نصوص أدبية

نصوص أدبية

كل جمعة مباشرة بعد آذان الفجر يأخذ بيدها كطفلة إلى نفس الجهة ونفس المكان ونفس المقبرة، وفي الطريق وهما يمضيان بخطى ثابثة بين أزقة المدينة ودروبها المتعرجة وشوارعها الفسيحة المزينة بلوحات الإشهار المضاءة، وأشجار الياسمين الذي تزيد غبش الفجر بهاء وجمالا، كان يذكرها بالخطط المتفق عليها لجمع المال بأقل جهد وبحيل متقنة، ويشرح لها كبلاغي محنك كيفية اختيار الكلام المناسب للشخص المناسب، ويتوقف أحيانا ليوضح لها أكثر نظريته في فهم الحياة والناس وكيفية الإحتيال عليهما معا ... يأخذ نفسا من هواء الفجر النقي.. يتأمل السماء التي بدأت تودع نجومها المتلئلئة كأنه يناجيها، ثم يصعد بخفة العصافير فوق عتبة باب إحدى العمارات الشاهقة ليمثل أمامها بإتقان دور عجوز أعمى هده الفقر والزمن ونسيه الحظ والقدر فجعل منه متسولا معدوما .. فتنتاب فطومة نوبة من الضحك حتى تدمع عيناها وتظهر أسنانها المتبقية، وهي تتفرج عليه معجبة به قائلة له : "والله ثقت بك التهامي متقول غر بالصح أعور وشارف فين قريت العفريت هذا التمثيل..." ثم يأخذ بيدها من جديد ليكمل المشوار.. وعندما يصل بها إلى مكان عملها يفرش لها قطعة الكرتونة على الزليج الرمادي المتسخ فتجلس بتؤدة وتمد رجليها النحيلتين وتسند ظهرها المقوس كمنجل على الجدار المهترئ لتشرع في لعب دورها على خشبة مسرح الحياة مرددة " يا فتاح يا رزاق يا مهول كل الأرزاق" وبعد هذا الدعاء تعمل على ترتيب أغراضها. القفة المخصصة للخبز والحليب تضعها على يسارها حيث باب مقهى الريو، وعلى اليمين جهة باب مخبزة السعادة الدائمة تلقي بعصاها والصرة البيضاء. أما النقود فكانت تدسهم بحذر شديد في حمالة صدرها بعيدا عن الأنظار خاصة زوجها.. وهكذا يتحول المكان   إلى مقر عمل ... وما بين هذه الأبواب المشرعة كانت تلتقط كل صباح ومساء رزقها ولا تبرح مكانها إلا وقت القيلولة، لتجوب شوارع المدينة ممثلة على أصحاب المحلات ورواد المقاهي دور عجوز قليلة الحيلة والنظر يساعدها على ذلك طفل في العاشرة من عمره مقابل عشرين درهما لليوم ...وتعود لمكانها من جديد بعد أن تكون قد تأكدت بأن مدخولها عند نهاية المساء لم يقل عن الجمعة السابقة مليما واحدا.. تلك حياتها التي ورثتها عن أمها وورثتها الأم عن الجدة حتى صار التسول حرفة العائلة ومصدر رزقها...ودعها زوجها بعدما دبت الحركة في الشارع والحياة في النفوس وراج الدرهم في الصرة والخبز وعلب الحليب في القفة، قاصدا السوق الكبير الذي يتوسط المدينة ويقصده الكل للتسوق حيث يرتدي هناك نظارة سوداء، وجلبابا حائل اللون، مفترشا الأرض مباشرة جالسا القرفصاء... ففطومة لم تقبل به زوجا لها إلا بعد تأكدها بأن دخله في السوق أكثر بكثير من دخلها أمام المقبرة. فرزق الأحياء كما تقول غير رزق الأموات.. وبعد زواجها منه ازداد رزقها، فعملت على بناء الطابق الثاني من بيتها، واشترت بعد ذلك بسنتين بيتا آخر وفتحت أسفله دكانين واكترتهما لتاجرين بثمن مغر ..كانت كلما عادت من عملها وقبل أن تخلد للنوم تعيد عد النقود وتتأكد من ما ادخرته في وسائد غرفة النوم ومن ما قبضته من المكترين فهي لا تثق في خزائن البنوك مثلما يفعل زوجها الأهبل الذي قد يضيع ماله في رمشة عين، وقد نهته كثيرا بعدما سمعت من الراديو عن السرقات المتعددة لناقلات أموال البنوك واختراق حسابات الزبائن ... عاد التهامي من السوق بعد يوم عمل مضن حصل فيه على ألف درهم وهو دخل لا يحصل عليه موظف بسيط خلال أسبوع من العمل، ولا محالة ستفرح زوجتة فطومة أيما فرح بهذا الخبر العظيم، وهي عندما تفرح تتنازل له عن حصتها من اللحم والفاكهة .... فتح الباب بهدوء ثم وضع بعد ذلك القفة والحذاء في المطبخ، وأمن على ماله تحت الوسادة وذهب لإيقاظ زوجته فطومة لتناول وجبة العشاء... ظنها في البداية بأنها غارقة في النوم بعد يوم عمل شاق ومتعب لا يقدر عليه سوى الأشداء من الرجال ..قلبها يمينا وقلبها يسارا.... نادى عليها بصوت عال ..ولما تأكد من موتها وبأن روحها صعدت إلى السماء.. اختلطت عليه مشاعر الفرح والحزن وفضل في النهاية ان يكون واقعيا أكثر من اللازم.. جمع المال الموجود في الوسائد ووضعه في قفة كبيرة وغطاه بقطعة قماش بالية ونقله صباحا على وجه السرعة إلى البنك ...وجد البنك فارغا من الزبائن .. أكد له الموظف أكثر من مرة من أن المبلغ هو خمسون مليونا وأربعة آلاف درهم بالتمام والكمال خرج الرجل من وكالة البنك مسرورا، وفي غفلة انشغاله بما سيفعله بهذا المال والعقار الذي انضاف لماله، وممتلكاته نسي مراسيم دفن زوجته فطومة وإخبار السلطات بموتها، ولم ينتبه لصخب الشارع ولا للمارة ولا للسيارات التي تمر بجواره كالبرق... خطى الخطوة الأولى على الخطوط البيضاء لممر الراجلين ولم يكمل الخطوة الثانية حتى ارتفع صياح المارة وأسفهم على ما حصل فقد دهسته سيارة كان صاحبها يسوقها بتهور وجنون فأردته قتيلا مرميا بالقرب من الرصيف غارقا في بركة من الدم .. وهكذا صارت الجنازة جنازتين، وتحول بيتهما في النهاية إلى مأوى للمتشردين والحمقى وقطط آخر الليل وتلك أحلام أخرى منذورة للرحيل.

***

قصة قصيرة

عبدالرزاق اسطيطو

...................

* "أي تطابق بين أحداث القصة وشخصياتها وما جرى ويجري بالواقع هو من قبيل الصدفة وإبداع التخييل الذي يجعل الخيال واقعا والواقع خيالا"

تقولُ:

ما لقصائدِك موحشةٌ

أين شدو حنجرتِك؟

كلماتُك تفوحُ ترافةً

وصورُك

تجعلُ الأنهارَ مرآةً

تغتصبُ انوثة الحوريات

*

أحبك واحدًا

شامخًا

منكسرًا

سيًان عندي

فما تدخره من الودِّ

يصلحُ ما فسد من العالم

*

قد يشغلُني عنكِ

حزني

فقدي

لكنْ

لن أجزعَ من طرقِ بابِك

*

ثمة ما يجعلُني منجذبًا إليكَ

انّ قلبي

قد اختار ان يكون بقربِك

وكفى!!

*

تُعيد عليّ

لماذا انا؟

اضحكُ

فيأتي النداء:

الطريق من هنا

*

في الأول من فراقِنا

تنكسفُ الشمسُ

وفي الثاني منهُ

تبتلع القمرَ

حوريةٌ سماويةٌ

وفي الثالثِ منهُ

يطرقُ بابي

بردُ السماءِ

فاشعرُ بأنّ البيتَ

أوسعُ من انْ يضيقَ

قد تغيبينَ

لكن خيالك

ما زال بيننا

قصيدة لم يفتضَّ بكارتَها شاعرٌ

*

مَن يصدقُ بأنَّ رجلًا

مثلي يحملُ قلبَ

عصفورٍ

***

د . جاسم الخالدي

مُهْدَاةٌ إِلَى الشَّاعِرَةُ اللبنانية:

