة عند إشارات المرور حين تتوهج باللون الاحمر، مقابل نقود قليلة تحصل عليها، ومعاكسات وسماع كلمات تكون في بعض الاحيان مخدشة للحياء. التشرد يرسم ملامح الوحدة والجوع وصفعة الشمس وبرد الشتاء لكن كل هذا لم ينل من جمال عينيها الطاغي على وجهها المنقب بمنديلها الاسود.

رايتها ذات صباح تبكي بحرقة وجزء كبير من ثوبها تغطيه الاتربة، وهي تمتم بكلمات لم اكن اعلم ماهي لكنها كانت واضحة من حركة شفتيها، وهي تتراجع بخطى ثقيلة الى الخلف، وتنظر صوب الحديقة التي تقع على يسار التقاطع. بدت وكأنها كانت تتحدث الى الشجرة..

دفعني الفضول الى رؤية ما يحصل ونظرت بسرعة صوب الحديقة ، كان هناك رجلا عجوزا واقفا يبدو من شكله معتوه ذو وجه مربع، بنظرات قاسيه تنظر اليها بحنق وغضب، يلوح لها بيده بالعودة سريعا الى مكانها. كان متسمرا في مكانه وكأن شيئا يمنعه من التقدم نحوها وقد تجمعت حوله فتيات بنفس عمرها وأصغر سنا منها يطأطئون رؤوسهن , خوفا من موجة الغضب التي اجتاحت وارتسمت على قسمات وجهه. مررت بالقرب منها كان صدرها اليافع يرتفع وينخفض سريعا، وعيناها الجميلتان يخنقهما الدمع، لم ينتصر البؤس على حسنهما.

تساءلت : من ذلك العجوز الذي يختبئ بالنهار ويظهر في الليل ؟ وكأنه شبحا اسودا ولم هن خائفات منه ! كيف يمكنني ان أساعدها واحررها من حياة التشرد هذه !؟.

هناك شيء لأعلمه يشدني اليها، لذا قررت أن العب معها لعبة الأقدار، التي لم العبها مع أحد سواها وأنهي تلك العبودية التي تعيشها. اقتربت منها بسيارتي واقتربت هي ايضا، دنت نحوي بوجهها الجميل واقتربت من نافذتي، ابتسمت لها ووضعت في كفها ورقة نقدية من فئة الألف دينار. حدثتها وضربات قلبي تتسارع خوما من أن يشعر بنا ذلك العجوز: ما رأيك لو أخذتك معي بعيدا واخلصك من هذه الحياة المذلة وتكوني حرة الى الأبد.

أطرقت صامته، أعدت عليها السؤال مرة ثانية

ردت علي: بخوف وتردد أين ستأخذني سيقتلني العجوز لو علم بذلك !!

لا تقلقي ولا تخافي وأنت معي المهم أن تأخذي الخطوة الأولى، وهي أصعب خطوة بعدها سيفتح الطريق أمامك، فالأنسان لا يمنح الا حياة واحدة. وانطلقت بسيارتي بعد ان حدثتها، اختلف شئ بداخلي فلقد أصبحت في خصام دائم مع النوم وأفكر بها كثيرا. الأفكار التي تحدث أثناء الأرق ما هي إلا ظاهرة عند الأشخاص الذين يفكرون ويحسون بقوة. لن أكذب احساسي وسأعطل إشارات المرور وتسود الفوضى المكان واخطفها كأميرة على حصان ابيض.

اصطحبتها بسيارتي مسرعا بعد ان اتفقنا على ان ألتقيها في اليوم التالي في نفس المكان، وكنت قد اعددت لها مكانا في احدى دور الدولة فقد ذهبت الى تلك الدار وحدثت مديرها،عن هذه الطفلة التي تبدو أكبر من عمرها ووافق الرجل على احتضانها في الدار شرط ان تكون في حيازتها وثائق رسمية تثبت اسمها وتاريخ ميلادها..

مر كل شيء بسلام وهدوء وشعرت بأني قد أديت مهمة عظيمة تليق بإنسانيتي، كانت تجلس في الكرسي الخلفي للسيارة وتضم جسدها النحيل بيديها بقوة وعيناها تغطي المرايا، راسمه افق جميل يسحر كل من يطيل النظر إليه.

ابتسمت وقلت: لها لا تخافي ستكونين بأمان لقد رتبت لك كل شيء. انطلقت بها مثل حلم جميل تلاشت فيه فوضى الشارع وصوت محرك السيارة. أخبرتها : سأشتري لك وجبة غداء، بعدها سآخذك الى الدار هناك ستجدين الرعاية، وتشعرين بالأمان كالفتيات الأخريات اللواتي في مثل سنك ولهن ظروف تشبه ظروفك وربما أكثر بؤسا. حدثيني عن ذلك العجوز وما يحدث معكم حدثيني بسرعة. أجابتني وبصوت واثق دون خوف قائلة : سأخبرك بكل شيء، اعتدلت في جلستي وكأني اسمع اول مرة ذلك الصوت الخائف المرتجف يحطم القيود، ويزيح النقاب عن الام مكتومه جاثمه على صدرها الصغير , ابتلعت ريقها ونظرت الي : ذلك العجوز يعود بنا كل مساء بعد أن يأخذ منا جميع ما نحصل عليه من نقود، تذهب معظمها للخمر الذي يحتسيه، ثم يجمعنا و نبيت في منطقة تسمى " البتاوين " في دار قديم متهالك تصدعت جدرانه ونالت منها الرطوبة ورائحة العفونة الكثير. اغلب ساكني هذه المنطقة من المعدمين ماديا والسكارى وخريجي السجون، نحن نعيش هناك كالخفافيش، وفي الصباح نتوزع في الشوارع والتقاطعات واشارات المرور. ثم اطرقت صامته بعد ان انتهت من الحديث. التفت اليها وقلت لها لا تخجلي من حياة فرضت عليك: لن تبيتي هناك بعد اليوم بل ستكونين اول من ترى النور أعدك بذلك.

ترجلت من السيارة بعد أن اوقفتها داخل شارع فرعي فيه بيوت واسعة ويسوده الهدوء، قاصدا أحد المطاعم القريبة هناك. قلت لها لن أتأخر عليك سأجلب لك الطعام، ابقي جالسة في مكانك لحين عودتي. ابتسمت بثغر ضيق متأوه ويبدو انها كانت متعبة وجائعة ردت : حسنا سأنتظرك، أسرعت بخطواتي والامنيات مشرعة امامي بلا حدود وعدت متلهفا حاملا معي وجبة طعام ساخنة، تقدمت واقتربت وقبل ان أصل السيارة بخطوات، وجدت أن أحد ابوابها مشرعة ! أسرعت بخطواتي كي أرى ما الذي حصل فجعني ما رأيت ! كانت السيارة فارغة ولا إثر للفتاة؟ جلت بناظري حول المكان اتفقده، ركضت يمينا ويسارا وكدت أفقد عقلي، والحيرة والدهشة تكبلني سألت أين ذهبت؟ رحت اركل السيارة بقوة فقد هوت كل احلامي امامي جلست في سيارتي وأنا اعتصر راسي بقوة كي أفكر بهدوء، والحيرة تلفني من كل مكان، وقع نظري على المكان الذي تركت فيه محفظة نقودي ! كان خاليا ولا أثر لها لأنها اختفت هي الأخرى.

***

نضال البدري - بغداد / العراق

رواية قصيرة

بعض من سيرة أخي الخطاط أسعد

***

الرقعة الأولى: الموت.. القبر

ابن مقلة؟

هل هذا اسمك؟

إنسان بسيط

تعلمت الخط على يد أخيك وبعض خطاطي عصرك

ثمّ احترفت

رحت تتكسب بهذا الفن

الفن هواية وحرفة وتفكّر باقتحام السوق

بعيد عن ذهنك أن السياسة ستجرفك معها

وأنّك سوف تخوض صراعا مريرا بين الخوف والأمل

*

الفصل الأول: حياة أم موت

كنت أتجوّل في بغداد بعد السقوط فلا أرى شيئا جميلا سوى العناوين المكتوبة بخطوط رائعة عايشتها منذ طفولتي وكأنني أقرأ أسماء من خطوها أعرفهم واحدا واحدا من أشكال خطوطهم، فأرى أن الشئ الوحيد الذي بقي سالما من الخراب هو آثار صديقي القديم ابن مقلة. كانت المدينة التي تزهو بخطه مما تحمله واجهات المحلات واللافتات والإعلانات ولوحات االعيادات حزينة داكنة. بيوت قديمة عمارات متداعية.. وجوه كسلى وجنود أمريكان يجرجرون أقدامهم وكأنهم لم يقتنعوا بنصرهم. كانوا أشبه بالمنهزمين الذين لايعرفون ماذا يفعلون بعد دخلوهم بغداد.

ويبدو أن الناس بدؤوا يستفيقون من الصدمة الأولى والفوضى خفت حدتها أما أنا فكنت منبهرا بالخطوط التي حولي في كلّ مكان وهي العلامة الوحيدة الني تركها لي رجل مات بثلاثة قبور واخترع فنا غزا العالم كلّه.

هذه ليست بغداد التي عرفتها زمن الحكم العارفي ولا أيام البكر ولا حتى فترة الحصار الخانق.

هيكل مدينة أصابها وباء وبيل

ونخرتها حرب وحصار

كانت مشهدا آخر لخربة تحمل لافتات صدئة بخطوط رائعة الأشكال.

محلات حلويات.. مطاعم.. أثاث. أعلانات قديمة.. بقايا متآكلة لشعارات حزبية

الرقعة

الثلث

الفارسي (*)

هو اخترع خط الثلث وأنا أكاد أذوب في جمال خطّ الرسم الذي كاد في يوم ما يبعثني إلى حتفي بسبب خطأ بسيط لم أتعمّده.

وسط الحيرة والذهول والخوف والرهبة سمعت صوتا من خلفي وشخصا أعرفه ولا أعرفه يضع يده على كتفي ويحتضنني ويروح يبكي.....

*

الرقعة الثانية: مقلة أبيها

لقد حملت اسم أمك

كان اسمك محمد بن علي بن الحسين وكان جدك يداعب أمك ويقول لها يامقلة أبيها. لقد حملت اسمها.. لوحة رقيقة حملتهَا في ذاتك فقد عُرف من قبل شعراء ومشاهير بأسماء أمهاتهم تغلبت الرقة ووداعة الأنوثة على عنف الذكورة وحالما وعيت وكبرت واجهت العنف وتحملته.

*

الفصل الثاني: أبي والمعلم والخط

منذ الطفولة جذبتني خطوط اللوحات،الخطوط على الواجهات والإعلانات،واجهات المحلات في سوق (حنا الشيخ) ولوحات الدكاكين في ( سوق الهنود).. (أحذية دجلة) لوحة جميلة.. (باتا) كتبت بشكل مائل.. (عرق فاخر.. بيرة مثلجة).. في شارع الوطن عنوان كبير جميل تتراقص فيه الأضواء لمحل احذية سماه صاحبه (زبلوق) وثمة على بعد امتار منه سوبر ماركت جديد خط عليه بالرقعة عنوان أحذية (الجمل) لم تلفت نظري لوحته الجميلة فقط بل أسعاره المثبتة على الأحذية المطلة من الواجهة على الشارع كانت الأحذية تبتسم للعابرين بالدراهم فهناك حذاء بعشرة دراهم وهناك آخر بخمسة عشرة درهما.. و.. يبدو أن صاحب المحل سافر إلى المغرب فعرف أن الناس هناك يتعاملون بالدرهم فأراد أن يأتي بشئ جديد يروّج عبره بضاعته ويقال أن زوار الأمن حذروه من التلاعب بالشارع والتعرض للاقتصاد فعاد الدينار إلى الواجهة بعد أيّام.

أما أنا فإنّ المعلم شكّ بي وأبي شجعني.

المعلم لا يصدق أن خطي جميل في درس الإنشاء الأستاذ هادي يكتب لنا شعارات كثيرة.. البعث طريقنا.. أمة عربية واحدة. فلسطين عربية.. الشعب العراقي العظيم.. لا يصدق أنه خطي يقول لي أكتب على السبورة ولا يعرف أن الطباشير ليس مثل القلم فيعاقبني بالتقريع وكان لأبي وقفة أخرى تختلف: وجدني أخط ما رأيته في درس الإنشاء فلسطين عربية العراق عظيم حزب البعث.. امتدت يده الى الرقعة الأخيرة فمزقها وهو يقول العراق عظيم نعم فلسطين عربية نعم ثم منع عني المصروف وإذا به يفاجؤني نهاية الأسبوع بكراس معلومات عن قواعد الخط ورزمة أقلام خشبية هو مصروفي الذي منعه عني.

لقد كنت حقا سعيدا بتلك العقوبة

*

الرقعة الثالثة: السوق

كنت تحمل أوراقك وأقلامك ومحبترك

ربما لون حبرك الزعفران أو الأسود

تحمل الجمال إلى السوق

تضفي حلة جديدة بهية إلى عالم الزحمة والضجيج

هاهي هوايتك عملك

تزداد شهرة من خلال موهبتتك التي تجسدت في رزقك هذا يرغب في كتابة رسالة وتلك تشكو زوجها إلى السيد الوالي وآخر يملي عليك رسالة في التجارة

ويأتيك رابع بكتاب ممزق يودعه لديك لتعيد خطّه من جديد

شهرتك تتسع

وصيتك يصل إلى بعد خارج بغداد

وقد قطع عليك تلك اللحظة مجئ جماعة ما يحملون بعض الرماح والسيوف

تواجه القلم والسيف

الحبر الأخمر والأسود

فوضعت القلم في المحبرة واستأذنت في أن تغلق الدكان

راحوا يقودونك إلى دار الخليفة

*

الفصل الثالث: نقطة واحدة لا تكفي

أما أنا ياسيدي فقد كبرت لم أفتح دكانا بعد. كنت في الصف الحامس الثانوي آخذ مصروفي اليومي من أبي،في مثل هذه السنّ رآني أهل التنومة محترفا. كان هناك خطاط يكبرني بعقدين من الزمن يعرفه الناس غير أن بعض أصحاب المحلات وتلاميذ المدراس يأتون إلي بيتنا لأخط لهم. في روعة الخط يتلاشى الزمن مثلما تلاشت السنوات من الصف الرابع الابتدائي إلى المرحلة الثانويّة. وفي يوم ما سمعنا طرقات على الباب.

طرقات غريبة

لكنها غير مخيفة

فتحنا الباب فوقع بصري على أحد الرفاق من الفرقة الحزبيّة طلبني أن أرافقه. لم تكن المسافة بعيدة... بضع خطوات إلى يمين المرفأ حيث مقر الفرقة. خمنت أنهم طلبوني لأداء عمل فني وإلا لاستدعيت من الأمن ،حين وصلت وجدت بعض الوجوه التي أعرفها.

كانوا يبتسمون في وجهي

أحدهم كان الأستاذ سامي معلّم اللغة الإنكليزيّة (1) الذي بدأ الكلام معي بكلّ لطف:

سَعّودي لو سمحت تخط لنا هذه العبارة التي في الورقة على المنضدة!

قرأت: بعد 11 عاما العراقي يتقدّم

إذن مرّ أحد عشر عاما على انقلاب 1968 وإذا بي أقضي شوطا بعيدا.. عقدا من الزمن مع القلم والورق والحبر وطلعة الحروف. صحيح بعض التلاميذ والمحلات يأتونني أخط لهم مقابل أجور مع ذلك لم أصل مرحلة الاحتراف بعد:

أستاذ،تحاشيت أن أناديه بلقب رفيق ،مفضلا أن أقف طالبا أمامه، أستاذي عبد الحسين نايف (2) هو الخطاط الأوّل في التنومة وهو أفضل منّي وصاحب محلّ.

ابتسم الأستاذ،وردّ أحد الواقلفين:

عبد الحسين رفض لأنّه يطلب نقودا

اقتنعت أن المنظمة الحزبية تطلب عملا من دون مقابل ربما لم يذهبوا إلى امنزل الخطاط فهم يعرفونه لا يخط من دون مقابل

بعد ساعات كانت اللوحة التي أجريت عليها خطي تتلألأ قي الشارع على واجهة الفرقة الحزبية!

*

الرقعة الرابعة: القصر

هم الذين صحبوك من السوق إلى قصر الخليفة

سمعتك

فنك

شخصيتك جذبته إليك

كان يريد أن تعيش معه في القصر

السلطان المقتدر بالله نفسه رقيق يحب الفن.. الخط الرسم.. في الوقت نفسه عنيف يحب الدم..

جعلك وزيرا... أعلى سلطة في البلد بعده

وبعد شهور أم سنوات. لايهم الزمن قيل عنك إنك تقود الدسائس

هناك مجلس يعقد بإمرة الإمام لعقابك

*

الفصل الرابع

أقرب خط إلى نفسي هو الرسم حيث تندمج فيه النقاط إلى درجة الذوبان.. وكاد هذا الخط الجميل يقودني إلى ورطة بعيدة الغور ،بعد أن خرجت من المنظمة عائدا إلى بيتنا وجدت اللوحات التي نقشتها تغطّي مدخل الفرقة وجدران المدينة

كنت مزهوا بخطي

في الوقت نفسه ممتعض

وأظنني جلست في البيت أقلّ من ثلاث ساعات حتّى عادت الطرقات من جديد. وجه متجهم من الرفاق يصحبني إلى الفقة من جديد. ظننتهم يكلفونني بعمل آخر من دون مقابل

وإذا بي أواجه تهمة جديدة لا أعرف في أيّ مكان كمنت لي؟أكانت بين الحبر أم على صفحة قلمي الخشبي.. أسفل قطع القماش. من حسن حظي أن معلمي السابق في الابتدائية كان مع اللجنة التي شكلوها لمحاكمتي. دائما يناديني سعودي على الرغم من أني لم أكن نبها في الغة الإنكليزية

الطويل الخشن الملامح عضو الفرقة ورئيس لجنة التحقيق الأربعة سألني بعصبيّة:

11 عاما والعراقيّ ينغدم هل تقصد ينعدم أم ماذا؟

هاهو خطّ الرسم يفتح النار عليّ،هو صديقي وأكثر التصاقا بي من الكوفيّ والرقعة والثلث،غفلت أنّ النقاط فيه تتداخل والنقطتان تبدوان مثل التوأم الملتصق.. هل يودي بي صديقي الذي أجدته أكثر من غيره إلى الهلاك،فأنا في مثل هذه الظروف القاسية المستفِزَّة لا أجرؤ غلى التزوير،مرّة واحدة قمت بهذا العمل. لقد استفزّنا مدرس الكيمياء االمصري الأستاذ حسام الذي قال إنّه يتحدّى من يغشّه في الامتحان تحدّيته.. وفي ليلة سبقت كتبت الحروف العربية بالمقلوب على دفتر اللغة الإنكليزية فبدت تشبه الكلمات اللاتينيّة وقد وقف على رأسي يتابع تحديه وهو يرى أمامه كتاب اللغة الإنكليزية بعد الامتحان في الفرصة قصدت غرفة المدرسين وسخرت بلطف قلت للأستاذ حسام غششت وأنت واقف على رأسي رفعت الدفتر أمام المرآة الطويلة التي في الغرفة فكان يقرؤها بيسر. في الظاهر كلمات أجنبية وأمام المرآة ترتدّ إلى العربية. صرخ الأستاذ حسام :أنت جنّي ولم يعاثبني. أما الآن يَتَقَدّم أصبحت ينغدم أقرب تأويلا إلى ينعدم. 11 عاما والعراق ينعدم من دون مرآة ولا قلب حروف.

أقسم أني برئ،وبلهجة بريئة ممزوجة بالدهشة:

رفاق تعرفون أني أديت العمل بسرعة ولم ألتفت إلى التأويلات التي يمكن أن ترافق خط الرسم

بقي الآخران صامتين وعقّب الاستاذ سامي ملتفتا إلى رئيس اللجنة:

رفيق أنا أعرف أسعد منذ كان تلميذا عندي في الابتدائيّة

أحد العضوين الشاب النحيف سألني بوجه خال من أيّة ملامح:

ماذا تعلل فعلك؟.

قلت من دون تردد:رفيق أنا خطاط لكني لست محترفا وأقرب خط عربي إلي وأسهله عندي خط الرسم وفي هذا الخط تتداخل النقطتان في نقطة واحدة ولم أكن أعرف أن هذا سيحدث بعض اللبس.

وقال الأستاذ سامي:

هي عن قرب لا لبس فيها لكن من يقرؤها من بعيد يظنها بنقطة واحدهة.

نطق الكبير بعد تأمل قصير:

حسنا لقد جمعنا كل اللوحات هل تستطيع أن تكتب بخط آخر؟

بلاشك!

رحت أخط وأخط متحاشياصديقي الرسم الذي كاد يوقعني في ورطة في الوقت نفسه باعدت بين النقطتين!

وحالما انتهيت رفع الأستاذ سامي اللوحة عاليا ولوّح بها مزهوا:

الآن رائعة والله أنت فنان.

فنان بلاىشك

قال كبير اللجنة وسألني أستاذي المعلم:

هل أصبحت عضوا في نقابة الفنانين.

أستاذي نحن الفنانين لاتقبلنا نقابة الفنانين قبل أشهر ذهب عبد الحسين نايف إلى بغداد وطلب مع مجموعة من حطاطي المحافظات هويات لهم فرفض قبولهم فائق حسن (3) بحجة أن الخط حرفة مثل النجارة وليس فنا.

فصاح الجالس الثالث:

لكن رغم مايقال أنت فنان

فغادرت مقر الفرقة هذه المرة متيقنا من أنهم لن يدعوني بعد ساعات فقد تأكدت من النقاط تماما.

*

الرقعة الخامسة: اليسرى أم اليمنى؟

يدك تفقدها

مولانا ا يأمر بقطع يدك

أصبحت وزيرا،فاتهموك بالتآمر

مولانا الراضي بالله الخليفة يأمر بتعذيبك

فهل كنت تتآمر

كنت تظنّ أنهم أذا كشفوا أمرك اعتقلوك

أو عذبوك وفي أسوأ الحالات يقتلونك.. الموت درجة الصفر الدنيا التي ليس تحتها من درجة بعد.

أما...

أمّا أن يقطعوا يدك فتك هي الطامة الكبرى.. لقد عرفوا كيف يقتلونك من غير أن يقتلوك

غاب عندهم الإحساس بالفن والجمال وهم حقّا أذكياء قتلوك من يدك التي انتشرت في كل انحاء الدنيا.. جالت العالم حتى وصلت إليّ

*

الفصل الخامس: ولقد منحتني يدا

ركبت دراجتي متجها إلى كردلان.. في الصباح زرت طبيبة الأسنان في مشفى التنومة وعلى الرغم من أني مازلت أشعر ببعض الوجع فقد تجاهلته وقصدت صديقا في شغل.. ليس هناك من شئ يخيفني سوى نذر الحرب التي تلوح في الأفق،وبعض الريبة على وجوه الناس.. استدرت من الطريق الفرعي باتجاه نهر أصفر ثمّ انحدرت من الجسر إلى أسفل البستان.. هناك رأيت الموت للمرة الأولى

الوجع هو الموت..

كانت في طريقي حفرة عميقة نسيتها البلدية مفتوحة أسفل المنحدر فلا يراها العابر بدراجته عن بعد.

حفرة خفية. خندق حرب يسبق المعركة..

لم يكن لديّ الوقت لأتحاشاها.. العجلة الأمامية بدأت تغوص في الفراغ والخلفية في تترنّح على حافة الحفرة.. اختل توازني فانقلبت وسقطت.. غابت الدنيا عن عينيّ رأيت قتاما وصفرة تلف الدنيا

يدي اليسرى من الكتف والعكس تؤلمني

والوجع يكبر ويكبر وأنا أصرخ..

وهرع إلى من الطريق والبيوت المجاورة بعض الناس..

كانوا في الأعلى يتطلعون إليّ والدراجة خلفي...

في مشفى التنومة خرجت طبيبة الـأسنان من مكتبها على صراخي. مازلت أسمع. الدهشة بعينيها. قالت:

كنت معي في الصباح تعالج أسنانك والآن يدك ،فماذا حدث؟

واجتمع الأطباء،فأرسلوني إلى المشفى الجمهوري في البصرة

هناك كادت تكون كارثة.. تيقنت من الألم أن الكسر في يدي اليسرى ،ورأيت وأنا أصرخ أحد أصدقاء أخي ممن كانوا يدرسون معه عند ضفة نهر شط العرب (4) على بعد مسافة قصيرة من معبر الجامعة صرخت من دون وعي:

حبوبي رفعة أرجوك

فرفع إليّ طرفه باستغراب معترضا:

دكتور رفعة

ثمّ أخذ يدي وبدأ يحركها وكان الوجع يداهمني صرخت وصرخت ملأت المشفى صراخا.

راح يلف يدي ويقول سأعالج الخلع.

هل غبت عني.

تمنيت..

الألم يزداد أصرخ.. أتمنى لو أغيب عن الوعي

أمنية أشبه بالمحال تراودني

والدكتور رفعة يلف يدي ليعالج الحلع

حتى جاءت الأشعة وجاء كبير الجرّاحين الدكتور ثامر الحمدان (5) فصرخ بالدكتور رفعة حالما رآه يلف يدي

أوقف عملك هل أنت غبي. كأنه يقول له لأو زجره :لو اشتكى عليك لأوقفوك عن العمل!

رد الدكتور رفعة بانكسار:إني أعالج الخلع

هناك ثلاث كسور في اليد أي خلع تعالجه

كانت هناك دقائق رهيبة في الغرفة:وعند الردهة أبي وأخي ينتظران.. أمي في البيت يفترسها القلق. أختاي.. اللحظات الحاسمة التي تنتظر الدكتور حمدان.. وأنا بين الألم الفظيع والخوف والغثيان والصراخ. كنت أرغب في الغيبوبة الحلم المحال. لكن هذا لم يحدث،وكان الدكتور ينطق:

كان يمكن أن ُتُجبَر َّيدك بيسر قبل اللف لعلاجها من الخلع لكن الآن عليك أن تختار أحد الطريقين.. أما أن تسافر إلى بلغاريا لإصلاح يدك،أو أن أقوم بأخذ عينة من من رجلك لزرعها في يدك

لم تسودّ الدنيا بعد.. أي سفر وأيّة بلغاريا وبعد شهر ينتظرني الجيش.. إجراءات سفر واستثنآت.. البلد على وشك إعلان الحرب ،ربما تكون سقطتي في الحفرة لمصلحتي...

فلا حرب

أو حرب

كل شئ محتمل

عندئذِ

كانت يدي اليسري تغرق في الآلام

وكنت في غاية الانشراح لأني يدي اليمنى تعمل

كأنّ أحدهم منذ سنين منحني يدا أواصل بها هوايتي التي فتحت عيني عليها ووعيتها منذ الطفولة.

***

د. قصي الشيخ عسكر

الفصل (11) من رواية: غابات الإسمنت

ارتديتُ البدلة ووضعتُ بعض المكياج الخفيف، وخرجتْ معي حبيبتي ببدلة مدنية، رأيتها بشكل آخر؛ أنوثة مهملة، غير أنها بالغت في وضع المكياج، لا لقناعتها بالتزيّن المفرط، بل لأنها بنظر الآخرين أنثى.

(ليست جميلة؛ لكنها ليست قبيحة) تلك العبارة التي ردّدها كثير ممن حولها، جعلتها تنفر من الناس، وفق هذا المنظور أرادت أن تعتمد على نفسها، فدخلت كلية الشرطة، وأعرضت عن الزواج بعد تجربة فاشلة تسببت لها بألم كبير، فعدّت كل من يرغب في الزواج منها، يسعى لمنفعة مادية واجتماعية، حتى لو كان من عائلة كبيرة وغنية.

حتى ساقتني الأقدار إلى السجن، فوجدتْ صورتها فيَّ، بل سعادتها ..

كانت تقول: السعادة قرار، يأتي من اهتمامكِ بنفسكِ والسمو بذاتكِ، لا تنسي أن تتخذيه كلما داهمكِ شعور الحزن والإحباط.

بعد كل خذلان أو تجربة مريرة، اسندي ظهركِ إلى قلبكِ وعقلكِ فقط، وما يجيء من المحيطين بكِ بعد ذلك اعتبريه فائض!

قالت لي قبل أن نخرج: أخاف عليكِ من الحسد، أنا أمشي مع إلهة.

نفور من الرجال دفعها لعالم القوة الذي وجدته في مهنة الشرطة، وحنان غير متناه جعلها تكون أشد رفقا بكل أنثى، وفي لحظة سيري معها شعرتُ أني أستند إلى قوة تحميني، فلم أعد بحاجة إلى رجل.

صحبتني إلى مركز المدينة، ودفعتني إلى أكبر مركز تصفيف شعر للنساء، قالت:

هذا أشهر محلّ تؤمّه نساء الأغنياء، وتحدّثتْ مع صاحبة المحل التي اتضح لي من لهجتها، أنها ليست من أهل البلد ... "مركز السيدة الجميلة للحلاقة والتجميل" قالت للحلاّقة عنّي، إني قريبتها وسوف تعود بعد ساعة أو ساعتين، ثم خرجتْ.

خرجت مطمئنة إلى أنها ستجدني حين تعود، وارتحتُ كثيرًا حين قالت لصاحبة الحلاقة إني قريبتها.

خالطني زهو.

إني ذات منزلة في المجتمع الذي سأطالعه بوجه تصنعه ابتسام التي تحبني.

ودخلتُ في عالم آخر، سبق وأن دخلته يوم عرسي، حمّام مغربي، عناية بالقدمين واليدين والأصابع، وتجميل الأظافر وطلاؤها بلون الزهر الفاتح، كريمات... تسريح شعر... زيوت معطرّة، عوالم تشبه أن تكون فيها المرأة حوريّة، والمكان جنّة صغيرة لا تعرف الألم والهوان حتى لو كنتِ حزينة.

فاسترخيتُ مع رائحة اللافندر التي وضعتها صاحبة الصالون في جهاز فوّاحة بخار كهربائي قريب من طاولة المساج، ثم بدأت بتدليك وجهي بعد جلسة التنظيف والتقشير، وتشذيب حاجبيّ، سألتني إن كنتُ أريد تغيير لون شعري، فأشرتُ لها بعدم رغبتي في ذلك، فقامت بتجفيفه وتسريحه فقط، ومع رطوبة الكريم والمستحضرات والعطور، وجدتُ نفسي انسلّتْ من الألم مع الروائح وذابت في العطور.

خفيفة أنا كفراشة.

رائعة كملاك.

هكذا خلتني.

ثم عادت سيدتي التي جعلتني إلهة، على الأقلّ لم أسمع تلك الكلمة حتى من زوجي ... "إلهة" وقد عادت إلى الإلهة كأنني أنا سيدتها في كل مكان ماعدا السجن.

قالت ونحن في الطريق: كنت في البيت خلعتُ ملابسي العسكرية، لا أريد لأحد أن يرى سيارتي أمام دائرة تأخذ الأخبار ولا تعطي.

وخفضت صوتها لتؤكد:

مع هذه الدائرة مستقبلكِ، انتبهي جيدا ومرّني ذاكرتك، قد تحتاجينها أكثر من التدوين!

أشارت بيدها إلى إحدى سيارات الأجرة، وبعد دقائق ترجّلنا ثم مشينا إلى مكان ما، فكنتُ معها في مكتب أمام رجل ضخم، حاد القسمات يبتسم برزانة، وحين تنفرج شفتاه تزول رزانته وقسوته، خيّل إلي أنني أمام وجه يستطيع أن يتقمّص اللحظات، صاحبه كبير ذو مقام عال في هيكل الدولة يستطيع من على كرسيه أن يدير شؤون البلد؛ وإن لم يكن هو الأعلى! قالت:

ها هي سيدي العنصر الجديد.

هزّ رأسه وعقّب: حسنا ... اتركيها معي بسلام، وسأتصل بكِ حالما نعدّها للمهمّة.

تطلّع بوجهي طويلًا وهزّ رأسه فقالت:

ـ هل أنصرف سيدي؟

ـ بالطبع.

ـ لكني أريد أن أطمئن عليها.

ـ ألم أقل لكِ اتركيها بسلام.

أدّت التحية وانصرفت.

كان هناك شيء ما في ذهني وقد بقيت وحدي، ربما شككت أن هذا الرجل يمكن أن يستغل جسدي له؛ لكن بعدئذ عرفت أن كلّ من يعمل في هذه الدائرة يتجنب العاملات اللائي لا تعرف إحداهن الأخرى، ويمكن أن يجد أخرى في غير مكان.

بعيدون عن الأحاسيس ... لا يخلطون بين عملهم ورغباتهم، ويتحركون مثلما يتحرك الإنسان الآلي من دون شفقة أو رغبة أو خوف.

في هذه اللحظات شعرتُ أني أكبر من أن يرافقني الخوف، والفشل أصغر من أن أصاحبه.

لا أخاف أناسا يعيشون بغير مشاعر في مكان ما، في لحظة ما، لأنني سأكون مثلهم بالدرجة نفسها في مكان ما، في لحظة ما.

لا أواسي نفسي، بل هي الحقيقة التي تواجهني وأواجهها بكل صراحة ووضوح.

وقد ارتحت حين أدركتُ أني بدأت أعمل منذ اليوم.

سيدتي وحبيبتي تقول اعتمدي على الذاكرة .. مرّني ذهنك؛ فقد أمرّ في بعض الحالات بمواقف لا تتطلب ورقة وقلما، والذاكرة في بعض الأحيان تريد أن أنسى وأتجاهل، وبخاصة مشاهد الماضي ومعاناته، وهذه فرصة أمامي تجعلني أتذكّر وأنسى؛ أمرّن ذاكرتي على نسيان ما جعلني أدخل السجن، وأتذكر ما سوف يأتي، فلا أتشاءم ولا أخاف ما دامت الدولة نفسها معي، وسيدتي في السجن، حبيبتي في البيت معي.

وسط تلك الهواجس دخل رجل مقنّع بقناعٍ أسود يخفي وجهه، طويل القامة ممتلئ الجسد، حالما دخل لمحتُ السيد الكبير يشير إليه بطرف عينه، ويأمرني بالخروج معه، غادرتُ وكان يسير أمامي، حتى توقف عند باب لغرفة ضيّقة، فتح الباب ودفعني بشيء من الغلظة، حتى كدتُ أسقط على وجهي، تبينتُ من خلال النور الخافت، أن هذا أشبه بنفق صغير، أظنه مترًا ونصف طولا وعرضا، وبقيت أنتظر.

راودني قلق، وتذكرت قول حبيبتي النقيب ابتسام: لا تخافي، قد تمرّين باختبار، نحن طلاب كلية الشرطة مررنا بشبيه له.

رعب .. عنف .. حشرات .. ولو كنت مع عقارب، فلن أخاف ما دمت قد عشت حادثا أفظع من أي مشهد، فعندي الثقة الكاملة بنفسي، أنّي أستطيع أن أروّض أعتى الوحوش.

تسليتي أني أوظّف وأنا في السجن، بدأت لا أكره شيئا، إني أحب، أعشق.

لا أعد نفسي سيئة حتى لو كتبت تقريرًا؛ إذ لا أظن أنني سأكتب عن رفيقاتي في السجن، أو الناس العابرين الأبرياء، هؤلاء البسطاء لا ضرر منهم؛ والسجينات تحت أنظار الحكومة، فلمَ أخجل من نفسي؟

هناك رجال يملكون السلطة والمال والقرار السياسي، يمكن أن أوظّف مهاراتي للعمل معهم. جمالي وقوّة شخصيتي التي ظهرت مع الحبيبة النقيب، جعلاني أفكر بجدية في أن أصبح سيدة مجتمع، وأعود إلى وضعي الطبيعي قبل دخولي السجن من غير أن يتحكّم بي أحد.

مرّت ساعات وانفرج باب، رجل مقنّع آخر أقصر من الأول، فتح الباب وألقى إلي بقليل من البطاطا والجبن وست حبات من الزيتون، التهمتها، وبعد ساعة عاد الرجل نفسه، جمع بقايا الطعام، ثمّ نادى بصوت عالٍ على شخص ما لم يسمعه ومد يده، فالتقط من آخر هرع إليه كيسا، فتحه ونكثه في الغرفة على بعد مني، فانسلّت منه عقارب سوداء متباينة الحجم، سلّمني الرجل عصا رفيعة وقال بصوت فضّ:

ـ سآتي اليكِ في الصباح، اطردي العقارب بهذه العصا، أطرديها فقط، لا أريد أن أرى عقربًا ميتا، هل فهمتِ؟

هززتُ رأسي وقلت: فهمت.

كانت العقارب تدبّ إلي؟ تقترب وتبتعد.

يتوقف أحدها كأنه يفكّر.