كرستين افرام

***

بَيْتِي الْعَتِيقُ مُجَمَّلٌ

بِطَبِيعَةِ الرَّحْمَنِ مَهْدَا

*

شَمْسٌ تُصَبِّحُ سَطْحَهُ

وَتُسَبِّحُ الرَّحْمَنَ فَرْدَا

*

ظَلَّتْ لِكُلِّ فَجِيعَةٍ

بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ ضِدَّا

*

اَلدَّاءُ تَصْرَعُهُ إِذَا

قَصَدَ الْمَكَانَ يَرُومُ أُسْدَا

*

وَتُحَوِّلُ الْأَيَّامَ نُو

راً سَرَّنَا وَأَشَادَ مَجْدَا

*

مَا قَصَّرَتْ فِي دَوْرِهَا

أَوْ أَهْمَلَتْ مَا كَانَ جِدَّا

*

تَشْفِي السِّقَامَ بِدِفْئِهَا

وَقَضَتْ عَلَى الْآفَاتِ حَدَّا

*

وَشَدَتْ بِأُغْنِيَةٍ لَنَا

جَرَدَتْ هُمُومَ الْأَمْسِ جَرْدَا

*

رَقَصَتْ لَنَا بِنُعُومَةٍ

فَضْفَاضَةٍ تَجْتَاحُ بَرْدَا

*

مُتَفَرِّجُونَ يُصَفِّقُو

نَ يُقَدِّسُونَ الْيَوْمَ قَدَّا

*

عَاشُوا الْحَيَاةَ بِحُلْوِهَا

وَبِمُرِّهَا يَبْغُونَ هِنْدَا

***

د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

كَمْ سألنا؟

كَمْ سنسألْ؟

دونَ أنْ يأتي جوابْ

جلُّ ما راودنا مِنْ أسْئلةْ

ظلَّ مهملْ

خلّفَتْهُ القافلةْ

هَلْ سنبقى نتأمّلْ

سارِحِينْ

في ضبابِ الإحتمالْ

غارِقِينْ

نتحرّى عَنْ نُجومٍ آفلةْ

عَنْ سنينْ

هربتْ منّا،

وما عدنا نراها

عَنْ زمانٍ مُبهَمٍ سوفَ يجيءْ

قُلتِ لي، والحزنُ ينهلْ

مِنْ صدى صوتكِ

أنّاتِ عذابْ

هَلْ سنبقى نحنُ نسألْ؟

وكلانا

لَمْ يَذُقْ طعمَ الجوابْ

بعدَ أعوامِ اِرتِقابٍ و عذابْ

كَمْ سألنا؟

كَمْ سنسألْ؟

هَلْ سنبقى وحدنا

سائلينْ

دعْ سِوانا

يسألونْ

معنا

علّهمْ لا ييأسونْ

مثلنا

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

 

 

غنيت للوطن الحزين

ومزجت حزني في القصيدة

بلسما للعاشقين

ومسحت عن وجه الحبيبة دمعة

وأضأت في ليل الخريف

مشاهدا للتائهين

ورسمت من نور المحبّة

صورة لحبيبتي

ضاءت كنور الصبح

في عمر السنين

***

بقلم / تواتيت نصرالدين

 

 

مًدّ لي أجنحته

في الفضاء

وأدارَ دَّفتّي شراع أمنياته

بَسطَ لي حُلماً أَزرق

تحققّتْ نبوءتي

وَتمَّ شَغَف اللقاء

مُهاجِرة مُغادرة

مِن موانئ التعب

مِن تراب الأجداد

مِن عطرِ ياسمينك

ياعتيقة المدائن

ياشام

إلى شواطئ النوارس

التي ملّتْ وِحدَتي

وَصَمتي

تُصبِحُ وَ تُمسي

على صوت

مُقرءٍ ينتَظِرُ

دعوة

من يقيم تأَبِين

على جَسدٍ

مُسجى بلا حِراك

***

راغدة السمان

سيدني - أستراليا

 

اجرى الطبيب عددا من الفحوصات للمريضة التي اكثرت من مراجعة عيادته وهي تحلم بايجاد امل عله يتحقق على يديه :

- لا امل لك سيدتي في الانجاب، جربنا عددا من الطرق ولم تنجح احداهن، يمكنك ان تتعايشي مع الوضع والا تستمري في البحث عن امل جديد لا يجدي نفعا كل الاوقات

- ولكن احدى صديقاتي انتظرت عشرين عاما بعد زواجها حتى تحقق املها في الانجاب!

- مثل هذه الحالات شاذة لا يمكن القياس هليها عندنا نحن معشر الاطباء، نحن نؤمن بالأرقام والبحوث الجديدة تنص انه لا يوجد امل دائما ...

تصمت المريضة ...هي لم تعتد على اليأس، كل حياتها تناضل من اجل تحقيق احلامها التي تبدأ صغيرة ثم تكبر وتنمو، الى ان تصبح شجرة باسقة كثيرة الأغصان متلالئة الثمار، وهذا الطبيب يدعوها الى ترك الأمل لأن عدم الوصول الى تحقيقه يولد عند الكثيرات نوعا من الفجيعة لم تعتد نفوسهن المرهفة عليها ..

زوجها الحنون الذي رافقها في كل سفراتها الباحثة عن علاج في الدول المنقدمة، ويدرك مدى اللوعة التي تحيط بنفسها المتطلعة والتي لا تعرف اليأس ابدا وتبذل كل ما في وسعها لانبثاق امل جديد، هما الاثنان لا يعرفان القنوط، هما يؤمنان بقدرة الانسان على ايجاد سبل السعادة والقضاء على طرق الحرمان التي يكابدها الكثيرون، حياتهما حميلة سعيدة يتعاونان فيها في كل الامور، وهما متشابهان في التطلعات والاهتمامات وكل ما تفكر به الزوجة يشعر به، وكل ما يخطر على بال الزوج تحس به قبل ان يبوح به، كل المعارف والأصدقاء يغبطونهما على نوعية الحياة التي يعيشانها وعلى الاهتمام الكبير يبعضهما والتعاون في تسيير دفة المنزل، وقليلا ما تحدث عندهما الخلافات بشان توزيع الاعمال بينهما فكلاهما عاملان ومن طبيعة المرأة في عالمنا ان يكون علبها من الأعباء النصيب الاكبر، ولكن زوجها كثيرا ما اقترح عليها ان يساعدها بعض الاحيان في الاعمال المنزلية التي يقدر عليها، فهو لا يحسن الطبخ ولا غسل الملابس ويمكنه ان يغسل اواني الطبخ بعض الاحيان ان كان لا يتعارض عمله هذا مع موهبته في القراءة والرياضة التي تهتم بها الزوجة ايضا ولكنها تجد الوقت الكافي لقراءة كتاب معين استرعى اهتمامها او اداء بعض التمارين الرياضية التي تحبها وتجدها تحافظ على صحتها ولياقتها االبدنية ..

راجعت العديد من الاطباء والطبيبات أملا في احراز امل، ولكن كل نصائح الاطباء بان لا امل يمكن تجفيفه لم تجدي عندها وبقي الطموح والثقة ناصعين كبيرين، صار لهما عشرون عاما من الحياة الزوجية ولم ينجحا في تحقيق املهما المشترك ..

بعد ان زارت اخر طبيب وقال لها:

- لم يجد الطب دواء ناجعا لحالتك سيدتي!

- لكني لن اترك املي في تحقيق ما اصبو اليه

- الطب يتطور، وهناك ابحاث تجري في امريكا للعثور على علاج لحالتك سيدتي ..

- متى يصل الينا هذا العلاج؟

- لم يصلوا هم بعد!

لا تبالي بتوجيهات الطبيب وتعود الى بيتها ولكن الأمل ينتصر، يقول لها زوجها:

- يقول الاطباء ان العيب مني، يمكن ان نتطلق وتبدئي من جديد

- ولكنك مثلي تريد ان تصبح ابا!

- النساء أكثر رهافة من الرجال وأكثر طموحا ان يصبحن امهات، ومن العار ان ابقيك معي لتزداد معاناتك وحرمانك من تحقيق ما بقيت طوال عشرين عاما تأملين به ان يتحقق!

- لن ارض بهذا الاقتراح، وسوف ننتظر معا حتى يتحقق ما نريد، كلي امل يا حبيبي ان نجد حلا لمشكلتنا التي وجد الكثيرون لها حلولا ومثال ذلك صديقتي سهام التي بقيت بعد الزواج عشرين سنة، ولم تنفصل عن زوجها وبقيت مع رفيقها يبنيان حياتهما معا ..

- يقول الأطباء ان وضعنا يختلف عن وضع صديقتك سهام، شرحنا للاطباء حالتها ولا يمكن ان تكون كل الحالات متشابهة ولها علاج واحد!

- سوف نجد بديلا! ولن اوافق على الانفصال!

- لك ما تريدين، وحين تقررين الانفصال أكون تحت أمرك، يقول الطب لا امل في حالتي انا وليس في حالتك انت، فلنجرب الانفصال، لتتمكني من العثور على ضالتك!

- لا جواب عن طلبك عندي، انا متمسكة بجياتنا معا ... أجد السعادة معك ..

- سعادتك مع الطفل اكبر!

يذهب الزوج لينام تبقى المراة ساهرة، فقد تلقت اتصالا هاتفيا من شخص لا تعرفه :

- انتظري سيدتي هذه االليلة سوف اقدم لك هدية تفرح لها نفسك، في تمام الساعة الثانية صباحا ..

- اقدم لك هدية جزاء تعبك ولهفتك، ولدت انا طفلين جميلين لم يعترف بهما الحبيب الذي قدمت نفسي اليه، سوف اعيش مطمئنة لانهما عندك ..

تنظر الى ساعتها تجدها في الواحدة والنصف، تعمل لها كوبا من عصير الليمون، وفي الوقت المحدد يدق باب المنزل بخفوت، تذهب لفتح الباب، تجد عربة صغيرة فيها طفلان يضحكان ولدا قبل ايام، وفي العربة رسالة مطبوع على الالة الكاتبة فيها :

_ اقدم لك هديتي هذه، فقد تخلى عني الرجل الذي احببته وقدمت له نفسي، سوف اكون مطمئنة ان طفلي عندك

***

صبيحة شبر

10 آب 2022

صريرُ ضيفِها الصَرصار، وراء الغسّالة، في غرفة الغسيل الصغيرة، جعلَها ترى الحقيقة في واقعها المؤلم. جسدُ زوجها الملقى على السرير إلى جانبها، جعل الليل عبئًا ثقيلًا، أثقل منه في أي ليل سابق، وجعل مِن الخروج إلى غُرفة الاستقبال، للاقتراب من ذلك الضيف، للاستماع إلى صريره وإلى مواساته لها من الوحدة، مَهمة لا بدَّ من القيام بها وتنفيذها للتوّ.