يرمقني بعينين جاحظتين، أحرّك العصا وأدفعه برفق، عقرب يلتم على نفسه، يبقى في الزاوية، أعدّها خمسة عقارب .. اثنان يتجهان نحوي، أهشّ واحدًا وأدفع الآخر، لن يتضررا أو يموتا، عقرب واحد بقي ساكنًا في مكانه طول الليل، لو حاولت أن ألتقط العقارب من ذيولها فأقطع إبر السم، ستبقى حيّة؛ لكنهم يريدونها سليمة...عقرب يسعى نحوي، وآخر يدبّ، الساكن الوحيد الذي لا يتحرك قد يكون من البلاستك؛ لكنني لا أريد أن أثيره، فالخوف الذي في داخلي يجعلني أجزم بأنه حقيقي، أنظر إليه فأراه لا يزال في مكانه كأنه ملك يراقب رعيته.

هل تعلم سيدتي الجميلة بهذا الامتحان؟ قد تعرف أني سأخوض امتحانا صعبا، وتجهل ما هو؟ أهشّ عقربا وأدفع الآخر.

وأبقى طول الليل أحرّك يدي بالعصا، وعيناي لا تحرزان النوم.

فمتى يطلّ الفجر وتنتهي ملحمة العقارب؟

***

ذكرى لعيبي

كنا ست كاتبات في قاعة، تابعات لشركة مختصة بطباعة ونشر وتوزيع الكتب، المسؤولة عنا أو الرئيسة مفتاحة ـ الامبراطورة ـ كما نسميها أمرأة في الأربعين من عمرها، طويلة القامة بسمنة متوسطة، قمحية اللون، جمال به تياهة في غرور، يشهد لها بماض من تيه ودلال، تحرك به الرؤوس بالتفات، وقدرة على الاقناع والتوسط بين الشركة والمتعاملين معها من الكبار كما يشهد لها حاضرباتقان تنويمات من عينين قلما يقاومهما كل ذي مال ونفوذ يزور الشركة..

كانت مفتاحة تستهويني بشكلها وأناقتها وطريقة لبسها حتى أني كثيرا ما كنت اقصد أسواق الخردة للبحث عن فساتين مثل ماتقتنيه نفتاحة من المولات الكبيرة. أو يأتيها هدية من المعجبين.

دون سابق انذار غابت مفتاحة، فلاهي ترد على هاتف، ولا أحد منا استطاع أن ينبش لها عن وجهة اختفاء، حتى بيتها انسدت أبوابه بلا رجع لصدى الجرس الذي يظل يلعلع بلا جواب.. الإدارة نفسها حين تم الاستفسارعن رئيستنا كان ردها مسكتا قاطعا :

ـ كل منكن تهتم بعملها ولا شأن لكن بمفتاحة..

كنا نتسقط أخبار مفتاحة كمن يبحث عن ابرة بين القش فلا واحدة منا بلغها سر اختفائها..

بعد شهرين صار كرسي مفتاحة الشاغر تحتله آنسة لا تتجاوز الثلاثين، بيضاء اللون اقصر قليلا من مفتاحة، عينان واسعتان بهما يتغزل كحل، وحمرة خدين تثير بانتباه.. مع أناقة فاقت الامبراطورة ؛أول كلماتها معنا قالت:

"سعيدة أن أكون مديرة عليكم، اسمي هند، خريجة المعهد العالي الكندي في التسيير والإدارة..

بصراحة جميعا أحسسنا بغيرة من شجاعة وقوة شخصية الوافدة الجديدة، سحر بسمتها مع دقة انتباه وطلاقة لسان، لكن أن تحرز انثى بفتنتها شهادة عليا من كندا في التسيير والإدارة ثم تعود لتشتغل مجرد رئيسة مكتب في دار للنشر فهذا منتهى العبث وتضييق الخناق على الحاصلات على شواهد من مدارس محلية...

رئيستنا الجديدة لم تكن من المداومات عن العمل فهي قلما تحضر وتملأ كرسيها الذي يظل فارغا، وكثيرا ما صار مدير الدار نفسه هو من يقوم بأعمالها، يتابع ما نشتغل عليه برقابة ثم يتسلم ما يتم تصميمه و رقنه وترتيبه،  وما صار يتسلمه قليل يكاد لا يحرك دواليب المطبعة، وقد تقاعس الجميع أن ينوب عن المديرة خصوصا بعد ان علمنا أن راتبها هو اكبر من راتب مدير الدارنفسه..

ذات مساء تم استدعاؤنا الى مكتب المدير لاخبارنا أن الدارقد تم بيعها.. جميعا فاجأنا الخبر !!.. كيف تم البيع في صمت وكتمان بلا اعلان سابق، وشركتنا أشهر من نارعلى علم، بل هي من أقدم دور النشر في موقع من المدينة أصيل بتاريخه العريق؟.. كان موقفنا متباينا بين من صرخت باحتجاج، وبين من تأثرت بصمت وانزعاج.. وزع علينا المدير أظرفة، كل ظرف به مبلغ من المال حسب قرب الكاتبة أو بعدها من المدير، ثم أعلن بلا حق ولا حياء او خوف من قانون، ألا واحدة منا مسجلة لدى صندوق الضمان الاجتماعي لهذا لا حق لنا في تعويض عن التسريح الجماعي او في تقاعد نسبي وبيننا من اشتغلت ازيد من عشر سنوات ..

كنت أصغر البنات وآخر من التحقت بالشركة، تفاجأت وأنا افتح الظرف بقصاصة ورقية مكتوب عليها: المبلغ الذي في الظرف لايجب ان يعرفه غيرك وكل فضح من قبلك سيعرضك للحرمان.. تطلعت الى المدير الذي وجدته يتملاني بنظرة تنبيه فانكتمت، وأظهرت لزميلاتي ان المبلغ مجرد دريهمات لا يسد ثمن عشاء..

عرفنا أن الدار ستتحول الى فندق سياحي كبير، معناه أن العلم صار يندحر أمام السياحة، وأن العقل قد رضخ طيعا يبايع الجسد مستسلما..

فجأة ظهرت الامبراطورة مفتاحة التي باعتنا بتعويض سمين تسلمته قبل ثلاثة اشهر من تصفية الشركة وعلي يديها تمت صفقة البيع في مقايضة هي صداقها بالملايين وقصر تسكنه في احدى دول الخليج..

لم تكن هند الا المديرة المسؤولة عن تسيير وإدارة شؤون العاملين في الفندق ولم يكن وجودها معنا في منصب مستعار الا اختبارا لنا لمن تصلح لمستقبل المشروع وحيث ان الفشل هو ما كان في ركابنا لان الفندق سيكون في حاجة لمن تتقن اللغات ولها جسد مشحون جنسيا يتفنن في إبراز مواطن جمالها، بمعنى تلونات صوتية وجسدية تهيئها لتسيير أوكار خاصة بمهارة واتقان وتكتم يقي الفندق حملات مباغتة من قبل السلطة ورقابتها.

خمس سنوات استغرقها بناء الفندق ذي الستة عشر طابقا الذي بمحتوياته من غرف وأثاث وتجهيزات وملحقات، وحدائق معلقة ومطاعم ومسابح ومراقص وأجنحة خاصة أبهر الزوار باندهاش لزخرفته وطريقة تصميمه وصارحديث الصحافة المحلية والدولية من كل التوجهات والانتماءات.

من الشهر الأول لبداية بناء الفندق تفاجأت برسالة من إحدى مدارس تعليم اللغات تعلن قبولي لفترة تكوينية مدتها ثلاثة اشهرلتعلم اللغة الإنجليزية..حركتني المفاجأة باستغراب وتساؤل ملحاح:

من ناب عني في تقديم الطلب؟ ربما داعبتني رغبة عابرة لاتعلم الإنجليزية، لكني لا أملك الإمكانات المادية التي تدفعني لذلك.. وتذكرت أن الاقتراح كان قد جاءني من هند في صدفة لقاء معها بإحدى الحمامات التقليدية بالمدينة العتيقة..

"أنت جميلة صباح وجسدك صنم فتنة، طاغ باندهاش، حبذا لو تتعلمين اللغات وتفكرين بالاشتغال في السياحة.. قالتها بنوع من الانبهار والانسياق وكأن بيني وبينها ألفة وصداقة..

نسيت الأمر، فما يملأ عقلي عن السياحة وأهلها يجعلني حطب جهنم لأني ابنة عائلة متدينة كان والدي يرحمه الله يمنعني حتى من التعلم في مدرسة مختلطة، ثم ظروفي المادية التي لا تسمح لي بتحقيق رغبتها رغم أني اعرف مردودية الأنجليزية على مستقبلي ولو في مهن غيرالسياحة. حتى المبلغ الذي تسلمته كتعويض عن ترك عملي السابق احتفظت به لعلاج أمراض والدتي وأدويتها..

فجأة يرن هاتفي ويأتيني صوت هند مهنئا وطالبة مني زيارتها حسب خريطة الموقع التي أرسلتها على الواتساب..

بيت هند عبارة عن "دويرة" صغيرة على بعد خطوات من موقع الفندق في المدينة العتيقة، تزخر بطابعها التقليدي الأصيل من زخارف وفسيفساء،  اثاثها من بهجة وخريب وسجاد رباطي سحر وذوق وفتنة عيون، إضافة الى غرفة للاكل من خشب العرعار المنقوش والمتقن الصنع، لوحات زيتية لاشهر الرسامين تزين الجدران في تناسق بديع،  وشمعدانات ذهبية وفضية فاقت الاتقان والجمال..

الحديث مع هند في بيتها هو غير الحديث معها حين كانت رئيسة مكتبنا في الشركة ؛ اطلاع واسع بالعالم وتاريخ الوطن وحركته الاقتصادية والاجتماعية، وركضه ليتبوأ ما هو اهل له وبه جدير في ربط ماضيه بحاضره واقتحامه للعالم الحديث من أبوابه الواسعة..كان ترحيبها بي بعيدا عن المجاملات وكأنها صديقة مقربة، حفاوة واهتمام.

حاولت أن تتعرف على كل ظروفي المادية والمنزلية دون ان تنسى السؤال عن المبلغ المادي الذي قدمه لي مدير الشركة:

ـ "كنت حريصة على ان أميزك عنهن لاني كنت معجبة بذكائك قدر اعجابي بجمالك ، قدك المياس وخفة روحك خصوصا بعد أن علمت أنك يتيمة وتتحملين أعباء أمك المريضة "..

توثقت علاقتي بهند، وقد خصصت لي راتبا شهريا مناسبا كضمان لاشتغالي في الفندق بمجرد افتتاحه ، وصرنا قلما نفترق حتى حين اشتد المرض على والدتي أصرت على ان يتم علاج أمي في عيادة خاصة في ملكية شركة أجنبية وعلى حسابها.

خلال سنة كنت أتقن الحديث بلغتين الإنجليزية والألمانية اتقاني للفرنسية التي هي كلغة الام، وتوطدت علاقاتي بهند أكثر، تعلمت أشياء ما كنت أعرفها تتعلق باختيارات ألبستي والوانها وماكياجي وكيف أتقن وضعه وبالعلاقات بين الناس وطريقة الحديث معهم حسب انتماءاتهم وجنسياتهم،  بل صرت وهند كل منا قد يتحدث بلسان الأخرى باطمئنان وراحة نفس.

كثيرا ما تهافت أكثر من شاب من ذوي الأصول والمهن او الوظائف الكبيرة على خطبتي لكن صوت هند كان خلفي منبها يأتيني بتذكير وتحذير:

ـ في صدرك يسكن وسواس ـ صباح ـ هو صوت أمك الذي تربى بدوره على سوق الغزل من التقاليد والعادات، وسواسك هوالخوف من العنوسة، الرعب من أن يصبح اسمك "بايرة" ! كيف تبور أنثى بجمالك وقدك وثقافتك وخبرتك التي صارت قوتك و سر وجودك ونفاذ كلمتك بين غيرك؟.. ماذا تعرفين عن الرجال ومكر الرجال، وحربائية الرجال للسيطرة على المرأة لتظل بين يديهم مطوية برغباتهم؟.. ألا ترين أن الوقوع في قبضة رجل أشبه بالوقوع بين أسنان منشار قد يرمي المرأة في كارثة لن تخرج منها الا مهدمة؟.. حبيبتي صباح عليك أن تعي اولوياتك كأنثى يلزم أن تعيش قوية برغبتها لا برغبة غيرها..

كنت أمام عقلها وأفكارها وخبرتها واثقة من أقوالها، ألبس عزيمة القرار على ان الزواج لابد أن يأتي يوما لكن بعد أن أكون قادرة على السيطرة والتحكم الذي يلغي كل تحكم غيره من قبل رجل يكون همه الغاء شخصيتي في حضوره..فأنا مع هند قد صرت أنثى تطمح وتريد، لكن حين أجالس أمي فيلزمني أن أسد أذني عن تقريعاتها، غضبها وكلمات التحذير التي تهددني بها، فانا صرت لديها غير صباح التي ولدتها وربتها..

استدعتني هند لحضور حفلة عشاء في بيتها على شرف أحد الوجوه المالية والتجارية من دولة أجنبية، وقد اقترح الضيف أن يكون العشاء في بيت هند لما يتميز به من أصالة وعراقة تاريخية.. أسرت الي هند أن أوظف مع الضيف كل أسلحتي الانثوية مما تعلمته، فهو قريب من انشاء ملهى ليلي على أحد الأنهار المغربية فعسى أن يكون لي منه نصيب كما سيكتب لها في اسمها نصيب..

كان العشاء متنوع الأطعمة اختارته هند بعناية من خبرتها الفائقة كما كان لحظات من متعة حديث عن الثقافة المغربية المتميزة والتي تجاوزت محليتها وما تشربته من الحضارة الاندلسية ونقله الرحالة المغاربة من آفاق عالمية ففاقت ماضيها وكونت طيرازها الخاص بها والذي صارت تحتل به المراكز الأولى عالميا..

لم تخل جلسة عشائنا من موسيقى حالمة من خزانة هند الموسيقية التي تتنوع ألوانها وأجناسها وأصواتها..

اصر الضيف ونحن نشرب الشاي بعد العشاء ان ترقص له هند على أنغام عيطة مغربية، فحاولت الاعتذار قائلة:

ـ تعلمت من كل فن طرف الا الرقص فقد خذلني واستعصى علي باستجابة..

لكن أمام الحاح الضيف دارت هند ثلاث دورات أظهرت فيهما أنها "معلمة" بارعة براعتها في اتقان كل شيء، ثم شدتني من يدي وادخلتني حلبتها لأشاركها الرقصة..

قد أكذب أو ادعي ان قلت ما ذا وقع؟ فما أن أثنيت ركبتي،  ورفعت وركي الأيمن الي أعلي وأردت تحريك الأيسر حتى أحسست بدوار، غامت المرئيات حولي وما عدت أعي نفسي أو أتبين المكان الذي أوجد به.

لم اصح الا والساعة قد تجاوزت منتصف النهار، وجدت نفسي عارية كما ولدتني أمي، أحس وجعا في حوضي ومخرجي وألما على حلمتي وأثر من دماء في إزار كان مرميا بجانبي..

استغرقني الذهول قبل أن أنفجر بالبكاء وأصيح منادية هند التي أقبلت وكأن ما وقع لايعدو حدثا طبيعيا لم أفقد فيه عذريتي وعفة جسدي بل تجاوز ماقد تصيره عاهرة بخبرة ماض في الدعارة وقلة الحياء:

ـ ماذا وقع؟ أنا من شجعت ضيفنا على أن يستمتع بك كما يريد، التفتي الى الخزانة التي بجانبك هل قرات قيمة الشيك الذي تركه لك؟.. ثروة لم تكوني لتحلمي بها، ماقيمة البكارة والشرف أمام رصيد مالي يفتح طريق حياتك؟..

تضاعف بكائي، وصار صدري منفاخا يدق الطبول، تذكرت أمي وتحذيراتها، كيف أواجهها؟ وهل أجرؤ على البوح بما وقع؟

ـ حرام عليك هند، وثقت بك الى أبعد الحدود فسحقتني كتراب القبور..

شدتني هند من يدي فتحاملت على الوقوف، كنت أجد صعوبة في تحريك قدمي، فكل جزء من أعضائي السفلية يتفزرألما.. ضمتني هند اليها، قبلاتها على خدي وجيدي ومسحها على شعري يخفف قليلا من العنف الذي مورس علي وأنا لا ادري. هل كنت ميتة بلا إحساس ولا شعور أو قدرة على الانتباه؟ كيف وقع ما وقع؟ وهل الفاعل فرد أو جماعة؟ وهل من فعل هذا بي يدخل ضمن زمرة الانسان؟ أم هي غريزة الحيوانية حين يغيب عنها العقل والتفكير؟

وبدأت أقنع نفسي أن ما وقع قد كنت السبب فيه واتحمل نتائجه فلايمكن رتق ما اخترق وقد حدث ما حدث..

في الحمام وتحت ماء حار نسبيا حاولت هند ان تفرك جسمي بتوأدة كأنها تزيل ماعلق به من أثر دم وكأني خرجت من حرب كنت فيها مهزومة بلا إرادة، كانت تقبلني بين كل لمسة ولمسة من أنامل ماهرة تعرف ماتريد، فتعيد الي لمساتها حنان أمي وأنا صغيرة..

قالت: وحق صداقتنا أني لم انتبه للحبات التي وضعها الضيف في كأسك الا حين قلقت لغيبوبتك ورغم هذا فقد أدى الثمن بما يرضيك..

أخيرا صبت علي قنينة عطر،  أشعلت النيران في جسدي وكاني قد تمرغت في كومة من سحيق الزجاج ، أو أن ذئابا نهشتني من قمة رأسي الى أخمص القدم ، ثم لفتني في فستان قطني خاص بالحمام وعانقتني وهي تساعدني للوصول الى غرفة نوم قريبة من تلك التي كنت فيها..

ـ انسي ـ صباح ـ انسي، كيف ترتدي أنثى قداسة الدهور وجسمها إعصار فتنة يفل الحديد..أنا نفسي كنت مع ضيفنا أغيب في جسدك..

قلت وقد فاجأني تصريحها:

معناه كنت له شريكة في مجزرته !!..

وهل كنت أحتمل صبرا وجسدك يغري بطحن الزعفران؟..

كانت كلماتها مشحونة بمعاني أثقل من ذاتي وأبعد من  معارفي وتاريخ حياتي كأنها مطارق تهدم كل موروث يسكنني وعليه تربيت..

بادرتني بعصير ليمون وحبة مهدئ ما أن بلعتها و تمددت على السرير حتى سرت في ذاتي سكينة، ثم غبت في غفوة قصيرة نهضت على إثرها تحركني انتعاشة وهند تلعق جسدي وتمسحني بالقبل:

ـ انهضي مائدة شهية تترقبك، فالجوع يغرغر في أمعائك.. نهضت و قد باغتتني الجدران من حولي تصدمني: 

هل أنا في يقظة أم في حلم؟، أم أن جروحي تحولت كوابيس مخيفة لما صرته وما استطاعت أن تخفيه عني وتمارسه على بإتقان وسطوة ناعمة تفوق الدقة والمهارة و الخيال من وثقت بها، هند التي اتخذتها صديقة حميمة والتي لم يكن مظهرها يدل على حقيقتها..