بعد ثوانٍ، حملت جسدها، كأنما هو جُثمان ميّت يسبح في سديم الكون، وانطلقت باتجاه، غرفة الاستقبال، في طريقها القصير الطويل إلى هناك، وقع نظرُها على ابنتها الصبية، ابنة العشرين، كانت ابنتها نائمة، لولا وجود ابنتها في البيت، ولولا حاجتها لأبٍ يحدب عليها ويرعاها، لما سمحت لذاك الثقيل، زوجها، أن يأتي إلى البيت مرة في الأسبوع، ولاكتفت بالصَرصار، بصريره وبمواساته لها.

ذاك الضيف، وراء الغسالة في الغرفة الصغيرة، اختفى في البداية مثلَ زائر ثقيل، لا ليس ثقيلًا، ابتدأ عهدها به، ليلةَ صحت على صريره، إثر مغادرة زوجها للبيت قبل أشهر.

حين شعرت بوجوده بحثت عن قُبقاب خبّأته في الجوارير القديمة، حتى وجدته. هرعت بعد ذلك إلى الغسالة فأزاحتها، لسحق ذاك الضيف غير المرغوب به، إلا أنه كان أكثر ذكاءٍ وحنكة، فقد زاغ منها، وانسرب...

في الليلة التالية، شرعت في إغلاق أذنيها بما توفَّرَ من قطن في البيت، غير أن الصرصار أبى إلا أن يرسل صريره مخترقًا الليل.

فكَّرت في أن تشرب حبة منّوم، كما كانت تفعل حين كان زوجُها حاضرًا غائبًا. بيد أنها ما لبثت أن طردَت هذه الفكرة، وتبنَّت فكرة أخرى، متمرّدة على المجهول، كما فعلت دائمًا. الفكرة الأخرى، تمثّلت في الاستماع إلى صرير الصرصار. لماذا هي لا تستمع إليه؟ لماذا لا تستمع إلى ما يبثه في الليالي الطويلة الموحشة؟ ألم تدرك منذ فتحت عينيها حتى بلوغها ما بلغته من عمر، أنه يوجد لكل شيء سبب، وبالإمكان التوصُّل إلى أسراره بشيء من الأناة؟ فلماذا لا تستمع إلى الصرصار؟ لماذا لا تحاول أن تفتح أذنها، ولماذا تغلقها أصلًا، ألم تغضب يوم فضّل زوجها النوم على الحديث معها، فأشعلت الدنيا نارًا لم يخبُ لها أوار، إلا بدفعِهِ إلى خارج البيت، على أن يعود مرة واحدة في الأسبوع؟ لماذا هي تغلق أذنها أمام الصرصار؟ وكأنها ملأى بالطين؟ أو ليس من الأفضل لها أن تستمع إليه، فإما يعجبها صريره، وإما تمجُّه أذنها، فتجد له علاجًا يشبه ذاك الذي عالجت به زوجها؟

في الليلة الطويلة التالية، شرعت بالاستماع إلى الصرصار. أعطت نفسها كلَّ ما ملكته من إمكانية على الإصغاء. استسلمت لسماع صوته، مثلما يفعل العاشق المتيَّم حينما يستمع إلى صوت محبوبته. استمعت إلى الصرصار، استمعت إليه بكل ما لديها من قوة متبقية. مهلًا مهلًا ابتدأت تألف صريره، بات صريره في فترة قصيرة، أو طويلة، لا تدري، جزءًا من ذاكرتها، بل أكثر من هذا باتت تنتظر الليل كي يأتي، كي تستمع إلى ضيفها المرحَّب به، وإلى صريره الشبيه بالغناء. هي لا تبالغ إذا قالت إنها وجدت أخيرًا معزوفتها بعد طول انتظار.

الليالي بعد وفود الصرصار، بعد إقامته وراء الغسّالة، باتت ذات رائحة، نكهة ولون، هكذا راحت لياليها بالتغير.

وطرق الأمل بابها مجدّدًا، فراحت تهتم بنفسها، ترتدي أحلى ملابس النوم، بانتظار صوت صديقها وراء الغسّالة، ولم يكن هذا يُخلف ميعاده معها. كان ما أن يرين الصمت النائم على أرجاء البيت، حتى يُرسل صريره موقظًا أجمل ما في المرأة وأحلى ما في الليل. وكانت المرأة تحاول المحافظة على الصمت، محافظتها على روحها، وزاد في محافظتِها هذه، أنها أحسّت أنه يوجد بالصّرصار مثل ما بها، وأنه يطلب طوال الوقت ويسأل مَن يحلّ وثاقه، كأنما هو يحكي بلسانها، ويطالب بحقه في الحياة والصرير، وكأنما هو يطالب بهذا الحق لكلِّ من ينشده، ويهفو قلبه إليه!!

هكذا بات صديقُها، سلوتَها الأساسية، بل إنها مع مضي الأيام، باتت تعرف كيف تدفعه إلى الصَّمت، كي يستمع هو إليها، فما أن تنهض من مجلسها، في غرفة الاستقبال، حتى يتوقّف، عن الصرير، وتشرع هي في التحدث إليه: اسمع جيدًا، أنت الوحيد الذي يستمع إليَّ بكل مشاعره وأحاسيسه، ويعرف كم أنا بحاجة إلى زوج، حظ اليقظة لديه، أكثر من حظ النوم. أنت الوحيد الذي يُحيي حياة توشك أن تموت في داخلي. أنت مَن يستمع إلى شكواي. أنت مَن أناجيه ومَن يناجيني، مَن يسمعني حين أكون وحيدة ومن يستمع إلي حينما أريد. كان صديقها يستمع إليها، وكذلك هي، لا يقاطع أحدُهما الآخر وينتظره حتى ينهي كلّ ما لديه. لم يكن يقاطعها، فيضع الكلمات على لسانها كأنما هو لا يريد أن يستمع إلى غير ما يريد أن يستمع إليه، ولم يكن ينظر إليها شزرًا حينما تتحدّث عن شؤونها الصغيرة، لم يكن يلغي مسافة الصمت المطلوبة بين أي متحدثين، بل كان يصمت، وكأنما هو لا يريد أن يستمع إلى أي إنسان آخر سواها في الكون.

حينما كان هذا كله يحل بينهما، كانت تبدو وكأنما هي المرأة السعيدة الوحيدة على الأرض، فكانت عيناها تفيضان بمحبة لكل شيء، مكتسبتين لمعةً كادت أن تخبو وتتلاشى.

مع الوقت ابتدأت تعتاد على تهيئة الجو وإعداده، ليكون ملائمًا للقاء الفريد بينها وبين صديقها، فكانت تُشعل شمعة ينبعث منها نور خفيف، وتطفئ الضوء، فينتشر جوّ شعريّ ساحر، يدفعها للاسترخاء على أريكة وضعتها خصيصًا في غرفة الاستقبال. وما أن كانت تضع رأسها على وسادة وثيرة وضعتها في أقصى الأريكة، على يدها تحديدًا، ما أن كانت تمضي لحظات من الصمت، حتى يبادرها صديق الليل بصريره المألوف، الأثير على روحها القريب من قلبها. فكانت تغمض عينيها وتستمع إليه بجوارحها كلّها، وكان صريره ينهال عليها وكأنما هو نهر من زبرجد، فتمدّ يدها مرحبةً به ومهللة.

أمّا حينما كانت تريد أن تتحدّث، أن تعبّر عمّا بها، فما كان عليها إلا أن تتحرّك على أريكتها، فيصمت الصرصار، منتظرًا أن تفيض نفسها بما اضطرتها حياتها إلى جانب زوج غير متفهّم، من مشاعر وأحاسيس، هي لم تكن تبخل على صديقها، ولم تكن لتخفي عنه أية صغيرة أو كبيرة، وإنما كانت تُصارحه بكلِّ ما في دخيلتها، بل إنها كثيرًا ما كانت تنسى نفسها، فتصارحه بما خجلت أن تقوله أمام أي من الناس، وربّما أمام ذاتها. هي نفسُها، لم تكن باختصار تتردَّد في أن تفكَّر أمامه بصوتٍ عالٍ، وكان أشدّ ما يُسعدها هو أنه كان يستمع إليها بخشوع أشبه ما يكون بخشوع راهب تمنَّت أن تلتقيه وهي ماضية في صحراء حياتها.

ونشأت مع مضي الوقت، لغةٌ مشتركة بين الاثنين، لا يفهمها سواهما، كانت أشبه ما تكون بلغة عاشقين عرفا طريقهما.

*

استلقت المرأة، صاحبة البيت، على أريكتها في غرفة الاستقبال. وضعت رأسها على وسادتها الخاصة، هيّأت الأجواء كلَّها، بما فيها إشعال شمعة خفيفة النور، واستلقت تفكر في زوجها الغائب هناك في غرفة النوم، حتى في يوم مجيئه الوحيد في الأسبوع، ها هو يناغي الكرى، ويتركها وحيدةً مثلَ كتلة وحيدة تسبح في سديم الكون، ها هو يوغل في سُباته، وها هي توغل في يقظتها، ها هما يفترقان مجدّدًا، وها هو كل لقاء يتحوّل إلى ظل للقاء، لا معنى له.

تحرّكت على أريكتها. رفعت صوتَها هامسةً بما بها. اقتربت من غُرفة الغسيل. أدنت رأسها حيث تعرف أن صديقَ ليلِها يقبع بانتظارها، وراحت تحكي عمّا بها من ألم.

في تلك اللحظة شعرت بزوجها يسير باتجاه الحمّام. كان واضحًا أن حاجته أيقظته، وأنه سيعود بعد قليل إلى نومه. توقَّف عند باب الحمّام، سألها عمَّا إذا كانت تريد أن تنام، ولم ينتظر إجابتها. دخل إلى الحمَّام وأحكم إغلاق بابه وراءه. بقيت هي وحيدة بانتظار صديقها المنتظر، ليبعث صريره شاقًا صمت البيت، ومواسيًا إياها في وحدتها الرهيبة.

***

قصة: ناجي ظاهر

مَنْ يعتقدون أنّ الأدب الجريء إثارة للغرائز؛ وابتذال أو خدش لحياء مصطنع؛ والمُتطرِّفون، المُتشدِّدون، القريبون من دِيْنامِيت السياسة؛ أنصحهم بعدم قراءة هذه الرواية.

الفصل (1)

هل نلوم القدر؟

أم نلوم مجهولًا آخر يطالعنا من حيث لا ندري.

إنعام عبد اللطيف، كان هذا هو اسمي، وربما أطلّ عليكم باسمٍ آخر لم يبتكره لي والداي؛ لكن لن أتعجّل الأمور، فكل شيء يأتي بأوانه.

قلت منذ البدء، هو اسمي الذي عرفت به، ولا شكّ أنّه الاسم الوحيد الذي لم يلتبس بقناع؛ أيّ قناع في هذه الرواية.

نعم، إنعام عبد اللطيف الحاير؛ إذ إن جميع المسميات التي ترد في الأسطر القادمة انطبعت على وجوه صاحباتها الحقيقيات من خيالي، فمن حقّي أن احتفظ ببعض الأسرار، ولعلّي لا أرغب في أن أؤذي أحدا أو ألطّخ سمعة أي إنسان مهما كان.

وهذا يكفي لأنني حقا لا أملك روحًا ترغب في الانتقام أو الشرّ...

أبدًا، ليس ذلك الأمر في بالي.

أمّا ما حدث فقد جرى على الرغم من إرادتي.

لذلك تبدو الأماكن غير معروفة لوازع ما، أضمرته في نفسي، قد يكون الغموض أحيانا أقرب إلى الصدق، وغرابة الزمان والمكان لن تخفيا جمال العمل الذي أريد أن يظهر للنور، أمّا الوقت فلا يهمّ أن يكون أمس أو الآن، ومن المحتمل أن يستقرّ في قصتي هذه على الغد.

لا أرغب أن أدخل في تفاصيل واسعة ودقيقة، فأنا اليوم حسب الظاهر أملأ عينيّ بالنور ورئتيّ بهواء نقيّ، هذا وفق الظاهر.

على الأقل أشعر بالأمان..

أطرد الخوف عنّي لأنني أحسّ أن هناك من له يد عليا يحميني.

يعطف عليّ.

يحسّ بي..

كنت أخرج من المكان الضيق الكئيب، الذي ألقاني القدر فيه خلال الليل بحجج شتّى لا يناقشها أحد.

بنت هوى بأسلوب آخر!

كنت امرأة متزوّجة، ومن حسن الحظ أنّي لم أرزق بأولاد، فخلال الشهر الثالث لزواجي حدثت المأساة، خيّل إليّ أن زوجي شاب طيب مخلص، لم نتزوّج عن حبّ، نحن عائلة متوسطة الحال، أما زوجي فهو ينحدر من عائلة معروفة بالثراء والسيادة، وقد اعترف لي بعد الزواج أنّه رآني أتبضّع مع أمي في إحدى الأسواق، فبهره جمالي.

أعرف أنني جميلة، وأن جمالي قد دفعه إلى أن يتتبع أخباري، ويتقصّى عن عائلتي، ففاتح أهله بموضوع الزواج، وهو في الخامسة والعشرين، وكانت أمه تحثّه على الزواج، لم يكن وحيد أهله؛ لكنه كان الأكبر.

لا أشكّ أن الزواج والذرّيّة يقرّبانه من امتيازات ومال مضاعف من أبيه ليبدأ مشاريع جديدة.

ردّد على مسامعي أنّي علامة فأل حسن عليه، فقد توسعت بعد زواجي منه مشاريعه وناله خير كثير، فتحققت أرباح كثيرة عزّزت مركزه في السوق وعند الحكومة، وهو ما كان يطمح إليه منذ صباه، وها هو يعثر على ما أراد، وقد زادني تعلّقا به أنّه بعد الزواج اقترح عليّ أن يفتتح لي محلّا أبيع فيه الملابس الخاصّة بالنساء في مدينة أخرى تقع على مسافة عشرين ميلا من مكان سكنانا.

زبائن جدد.

معاملات جديدة.

وواقع مختلف مع الحياة وجدتُه بفضل زوجي.

ووجوه لم آلفها من قبل، حيث شعرت بمسؤولية تجعلني امرأة عظيمة في المستقبل.

قال إنه مشغول بالعمل ويخشى عليّ من الضجر، ولا يرغب في أن أظنّ أنّه أهملني.

تعلّقتُ به أكثر وأحببته حبّا لا يوصف.

وجدتهُ يمثّـل لي كلّ شيء، ولم يخطر في بالي أنّه أبعدني ليمارس أمورًا غفلتُ عنها!

طيبتي أم سذاجتي؟

كلّ يوم أقود سيّارتي وأعود من عملي وقت المغرب، خلال العمل تجري بيننا مكالمات وغزل رائع، بدوت مسحورة به على الرغم من أننا لم نتزوّج عن حبّ كما قلت؛ لكنني ذات يوم اطّلعت على كلّ ما كان مستورا.

التغاضي للمحافظة على خيط مودّة يربطنا بالآخر، لا يعني أننا سنتقبّل الاستغفال أو التجاوز، أو نشعر بالإهانة ونسكت، لا بدّ أن تظهر الحقيقة وإن بعد حين، هذه المرة لم يمرّ وقت طويل.

بعد أكثر من شهرين مرّا على زواجنا، لا أدري لِمَ انقبض قلبي، حتى كدت أرى السماء الصافية ملبدة بالغيوم، والطقس الهادئ ذا النسيم الصافي العليل.. عاصفا أهوج، تتلاعب به الرياح التي تتحوّل إلى إعصار مدمّر، حتى دخلتْ المحلّ فتاة جميلة في التاسعة عشرة من عمرها، يظهر عليها بعض الشحوب، وفي عينيها قلق وخوف، أوحت لي هيئتها أنها تعاني من شيء ما؛

تصدُّع.

كارثة.

نظرات منكسرة.

لا أنكر أنها أجمل منّي.

ذات جمال مبهر صاف تحسدها عليه كثير من الفتيات.

وكلّ مظاهر التصدّع والانكسار لم تؤثر في جمالها الخارق، سوى ما تثيره حالتها من إشفاق.

جنسية أخرى.. من بلد غير بلدنا، جاءت تبحث عن لقمة العيش، فمن يصدّقها غيري، ولا تقوى أن تناطح شخصا ينتمي إلى عائلة ذات نفوذ اجتماعي وسطوة في الاقتصاد والسياسة.

تألمتُ كثيرًا، وجنّ جنوني؛ ثمّ تظاهرت بالبرود حين سمعت أن زوجي جرّدها من الشيء الذي لا يعوّض بثمن، وعوّضها عنه بمبلغ كبير من المال مقابل سكوتها، المهمّ أنّه اشترى شرفها مثلما يشتري أية سلعة تعجبه في السوق:

جلّابية..

حذاء..

قلم حبر..

ساعة..

سيارة..

أي شيء يخطر في البال، حتى إذا ما شبع منه، رغب عنه فألقاه بعيدا عنه!

والأدهى أن الفعلة تمّت بعد شهر من زواجنا؛ أنا التي وجدني فاتحة خير له، سلّمتني الضحيّة نسخة من مفتاح الشّقّة التي يلهو بها زوجي، وكانت قد استنسخت دون علمه أكثر من نسخة، لا ألومها ما دام قد غرر بها ووعدها بالزواج، فأنا أعرف أن مجتمعنا ذكوري يسمح بالتعدد؛ لكن أن يأتي الفعل بصيغة عبث؛ عبث يجعلني أفقد اتزاني ويثير فيّ القرف!

سألتها:

-هل أجريت العملية؟

هزّت رأسها بالإيجاب وأردفت وهي تنظر إلى الأرض خجلى من عينيّ اللتين ما فتئتا تنظران إليها نظرات ثاقبة: نعم

-       أجيبي بصراحة هل كنت تعرفين بأنه متزوّج؟

ردّت بلهجة لم أشكّ في صدقها:

-       لا تؤاخذيني، أخبرني أنّه يعيش جحيما معكِ، وأنّكما على وشك الطلاق؛ إذ لم يعد ينفع وفق ما قاله لي أي علاج سوى الطلاق، ولا تنسي أنني من بلد فقير ومن عائلة مسحوقة (وتهدّج صوتها بالبكاء فنهضتُ وأحضرتُ لها كأس ماء، وقدمت لها منديلا تجفف به دموعها)

-       لا بأس.. لا عليكِ

-       صدقيني لو كنت أعرف الحقيقة لما اندفعت معه.. أنا ضحية.. ضحية فهل تصدقينني.؟

قلتُ لا بأس عليكِ.

-       هل غفرتِ لي من كلّ قلبك؟

-       نعم ما دمتِ لا تعلمين بالحقيقة الكاملة.

منحتها مبلغًا ليس بقليل وشكرتها.. نصحتها أن تسافر في أقرب وقت إلى بلدها قبل أن يقع عليها أيّ عقاب، وتابعت الموضوع حتّى تأكدّتُ من سفرها.

كل ذلك وفي ذهني شيء واحد يدور.

الثأر...

الانتقام لكرامتي...

الانتقام بالآلة التي اشتراها لي، وعلّمني على استخدامها، خشية من أن يداهمني لص في الطريق أو العمل.. وكان بنفسه يشرف على تدريبي عليها في نادي الرماية...

كنت أتحسس كلماته الناعمة وأسترجع الذكريات، فأراها أشبه بملمس أفعى ذات سمٍّ قاتل لا شفاء معه، مَنْ أجبره على أن يتزوّج؟ من دفعه ليقول لي إنني حياته؟ كلّ حياته، فمنحته روحي وجسدي وانسقت معه بعوالم من الوحي الشّفّاف؟

لا أظنّ أنّ سيدة مثلي يمكن أن تندفع مثل اندفاعي، ثم أكتشف أنني عشت في كذبة كبيرة تحولت إلى جريمة اغتصاب بحقّ فتاة عذراء؛ وبطل تلك الجريمة زوجي.. أصعب شيء على المرأة، أن تعيش كذبة كبيرة بحجم العالم كلّه.