لم أكن وحدي من تملا الجدران صورها في عري سافر وأوضاع أخجل من ذكرها فأحرى أن تجرؤ عيوني على النظر اليها، صور لا أدري متى تم التقاطها، وتشكيل مشاهدها، وتكبير أحجامها، بل كانت هند معي بكل حريتها المطلقة وشجاعتها وفراغ نفسها من عقد أو مبادئ قد تقيدها تشاركني الأوضاع باسمها الحقيقي" أرنونا "وعلى رأسها بيئاة (باروكة يهودية )

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

كلمات التحدي ما زالت تؤرقها، لم تعتد على الفشل، كانت تصر على النجاح والتفوق، فتصل إليهما بعد جهد وتعب، تدرك تماما انه لا شيء يسير بسهولة، وان الحياة الجميلة يستحقها المكافحون، الكتاب إمامها مفتوح وهي تقرأ فيه بنهم، يعرفه جميع من يدرك ان الإصرار من عوامل النجاح..

وزعت الأستاذة أوراق امتحان مادة العلوم على الطالبات، وأثنت على صاحبات الأجوبة، الكاملة، ومدحت اجتهادهن، وحين وصلت الى الطالبة نجوى، ناولتها ورقتها، وعدم الرضا يظهر بوضوح :

-أنت تتأخرين دائما في مادة العلوم، مما يعني انك لا مبالية بمستواك

- لا، أستاذتي، انني اهتم بكل المواد.

- يؤسفني كثيرا ان أجدك تقصرين في المادة، التي أدرسكن إياها، وتتفوقين في المواد الأخرى، الأستاذات يمدحن اجتهادك، وأنا أجدك خاملة في درسي، يشرد ذهنك في متاهات بعيدة، ولا يبدو عليك الانتباه

- سوف ابذل جهدي

- سنرى يا ابنتي، إنني أتحداك أمام الطالبات جميعهن، ان تثبتي جدارتك بلقب الطالبة الأولى، ولك إن اعترف بذكائك وقدرتك إن بينت لي أنني على خطأ، فأنت الآن لا تستحقين أن تكوني الأولى..

ترسم نجوى ابتسامة باهتة على وجهها وتسائل نفسها

- ما هي أسباب تفاعسي في مادة العلوم، وأنا المجتهدة في المواد الأخرى، هل ان الأستاذة تتوانى في شرح مادتها، وإفهامنا إياها كما تفعل كل الأستاذات، وأنا أجد الطالبات الأخريات يتفوقن في هذه المادة وافشل بها أنا وحدي؟

تواصل الأستاذة حديثها:

- إما انك تشردين في درسي، ولا تبذلين جهدا للقيام بالتدريبات، التي أعطيها لكن لترسيخ المعلومة في الأذهان، او انك عاجزة عن فهم مادة العلوم لأن ذكاءك محدود، وليس كما يظن الكثيرون، هل سيطر عليك الغرور وجعلك عاجزة عن الوصول الى التفوق؟

- لكني انجح دائما في مادتك ..

- نجاح دون المستوى، هل يكفيك ان تكون درجتك في العلوم ستين بالمائة ودرجاتك في المواد الأخرى بين المائة والتسعين ؟ ما نوع الخلل الذي تعانين منه، فانا اشرح بصورة ممتازة، والدليل درجات الطالبات والتفوق الذي أناله في تقدير الوزارة لجهودي، نهاية كل عام حين تعلن نتائج الثانوية العامة..

يحزن نجوى رأي الأستاذة بها، فهي قد اعتادت المديح، كلمات الثناء تنهال عليها من كل جانب، فلماذا تجد نفسها عاجزة عن الوصول الى التفوق في هذه المادة دون غيرها، ما الذي ينقصها وقد وفرت لها أسرتها كل عوامل النجاح الكبير، لماذا لا تقرر التفوق وتصر على إحرازه كما تفعل دائما، زيادة في الوقت المخصص لقراءة هذه المادة، والعمل على التدريب المكثف للوصول الى النتائج المرضية، لم تعد تزاول رياضتها المحببة في السير لمسافات طويلة، نصف ساعة تكفي كل أسبوع ولثلاث مرات، وكتابين تطالعهما في الشهر للقراءة الخارجية بدلا من أربعة كتب، ولماذا الحرص على عدد الكتب؟ أليس الأجدر بها ان تكون حريصة على نوع القراءات أكثر من كميتها؟

ما زالت كلمات الأستاذة اللائمة ترن في مسمع نجوى، سوف تضع حدا لهذا التأخر، تقرا الدرس كثيرا، تكثر من حل التدريبات، تراجع حلول الأستاذة وتقارن بينها وبين الأجوبة التي توصلت إليها، هناك بعض الاختلاف، مما يدل إنها لم تصل بعد الى المستوى المأمول، تعيد حل التدريبات، الأجوبة نفسها، , تطمئن الى مستواها، غدا الامتحان وهي واثقة جدا من النتيجة السارة

قال لها أبوها:

- الثقة بالنفس عنوان النجاح ومن أهم العوامل لتحقيق ما نطمح اليه

في ساعة الامتحان لا تبالي بنظرات الزميلات المستفهمة، تنكب على الورقة، ما ان يعلن صوت الجرس انتهاء الحصة، حتى تستلم الأستاذة ورقة نجوى، تصححها قبل الأوراق الأخرى

بعد الاستراحة، تسمع الطالبات صوت الأستاذة مبشرا:

- مبارك لك يا نجوى، انتصرت اليوم، انك حقا الأولى

***  

صبيحة شبر

كنا نخاف من الموت الذي انطفأت

فيه العيون.. فلم تنظر مدى الدَّهرِ

*

صرنا نتوق؛ بأنْ نلقى على عَجَلٍ

ما كان نخشاه.. بعد الضَّيم و القهرِ

*

إذ لا بقاء على دنيا بها ازدحمت

مهازل الشِّرك و الإلحاد و الكفرِ

*

كنا نخاف على عمرٍ ببهجتهِ

ماذا نخاف.. وذا قوسٌ على الظَّهرِ!؟

*

ماذا نخاف ، وما فيها لتبهرَنا

و كل ما حام لا يحلو إلى طيرِ

*

فالمدّعون بأنَّ الأرض يورثها

مستضعفون.. أرى دالت إلى الغيرِ

*

و المرجفون.. بنو أمسٍ تقاسمَهُ

المعسرون.. همُ نالوا من اليُّسرِ

***

رعد الدخليلي

أروع ما في الحياة

انك تجد امرأة بجوارك

تحبس الحب بين جوانحها

لئلا يصبح ذكرى

تخشى عليك

تدثره من برد الشتاء

وتنعشه بنسمات نيسانية

ايها القلب

كم انت محظوط

ثمة امراة مصقولة من نور

تدور فيه ولا تتعب

تشعرك بأن العالم ضيق كثقب أبرة

وواسع كقلب ام

كل شيء يخون

قد تخونك صحتك

وقد يخونك عقلك

وقد تخونك امراة

مع سيف مشتول في خاصرتك

وقد يخونك الطريق

حين لا طريق

ايتها المرأة

منذ عامين وانا اغط في انتظار

أقلب يدي

فلا احد يطرق بابي

ولا فجر يفض بكارة ليلي

***

د. جاسم الخالدي

عندما يأتيني طيفُك

كطفلٍ خائف ٍ

متخفياً بين الأزقّةِ

يتحاشى حراسَ المدينةِ

متسللاً مع شعاعِ القمرِ

عبرَ زجاجِ نوافذِ ذاكرتي

الممتلئةِ

بجثثِ أشباحِ الماضي

ينعكسُ على مرايا الأمنياتِ

في غرفتي المظلمةِ

كفراشاتِ الفجرِ

وهي تعانقُ قطراتِ النّدى

على زهورِ الشّوقِ

السّكرى بعد سهادٍ طويلٍ

في صباحِ نيسان الحائرِ

المتشبّعِ برائحةِ الزّهورِ

وحبائلِ الشّمسِ

الهاربةِ من زنازينِ الغيومِ

أقوم أتوضأُ بماءِ الحنين

المتدفقِ من كوى الذكرياتِ

والتي تخالجُ أفكارَ العشّاقِ

لأتخلصَ من أوهامِ القلقِ

أتوجهُ إلى محرابِ عينيك

خاشعاً دون تردد ..

أرددُ تراتيلَ الغرامِ

المعتادةِ

وأكررُ نفسَ الأورادِ

التي كانت تتمتمها دقاتُ قلبِك

وهي ترفرفُ

كجناحِ عصفورٍ خائفٍ

عند كلِّ لقاءٍ

تتسارعُ مثلَ حبّاتِ المطرِ

حين تحركها الريحُ

العاتيةُ

بليالي تشرين

في صدورِ المحبّين

لتنتفيَ الجهاتُ

وتتبخرُ الأبعادُ

فتستلمُ لقدرِها المحتومِ

وتمتزجُ بحبّاتِ التّرابِ

ليجرفَها التيارُ الهادرُ

إلى عمقِ بحيرةِ الأحلامِ

الراكدةِ

لايعكرُ صفوَها

إلا نقيقُ الضّفادعِ

الحاقدةِ

فتتلاشى

مثلَ ظلامِ الليلِ

عند انبثاقِ ضوء الفجرِ

وتبقى زهراتُ النّرجس

وحدها تعانقُ الشرفةَ

وتتحدى اليأسَ

فعطرها

الدليلُ الوحيدُ

على مرورِك القصير..!

***

عبدالناصرعليوي العبيدي

الوقت انقضى

وازاهير الحكمة

البيضاء والامل

الاخضر لم تتفتح

وعاصفة الرمل الغبار

والتراب  تضرب

عمق التوق

والارادة والاوزات

المهاجرات

تكافح من اجل

البقاء والعنادل

والهداهد العاشقة

تحتمي بقوس

قزح الصباح

وبالشفق  الازرق

حزينة

وازاهير التالف

تحترق تحترق

فلم يبق قرب

ارخبيل الحب

الا ايايلا

وغزلانا تبحث

عن اقحوانات

الصبر المستحكم

وعن ينابيع

البهجة الخضراء

فالوقت انقضى

انقضى وانا

اعزف على

نايات وقياثر

قلبي الحزين

لحن الصبر

لحن المودة

ولحن المطر .

***

سالم الياس مدالو

أَنا الذي رأيت

رأيتُ كلَّ شيء

لكنني لا أُريدُكِ

أَنْ تُغني لذِكري

ولا لأمجادي الوهمية

يا بلادي المجيدة

لأنني لستُ طاغيةً

مثلَ "جلجامش"

الذي كانَ الملكَ

والنبيَّ والإلهَ

الذي حكمَ الناسَ

والبلادَ بكلِّ ما استطاعَ عليهِ

من قوّةٍ وجبروتٍ وجنونْ

ولكنّهُ في نهايةِ الحلم

وربَّما في نهايةِ الفيلم

وفي خاتمةِ الرحلةِ العجيبة

استغفلتهُ وخدعتهُ

افعى شيطانية جائعة

وسرقتْ منهُ عشبتَهُ

وسرَّ خلودِهِ الحُلمي

والملحمي والوهمي

هكذا أَنا أَرى

هذهِ الاسطورةِ الفاجعةْ

***

سعد جاسم

4-1-2023

كان يَرى

في مَا يرى النائمُ

أنّهُ يَغطِسُ في البحر

يتنفّسُ الماءَ و يُلاعبُ الحيتانَ

*

كان يرى

في ما يرى النائمُ

أنه يَسكُن الشّمسَ

يَصطلي ويُصلّي في قُرصِها

*

كان يرى

في ما يرى النائمُ

أنه يَغرِسُ نخلةً في البَراري

تَحُط عليها الطيورُ المُهاجِرةُ

*

كان يرى

ليتَه كان رأى

التي أحبّها… وتَركتهُ يحلُمُ

***

سُوف عبيد ـ تونس

تخطو عنبر أمام الحاج عبد الغني فيتابعها بتأمل، أناقة ونظافة واهتمام بنفسها،قلب بها خافق، وعينان تحاولان اختراق ما تحت اللباس من غوالي، كل حركة منها تحرك فيه وترا من إحساس، ثم لا يلبث أن يحول عنها البصر إذا ما رأى طيف زوجته مقبلا وهي تتمايل يمنة ويسرة وقد فاضت مؤخرتها وغلبها ثقل الوزن وركبتاها تستغيثان من ألم ..

عنبر خادمة أفريقية سمراء،عمرها يتجاوز العشرين بقليل، ليست غريبة عن الحاج عبد الغني فقد كانت تقيم مع أمها الياقوت خادمة في بيت الحاج المعطي صهره، ثم انتقلت الى بيت الحاج عبد الغني بعد زواجه بللا غيثة .. منذ أن شبت وعنبر تحرك رأس الحاج عبد الغني بالتفات، جاذبية قد، وتناسق ذات،عينان نفاذتان فيهما حور مثير، ولسان يتفوه شهدا، كما أنها بارعة في كل ما تعده من أطعمة وحلويات فاقت بها للا غيثة زوجة الحاج..

تعلق الحاج عبد الغني بعنبر الى درجة الوله، لكنه وجد نفسه محاصرا بسنه وزوجته وابنائه؛ عنبر نفسها تدرك تعلقه بها فصارت تبادله البسمات حيية،حذرة من سيدتها وقد تنبهه بإشارة يد أو غمزة عين متى حاول ان يبدي إعجابه بكلمة غزل قد تنتبه لها الحاجة غيرة على الحاج بحكم سنها مقارنة به ..

تفكيرطويل مستبد عالج فيه الحاج بخياله ومنطق خبرته كل الحروب التي قد تفجرها زوجته ويؤيدها أبناؤه تحيزا لأمهم، لكنه صمم على تلبية صرخات قلبه وفوران الرغبة في جسده بما لا يظلم أحدا ..

أن يجالس زوجته ويخبرها بالحقيقة ويتوسلها إذنا بزواج فهذا ما قد يعقد الامر أكثر، وربما يتحول حب زوجته لعنبر كراهية وفقدان ثقة وقد تقوم بطرد بنت قضت عمرها بينهم ولا تعرف من حياتها غيرهم ..

انتهزالحاج غياب زوجته لزيارة أخيها المريض وجلس الى عنبر ؛ مسك بيديها وهو يهتز، تتملى عيونه تفاصيلها فيصرخ قلبه بين ضلوعه .. هي نفسها تبادله حيية عواطفه ببسمات خجولات

ورأسها بين رجليها مركوز..قال لها:

اسمعيني بعقلك وقلبك وفكري جيدا قبل الرد، لم يخلقك الله لتكوني وريثة شقاء كما كانت أمك لظروف ماعاد يقبل بها عصر، أنت جميلة بل فقت الجمال لمن يعي معنى الجمال وتقاطيعه في ذات أنثى سمراء،تستحق أن يخر رجل عند قدميها، وأنا ذياك الرجل الذي احبك ويريد أن ينصفك ؛ تجمعين كل أغراضك وتستعدين للانتقال الى بيت جديد اقتنيه لك اذا ما رضيت وقبلت أن تزوجيني نفسك حسب الشرع والقانون ..

لم يعد صدرالحاج وحده يهدر بوجيب، فعليه قد مال صدرعنبر، وشقت صرة عيونها على الوجنتين أخاديد .. من عمق أعماقها صعدت آهة لاهبة حارقة هي مزيج فرح ورهاب مما قد يحمله الغد ؛ ترد وهي تصب عينيها في عينيه كأنها تريد ان تهرق فيهما صراحتها وصدقها وأمانيها ..

ـ سيدي وحبيب قلبي،أقولها بكامل الوعي والصدق، لو كنا في زمن غير هذا الزمان لكنت حلالا عليك كملك يمين بلا تخف ولا مكر أو دس أما ونحن قد تحررنا من عبودية الزمان والعقول فلايمكن أن أتحيز لأنانيتي وأخون أنثى من جنسي أنا مدينة لها بنشأتي وكل ما أعرف، وضعت في ثقتها بين زوجها وأبنائها فكيف أسلب منها اعز رفيق لبقية عمرها، أبدا سلوكا لا يمكن أن آتيه ولو على حساب أحساساتي ورغبتي فيك، يشهد الله كم أريدك لكن على حساب للا غيثة وبغير رضاها لن اقبل ..

صمتت قليلا وقد انكتم الحاج مستغربا وفاءها لزوجته، تقيد الكلام في حلقه فأبى الخروج ردا على أقوالها،أخرجته من صمته بانتباه وهي تتابع:

سيدي وحبيب قلبي!! ..لماذا لانكون صرحاء مع عواطفنا وعقولنا ونعلن في النور عن رغبتنا، فنجلس الى الحاجة ونقترح عليها ما تريد أن تنفذه سرا بعيدا عنها، مما قد يثير علينا غضب أبنائك قبل أهلك والفضوليين القوالين من الناس؟

انصدم الحاج لردها وداخله اثر من حيرة وسوء الظن: هل هي صادقة التوجه ام تريد أن تبعده عنها لسنه؟.هل في خاطرها رغبة أخرى تتكتم عليها؟..

رفعت عينيها الى الساعة المعلقة في البهو وهمت واقفة فجرس الباب يعلن عن عودة الحاجة ..

أوت للاغيثة الى غرفة النوم ليلا،تبعها الحاج وعلى السرير حاول أن يكون بها لصيقا،مد رجله فوق رجلها،ثم مسك يدها ولثمها، بسرعة سلت الحاجة يدها من يده بعد ان أبعدت رجلها عنه وقالت:

ـ النوم يطبق على أجفاني تصبح على خير..

كان الحاج ممددا فاستقام في مكانه وقال:

للا غيثة .. اريد أن أحدثك في موضوع لا يقبل التأجيل ..

تململت في مكانها واليه التفتت ثم استقامت وهي تردد:

خير، احفادنا اصابهم شيء؟؟

بسرعة رد: لأحفادنا آباء وأمهات متعهم الله بالصحة والعافية،الأمر يتعلق بنا ..

ـ قل، تكلم، شغلتني ..

تنهد وقد رمى البصر الى صورة لهما يوم زفافه على الجدار، من نظرة تبدو للاغيثة أكبر منه وهو معها شاب فوق العشرين بقليل، يذكر أنها أنثى تأخرت في زواجها فهي أكبر منه بعشر سنوات وابوها من عرضها على عبد الغني كعامل مساعد له يتيم، خبر أمانته فاقترح عليه الزواج من للا غيثة التي تلقفته هي وأمها بترحاب وفرح فاق الحد،وللحقيقة فقد احتل عبد الغني الصدارة لدى صهره الذي أطلق يده في تجارته مذ قبل الزواج بابنته بلا اعتراض ..