الكون كذب ونفاق مركزه زوجي الذي جعلني أعيش في وهم لا حدود له.

فاتخذت قراري الجريء؛

راقبت المكان وانتظرت...

انتظرت ساعات.. رأيت فتاة تدلف نحو بوابة العمارة.. على بعد خطوات تبينت سحنتها السمراء، وبعد دقائق وصلت سيارة زوجي..

مشاعر الانتقام تجتاحني..

غضب من غير حدود...

فكرامة القلوب أعلى قيمة من أي مشاعر بعد مشهد خيانة.

لو خانني زوجي بعد سنوات من الزواج، لوجدت حججا شتى تقنعني بالخيانة، ربما كنت سأظنّ أنّ في معاملتي له، أو في تمنّعي عنه، دافعا له نحو امرأة أخرى، ربما كنت سأعزو السبب إلى بعض التغيّر في جسدي، ولعلّ الأمر نتيجة إهمالي له واهتمامي بالبيت والأولاد.

كنت سأقول لعلّ العشرة الطويلة تجعلني أسامح وأغفر وأغض النظر، مثل أعمى يقنع نفسه أنه ما دام لم ير شيئا فلا يظنه واقعا وإن كانت أذناه تسمعانه.

لكن كلّ شيء مرّ بشكل سريع لم يجعلني أفكّر طويلًا.

الإحساس بالكرامة والانتقام.

انتظرت بضع دقائق ثم صعدت، غضبي يزداد.. العنوان ذاته والشقة نفسها.. حمدت الله على أنّه لم يغيّر القفل، وأن النسخة التي عملتها (جمانة) تدور بيسر.. تدور وبات رأسي يدور معها.. وهناك عن لا وعي دلّتني شهقات خافتة إلى غرفة النوم، لا أدري كيف حملتني رجلاي، لهاث أصوات أشبه بالصراخ تتفجّر منها نشوة ماجنة، فاقتحمت الغرفة...

ودوّت رصاصة...وأخرى..

شلال دم..

وجثتان بعيون جاحظة مخيفة..

وجدت أني أصبحت في لحظة الغضب رسامة ماهرة، أرسم باللون الأحمر وحده؛ إذ لا شريك معه من الألوان الأخرى.

الزرقة تلاشت.

الأصفر يهرب.

الأخضر غائب...

والدم المسفوح يتحدث بصوت على وقع بكائي.

أناس تجمهروا ...ضجّة وشرطة...

مشهد لا أنساه ما حييت...هذه كلّ جريمتي..

الناس والصحف رأوني مجرمة أستحق القصاص، مشفقين على زوجي الذي رآه رجال التحقيق والجمهور الذي حضر الواقعة ساعتها، عاريا تماما من ملابسه هو وعشيقته، أما أهلي الذين تخليت عنهم وتخلوا عني منذ دخلت السجن فقد لاموني على فعلتي، وحجّتهم؛ ما دام زوجي وفرّ لي السكن والعيش والعمل، فلأدعه يفعل ما يشاء، لم يعلق بأذهان الجميع سوى بركة الدم ومشهد القتل الشنيع.

خيبتان: قلبي الذي نبض بحبه وآمن به بعد زواجنا، فقررتُ انتزاعه.. وعيني التي رأته كل الرجال، حتى شاهدتْ خيانته ففقأتها على طريقتي.

تلك كانت النهاية.

أو

هي النهاية البداية.

ليسمها الآخرون ما شاؤوا من تسميات فهي وإن تعددت المسميات تبقى ذات لون واحد فقط.

***

ذكرى لعيبي

سبتة ومليلية والصحراء المغربية

سبتة ومليلية:

مدينتان توأمتان

مغربيتا الاصل والمكان

خريطة وتآريخ ومجد عريق

عروستان

لا تنفصلان

اغتصبتا في ليلة زفافهما  

حماماتان

أيام زمان

كانتا في صحبة

لقلاق مغربي

وكانتا تنامان

في عش واحد

على شاطئ

البحر الابيض المتوسط

*

على قمة جبل طارق

كانت المنارات

تبكي على فراق الهدهد والكناري

*

ثمة قطعتان لا يتجزءان    

من تراب بلدي

بجلودنا

تلتصقان

وبسحناتنا

ولغتنا

وهويتنا

تتكلمان

**

الصحراء المغربية:

ونادت الصحراء المغربية:

انقذوني من هؤلاء "البوليزاريو" المرتزقة

فأنا ارث مغربي اصيل

وحبل سرتي ممدود من طنجة الى الكويرة

فكانت المسيرة الخضراء المجيدة

*

ثمة "جمهورية وهمية"

تتناسل جرذانها تحت خيام متآكلة

يطوقها مرتزقة بدعامات جنرالات غبية                          

ومليشيات ارهابية

يقتاتون بالثمالة والهذيان

خيامهم بلا اوتاد

كأنها ارجوحات في مهب العاصفة الرملية

وباسنانهم المسوسة

يحفرون قبورهم

تحت كثبان الرمال الملغومة

ويقدمون القرابين الوهمية

للانظمة العسكرية الاستبدادية  

***

بن يونس ماجن

بقطعة فحم، خطت على الأرض تربيعات ثلاث أفقية متتالية، ثم مربعين عموديين ملتصقين، رمت شقفة من فخار في المربع الأول، وبدأت تنط برجل واحدة، كانت بين حين وآخر تتلفت يمنة ويسرة، كأنها تترقب وصول صديقاتها ليشاركنها اللعبة.. تتوقف قليلا، ترفع وجهها الى السماء، وكأنها تستعذب نسائم مابعد العصر منعشة تجتاز الدرب، حيث الربيع شرع يودع القرية بعد سنة من جفاف..

بعيدا عنها وعند مدخل الدرب، وقف شاب في عقده الثاني يتابعها وهي تقفز فوق التربيعات كفراشة جذلى يغمرها السنا، وكلما ارتفعت تنورتها ظهرت ركبتاها القمحيتين وفخداها البضتين. لم تكن تحفل بذلك، فقد كانت رحابة طفولة في لفيف براءة..

هي طفلة في الثالثة عشرة من عمرها، لم تكن أجمل بنات القرية لكنها كانت دقيقة التقاطيع، متناسقة القد، في عينيها الواسعتين حوَر، يضيف الى لونها القمحي وشعرها الرطب المسدول على كتفيها ملاحة جذابة ؛ كان وجود الشاب مألوفا لديها، فهو من اقربائها، لهذا لم يثر في نفسها أي خوف أورهبة لتحتاط من وجوده ومن متابعتها وهي تمارس لعبتها اليومية، كما أنه ابن الحي، الذي تعود ان يغيب شهورا كطالب في بلاد المهجر، ثم يظهر في عطلة صيفية او عيد ديني..

كانت بين قفزة وأخرى تسارق اليه النظر، على وجهها تتربع بسمة رضا وثقة، فقد كانت تمنى النفس أن يجود عليها بقطعة شوكولاطة مما تعود ان يوزعه على صغار الحي كلما حل بالقرية..

تسمع نداء أمها آتيا من داخل البيت، تترك شقفة الفخار على التربيعة، ثم تلج باب البيت لتعود وفي يدها قطعة نقدية، تركض قاصدة دكان الحي.. تتوقفت حيث يقف الشاب العشريني، يتبسم في وجهها، يسألها عن وجهتها، ثم يهمس لها بكلمات، تنتظر بباب بيته قليلا قبل أن تسمع نداءه فتلحق به..

يخرج الشاب بعد برهة كهارب بعد سرقة موصوفة وفي يده حقيبة سفر..

ظلت الصغيرة قلب البيت لا تدري ما حل بها، فهي لا تذكر الا صوت الشاب وهو يناديها: سناء ادخلي !!!..

ناولها كاسا به عصير، ثم لم تعد تذكر شيئا..

حين صحت وجدت تبانها بين ركبتيها، ومادة لزجة كقطرات الشمع على فخديها..اصفر وجهها، بلغ قلبها حلقها، ارتعدت من خوف يغتالها، هي لا تستطيع أن تتمثل ما وقع، لكن وجود تبانها في غير مكانه قد حولها الى فأر مذعور لايدري له وجهة، أحست بالم تحت بطنها وفوق عانتها، تحسست المكان فوجدت اثر دم، بكت وهي تلطم وجهها بيديها الصغيرتين وكأنها قد أدركت ما وقع:كيف تواجه أمها وأباها ؟، كيف تواجه أخوتها الكبار ؟ كيف ترفع راسها بين صديقاتها في الحي والمدرسة ؟.. وحدها قطعة النقود النحاسية ظلت حبيسة كفها، لكن كل ماعداها قد ضاع، حلم عفتها وشرفها اعلن انتحاره في لحظة ثقة، لحظة طمع منها في قطعة شوكولاطة.. أعادت تبانها بيدين مرتعشتين، من بين دموعها تلمست القطعة النقدية مبللة عرقا قلب كفها، كما تبلل تبانها بما لا تعرف ماهو، وكما تبلل عمرها خزيا وعارا، خرجت تجر قدميها الصغيرتين تقصد الدكان، تستعيد كلمات أمها استعادتها لفرحتها المغتالة: "نصف كيلو سنيدة وصابونة صغيرة " تسلمت ماطلبت من صاحب الدكان:"عيونه تمسحني !! ياويلي لوعرف !! " عادت الى البيت، وضعت السكر والصابونة في غرفة أمها، ثم هرولت الى مرحاض البيت؛ شرعت تغسل فخديها، وتمسح ما علق بتبانها، أثارها لون الماء الممزوج بصفرة وأثر من حمرة باهتة ..