القلق الذي ركب للاغيثة من كلام الحاج جعلها تستحثه على الكلام والنطق بما في نفسه بلاتردد:

ـ للاغيثة بصراحة أحب أن أتزوج وأتمنى موافقتك ..

لم تستغرب الحاجة مما قاله زوجها فما كان يحركها من ارهاصات قبلية قد وقع، فالحاج لازال يتأنق في لباسه،لايخرج الى متجره الا بعد حلاقة يومية لدقنه وعطر منه يفوح، وكثيرا ما كانت موقف مقارنة بهمزولمزمن ساكنات نساء الحي ..

ـ ومن سعيدة الحظ التي أخذت بلبك وأنت قد جاوزت الستين ..حقا أني تناسيت الاهتمام بنفسي، وحولني السكري والضغط الى أنثى مترهلة فوضت أمور بيتها الى خادمة ..

يقاطعها:

ـ وتلك الخادمة هي التي أريد للا غيثة "ويبقى خيرنا في بيتنا اذا شئت أو أقتني لها بيتا جديدا إذا كان قربها منك قد يضايقك كضرة "

غضب يصعد لصدر الحاجة وعبرات تخنقها، يأخذها سعال فيبادر الحاج الى جلب كأس ماء من حمام غرفة النوم ..

هدأت الحاجة قليلا ثم قالت: ألم تجد غير عنبر خادمة سوداء تعاقب بها تقدمي في العمر،هذا جزاء خير والدي فيك، كيف تلقى الله؟

بسرعة وضع الحاج راحة يده على فم الحاجة وقال:

ـ حرام عليك من اين أتتك هذه العنصرية العمياء، وهذا المن الجديد عليك،أليست العنبر انسانا؟ 

تداركت الحاجة تسرعها وهفوتها وقالت: لا اقصد تحقيرها أو المن عليك بأفضال غيرك والتي بلغتها بأمانتك وجهدك وانما هي الحريقة التي اوقدتها في صدري أن تكون عنبر لي ضرة، فأنا ادرك أن اللون الأسمر يستهويك وأن جمال عنبر يمد عينيك بمتابعة اليها بانبهار، ولو لم تكن عنبر خادمة لتزوجت من زمان، لكن رجال اليوم لاتثيرهم الا الاطماع لا الحقائق والأصول..

مرة أخرى يمسك الحاج بيد للاغيثة،يقبلها كأنه يتوسلها، متجاوزا عن هفوة لسانها، يتبسم في وجهها:

قولي مارأيك؟ هل أحظى بموافقتك؟

بغضب حانق ترد:

ـ قلت لا، يعني لا، فلا تضغط علي ..

توليه ظهرها كأنها تفضل النوم على حديث أقلقها

يتنهد الحاج محاولا أن ينهي الحديث وفي صوته رنة من غضب:

قضيت عمري ألبي كل رغباتك بلا اعتراض، انت الرأي وأنت المشورة، ويوم تمنيت زيتونة سوداء تعترضين عليها وتقفين ضد رغبتي بعد خمس سنوات من الانفصال الجسدي بيننا ..

أدركت الحاجة ان الحاج مصمم على الزواج فصارت تقلب الأمر بكل الاحتمالات الممكنة، أليست ضرة تحت سلطتها، تعرفها وتخبر أخلاقها، حدقها ومهارتها خير من غيرها قد تلتف على الحاج وتنهب ما بناه بدسائس وهيمنة،

التفتت اليه، شدت يده وقالت:

لا أنكر أنك قد أسعدتني ذات زمن والحر من دان إنصافا كما دين .. أحبك آالحاج نفس حبي يوم تزوجتني، كسرت عنوستي، لكن عندي شرط ..

ـ وأنا تحت أمرك للاغيثة ..

ـ أن تكون عادلا بيننا!! ..

وضع رأسها على صدره،مسح دمعتها من خدها:

ـ للاغيثة!! ..أليس من العدل أني أ شاورك؟.. أنت حبي الأول للاغيثة،وانت من دفعتني لأصير ما صرت اليه اليوم من غنى وما حققناه لأبنائنا...

مهما صار في حياتي من زيجة فأنت عتبة الخير الأولى والتي كرمني بها أبوك حين قبل طلبي يدك ..وفوق هذا أعدك بليلتين لك وليلة لها، فقط أن تكوني راضية باقتناع ..

قالت وقد رفعت رأسها الى وجهه وشبه ضحكة على محياها:

ـ ليس هذا ما أقصد، طلبي ألا تستأثر وحدك بعنبر فليلة معك وليلة معي!! ..ضحكا وقد حركت رغبته بعناق تحاملت على نفسها لتصل معه الى نهاية كادت أن تأتي على عمرها ...

***

محمد الدرقاوي  ـ المغرب

جُنْدِيَّانْ

كانا يَقِفانْ

عِنْدَ حدودٍ تفصِلُ بينهما

ما رَغِبا يوماً أنْ يَقْتَتِلا

كانا يَرَيَانْ

عَنْ بُعْدٍ بَعْضَهُما،

تغزو سَمْعَهُما

أصواتُ أناشيدٍ تدعو للحربِ،

فَيَكْتَئبانْ

الأولُ ينظرُ للثاني

والثاني ينظرُ للأولْ

كلٌّ في داخلهِ يَسْألْ :

هل يُمْكِنُ أنْ يَقْتُلَني هذا؟

**

عَبَرَتْ سنتانْ

بِغُموضٍ، فوقَ جُسورِ الأزمانْ

والجّنْدِيَّانْ

يَرْتَقِبانْ

قالَ الأوّلُ للثاني

إنّا رقمانْ

مِنْ أرقامٍ يتألفُ منها جيشانْ

لا حربَ لدينا الآنْ

ماذا يُمْكِنُنَا أنْ نفعلْ ؟

قالَ الثاني

فَلْنَلْعَبْ شِطْرَنْجْ

قالَ الأوّلْ

دَعْني مِنْ هذا

سأكونُ الخسرانْ

فأنا لا أقدرُ أنْ أَقْتُلَ

أو أنْ أُقْتَلْ

.............

.............

سَكَتَ الصّوتانْ

و بَكى الإثنانْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

الفصل (10) من رواية: غابات الإسمنت

بعد العشاء أقبلتْ الحارسة وطلبت مجموعة منّا، أنا ونجاح، مديحة أيضا كانت معنا وأم نظيم، كنت في حالة انهيار تام بعد إعدام كريمة، وباشرتُ عملي في التدريب على الحلاقة بتشتت مفرط، تخيلت نفسي مكانها أتأرجح على الحبل وتساءلت:

يا ترى ماذا طلبت أن تأكل أو تشرب قبل أن تصعد إلى منصة الموت؟ ماذا قالت؟ بمَ شعرت؟ هل تراخت مثانتها؟

وربّما كنت رأيت فيما ترى النائمة المرهقة المتعبة التي أثقلها التفكير والقلق، أن الهواء حبل ممتدّ من السماء إلى الأرض ليلتقطني أو يطاردني، ثم أرى قطة تتحول إلى حبل أو لأرى كلبا يصبح مشنقة.

لقد ماتت الأحلام السيئة حين سمعتُ الحكم عليّ بثمانية أعوام بديلة عن الموت، ثم عادت إليّ في بضع ليال بعد الحكم على رفيقتي، كأنني أنا التي حُكم عليها لا هي، وحاولتْ نجاح مواساتي فلم تفلح، رغم أن وجودها كان يخفف الكثير عنّي، ومما زادني يأسا وقلقا أن أسبوعا مرّ على حادثة الموت ولم تطلبني السيدة النقيب.

توجهنا إلى غرفة الإدارة، فوجدتها جالسة خلف مكتبها ومعها في الغرفة مفوّض شابّ وسيم طويل القامة، خفق قلبي وتأكدتُ أن شيئا ما يحدث، بدأتْ كلامها بصوت جاد رزين:

ـ اسمعي يا مديحة، بعد أيام ستطلبكِ جهة ما إلى التحقيق، ليس من شأني أن أعرف، المهم أن ننفذ الأوامر... أما أنتِ يا إنعام فسآتي غدًا لأصحبكِ إلى دائرة الشؤون القانونية، لننقلك إلى سجنٍ آخر في مدينة أخرى.

ـ أين سيدتي؟

ـ فيما بعد ستعرفين... كل ما أقوله أن هناك لجنة اجتماعية نفسية في سجن آخر، ستقوم بأخذ عيّنة من السجينات، للتطبيق عليها في دراسات اجتماعية ونفسية تخص الجامعات، المهم، لا يراودكما القلق.

ـ حاضر سيدتي.

تساءلتْ مديحة:

ـ هل أحضّر نفسي؟

ـ ليس الآن... لكن ليس ببعيد.

ـ نعم سيدتي.

ـ والآن سأغادر، مَنْ منكنّ ترغب في أن تقضي الليلة مع الحارسة؟ والتفتتْ إلى المفوض: سياستي أن اخفف عن السجينات، فالسجن تأديب وليس انتقاما، كل ليلة تأتي سجينة لتبقى مع الحارسة وترتاح.

ـ فكرة ممتازة سيدتي.

انبرت أم نظيم قائلة:

ـ أنا أرغب... لكنْ؛ سيدتي معظم الليل تقضيه أحدانا هنا تتلهى في مشاهدة التلفزيون أو شرب الشاي وخدمة الضابطة الخفير، وفي النهار يقع عليها عمل، إما غسل الملابس أو الدورة التدريبية فلا ترتاح.

ـ حسنا، من الآن أصدر أوامري، أن التي تأتي لتساعد الحارسة ترتاح اليوم التالي.

نهضتْ ونهض المفوّض يؤدي لها التحية، وسرعان ما خرجنا وبقيت أم نظيم في غرفة المطبخ، وفي الصباح عند الساعة السابعة جاءت إليّ... كنت أحلم طول الليلة بلقائها، أصبحتُ لا أستغني عنها، تقلّبت كثيرًا في الفراش، الشيء الذي ارتحت له أن الكوابيس التي داهمت نومي بعد إعدام كريمة كانت قد غادرتني، سأقضي نصف المدة هنا بفضلها، وأخرج بين حين وآخر لأقضي الليل في شقتها، أشعر أني معها إنسان كامل، أملك كل حقوقي، تراني أكثر من أنثى، رجل وامرأة أغنيها عن العالم، وبدأت أراها كذلك.

أقتنع تماما: إني لا اشعر بالذنب.

الحياة فكرة زيتها النفس... هذا ما توصلتُ إليه بعد حفنة الأزمات التي تعرضتُ لها، فقررتُ أن تكون فكرتي كما أشاء لأعيش كما أريد.

وضعتْ القيد في يدي وجعلتني خلفها، ثمّ قادت السيارة.

ـ المفوّض المتدرب "ناجح العابد"؛ أمه وأمي بنات خالة... سيبقى معنا أسبوعًا.

سالت دمعة من عيني، ولمحتني باستغراب.

تبكين؟

بقيتُ صامتة، واسترسلتْ:

حبيبتي والله عندي شغل، ثمّ إنني لا أستطيع أن أصحبك معي كل ليلة، أو بين ليلة وأخرى، كل ما يذهب إليه تفكير الحارسة أنك تأتين معي لتخدمينني وتنظّفي الشقّة؛ ولكي لا تشكّ أيّة من السجينات، فإنّي جعلت مديحة تبيت عندي بحجّة تنظيف الشقّة، صدّقيني يصعب علي ذلك؛ لكنّ هذا أفضل.

كانت دموعي تفيض، فأوقفتْ السيارة، وفكّت قيدي، لبستُ الجلابية العريضة فوق ملابس السجن، وقالت: هيا اجلسي جنبي.

بقيت صامتة وتحدثتْ وهي تمدّ يدها إلى يدي فتعصرها بحنان:

ـ ها سعيدة؟

وعندما وصلنا شقتها، وحالما دخلت اندفعتُ نحوها، ضربتُ صدرها بيديّ المضمومتين ضربات خفيفة، وانهرتُ بالبكاء وأنا أقول: لماذا لم تفعلي المستحيل لإنقاذ كريمة؟

كأنّي بتلك الضربات أتحرر من كل الكوابيس المقيتة، وأحس أن يديّ اللتين لبستا القيد هما حرتان به أو من دونه، فلا أهوي بقبضتي عليها بعنف.

كنت أضرب نفسي بقبضتي.

أحس أني أضرب صدري.

تركتني وأشاحت بوجهها عني، ثم قالت بنغمة فيها حيرة:

والله عملت المستحيل، ذهبت إلى أكثر من مسؤول أمني رفيع، فعرفت أن قضيتها يائسة مائة بالمائة، امرأة قتلت زوجها مدّعية أن زوجها الأول حرّضه على الانتقام منها بالنشوز، ليست كقضيتكِ، وجدتِ زوجك مع عشيقته عاريين.

في قضية كريمة اعتبارات قانونية وعشائرية، الدولة نفسها لا تتحكم بها، ألم تري أني لم أخرجها بحجة المرض أو التحقيق لتبيت مع مسؤول له سلطة على القضاء، لقد هان عليّ أن تقضي ليلة مع رجل من دون مقابل وهو حياتها.

واستدارت إلي وهي تلهث كأنها جاءت تهرول من مسافة بعيدة، فاندفعت نحوها أدفن رأسي بصدرها وهمست:

- أعشقكِ

أخذت يديّ بيديها، ورفعتهما إلى فمها تقبلهما وتقول:

ـ أنا أكبر إخلاصك وها أنا أقبّل هاتين اليدين، كانتا تهبطان على صدري مثل جناحي ملاك، لقد أحسست أنك لا تفعلين ذلك بعنف، قلبكِ لا يطاوعك!

ولم أكن أتوقع أن تحملني بكل رشاقة وخفّة كما لو كنت ريشة في يديها، على الرغم من أني لم أكن خفيفة الوزن، ................................

بدأتُ أغيب معها في عالم شفّاف.

لا ألم ولا خوف.

لذة فقط.

وهالة من الجمال والنعمة والدفء.

هالة شفّافة.

...........................................

نهضتْ من على السرير، زرّرتْ قميصها، طبعت على شفتي قُبلة وهي تقول:

ـ مجنونتان ... هذا أفضل .

ـ أحبكِ أعشقكِ.

وواصلت حديثها:

ـ سأغادر الى المركز ساعة أو ساعتين وأعود، استحمّي لكي آخذك إلى الكوافير، استحمي وأعدّي لكِ طعام الفطور، وسأجلب طعام الغداء من المطعم.

ـ بل ستأكلين من يدي.

ـ لا ليس اليوم، لأنني أريدكِ بعد الحمّام والفطور، أن تجلسي على مكتبي وتكتبي تقريرًا مفصلًا عن حياتكِ في السجن.

ـ حاضر يا عمري.

ـ اعتبري نفسكِ منذ اليوم تعملين في دائرة مهمّة ولكِ راتب.

ـ حقًا؟

ـ خذيها منّي، بالمناسبة... هل أخبرتكِ مديحة أن زوجها سياسي وأنهم وجدوا في بيتها مخدرات؟

ترددتُ ثم قلتُ نعم، هذه أمور عامة يمكن أن تكون حكتها للجميع.

ـ كل شيء ينفع.

ونظرتُ إليها نظرة ذات معنى وقلت:

ـ اسمعي حبيبتي ابتسام ... أرجوك، أنت تعرفين أن خيانة زوجي دمّرتني ... دفعتني إلى أن أقتل اثنين، أرجوكِ.

وقاطعتني بنرفزة:

ـ محال أن أخونك، أنت لستِ ظاهرة عابرة في حياتي، محال ... لا تفكّري بذلك، أقسم لك، كل ما فعلته كان لدرء التقوّلات ... لقد اطمأن قلبي إلى مديحة أكثر حين لم تخبرك ، سيدة أمن يوثق بها .

اندفعت قائلة:

ـ أين نامت؟

ـ في الصالة، لم أرد أن أجعلها ترقد في المطبخ، وفعلته مع سجينة أخرى رفيقتك؛ الحلاقة الساذجة، نظفت الشقة في الصباح، وكانت قد فرشت لها في المطبخ، وأخبرت بعض نزيلات السجن ممن تختصهن بصداقتها عن كرمي، ألم تخبرك؟

ـ بلى، وقد مدحتك كثيرا!

ـ إنها لا تصلح للعمل مخبرة، أرأيت؟ كل هذا من أجلك أنت، أفعل المحال، أحبك، أنا أعبدكِ.

ـ حبيبتي.

ـ احضرتُ لك بدلة ستلبسينها لتخرجي معي؛ لكن لا تفتحي الباب لأي أحد.

سأغلقه بجهاز الأمان، وأية لمسة من الداخل سيؤشّر عندي، وابتسمت وأكملت: أما إذا أردتِ الهرب فأنتِ وضميركِ.

ـ أين أذهب؟  أنتِ لي كل شيء، وواصلتُ بحنو، ألم أقل لك يوم أخبرتني عن وفاة أمك أنني سأكون لك كل شيء؟

ـ أنا وأنتِ كلانا يكمل الآخر.

خطفتْ قُبلة سريعة ثمّ عدّلت هندامها، وضعتْ عصا التبختر تحت أبطها وغادرتْ، وما زلتُ على السرير أحدق بسقف الغرفة الأبيض الزاهي.

ولا أعرف لماذا شعرت أن عمري أكبر بكثير مما عليه، نضجتُ وكبرتُ بحجم أوجاعي اليومية، وكل يوم وجعه يعادل عامًا كاملًا، سوى أني لا أريد بعد اليوم أن آسف على شيء فاتني قط.

***

ذكرى لعيبي

آه لو بإمكاني أن أعلق شريط ذاكرتي المكتضة بالوهن والخدوش فوق غصن شجرة وأبقى بعدها صافية الذهن بلا ذاكرة رمادية...

أرغب أن أستفيق من أحلامي الوهمية كما أستفيق من شراشف الآسرة الصباحية، وأن أمد يدي إلى تلك الستائر الحاجبة بيني وبين اليقظة...

أرغب دائماً أن أدحرج شظايا ذاك الشعور الذي يصعب وصفه والمتعب، وأن أقذف به إلى أعماق سحيقة...

لا أعلم من منا يتحايل على الآخر أنا أم الوجع الذي يدس نفسه تحت جلودنا ويقتات من رحيق حياتنا...

أصبحت أشعر بالإنقباضات التي تداهم سكوني عند كل نقره وجع، لو كان بإمكاني أن أحجب تلك الأفكار السوداوية التي تتركني منهكة القوى لا أستطيع مقارعة حرف...

أرغب في أن أتقوقع على ذاتي وأن أوقف منبهات الوقت الهارب مني، أو أرغب في أن أفترش حقلاً بعيداً عن ضجيج الحياة وأجلس على مقربة جدول ماء بلا رنين هاتف أو صرير قلم.. 

آه لو كان بإمكاني أن أجر نفسي من نفسي، أو أن أكتب سطوراً لا نهاية لها عن تلك المعتركات الحياتية التي تصيبنا بالضجر والخمول. لم أكن لأكون قفلاً موصداً على نفسي حتى أبقي ذاتي بعيداً عن الأنظار لولا إنني كنت خارطة صماء تجوب الأرض حافية الكلمات.

إنني أسعى لأن أفتح نافذة الحديث المقفلة منذ زمن، أو أن أخط بقلمي على طول سكة الورق لعلني أتعايش مع كل هذه التناقضات التي تصطدم ببعضها البعض وتجعلنا ندور حولها..

***

مريم الشكيلية / سلطنة عُمان...

يسألُ جُرحي المفتوحْ

هل كذبةُ نيسانٍ أنتْ

لا تنزاحُ إذا الوقتُ أفَلْ

يتَعالىٰ فيكَ نعيقُ الموتْ

يعرجُ فيكَ الصدقْ

يمشي مذلولاً

ويُهان

مَن تأبىٰ شفَتاهُ الصَمتْ

مافيكَ صدوقٌ غيرُ النَخل

ياوطناً كرِهَ النخلَ فماتْ

ماتَ النخلُ ومُتْ

يا أنْتْ

من يُحييكْ

إنْ تقتلَ في حضنكّ عُبّادَ العِشق

وتُقدّسَ مأبوناً مرفوعَ الذُلّ

**

وطني النَخلْ

إن ذهبَ النَخلُ ذهَبْت

أمّي ..

ولَدتني تحتَ جَناح السَعفْ

حضنُ النخلةِ بيتُ صباي

وهناكَ نَهضتْ ..

وعشقت..

وثملت ..

وعلى كرَبِ النخلِ قرأتُ مَسيرةَ جدّي

وضفافُ النهر..

نهرُكَ يابابَ سليمان

حفظَتْ آثارَ خطاي

**

من كان هواهُ النخلةَ والنَهرْ

وحكاياتِ الماءْ

سيَراها في الغَيبْ

يا للعُمرْ

ركَضَت منه السبعونَ وما زلتْ

أسدلُ في الغَصّةِ جَفني

فأشاهدُ تلكَ التُرعةَ والدَلوْ

ورعاشَ الظِلّ إذا السَعفُ تثنّىٰ

أصغي

أسمعُ تسبيحَ بلابلنا

ونداءَ (البلّامِ) وقد حظَرَ التَمر1

ما أقسىٰ الذكرى

لمّا تبكي الذكرىٰ قبلكَ ياقلبْ

**

عادل الحنظل

..................

1 - في أبي الخصيب، لما كان فينسيا البصرة، اعتاد أصحاب الزوارق الخشبية (البلّامة) أن يأتو بزوارقهم (أبلامهم) محملة بالتمر في صناديق خشبية ليفرقوها عبر الأنهار الصغيرة الى العوائل حيث تقوم النساء بإزالة أنوية التمور بما يسمى (التفشيق)، بأجر زهيد، وبعد وقت معلوم يعود البلّامة لجمع صناديق التمر وايصالها الى المكابس حيث يجري تعليبها وتصديرها الى خارج البلاد.

يَـامَنْ مَـلَكْتَ القَلبَ كُنْ لِي مُنْصِفا

أَمَّـلْـتَـنِـي وُدّاً ووُدُّكَ مــــا صَــفَــى

**

أظْـهَرْتَ شَـوقاً فـي العيون فَلَيتَنِي

أَدْرِيْ بِـمَا ضَـمَرَ الـفُؤادُ ومَـا خَـفَى

**

قُــمْ أَوفِ عَـهْداً أَنـتَ كُـنتَ قَـطَعْتَهُ

قـدْ ذُبْـتُ فِـيكَ ومـا رَأيـتُ بِـكَ الـوَفَا

**

إنْ كَـــانَ وَصْــلُـكَ لِـلْـحَبِيبِ جِـنَـايةً

أسْـرِفْ بِـذَنْبِكَ عَـنْ ذُنُـوبِكَ قَـدْ عَفَا

**

قَـرِحَـتْ جُـفُـونِي مِـنْ سُـهَادٍ دَائِـمٍ

أَنَـا مُـذْ رَأَيـتُكَ جَـفْنُ عَـينِي مَا غَفا

**

أدْمَـنْـتُ وَصْـلَـكَ لا شِـفَـاءَ لِـحَالتي

إلاَّ وِصَــالُــكَ قـــدْ يَــكُـونُ مُـخَـفِّـفا

**

قـدْ بَـاتَ طـيفُكَ فـي خَيالي سَاكِناً

فــي الـلَيلِ يَـأتي كـالمَلاكِ مُـرَفْرِفا

**

لا الـطّيفُ أنْـسَانِي عَـذَابَ صَبَابَتِي

ولَـهِيبُ وَجْدِي في فُؤَادِي مَا انْطفا

**

فَـتَـثُورُ أشْـواقـي وتَـحْرِقُ مُـهْجَتي

والـقَلبُ مِـنْ رُؤْيَـا خَـيالِكَ مَا اكْتَفى

**

آهٍ مِـن الأشْـواقِ فـي لـيلِ الـمُنى

قَــدْ زَادَت الـشّـوقَ الـمُـقِيمِ تَـطَرُّفا

**

يـا سَـاكِناً فـي الـرّوحِ عِشْقُكَ ثَابِتٌ

في القلبِ لمْ يَبْرَحْ و مَا عَنهُ انْتَفَى

**

إنْ كُـنْـتَ تـضمر فـي الـفؤاد مـودةً

خَـفِّـفْ عــذابَ الــروحِ عَـنّا و الـجَفَا

**

فـالـرّوحُ تَـهـذِي فـي غَـرَامِكَ دَائِـماً

والـقـلبُ يـنـبضُ فــي هـواكَ تـلهُّفا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

أعوادُ ثُقاب...

ومُروجٌ من كبرِيت

وأعمدة دخان

تولد كل حينٍ ...

لم تعد الأرض تصلح

للحراثة...

فالزُرّاع اِمتهنوا

إشعال الحرائق

في القلوب والأحداق

على الخارطة

تتغير المعالم

الشرار المتطاير...

يتسع مداه

فالشر أستباح

غزة

والشيطان الواعظ يمكر

في الخرطوم

وعلى دمشق خيم الحزن

أما زلنا ننتظر

أن يحل الوئام......

وربوع بغداد

وطرابلس

في سلام اللا سلام ..

***

كامل فرحان حسوني

مُهْدَاةٌ إِلَى الشاعرة الفلسطينية:

ختام حمودة

***

يَا رَبِّ عَفْوَكَ يَا ذَا الْفَضْلِ وَالْمِنَنِ

أَنْتَ الْفَضِيلُ الَّذِي يُعْطِي بِلَا ثَمَنِ

*

أَلُوذُ بِالْجَاهِ وَالسُّلْطَانِ يَا سَنَدِي

فَاقْبَلْ تَبَتُّلَ صَبٍّ غَيْرِ مُرْتَهَنِ

*

لَكُمْ إِلَهِي أَبُثُّ الْحَمْدَ فِي وَلَهٍ

وَأَعْصِرُ الرُّوحَ فِي شَمَّاعَةِ الْكَفَنِ

*

قَارَبْتُ أُقْضَى وَذَنْبِي فَاقَ تَجْرِبَتِي

فَاغْفِرْ لِيَ اللَّهُ مَا قَدَّمْتُ مِنْ دَرَنِ

*

أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلٍ بِلَا عَمَلٍ

أَنْتَ الْمُجِيرُ فَلَا إِلَّاكَ يَضْمَنُنِي

*

لَا حَوْلَ إِلَّا بِكَ اللَّهُمَّ يَا أَمَلِي

يَا خَيْرَ مَنْ سَيَّرَ الْأَمْوَاجَ فِي الْمِحَنِ

*

أَنْتَ الْقَوِيُّ الَّذِي قَلْبِي يُسَبِّحُهُ

عِنْدَ الصَّبَاحِ وَفِي قَلْبِي وَفِي أُذُنِي

*

وَفِي الْمَسَاءِ مَعَ الْأَذْكَارِ مَسْأَلَتِي

اُسْتُرْ إِلَهِي وَنَجِّ الصَّبَّ فِي وَطَنِي

*

يَا مَنْ بِهِ لَاذَتِ الْأَفْلَاكُ مِنْ أَمَمٍ

وَمَنْ لَهُ سَبَّحَتْ شَامِي مَعَ الْيَمَنِ

*

وَمَنْ تَعَالَى عَلَى الْإِشْرَاكِ يَأْخُذُنَا

إِلَى الْمَتَاهَاتِ فِي تَسْبِيلَةِ الْوَسَنِ

*

اِعْطِفْ عَلَيَّ بِحَاجَاتٍ أُؤَمِّلُهَا

وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي مَعَ الشَّجَنِ

*

تَرَحَّمِ اللَّهُ عَنِّي فِي مُخَيِّلَتِي

وَامْسَحْ ذُنُوبَ وَلِيٍّ عَاشَ فِي سَكَنِ

*

أَنْتَ الْخَبِيرُ بِمَا اسْتَأْثَرْتَ مِنْ حُجُبٍ

فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنْ أُسْطُورَةِ الزَّمَنِ

*

يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا

وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ الصَّادِقِ الْفَطِنِ

*

وَصَلِّ رَبِّ بِمَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمٍ

عَلَى الْخَلَائِقِ فِي يَافَا وَفِي عَدَنِ

*

يَا مَنْ أَلُوذُ  بِهِ إِنْ حَاقَ بِي أَلَمٌ

أَوْ مَسَّنِي الضُّرُّ كَالْأَوَّابِ لَمْ يَهُنِ

*

نَادَاكَ فَاكْشِفْ إِلَهِي الضُّرَّ فِي عَجَلٍ

وَامْنُنْ إِلَهِي بِمَحْوِ الْكَرْبِ وَالْحَزَنِ

*

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ خِزْيٍ ومِنْ نَدَمٍ

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَيْطَانَ يَسْكُنُنِي

*

يَا رَبِّ أَحْسِنْ خِتَامَ الصَّبِّ مُرْتَجِعاً

عَنِ الذُّنُوبِ وَعَفْوُ اللَّهِ يَغْمُرُنِي

***

شعر: أ. د. محسن عبد المعطي

ميمعة، معمعة، معمعان، ساحة وغى، معركة، كلها مسمّيات لمعنى واحد، هو الحرب بواحد من مفاهيمها. نعم الحرب. هذا ما أحسسنا به نحن أبناء العائلة الفلسطينية من أصل مهجّر، طوال الوقت. وكما تعرفون فإن الحرب تضع أوزارها، ما هذه الكلمة الفصيحة. تضع أوزارها. هه. غير أن أحدًا منّا لا يعرف مَن هو الغالب من المغلوب. كلّنا غالبون وكلنا مغلوبون، وإن كنّا تهرّبنا مِن مثل هذا الاعتراف حتى لا يشمت أحدنا بالآخر. ولماذا نسلّم بالغُلب؟ وكيف ستستمر الحياة إذا ما اعترفنا بأننا انهزمنا، فأدرك هذا مَن قُبالتنا، ولتكن زوجتي، فاستدعى عازفي الطبول والزمور للاحتفال بمناسبة هزيمتنا السعيدة. تهرّبنا كلُّنا من هذا الاعتراف إلا حضرتي، فقد اعترفت بالغُلب، ولم أتوان في رفع الراية البيضاء والخروج بها من بيتي، كي يستقبلني الفضاء الرحب مُرحّبًا بي وبهزيمتي.

هكذا كانت البداية يا ولدي، أما ما تلاها فإنك لا تعرفه، هذه حكاية طويلة أعتقد أنها تحتاج إلى وقت لا يقلُّ طولًا عن طولها. إذا أردت سأبدأ في روايتها. تهزُّ رأسك مستغربًا يا ولدي.. ماذا تعني؟ تريدني أن افهم أنك لا تُريد أن تسمع حكاية مطوّلة؟ طيّب سأنزل عند رغبتك. أنا باختصار أتيت بعد سنوات الغياب الطوال لأكون بينكم، صحيح أنكم، أمك خاصة، قسوتم عليّ، إلا أنني أريد أن أعود إليكم، أريد أن أشعر بوجودي بينكم. أن أرى إلى أختيك، مؤكد أن الصغيرة شبيهة هيفاء وهبي، كبُرت وتوجّهت نحوها الأنظار على الطالع والنازل، أما تلك الأكبر منها قليلّا، هندية الوجه، القدّ والمبسم، فأعتقد أن جمالها تسبّب لك ببعض وجع الراس. صدّقني يا ولدي إنني اشتقت إلى كلّ شيء، حتى أمك ومعاركها أضحت ذكراها هناك في قبري، مصدرًا للحكايات، أروّح بها عن نفوس جيراني، لقد أصبحت مشهورًا بحكاياتي عنها فرويتها إلى جيران جيراني، وهؤلاء يريدون منّي أن أرويها لجيرانهم. لقد أصبحت مشهورًا بين الموتى. أصبحت معروفًا في مجالسهم، فما أن يُذكر اسمي بينهم حتى ترتسم الابتسامات على الوجوه، كأنما هي تريد أن تقول هذا الرجل يعرف كيف يروي حكاية تُبهج مَن يستمع إليها رُغم ما توحي به من معاني الألم. أمك يا ولدي.. ما الذي أراه على وجهك أإلى هذا الحدّ بات كلامي مملًّا، طيّب طيّب يا ولدي، جيراني الموتى سمحوا لي بالعودة إلى البيت مكافأة منهم لما أسمعتهم من حكايات.

هذا ما تُريد أن تسمعه؟ تريد أن نصل إلى الكلمة الأخيرة لترتاح؟ ما أصعب هذا، ما أصعبه يا ولدي، أن يصبح الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان. طيّب طيّب، لا أريدك أن تتحدّث عن المصاعب، فأنا ألفتُها وأعرفها وعلى استعداد للتعامل معها، الطريق التي قطعتها رافعًا راية الاستسلام من بيتي إلى فضائي الأخير، وعيشي هناك سنواتٍ، قوّتني جعلت مني صنديدًا ولا عنترة العبسي في أيامه المشهودة. هيّا يا ولدي.. هيا.. أنا أريد أن أعود إلى البيت، اشتقت إلى أكلات مقصوفة العمر أمك، اشتقت لأكلة الّلوف، ولأكلتي الفُقع والعكّوب كمان. أمك أتقنت هذه الأكلة عملًا بوصية من جدّتك، حينما قالت لها قبل موتها بسنوات، اطبخي له العكّوب هو يحب العكّوب. إذا أردتِ أن يحلّ عن ظهرك أطبخي له هذه الأكلة. فعلًا اشتقت لهلملعونة، اشتقت لصيحاتها وصرخاتها وهي تجلجل في أجواء البيت والحارة.. اشتقت لتكسيرها لمزهريات الوردّ، ورميها هديتي إليها في عيد ميلادها، من شباك بيتنا، وهي توجّه إلي الشتيمة تلو الشتيمة، يخرب شرّها.. شو كانت خفيفة دم، مفهمتش هذا كله إلا لمّا غادرت البيت.

إلى أين أنت ذاهب يا ولدي. هُنا في الحيّ الشرّقي بيتنا، تأخذني إلى الحي الغربي؟ هل انتقلتم للإقامة هناك بعد خروجي من البيت؟ والله بطلعلكم يا عمّ، وشو همّ، أمك استفادت كثير من الغرب، والله بطلعلها إنها تقيم في الحي الغربي. الغرب خلّى حكومتنا تسن قانون حماية المرأة. من يوم ما شرحت هذا القانون، ومن يوم قلت لامك إنه هذا القانون بمكّن المرأة من إنها تطرد زوجها من بيته/ها، انقلبت حياتنا إلى جحيم، أمك بطّلت تطبخ العكّوب وبطلت بدها رضاي، ولا رضا أمي في قبرها، صارت كلّ ما دقّ كوزها بجرتي، تدخل عليّ في غرفتي، تنفش شعرها مثل الغولة، وتركض دوز دُغري للبوليس، البوليس كان مرّات يصدقها، ومرّات يكذّبها، بسّ لما شاف إنها أكثرت من التردد عليه، ومفيش على جسمها ولا علامة تبـّين إني ضربتها زي ما ادعت، بطّل يردّ عليها. والله مصيبة. بعدين اكتشفت أمك طريق المحكمة، في المحكمة قلت قدام الحاكم أنا ببعد نفسي عن البيت، ابتسمت أمك، وراحت تعلك لبان وتقول أنا بديش أعيش مع هذا الراجل، ساعتها رفعت الراية البيضا ولم يعد أمامي مفرّ من المضي بعيدًا بعيدًا.