ركبها صراع نفسي حاد؛ هل تتكلم ؟، هل تصمت ؟ في كلامها فضيحة مدوية قد تتجاوز القرية، وفي صمتها نهاية عمرها، آمالها واحلامها.. تعاود غسل وجهها، تصب قليلا من الماء على قفاها، تحاول ان تهدأ، أن تبترد، أن تخفي كل مابها، أن تتغلب على صراعها النفسي الى أن يمر اليوم بسلام قبل أن تقرر ما تفعل.. تذكرت حديث النساء صباح كل زفاف مر في القرية عن" صباح البنت"، عن السروال، عن الاحتفال بالدم الذي رشمه، عن إحساس أهل البنت بالفخر والشرف..

تلطم وجهها: ماذا بقي لها وقد فقدت أعز ما تملكه بنت ؟

تركنت في زاوية من غرفة الضيوف كما تفعل كلما ارادت ان تخلو لدروسها، فهو الحل لتواري خوفها عن وجه أمها وكل من يدب في البيت، رغم الذعر الذي يعوي في باطنها والشحوب الذي يركبها.. حلقها الذي صار جافا كحزمة شوك، عسير ان يبتلع ريقها..

تذكرت احدى صديقاتها حين اختلى بها أحد رعاة القرية وفض بكارتها، كيف هاجت البيوت وماجت، كيف صار اللغط حديث الصغار والكبار حول الحرب التي اشتعلت بين العائلتين الى أن انتهى الامر بانتحار الصديقة، وتدخل الدرك بقوة ردع والقاء القبض على بعض من استغلوا الوضع بالوشايات والنميمة ..

بلاعشاء نامت.. كم هذت خلال نومها المتقطع:

ـ أكره أن اصير كصديقتي، مضغة على كل لسان، عارا على ابي المريض، خزيا لإخوتي، لن يتفتت لي صخر، فأصير وبالا على كل أهلي، لن استسلم لانهياري، سأحاول أن أنساه، المصيبة ستعتقل حريتي، لكن اعتقال حرية أهون من فضيحة مدوية قد تنتهي بانتحاري أو بقتلي من قبل أحد اخوتي الكبار..

لا..لن أنتحر، ولن أتكلم.. سيكون الصمت ظلي، ينتصب بيني وبين غيري..

من ليلتها فقدت الطفلة بشاشتها ومرحها، بعد أن انهار كيانها النفسي، كما انهار لسانها عن الكلام، تغيرت حالها، تغريداتها الطليقة صارت تمتمات كلام، وبريق عينيها المضيء صار انكسارا، يستغرقها تفكيرشغلها عن دراستها، فحول اجتهادها الى خمول تبدى لكل العيون ؛كثيرا ما سألتها أمها عن سبب هذا التغير المفاجئ، فيأتي الرد بعيون مكسورة وكلمات قليلات:

ـ تعب وعياء..أحس بانهيار جسدي كأني لا أتناول أكلا..

ثم جاء الفرج عن طريق طبيب أعلن بعد فحصها: بداية التهاب كبدي هو ما حول نظارة الوجه الى شحوب وعياء بدني..

بدأت تقاوم حالتها، مقاومتها لتراخيها في مراجعة الدروس وإنجاز الواجبات، صار تقدمها الطفيف تقادما لحالتها، وفتورا في المراقبة من قبل أهلها الذين سلموا بقولة الطبيب وأضافوا للأدوية التي نصح بها، عقاقير شعبية أخرى، لم تستطع إعادة اشراقة وجهها، اما اعماقها فهي كتلة دموية وحدها تدري ما بها..يغسلها النسيان لحظات ثم لا تلبث المصيبة أن تكفنها من جديد؛كم مرة حاولت أن تبوح لاحدى صديقاتها وتفجر اللغم عساها ترتاح من كوابيس لياليها الطويلة.. لكنها سرعان ما تتراجع. فماعاد اليوم انسان يكتم سرا. ان تعتقل مصيبتها في اعماقها خير من ان تصير أنثى متهمة بثرثرات القوالين..

أحيانا تحس بنسمة راحة تنزل عليها كرحمة سماوية، تتنهد وقد تبكي، ثم لا تلبث أن تغسل وجهها بماء بارد ولسانها يهمس:

ـ لك الحمد ربي أني لم أحمل والا كنت في القبر قبل الأوان..

ربع قرن وهي تحمل سرها، تتقادفها السنوات بين نهار وليل، وليل و نهار، تقضي الشهور والاعوام بالأماني الكواذب الى أن نالت شواهدها ثم اشتغلت..

دفنت عمرها في مهنتها، تناست متع الحياة، مات في صدرها الأمل موت جسدها الذي تخشب، وصار يتلقى بلا ردة فعل، لهاة مكتوم ينبعث كلما لفها ظلام، أنثى تجر جثتها خلفها في صمت، لا ينعكس أحيانا الا بكلمات تخالها من رجل خشن بلا خبرة، وبمفردات ماتت لها أحلام، تحسها وهي تتكلم وَهْنا من راس بلا جسد، تدحرجت من قمة الى أسفل وانسابت في انحدار، تغسلها دموع لا تفتر، حتى في عملها فهي تقاوم واقعا وحده يعيش مدفونا في صمتها ؛ ترى الغير من حولها كشخصيات درامية تؤدي دورا مسرحيا في حياة لا تنصف أحدا.. حتى رحماتها السماوية تناستها، ما عادت تثيرها بأمل، ما الفائدة و قطرة الدم دليل عفتها قد جفت الى الأبد..

كلما أتاها خاطب تبرمت وتعللت وأخرجت فيه مساوئ.. مدعية أن صديقاتها قد تعرفن عليه فحذرنها منه..

لحظة الجرم وحدها تعيش واضحة في ذهنها، لا تفارقها، تستعيدها بكل تفاصيلها من لحظة شرب العصير الى ان وجدت تبانها بين ركبتيها بقطرات كالشمع السائل.. كلما جحظت عيناها تمثلت كل رجل كقريبها الذئب الذي لم يحترم قرابته ولا طفولتها، والذي رغم تعلمه وارتداء بذلة من خارج حضارته ظل حقيرا متخلفا لا يعي ما تساويه حياة طفلة يغتصبها وهي لا تشاركه رغبة ولا إحساسا أو فهما لما مارسه عليها، ذنبها أنها وثقت في قناعه المزيف.. سيظل شرفها كما عفتها وبراءتها بل ستظل كل حياتها تصرخ عاليا في وجه كل مغتصب براءة أيا كانت الطريقة التي سلكها لينقض على فريسة بريئة..

المجرم الآتم البغيض ماعاد له في القرية ظهور، لكن بين أبناء القرية قد بقي له اثر بافتخار: شاب من العدم استطاع ان يحوز شهادة علمية، يحصل على وظيفة في بلاد الغربة ويتزوج نصرانية.. لا احد يعرف أنه مجرم، يجر وراءه جثة قلب جسده المدنس، وضميره الميت عبر ثنائية حياة تعلن الدين وبه لا تؤمن، نهش طفلة بريئة، وضع حبلا ابديا لمشنقة طاعنة ابدا لن يغيب لها اثر..

تدرك أن الزمان شرع يطويها ببطء، سلحفاة يدب،، وكأنه يعاند ما بلغته من عمر..كل رجل هو لديها لسعة عقرب، عضة ثعبان، مراوغة ثعلب، ومتابعة ذئب، قد تبادله النظرات اذا ما رفعت البصر، لكن نظرتها نظرة خوف وحذر، رهبة، انعدام ثقة وسوء ظن..

الرجل عذابها بالليل والنهار، يتكوم في عينيها كمزبلة جديرة بإضرام النار فيها، فهو سبب عذابها، هو من جعلها محط تساؤل وشفقة تكرهها من كل من يحيط بها..

لماذا لم تتزوج ؟..سؤال يملأ الأفواه وتنثره العقول بتخمين وتأويل !! ربما مسحورة من قبل الجن، تملكها أحدهم فمنع الرجال عنها وقد فروا بعد يأسهم من قبولها.. عيب خلقي يشوه ما تفخر به كل أنثى.. خنثى تتستر عن حالها..حتى افراد أسرتها صارت تنطلي عليهم دعاية السحر و الجن ففوضوا أمرهم الى الله، فقدر بنتهم أن تعيش عانسا مملوكة لجن ..

في عملها تجاهد ألا تثير حديث الرجال، بل هي تتجاهل كل الرجال في موقع عملها، لا تحاول أن تعرف لهم اسما، أو ترد عليهم سلاما اذا مرت بأحدهم، وتنسحب أو تصمت إذا ما إحدى النساء تكلمت عن رجل ولو كان أباها، تحس بالقرف والاحتقار، وبالخوف من ان يجرها لفلتة لسان تكشف سرها، حقدها الدفين، جثمان عمرها المركون داخل جسدها، كأن الصمت هو حقيقتها التي تواجه بها كل المواقف التي قد تجعلها تكشف ولو جزيئة من دواخلها..

تذكر وهي لازالت طالبة جامعية أن إحدى البنات همست لها بأن أستاذ مادة الكيمياء الحيوية معجب بها ويتطلع اليها بشوق..صمتت بلا رد، وقد تأكدت من ذلك من محيط اسرتها..كانت تدرك أنه مجرد جبان أو ثعلب كاي رجل آخر.. يطلق الدعايات دسيسة اغراء ليتصيد المغرورات..

ذات شتاء، وهي خارجة من عملها، لاحقها برق ورعد، ومطر يتهدل على كتفيها، اقترب منها أحد المارة محاولا أن يجعلها معه تحت مظلة، اتقاء من الجو الماطر، دفعته بمرفقها دفعة اسقطته على الأرض، ساعده بعض المارة على الوقوف، انتصب وهو محنط بوحول الشارع الذي شرعت السيول تجرف كل ما صادفته في طريقها من قوة التساقطات..