هون بيتنا؟ بتقول هون بيتنا؟ في الحي الغربي، أدخل، إحنا في الطابق الثالث، أمك تغربنت يا ولدي، والله تغربنت، يعني صارت غربيّة، بَعـّدت عن شرقيتنا، باعت البيت اللي دفعت فيه دم قلبي وسهر ليالي، باعته عشان تشتري هذا البيت في الطابق الثالث؟ وين رُحت يا ولدي؟ وين وقفّتني في هاي المتاهة، ورحت. بتفكر إني بقدر أتسلق كل هذا الدرج الأحمر المتداخل. انت بتقدر تتسلّق هذا الدرج، أنا بعرف هذا وأختك، هيفاء وهبي وهديك هندية الوجه، كمان بتقدر إنها تتسلّق هذا الدرج، بتفكر إني أنا بقدر؟ أحاول؟ طيّب بحاول وشو عليّ، يللا يا هو.. يا معين. ولك يا ولدي الدرج بهتزّ من تحت رجلي، معقول أنا صرت ختيار إلى هذا الحدّ؟ معقول إنها إجري هي اللي بتهتز؟ مش الدرج يعني؟ طمّنتني، الله يطمّن بالك، يعني أنا بقدر أواصل تسلُّق درج إمك. يللا يللا، عليه الاتكال، أخ.. زلت قدمي عن الدرج، إلقاني يا زلمة ولك انت مش ابني؟ والله إني لما كنت أشوفك تقع على الأرض كان قلبي يسقط بين اجري، ومكنش يعود لمحله إلا بعد ما أطمن على إنها الوقعة سليمة، أما أنت مش مستعد إنك تبقى معي تني أصل إلى الطابق الثالث، طابق امك؟ يللا هه، أنا اتعلقت بأيد الدرج، تعلقت فيها، ونفذت بجلدي، إذا كان الموضوع إني أنفذ بجلدي إنت بتعرفش بعدك إرادة أبوك وقوته. يللا هه، هياني استعدت توازني، وهاي أنا بحط اجري على الدرجة من جديد، وهاي أنا بطلع بطلع.. بطلع. بس لوينته بدي أطلع؟ شو يعني هذا الدرج بنتهيش؟ والا أمك عرفت إنه البعبع رجع، فاستنجدت بالغرب وقوانينه كي تعيده إلى حيث أتي؟ لا.. لا ..يا ولدي، عندي إحساس إنها أمك تغيرت، الحجر هو اللي بتغيرش، أما أمك هي كومة من المشاعر ..أنا بعرفها، ومين مثلي بعرفها. امك مهجّرة زي حالاتنا. ضحك عليها الغرب بقوانينه، اللي اتبعها اليهود، بس أنا واثق من إنها ريحة أراضي قريتنا سيرين رايحة تردّها لأصالتها، للوفها، فُقعها وعكوبها. أنا واثق يا ولدي. عشان هيك أنا مـُصـّر على العودة إليها والى البيت. أنا واثق من إنها الحياة أقوي من الموت، انت بتعرف إني أنا عرفت هدول الاثنين، واني غلبـّت في النهاية الحياة لأنها أقوى. أخ إجري زلّت مرة أخرى عن الدرجة الحمرا. ولك يا زلمة خذ بيدي، وين رحت. اخخخخ، هاي أنا قدرت إني استعيد توازني، هاي أنا عدت شيخ الشباب. إطلـّع؟ أنا لازم أظل طالع لفوق تني أصل لامك ست الجمال والدلال؟ طيّب يا أخي، اللي يحب الجمال يسمح بروحه وماله. زي ما قال عبد الوهاب، وشو بتفكر إنه عبد الوهاب أشجع من أبوك؟ لا يا ولدي أبوك زلمة قوي، كانت دايمًا أحلامه كبيرة، أبوك لما بقرِّر إنه يصل، بوصل مهما طال الطريق، بعدين تنساش إنه أبوك سار في أصعب طريق في العالم، طريق حكاية القصص، وأبوك قدر انه يخلـّي الأموات قبل الأحياء يهزّو روسهم إعجابا بقصصه. أبوك قدها وقدود، وبقدر يصل.

أطلع كمان درجة؟ كمان درجه وبصل؟ فعلًا أنا وصلت، أنا وصلت لشباك المطبخ، الشباك مفتوح، أنا بقدر أدخل منه، أدخل، آه بدي أدخل، مَنا جاي لهذا الهدف، مين هاي؟ هاي أمك؟ معقول بعدها واقفة في المطبخ من يوم ما تركتها قبل سنوات يخرب شرها بعدها زي ما هي، رابطة منديلها على جبينها ” أبو عقيلة” يعني زي العقال، وماسكة السكين وبتقطع. يخرب شرك يا مَرة شو قطعت بحياتك، اسأليني أنا، أنا أكثر واحد في العالم عانى من تقطيعك. أمك مش شايفيتني بعدها مشغولة بالتقطيع، أخ أخ. زلّت إجري مرة تانية عن الدرجة أنا إسه معلّق بالهوا، الوقعة من الطابق الثالث في بيت في الحي الغربي ممكن إنها ترجعني إلى فضائي السابق، أمك تسمع صوتي، أشعر في عينيها كلامًا، هي لا تريد أن تراني، لا الغربة ولا البعد ولا حتى الموت، مكـّنها من إنها تغفر لي، ولك شو عملتلك يا بنت الحلال إحنا العرب بنستقبل عدونا وقاتل ابنا لما يفوت على بيتنا، إنت مش عربية؟ بدكيش تشوفيني؟ طيب يا ست الحسن والدلال هذا من حقك زي ما قالت القاضية اليهودية، أنا بعرف انه مَحدا بقدر يجبر حدا انه يعيش معه. بعرف هذا كله. بس أنا كنت بفكر انه البُعد عِمل عمله وانك تغيرت. بعرف بعرف انه من الصعب على الإنسان انه يتغير. طيب يا عمي أنا تغيرت، انت بتفكري إني أنا بعدت عنك قبل المميعة، لأني كنت حابب إني أبعد؟ ولأنها كانت في امرأة أخرى في حياتي؟ ولك لا مكنش الأمر هيك، إنت بتعرفي إني ابن مهجرين، حاولت كلّ الوقت إني اخلّي هيفاء وهبي ترقص في بيتنا، وهديك الهندية تغنيلك أغاني هندية حبيتيها وإنت تحضري الأفلام الحزينة المليانة بقصص الحب، تعبت وشقيت. يمكن أنا غلطت في إني وثقت بأنك إنت قوية وبتختلفيش عني، يمكن أنا بالغت بإحساسي انك قوية وقلت لنفسي انك زيي، يمكن أنا غلطت. بس أنا دفعت الثمن لليهود وللغرب اللي أجو منه. شو بدك اعمل أكثر؟ أنا اسه راجع زيارة، زيارة قصيرة، بعدها رايح ارجع إلى فضائي اللامتناهي هناك، فضاء الموتى والحكايات. بدكيش أفوت على البيت؟ معقول هيك بتستقبليني، بعدك بتفكري إنها كانت في مرة تانية في حياتي؟ ولك مفيش لا مرة ولا بلّوط، اللي فكرتيها مرة، كانت الحلم في إني اريحك وأريح أولادك، كانت الركض في صحاري الحكايات عشان امسك حكاية ترفعنا كلنا لفوق، المرة اللي فكرت في إني على علاقة معها كانت الكاتب في داخلي الكاتب إلي امتلأ راسه بالحكايات فاراد أن يبهر فيها الجميع. أنا كنت اركض وراء حكاية شارة مش ورا امرأة أخرى. يمكن كانت المرة الوحيدة المتربعة على سدة الحكاية الشاردة هي انت يا مجنونه. مش مصدّقة؟ بتلوّحي بالسكين في وجهي، بدكيش تستقبليني بعد كل هاي السنين؟ بدك تخليني أقع هاي المرّة من شرفة المطبخ؟ بدك أعود إلى عالمي الآخر؟ إلى هذا الحد وصل حقدك عليّ؟ طيّب طيّب. اليهود علّموك انه من حقك انك تحقدي على الرجل اللي كان زوجك وأبو أولادك، قالولك انه هذا من حقك. أي ي ي أنا بدي اسقط من الطابق الثالث، أنا بدي أسقط، انت قرّرت انك متوخذيش بأيدي عشان ارجع من حيث أتيت؟ هذا هو قرارك الأخير؟ أنا عارف إني رايح أسقط، عارف، عارف إني مش رايح اشوف لا بنتي شبيهة هيفاء وهبي ولا هديك أم الوجه الأسمر الهندي، مش رايح اشوف حدا. حتى ابني الشاب اللي أرشدني لطريق البيت الجديد في الحي الغربي وأدراجه الحمر، مش رايح اشوف حدا.. وين أنت يا ولدي؟

***

قصة: ناجي ظاهر

قال انها اصيبت بالجنون بعد ان انفصل عنها زوجها الذي ظن انه تورط بزوجة بليدة لا تناسبه. خلعها من حياته كمن يخلع ثوبا قديما وهرب الى جهة مجهولة، اصبحت حياتها أكثر بؤسا وازدادت عزلتها عن الآخرين . يمكن وصفها بأنها كانت ذات بشرة سمراء وجسد نحيل، وعينان غائرتان في محجريهما، تراقبان بهلع كل من يحاول ان يقترب ويخترق جدار وحدتها، أو يفكر بالاقتراب من المنزل الذي تركه لهم والدها، والذي كان يمثل لها الامان والاذن، التي تسمع أنينها الطفولي القابع داخلها وحاجتها الى العطف الابوي . تجمع اخوتها من حولها كالضباع طالبين منها اخلاء المنزل لغرض بيعه وتقاسم الإرث فيما بينهم .

لم تكن تتخيل أنها ستغادره يوما وتفتقد الامان الذي تشعر فيه . اصبحت تهاجم اخوتها حين يقتربون من المنزل كقطة شرسة ويرتفع صوتها بالصراخ والشتيمة بوجههم،هذا كل وما تعول عليه من خلق فضحية تبين فيها قدرتها . وما ان يبتعدوا حتى تطلق ضحكة كبيرة ثم يعود لوجهها الوجوم. 

ساعات النهار كانت تمر عليها طويلة، تقضيها جالسة قرب دكان والدها الكائن في احد الاسواق الشعبية، والذي استعادة صاحبه بعد ان توقفوا عن تسديد بدل الإيجار. تجلس هناك حتى وقت الظهيرة ثم ترجع بعد ان ينتصف النهار ويخلوا السوق من الناس وتوصد الدكاكين ابوابها، فتعود بخطى ثقيلة حاملة ما تجود به النسوة عليها من طعام وملابس قديمة، وبعض المساعدات المادية البسيطة . ترسم خطواتها بذيل جلبابها الأسود، الذي اهترئ وغيرت لونه الاتربة العالقة به الى اللون الرمادي . اصبحت ترى الجميع بعين واحدة هي عين الخوف والحذر، والدفاع عن النفس بالفطرة التي استمدتها من عدم الثقة بالأخرين . لذلك كانت تشعر بان العيون لا تكف عن مراقبتها وكثيرا ما كانت تبكي، وحدها خصوصا بعد اصرار اخوتها اخراجها من المنزل .

بعد مرور وقت ليس بطويل، تغيرت ملامحها مع تورم ملحوظ في عينيها وتدهور كبيرا في صحتها، حتى انها في احد الايام قد اغمي عليها فجأة، بعد أن نهضت من مكانها المعتاد في السوق، هرعت اليها بعض النسوة وقمن بنقلها الى المستشفى حيث أجريت لها الإسعافات اللازمة والتحاليل للتأكد من وضعها الصحي، حيث تبين بانها على وشك الاصابة بعجز كلوي، لان كليتيها لا تعملان بشكل جيد وكان هذا بسبب الاهمال وسوء التغذية، وشربها للمياه الغير معقمة كما قال الطبيب . بعد شيوع هذه الحادثة، تركها اخوتها فريسة للمرض الذي كان سيفتك بها حتما، ويخط ملامح نهايتها دون تدخل منهم .

مرت عدة شهور وعزلتها تزداد يوما بعد يوم . كل شئ بدء يتهاوى من حولها، حتى المنزل الذي تسكنه اصبح مهملا، وعلت فيه خشخشة اصوات اوراق الاشجار المتساقطة منه ويعبث فيها الهواء، نمت فيها ايضا الحشائش بشكل كبير وتباينت اطولها، حتى حجبت ضوء الشمس الداخل شبابيك منزلها وخنقت الضوء الخارج منها ليلا . اصبحت لا تخرج الى السوق الا قليلا، بعد ان انهكها المرض واستسلمت له سريعا والذي كان واضحا بشكل كبير، من طريقة مشيها وقوامها الذي بدأ يأخذ شكلا منحنيا كجسد سيدة عجوز، غيابها أصبح ملحوظا بعد ان تناقلت النساء اللواتي كن يبعثن اولادهم يتلصصون عليها ورؤوسهم الصغيرة تظهر وتختفي، وأنها متزوجة لان الاولاد اقسموا انهم رأوها تضع مساحيق التجميل ليلا، وتتحدث مع القطط بل وتأكل الطعام معهم . ضهورها بدء يتلاشى شيئا فشيئا حتى صدئت باب المنزل ولم يرها احدا مفتوحة لأي سبب كان. بدأ الجميع يتساءل عنها، فهي لم تخرج من منزلها ولا اثر لوجودها او لرائحة جثتها المتفسخة ان كانت قد فارقت الحياة . ولم يجدو الاجابة عن اسئلتهم الكثيرة، والتي ضاعف منها عدم حضور اخوتها للمنزل مرة اخرى....

***

نضال البدري

بغداد / العراق

حينما تستيقظُ المدنُ

على صباحاتٍ تتطايرُ في فضاءاتِها

رشقاتُ الرصاصِ والقنابرُ المنفلقة ُ

فوقَ رؤوسِ الأطفالِ

وتختفي أسرابُ العصافيرِ

ورفوفُ اليماماتِ ...

حينما تهرعُ الأمهاتُ

إلى تمزيقِ قمصانِ اللهفة ِ

ليضمّدنَ ما تركتهُ الشظايا في جسدِ النهارِ

حينما تكسرُ حرابُ الوحشةِ

غصونَ الأشجارِ، تتساقطُ أعشاشُها

تدوسُها سرفاتُ الدباباتِ

في شوارعَ أثقلتْ وجهَها غضونُ

الأسئلة ِ...

حينما تتطايرُ رؤوسُ المنائرِ

تتناثرُ زرقةُ دمِها

وينقطعُ صوتُ الله فيها

تصمتُ أجراسُ الكنائس ِ

يتهشمُ الخزف ُ على موائدِ المرتجفين

ويعلو الخوارُ

تنتشرُ الحرائقُ تأخذُ ألسنتُها

شكلَ وجوهِ المهرجين

حينَ يحدثُ كلُ ذلكَ ...

فاعلمْ أنَّ جنرالين يمارسان

هوايتَهما المفضلة....!!!

***

د. سعد ياسين يوسف

أريني مرّةً حُبّاً أريني

وإيّاكِ إلى المنفى خذيني

*

فنفسي طفلةٌ تبكي، وتبقى

طوالَ اللّيل .. عودي و ارضعيني

*

فمن ثدييكِ قد درّتْ قصيداً

شفاهي .. أمطرتْ دمعاً جفوني

*

أراقتْ زيتها فيكِ .. وأنتِ

فوانيسَ التَّلهُّفِ تشعليني

*

أريقي في الجوى ماءً زلالاً

على فرط التحرّق واطفئيني

*

ففي الأنياط تاريخٌ لجمرٍ

توقّدَ ذاكياً في كلِّ حينِ

*

وفي الأنفاس منفاخٌ لكيرٍ

تنهّدَ كالمراجل بالأنينِ

*

ولكنْ كان في المنفى فراقٌ

تحنّطَ في المقابرِ كالدَّفينِ

*

وذا؛ ما زلتُ.. لم أفقد - لعَمري-

بما في العمر من شوق السِّنينِ

*

فيا بلهاءَ دنياكِ تقصّي

مآلَ الوعي لا تيهَ الجنونِ

*

و عودي اليومَ للمرسى سفيناً

يملُّ البحرَ في أقصى الحنينِ

***

رعد الدخيلي - العراق

يا (...) أنت ِعِلِّتي ودوائي

شهِدَتْ بِحُبُّك ِأنجُمي وسمائي

*

سِفْرالهوى لولاهُ ماكانت لك ِ

مصفوفةً بمراتب ٍ علياء ِ

*

عيناك ِلورَأَت ِالمها دنياهما

لتَسَمَّرَتْ فوق الذهول ِالرائي

*

شفتاك ِلوتدرينَ ما أحلاهما

خمر النعيم.. وجنَّة الإرواء ِ

*

تتوزَّع ُالأعضاء ُفيك ِتناسُقاً

ممشوقةً..هيفاء ذات لواء ِ

*

يشتاقُك ِغزل ٌفيسلُبُ حُسنك ِ

ألباب مَنْ جاؤك ِ مِنْ شُعراء ِ

*

نظْمي ولحني أنت ِيامعزوفتي

وبغيرلحنك ِأحرُفي كعَزَاء ِ

*

رقصتْ لك ِالدنيابرَحْب ِو ِصَالها

وتَفَرَّدَتْ  بحضارة ٍ وبناء ِ

*

عَمَّدْتُ أوراقي برُخصة ِحُبُّك ِ

وببرق ِوجهك ِقدعبَرْتُ فضائي

*

ماالفن إلا أنت ِيانَبْع الهوى

وأنا بفنك ِخاطف الأضواء ِ!

***

محمد ثابت السُميعي

حدَّثتني عرَّافةُ الأوكسجين

أنَّ الماءَ سيعطشُ..

وأنَّ الهواءَ..

سيتجمَّدُ عند ثورةِ الحَنين

أهوَ قدرٌ يجتاحُ غُربَتنا

أم سفرٌ مقدَّسٌ يتلألأُ على الجبين؟

أنفاسُ النَّدى لا ترحَل

تشهقُ معمَّدةً بالياسَمين.

يتسلَّلُ الغدُ مِن مرآتي

يُسامِرُني

يتركُ وشاحَهُ الأبيضَ بين أناملي

يُقسمُ أنَّه تَحوَّل

إلى شُعاعٍ لا مَرْئيٍّ لأجلي

وأنَّه زرع بين أفكاري أنوارَ البساتين

*

تِيهِي في صفاءِ الأيكِ يا مرآتِي

أَطفئي اللَّيلَ وزغردي لإيحَاءِ اليَقين

*

يلامسُ الصَّبا شَفتَي النَّبعة

قطرةً قطرةً

ينصهران في رقصةِ التانغو..

يبدأ التاريخُ من شَفتيهِما..

الشَّوقُ يتحولَّ إلى يمامةٍ..

تذوبُ النَّظراتُ بين تَموُّجاتِ الماء

يَرقُّ النَّسيم

أهُوَ ظلالهما

***

سلوى فرح - كندا

كثيرا ما ينعطف الوقت متبرجا بترهات ملصقات مرشحين على جدران وأعمدة منسية، منتهكة صمتها عنوة للواقع المزري.. تزين ملصقاتهم اعمدة ميتة، لم تستطيع ان ترفض او تركل منافقين الظلام الدامس، يسير وقد دس أنامله في بطن جيوبه الممزقة.. لا لشيء فقط كي بخفيها عن عيون مروجي إعلان انتخبوا من يمثلكم.. علامات استفهام كبيرة وكثيرة؟ تخرج في تظاهرة عارية من الملابس الداخلية همها كشف عورة السابقين ممن ترشحوا في وضح النهار.. كلما استدار مبتعدا يجد أمامه صور نافقة الضمير.. يلبس أحجية الخروج من المتاهة بعناوين اريد وطن، يمسك بزمام لسانه حتى لا يخرج بمفردات تودي به الى السجن، فبالكاد خرج من تلك المرة التي انتقد فيها حمار البرلماني الذي قال عنه إنه لا هم له سوى البحث في مكابات نفايات مثل صاحبه الذي جاء عليه راجلا الى جواره.. لم يكمل جملته بعد ان غاب عن الوعي.. هناك في تلك الزنزانة كان أنامله تخربش على جسد الجدران.. في محاولة القيام بالإعتراض على أساليب تعذيب همجية، لم يعول ان يجد من يقرأ او يجيب على اسئلته، لأنه يعرف الجواب مسبفا، انتعل رأسك وليكن دون شسعه، او أرتضي لنفسك خُفي حُنَين.

أظنني غيبت عن العالم الخارجي سنين جرداء كنت ألقم البعر حبات تمر، واشرب بول الحمير شاي اخضرمرة وقهوة عربية مرة أخرى أنها من واجبات كرم الضيافة.. واحتفالا بقرب خروجي من متنزه المعتقل، كنت قبلها قد اخذت دروس تأديبية في كيفية الحفاظ على قيمة المفردة، ألزموني الحجة ان احافظ على أناملي اكثر من حياتي فموعد الانتخابات قد قرب ولابد لي أن أغمس أصبعي في است العلبة ذات اللون البنفسجي بعدها اخرجه مزهوا بأني قد شاركت فرحة بعص الديمقراطية..

لكني برغم كل تلك التدخلات والتهديدات رمت نفسي عاشق لمقولة أنا حر، سرت تلك الكلمات ومن خلال الوشاة وديوثي السلطة كالنار في الهشيم، سارعت مبتعدا الى حيث لا اذن تسمع ولا عين ترى، واكبت الحدث الإعلام يغرد كما الغربان التي تتصهلل.. البشر فيهم من جهر بالموافقة والقول، ومنهم من ألزم نفسه الخرس، أما أناملي فقد كانت تركض حيث كابينة الإقتراع، تسوقني دون أن أرغب.. امسك بتلابيب الورقة، خطفت القلم من فم جيب صاحبه المريض نفسيا، كتبت على الورقة أنت لا تصلح لأن تكون ممثلا إلا في حظيرة الحيوانات.. أما حظيرة البشر اجدك منافقا..

لم أشهد أناملي التي تسابق يدي كي تمسك بالقلم وهناك ملقن لا زال يقول خلف كابينات كارتونية أكتب.. فترد أناملي ما انا بكاتب.. بقدرة قادر تجولت الى مناهض لسلطة الدولة فأدارت مفاتيح زنازين الى الكعبة مصنوعة في الولايات المتحدة الامريكية لتشهد أنها حاولت لملمة شمل العراق من جهة وصون عش الدبابير التركي.. في النهاية وجدتني في منتصف الطريق وامامي تلك الملصقات والصور التي احرقت ليتدفئ عليها أنامل من غمروا اصابعهم في أفواه دون أرانب.. أما البقية فقد كانت تبحث عن مكان لأثر السجود في زمن التدين سلطة المارقين.

***

القاص والكاتب: عبد الجبار الحمدي

وقصص أخرى قصيرة جدّا

المُعذّبون

أظلُّ أتأمّله بعين حاسدة وأقول:

"ليتني كنت كهذا الهرّ أتسلّق الجدار مثلما يفعل، وأصيب من الأنثى ما يصيب.. ليتني مثله أصطاد أيّ شيء ثمّ أنام قرير العين في أيّ مكان.."

تتعالى طرقات على الباب.. من المؤكّد أنّ أحد الجيران يأتيني بصدقة.. أهمّ بالنّهوض فأشعر كما لو أنّ جبلا يجثم فوقي.. نسيت أنّ ساقيّ ذهب بهما منشار الطّبيب..

**

الطّرف الآخر

"لستُ ذاهبةً إلى الجحيم ولكنّي خارجة منه"!

ما زلت أعي نفسي رغم إنّني قطّعتُ شراييني.. أنظر فأرى شلّالات من نور تتدفّق من لا مكان وأسمع أصواتا لا أدري من أين تأتيني:

"ها قد رُفع عنكِ الغطاء!"

وتدكّني الخيبة أكثر وألحان عجيبة تهزّني هزًّا وتسري في روحي كما يسري الماء في الغصن الرّطيب..

"إنّه التّسبيح..!"

**

ما لا يُنسى

في ذلك الصّباح البعيد استيقظت على زغاريد النّسوة ورائحة البخور والجير.. وأحسست بالجميع يشملونني بنظرة اهتمام مبالغٍ فيها..

ألبسوني جبّة جديدة وملؤوا حِجري بالحلوى والفُلوس. ومع ذلك توجّست شرّا لاسيما وقد حُمِلت على الأعناق حيث يجلس ذلك البدين الغريب.. وحتّى قبل أن يشدّوا وثاقي ويجلسوني قسرا على قصعة العود في صحن الغرفة المترب، كانت صرخاتي الملتاعة تخترق صوت الدّفّ والمزمار..

**

طواحين الهواء

امرأة ثقيلة الزّينة مكشوفة الحدائق والثّمار في يدها سوط، من حولها أصحاب الفخامة ذوي ربطات العنق والوجوه الطّافحة بالنّعمة يسبّحون بحمدها ويقدّسون.. أسفل منها رجل رثّ الهيئة، خانع في ركوع. تلهب ظهره جَلدا فيصرخ ملء الأرض والسّماء. لكنّ صراخه يذوب في عاصفة من الهتاف والتّصفيق:

"كلّنا عاهرات حتّى يسقط مجتمع الذّكورة !"

***

حسن سالمي

عندما أحدّقُ

في مدى آفاق عينك ..

أحلّقُ في فضاءاتٍ ..

من الياقوت..!

إلى حدود انكسار الأبعاد

يحملني لكواكب نائية

لا تدركها الشمس ..

وأرضع من أثداء الغيم

نبيذ العشق

المعتق بماء الهذيان .

فأغرق

في أعماق الضياع .

تترنح سفني

على أمواج الوله الهائج .

تتراقص هائمة

على أنغام النوارس المتعبة .

هاربة من ضجيج الليل

إلى عتمة السكون .

تتمزق أشرعتي

من خلجات القلق .

وأبحر عكس الريح

إلى مدن النسيان .

تلاحقني أشباح الماضي

بسيوف الغدر .

وشبق الانتقام .

فتحاصرني في تابوت مغلق .

ليس له مفتاح ..!

تتفجر أوردتي

بعبوات الخذلان .

تتطاير ..

شظايا الحنين

لتصيب خلايا الوجد

في أشلاء الروح

فتنزف ألما

لا ينضب

لا يتوقف

نجعٌ يتدفقُ مندفعاً كالإعصار

يمتطي جواداً . من قصب

يهفو للقاء عفوي .

خلف الشرفات الوردية

في مساءٍ مختلفٍ

لا تغرب عنه الشمس

ولا يعرفه

إلّا من مارس

طقوس الدهشة

في كهفٍ مهجور

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

للسنين أخاديدها في وجهي

وللخسارات احتمالاتها الأكيدة

ليس في يديَّ الكثير

محملٌ بعاطفتي

واستفاقة الزهور في أول الضوء..

أول المجيء

قلبي، أيها النذرُ المتاح

كل عثرة أعرفك أكثر

أيها الراكض كمهر سعيد

***

فارس مطر/ برلين

وصلتُ إلى تلك الشُّرفة الواسعة مع وصول خيوط الشمس الذهبية إليها. سطع النور بداخلها، وانعكس على قطعة أثاث موجودة مُشَكِّلًا قطعًا ذهبيَّةً باهرة الشكل واللون، تشبه ذلك الأثاث الذهبيِّ من عصر بابل والرّومان. كان صباحًا جميلًا يُغلّفه الهدوء، والمكان قديم كما المبنى التراثي المليء بالنقوش والزخارف، تستطيع أن تُقَلِّب نظرك بين نقوش بارزة وأخرى غائرة، تراقص خيوط الضوء متمايلةً في دلال فريد!

تفوح رائحة التراث من كلّ شيء في هذا المكان، الكراسي مصنوعة من سعف النخيل، والستائر حريريّة كلون السماء. يمكنك أن ترى الباحة الواسعة أسفل الشرفة، تزيِّنها النوافير الممتلئة في كلّ جانب، يرتفع منها الماء قليلًا بتدرّج، محدثًا صوت خرير يصل إلى مسمعك في الشُّرفة. تجذب أعينك تلك الشرفات البعيدة أمامك في الاتجاهات الأربعة، كأنّها أحواض زرع من كثرة ما تدلَّى منها من نباتات خضراء باهتة. شعرت أنني مدعوٌّ إلى هذا المكان، وأنني قدمت من مسافة بعيدة لهذا الغرض، ربما هي دعوة من فنان تراجيدي مشهور.

اعتقدت أنّ هناك خطأً ما؛ قبل الاستدارة إلى الداخل، بدأ الماء يرتفع تدريجياً من جميع النوافير في رقصة سريالية جميلة بألوان مختلفة، كأنّها تُرحِّب بشخص قادم. سمعت شخصًا ما يقول: إحم. إحم. استدرتُ، نظرتُ إليها في مفاجأة القدر!

كانت الابتسامة تشقُّ ثغرها الصغير الوردي اللون في رقة وعذوبة، الهدوء ما زال طاغيًا، عينها القرمزية الناعسة بدأت تأخذ ألوانًا مختلفة، تجعل الناظرَ يسترخي إليها في لحظة صفاء وجمال لا نهائي، أنف صغير بين وجنتَيْن بارزتَيْن، شعر حريري تسلَّل على كامل جسدها، ولون الحرير الملتصق الذي ترتديه، يشفُّ تفاصيل جسمها الفوَّاح برائحة العطر الورديِّ، الذي لا يتسلَّل إلى أنفي فقط، بل إلى إحساسي.

أهلًا بكَ.

شعرت لوهلةٍ أنني أعرفها منذ زمن طويل! ظلَّت محافظةً على تلك الابتسامة الساحرة، كانت واقفةً خلفي بين الجالسين، على حافة الشُّرفة يوجد رجلٌ آخر طغت عليه علامات الوسامة، وزيَّنت مُحيَّاه ابتسامة، ولكنّه ظلَّ ينظر إليَّ دون أن يحدِّثني، لاحظت وجود كاميرا بيديه حين بدأ يلتقط لي بعض الصور وهي تقف خلفي، ارتأت أن تحتويني بيديها من الخلف أثناء التصوير، وهي أكثر دفئًا وابتسامًا.

كلّ شيءٍ يحدث بسرعة، لا أعلم لماذا أنا هنا! لا أعلم لماذا احتضنتني أثناء التصوير! شعرت أنني في عالم غير عالمي الواقعيِّ، كلّ دقيقة كانت تسعدني أكثر مما قبلها، سمعتها أخيرًا تتحدّث مع ذلك الرضيع ذي الأشهر الأولى الذي وجدتُه فجأة بين يديها، تتحدث معه بكلمات حنونة تنظر إليَّ. انظر إليه، أليس جميلًا.

انتهى المشهد حين قالت للرجل الوسيم: لنبدأ الآن تصوير قصة الحب التي عشتها مؤخرًا.

لا أعلم كيف علمت بها، ولا أعلم من أنا، ولماذا أنا هنا؟ 

استيقظت من نومي، قلت: إنه حلمٌ. حاولتُ مرّة أخرى الاستغراق في الحلم، لكن المشهد بدا مختلفًا.

بدأ ذلك الرجل بتثبيت الكاميرا من زاوية الرؤية بالصوت والصورة، نظرت لي قبل البدء وهي تبتسم وتنظر لي بشغف العاشق الذي عاد إلى حضنها، قال لي: سوف نبدأ، بدأت تتحدث في سؤالها وأنا أرى الوميض الأحمر من تلك الكاميرا، اعتدلت الجلوس ونحن ننظر إلى بعضنا، بعد الترحيب وضيافة المكان، شعرت بأنّ هناك موسيقى خافتة تبثّ رحيقها من الغرفة المجاورة، كانت القوى التي أضافت تحت السماء تنسكب رحيقًا. 

- سيّدي، ما نظرتك للحياة؟

- تقصدين الآن أو قبل ثلاثين سنة؟ طبعًا الفكرة مختلفة، عندما يتقدّم الإنسان تزداد خبراته، يتفاعل مع الحياة بشكل مختلف.

- سيّدي، السؤال التالي يحتاج إلى أن تنظر إلى الكاميرا مباشرة، أريدك أن تصف الفرق بين الماضي والحاضر من خلال رحلة الحياة التي عشتها بصورة شاعرية.

نظرت إليها كشاعر، واستدرت إلى الكاميرا، تأثير الموسيقى كان حاضرًا. استحضرت ذلك الخيال، كنت على صخرة فوق التلال أرى البحر من مسافة، كان هناك فضاء فسيح العمق، كان خيالي متزامنًا مع فؤادي، أنظر إلى الأشياء كأنّها تحدث، جاء المنادي يقول: إنها تنتظرك، أين هي؟

أذهب إلى تلك الشجرة القريبة من البحر، تقدمت الخطا، لم يكن البحر هادئًا، أمواج تتلاطم ولكن الشجرة حافظت على الهدوء أمام الرياح، أخذت جانبًا من ظلال أنظر من جميع الأنحاء ربما تكون في انتظاري، جلست كالقرفصاء أنظر إليه بحنان الوادي الأخضر، أنظر إلى البحر بين ظلّ الشجرة الثابت، وضعت رأسي بين أرجلي المقرفصة، أتابع خيالي لبضع دقائق، ربما أجد الفقد الذي أنتظره، بصورة مفاجئة وقفت الرياح متزامنةً مع تلك الأمواج التي كانت طاغية قبل لحظات.

رفعت رأسي وعيناي ترقصان شاخصتين ترنوان إلى آفاق بعيدة، رأيت قارباً صغيراً لونه أبيض يتهادى على صفحة الماء، بدأ يقترب من السّاحل، له سارية صغيرة عليها علمٌ واحد لونه أبيض، يشعرك بالسلام. توقفت المجاديف، وقفت على رجلي تقدمت الخطا بكلّ هدوء، الأبيض كان ثوبها الطويل والهواء البارد أزاح جزءاً من حنين، أشرت إليها بأنني ضائع في التيه، تقدّمت أكثر مما توقعت، وقعت على صدري تشتكي الريح الذي أفاق روحها، قالت: أين الشُّرفة؟

أمسكت يدها حين وجدنا أنفسنا على الشُّرفة بثياب جديدة، نرقص بين السّحر والواقع، أضاءت الأنوار الموسيقية والنوافير السّحرية، قفزنا عاليًا بقدوم الوالي الجديد للقصر، بدأ حفل الرقص وانتصر الحب.

***

فؤاد الجشي

كانت لدي منضدة صغيرة تفسخت قوائمها وأردت إصلاحها، وذات يوم وأنا في طريقي إلى البيت شاهدت إعلانا بالبوية على حائط بيت: " أبو السيد. نجار. منزل رقم كذا.. تليفون رقم..". قلت لنفسي: "ممتاز". اتجهت مباشرة إلي العنوان المذكور، وهناك رأيت امرأتين ممتلئتين جالستين تحت شرفة الطابق الأول تثرثران. واحدة تبيع فطيرا مشلتت والثانية لا تبيع فطيرا، مكتفية بالجلوس ووضع يدها على خدها. سألت عن أبو السيد النجار، فردت البائعة: وحضرتك مش عاوز فطير؟. قلت: لاء. شكرا. فانصرفتا إلي الثرثرة. قلت: النجار موجود؟. قالت: لاء.. اتصل به. قلت: والتليفون عنده شغال ؟ قالت: التلفون ايوه.. النجار هو اللي مش شغال. بعيد عنك جاله تعب في الركبة. أضافت الأخرى: لكن محمود النجار موجود. استفسرت: طيب فين محمود؟. قالت: ح تلاقيه قاعد بيلعب طاولة مع صبحي الكهربائي في المحل آخر الشارع.

اتجهت لمحل صبحي الكهربائي. محمود عندك؟. قال: أي محمود؟ أصل لامؤاخذة عندنا ثلاثة محمود؟. قلت: النجار. صاح: آه.. فهمت! شوفه جنب محل الكفتة عند ربيع الحلاق، كان بيعمل له رف خشب. ذهبت لعم ربيع، وما إن نطقت باسم محمود حتى ضحك الحلاق العجوز بسرور كأنه تذكر شيئا مفرحا وسريا في الوقت نفسه، وقال ببهجة: محمود؟!! الله يخرب عقلك يا حودة.. واد مسخرة. شوفه على قهوة السكرية جنبنا. وقهقه يحدث نفسه وهو يتكتك بالمقص فوق رأس الزبون: يخرب عقلك يا حودة ! سألت الجرسون في المقهى: محمود النجار هنا؟. جاي حالا. تشرب إيه حضرتك؟. قهوة مضبوط. جلست. بعد نصف ساعة ظهر رجل من سني تقريبا يسأل عن النجار. قلت له: تفضل. اجلس، وأوضحت له أن أبو السيد لا يعمل حاليا لأنه جاله تعب في الركبة، لكن محمود شغال. سألني: ومحمود ألقاه فين؟. قلت له: أنا قاعد أنتظره. كلمة مني وكلمة منه سألني: وحضرتك أصلا من فين؟ قلت: من طنطا!. صاح: الله من فين في طنطا؟. من شارع كذا. معقول! طيب الاسم إيه بالكامل؟ عرفته بنفسي، فصاح: يا نهار أبيض؟! من بيت الحاج عبد الجواد؟! ونهض وأخذني بالأحضان قائلا: ألا تعرفني؟ أنا ابن بنت عمة ابوك الكبيرة.. نفيسه.. الله يرحمها! وأقسم الرجل بكل المقدسات أن يصحبني معه إلي طنطا لنتغدى عند أخته سهام وبذلك نصل ما انقطع من صلة الرحم. حاولت أن أرفض فعاتبني: إزاي؟ دي سهام تزعل قوي. ركبنا سيارة من رمسيس وبعد ساعتين كنا نأكل ملوخية وأرانب عند سهام وزوجها يحرك طاقيته فوق رأسه من وقت لآخر مغمغما " أهلا وسهلا". وبدأ الأقارب يتوافدون بعيالهم ونسوانهم، وكل واحد منهم يحتضني ويقبلني ويهز يدي بحرارة حتى انخلعت ذراعي وحل الغروب وبدأت أشعر بالإرهاق فنهضت محتضنا مودعا فردا فردا مترحما على الحاجة نفيسه.

في طريقي إلى البيت صادفت ورقة بإعلان على حائط " الأسطى حسنين النجار". لمحني صبي أتطلع إلي الرقم فوثب ناحيتي: عاوز الأسطى حسنين؟ قلت له بحزم: لاء شكرا، مش عاوز. وقلت لنفسي: " تفسخت قوائم المنضدة ، هذه حال الدنيا. جميعنا إلى زوال"، وأسرعت نحو بيتي، والصبي يجري خلفي هاتفا: " أنادي لك حسانيين.. حسسانييييين.. حسسا ".

***

قصة قصيرة

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري

في نصوص اليوم