انزوت في ركن تحت سقيفة متجر وشرعت تبكي..لماذا تصرفت بعدوانية مع رجل لا يعرفها ولا تعرفه، ذنبه أنه حاول ان يساعدها على عبور الشارع الى الطوار الآخر بقليل من البلل، هي حقا قد اغتصب آخرون طفولتها، منعوها ان تحمل لقب بهجة الطفولة سعيدة كما حمله غيرها..لكن ما ذنب الغير فيما وقع لها ؟ ليس هم من اسقطوا طفولتها من مرايا الحياة، ليس هم من منعوها الطيران فراشة بين الزهور..لا..إنهم عود من نفس الغصن، نفس تربية الاستعلاء، التفضيل ونفخ عقدة الذكورة..

حلم قد غاب عنها منذ الحادثة وعاد اليوم يلازمها من جديد، يضاعف من آلامها وعذابها، حلم ترى فيه نفسها وهي تحرق العضو التناسلي لكل دمية.. كان الحلم في صغرها يقتصر على أنها ترمي الدمية بعد الحرق أما في الليالي الأخيرة فصارت ترى أنها تغرز فيها سفودا يخرج من عينيها قبل أن ترمي الدمية في البحر..

تمتنع أن تحضر كل عقيقة المولود فيها ذكر، هو عندها مغتصب جديد آت ليخلف من مات..حين تزوج اخوها اختلقت نزلة برد قد حلت بها وظلت حبيسة الفراش حتى لا تحضر ليلة زفافه، فلم تكن العروس غير أخت استاذها الذي أطلق دعاية الاهتمام بها.. كان ما يملأ فكرها:كم من طفلة قد اغتصب أخوها قبل ليلته هذه ؟، وهي اليوم مثلها لا تملك وجها تسير به بين الناس.. هل حقا ان زوجة أخيها عذراء، أم ان أخاها سيكون الرجل المخدوع من قبل انثى عرفت كيف تتغلب على نفسها وتقاليدها وبطش أهلها وحرصهم على العادات والطقوس؟ في حين فشلت هي في ما أفلح فيه غيرها.. بئس تربية لا تعلمنا غير الخوف والخضوع وتقديس التقاليد.. ترسخ في عقولنا الشك حتى في اقرب الناس الينا..

صحت في الصباح على زغردات النساء و نغمات الطبالين والغياطين، تتقدمهم نكافة تضع على راسها صينية، يتوسطها سروال زوجة أخيها، دليل براءتها من اغتصاب قبلي بقطرة دم؛ ربما لم تكن زوجة أخيها مصابة بنهام الطفولة لكل ماهو حلو لذيذ، أو لم تجد من يترصد لها فيغتصبها بلا رحمة..ومن يدري ربما كان لزوجة أخيها من الذكاء او الخبرة ما وجهها كيف ترتق مشكلها..

بكت، واهتز صدرها أسى وغبنا حتى كادت أن تفقد وعيها..

هكذا تطويها الأيام بوسواس خناس وبلا ثقة في نفسها ولا في غيرها، عود الربيع فيها قد ذوى ويسارع للجفاف والتفتت..

أحيانا كانت تسائل نفسها:هل كل بنت فقدت بكارتها تنزوي كانزوائها ؟ فتئد نفسها بنفسها ام فقط هي تقاليد قبيلتها التي صار الرجل القاتل هو نفسه الذي يطلب شهادة البراءة من طبيب محلف لا قابلة تكتفي بتجربة كسر البيضة لتحدد الماضي الجنسي للفتاة، ومن يطلب من الرجل شهادة العفة والخلو من أمراض ربما يكون قد التقطها من غيرها ؟ أي حكم هذا الذي يقتل بنتا بخطأ رجل ويشوه سمعتها بفضيحة من قبل رجل ؟ !!..وهو نفس الرجل الذي يطالب بصك عفتها حتى يرضي غروره وعنها يكون راضيا ؟؟ !!..

بدات تدخل المنتديات العربية بعد أن سمعت حديث استاذات عن فوائدها كقتل الفراغ عند غياب الأزواج، أو للتسلية والتعارف مع نساء أخريات من أوطان أخرى، أو التثاقف واقتناص فوائد تهم حياة المرأة..شرعت تقرأ ما ينشر .. لم تكن مقتنعة بما يكتبه الأعضاء خصوصا من رجال يستعطون الحب بعبارات تافهة، يبالغون كذبا في إعلاء المرأة.. ذئاب.. لو ظفروا بها وحيدة أو طفلة صغيرة لمزقوا جسدها.. اقترح عليها أحد الأعضاء المساهمة في نشاط ثقافي.. توجست من اقتراحه، ربما هو استدراج لها، لكن أسلوبه وطريقة تعامله تدل على أنه كبير السن يتصرف برزانة، وكل من في المنتدى يمتدح تعامله مع الجميع.. فكرت طويلا قبل ان تستجيب محاولة للتخفيف من ثقل حمولاتها بنسيان وقتي..

لاحظت أنه يحاول التقرب منها.. بدات تحتاط، هي لا تصادق رجلا، ولا تريد ان يتعرف عليها رجل، لكن ما يكتبه هذا العضو يثيرها، يحسسها بصدقه، حين راسلها كان ردها التواء هو تناقض ما في نفسها.قالت: لا تحاول معي، فرغم سنك الكبير على ما أظن فانا أكبر منك بكثير ولا أملك شيئا اقدمه لك مما تبحث عنه، أرجو أن تحترم نفسك..

كم كان يؤلمها وضعها، أنثى لا تثق برجل لكن هذا العضو يحسسها دوما بقربه، يقرأ كل ما تكتبه اليه بمنطق العقل والموضوعية، انجذابه اليها ليس بكلمات غزل وانما بالتعمق فيما تتبادله معه من كلمات واقتراحات لتنشيط ما تقدمه الى أن فاجأها ذات يوم: حسناء هل سبق ان تحرش بك احد الى درجة الاغتصاب؟ من يكون؟ وفي اية مرحلة من عمرك؟

الخبيث، كيف استطاع أن يقرأها ثم يفجراللغم في صدرها، ان يستعيد لحظة صباها الموءودة.. ربما سنه وثقافته الواسعة قد جعلته يكتشفها.. بكت..ليلة بكاملها وهي تبكي.. كيف ترد؟ ماذا تقول له؟ ربما خير لها أن تنسحب من المنتدى او على الأقل من النشاط..لكن الى متى؟ وكانها بدأت تضيق بحالها، بثقل سرها.. لماذا لا تجرب وتبوح له بسرها وتنتظر ردة الفعل.. هو عضو ليس من قبيلتها، و لا من وطنها قد تخشى أن يفجر سرها بين الناس، لا تخاله لئيما فيتكلم بين أعضاء المنتدى، ولن يكلفها ذلك غير انسحاب.. ووجدت نفسها تصارحه، تحكي قصتها، ترمي كل همها بين الحروف في صدره.. تدرك أنه اول شخص استطاع أن يجعلها ترتدي جلباب جرأة ورغبة في أن تحكي له ما يؤرقها منذ أكثر من ربع قرن..

ادخلته في نطاق واقعتها، يشاركها لحظة الوأد.. قالت له: حقير، جبان لم يرحم صباي، خجلي، ثقتي رغبتي في قطعة شوكولاطة.. سلمني شهادة وأد أبدي ورحل..رحل بلاعودة..

توهمت أن هذا العضو كاي رجل تسلم منها الخبر، عرف سرها و لن يلبث أن يتجاهلها في المنتدى، أن يحتقرها، ثم عنها يبتعد..

وخانها سوء الظن، خانتها النفس وما توهمت، خانها العقل وما خطط..وجاءها رده:

سيدتي العزيزة

كل كلمة منك هي قوة تسكنك لكن تجاهدين على إخفائها، اغتصبك رجل. افقدك غلالة هي لافتة الشرف التقليدية، كثير ممن خلق الله ادرك انها صارت خرقة بالية قد مزقها الزمن، تلاشت فتلاعبت بها الرياح بلا أثر بعدي..تربيتك نشأتك، خوفك، هذه كلها عناصر مؤامرة اصعب بكثير وأخطر مما ألحقه بك قريبك ابن القرية..

قفي أمام مرآة.. انظري الى خلق الله فيك..هل ضاع منك شيء؟

ماضاع منك غير بسمة رضا أنت من تعمد ت قتلها، وبريق عينين غادرهما كحل، يداك من تقاعستا عن الإمساك بمرود امتثالا لعقلك الضابط، الذي تحكمت فيه طقوس البلد وعاداتها وما بنته من مدماك للخوف في نفسك، ما ضاع منك هو نظرة إيجابية لنفسك وقناعتك بها، وقد أحللت بدلها نظرة سلبية تحولت مع الزمن الى شبح مرعب يسكنك، وبدل أن يسكنك الحب سكنتك الكراهية، كراهية نفسك قبل غيرك ككارثة تعوضين بها ما تحسينه وتسمينه ضياع شرف..

قرات كلماته مرة ومرتين وثلاثة، استغربت !!كيف غاب عنها أن في الحياة بار وضال، خلوق وحقير، بشر يخطئون و آخرون يصيبون..

ها هوذا شيخها لم يتخل عنها، لم يتركها، لم يبتعد عنها، أحست ان قربه منها صار التصاقا ذاتا بذات.. لا يتوانى عن السؤال عنها كلما غابت.. احست انه كلما تقدمت الأيام صار يتقرب منها اكثر، في صدق حديثه، في محاولة شدها اليه ..طلب منها ايميلها.. ترددت في البداية لكنها أصرت ان تسير معه الى النهاية فربما قد تكشف حقيقته كما كشفها..

كانت مع الايام تبهرها ثقافته، اتساع افقه المعرفي، كلما واجهته بسؤال فتح أمامها اكثر من باب مما كان منغلقا لديها، قدم لها وجهات نظر متعددة حول الدين والحياة بأمثلة وحقائق ليست هي ما يكتبه المتشددون ويدعيه القوالون ممن يرتدون الأقنعة عند الظهور، واكتشفت أكثر أنه من اسرة عريقة لا يتعدى العقد الثالث من عمره، ضربه القدر بمصاب، ماتت زوجته بعد أول وضع لها، تركت له صبية تتربى في رعاية أمه، غادر وظيفته، وغير توجهه المهني بعد شلل نصفي من صدمة ما أصابه وقد شفي بقوة منه وإصرار على الحياة، وتفاؤل بغد أحسن..

ووجدت نفسها تثق بما يقول، تجرب ما يقترحه، تتخلى عن كثير من عادات ألفتها.. تغتسل شيئا فشيئا من أتربة صارت ركاما على أكتافها، وجدت نفسها تضحك وتشارك الآخرين بسماتهم، تحضر حفلات دعيت اليها، .. تقف أمام المرآة تحرك خصرها برقص، تمرر يدها على جسدها، فتجد نفسها ـ وكما قال لها ـ:" أنثى بكامل الانوثة، لم يسرق منها الاغتصاب الا ماتوهمته قد ضاع وهو باق، حي فيها يحتاج فقط للمسة من يدها "..

تحرك راحة يديها على ثديها فتحس بخفقة في صدرها، رغبة تسري في جسدها، كل ما توهمته قد ذوى لازال ينتظر استجابة منها، إرادة تحركها، نسيانا مطلقا بان عثرة طريق لا يمكن ان تغير العالم الا وهما في عقل من يتوهم ذلك..

وبدأت تتعلق بصديقها، تراسله، تقضي معه الساعات تقرا وتصغى لما يكتب ويقول، وله تحكي استجاباتها الجديدة، نظرتها الى الحياة من حولها بعد أن تعرفت عليه، استغراب أهلها من تغيرها، قناعتها بان الشمعة التي أشعلها الصديق في نفسها بتوجيهاته وشروحه، بالحرية التي فتح لها نوافذ في ذاتها، بقربه منها قد اشعرها بقوة وفخر وانتصار على نفسها وما واجهته خلال أزيد من ربع قرن.. حتى خلايا جسمها صارت أكثر نشاطا وحيوية، وقد آمنت أكثر ان كل إحساس بالقهر والغبن يلزمه صديق بشخصية جذابة، بعواطف إيجابية ونظرة تفاؤل تركز على اعماقك قبل مظهرك وتتماشى مع الإحساس بحاجاتك النفسية، وليس أي شخص قادر على منحك هذا الشعور.وكما قالت له في احدى رسائلها اليه: أحس اني اتغير بسرعة لا لاني نسيت ولكن لانك استطعت ان تفتح أكثر من بوابة للتواصل والعطاء، وتضع أمامي أكثر من فكرة ورأي كلما تعمقت فيها وجدتها هي بوابة نجاتي، لهذا أعدك اني تركت الماضي بغير رجعة واليه لن أعود لكن لا تتركني.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

"مقاطع من نص نثري طويل"

لـ " كـلـكـامـش مـا لـكـلـكـامـش ".. (*)

ولـ " إيـنـانـا " مـا لـ " إيـنـانـا "..

ولـي مـا لـيـس لـي..

*

لـيـس لـي مُـلـكُ هـرون الرشـيـد فـأخـشـى ضـيـاعَـه..

ولا كـنـوزُ قـارونَ فـتـرهـقـنـي حـراســتـهـا..

ولا مـقـعـدٌ فـي بـرلـمـانِ أوروكَ فـأتـشـبَّـثُ بـهِ

تـشـبُّـثَ قَـرادةٍ بـجِـلـدِ خـروف

*

أنـا الـربّـانُ الـذي أراد عـبـورَ بـحـر الـنـار بـسـفـيـنـةٍ مـن ورق..

والـفـلاحُ الـذي لا يـمـلـك غـيـر مـنـجـلٍ صـديء..

والـراعـي الـذي لا يـمـلـكُ مـن الـقـطـيـعِ

إلآ الـبـعـر..

مـنـذ عـادت إيـنـانـا الـى عـالـمـهـا الـعـلـويّ

وأنـا مَـلِـكٌ بـدون رعـيَّـة..

*

يـومـي كـبـاديـةِ الـسـمـاوة

لا شـجـرةٌ فـيـهـا فـتـنـسـجُ ظِـلالـهـا بـسـاطـاً

لِـقـدَمَـيَّ الـحـافـيـتـيـن..

ولـيـس غـيـر الـسـرابِ أســتـقـيـه لـي ولـنـاقـتـي!

*

تـعـلـمـتُ مـن الـنـاعـور أنْ أسـقـي الـحـقـولَ الـعـطـشـى

وأكـتـفـي بـأنـيـنـي..

وكـالـتـنـور: أمـنـح خـبـزي لـلـجـيـاع

مُـكـتـفـيًـا بـرمـاد احـتـراقي

*

لـي:

مـن بـاديـةِ الـسـمـاوة صـبـرُ رمـالِـهـا عـلـى الـعـطـش..

ومـن الـبـحـر الـزَّبَـد..

مـن الـصـحـو الـقـلـق..

ومـن الـنـومِ الـكـوابـيـس..

ولـيـس لـي مـن أوروك إلآ الـغـبـار الـعـالـق بـحـذائـي..

حـذائـي الـذي ثـقَّـبَـتْـهُ أسـلاكُ الـحـدودِ الـشـائـكـةُ

حـيـن اجـتـزتُ أوروك ذات رعـب!

*

مـذ شَــيَّـعـتُ جـثـمـانَ الأمـس

وأنـا أحـفـر فـي مـقـبـرةِ الـحـاضـر

قـبـرَاً لـغـدي..

غـدي الـذي مَـرَّ سـريـعـا

مـرورَ حُـلـمٍ بـمـقـلـةٍ رمـداء

*

لـيـسـت لـي غـابـة فـأعـود إلـيـهـا

هَـربـاً مـن جـحـيـم أوروك

ولا " شـامـاتُ " فـتـؤنـسِـن حـزنـي الـوحـشـيّ.. (**)

وتـذيـب بـنـارِ أنـوثـتـهـا جـلـيـدَ الـضـجـر الـمُـتـجـمِّـدَ

فـي عـروقي..

*

" إيـنـانـا " عـادت الـى كـتـاب الأسـطـورة..

وأنـا عـدت الـى سـبُّـورة الـواقـع:

أمـسـحُ بـأجـفـانـي غـدي الـذي مَـرَّ سـريـعـا

مـنـتـظـراً أنْ يـأتـيَ الأمـسُ فـأكــتـبـه

عـلـى ســريـري!

*

هـي لـيـسـتْ طـريـقـاً فـأسـلـك غـيـرَه..

لـيـسـتْ مـديـنـةً فـأُقـيـمُ فـي غـيـرهـا..

لـيـسـتْ يَـداً فـأُشِـلُّـهـا وأكـتـفـي بـواحـدة..

ولا سـاقـاً فـأسـتـبـدِلُ بـهـا عُـكّـازا..

إنـهـا مـن نُـسـكـي الـتـبـتُّـلُ والـمـحـراب..

والـحـانـةُ والـخـمـرةُ مـن كـأسـي..

ومـن صـحـراءِ روحـي

الـبـتـلـةُ الـتـي أنـجَـبـتْ تـسـعـة بـسـاتـيـن

والـغـيـمـةُ الـتـي مـلأتْ أخـاديـدي بـتـسـعـة أنـهـار

*

أيـهـا الـعـشّـاقُ

مـن رأى بـي شـوكـاً فـلـيُـقـوِّمْـهُ بـأزهـاره (***)

فـتـعـاونـوا عـلـى الـزهـور والـرحـيـق

ولا تـعـاونـوا عـلـى الـشـوكِ والـقـيـح

*

إذا لا أعـشـقُ ولا أكـتـبُ شـعـراً

فـكـيـف ســأعـرف أنـنـي

عـلـى قـيـدِ الـحـيـاة؟

*

الـعـمـرُ لـيـس الـمـاضـي والـحـاضـر

إنـمـا

مـا سـوفَ نـعـيـشُ فـي مُـســتـقـبـل الإيـام

*

قـلـتُ لـهـا بـي جـوعٌ لـفـاكـهـة بـسـتـانـك..

أعـطـتـنـي بـذوراً لأزرَعَـهـا

وتـعـرفُ أنـنـي لا حـقـلَ لـي

وأنَّ الـنـهـرَ بـعـيـد

*

مـا الـفـائـدةُ مـن امـتـلاكـي شـراعـا ومـجـذافـاً

إذا كـنـتُ لا أمـلـك سـفـيـنـة ؟

***

يحيى السماوي

.....................

(*) تناص مع قول السيد المسيح عليه السلام في إنجيل مرقس " ما لقيصر لقيصر وما لله لله ".

(**) شامات : الحسناء التي تعرّتْ للوحش أنكيدو فتأنسن بعد ممارسته الحب معها.. وإينانا إلهة الحب والخصوبة والمطر في ملحمة كلكامش..

(***) تناص مع قول الخليفة عمر بن الخطاب " رض ": أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقوّمه ". وأيضا " فـتـعـاونـوا عـلـى الـزهـور والـرحـيـق ولا تـعـاونـوا عـلـى الـشـوكِ والـقـيـح " تناص خفي مع قوله تعالى (تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)

أشتهي ان أكتب نصا

(لفلم) خيال علمي

اكون فيه عالماً

حالماً

اصنع اكسير السعادة

أجمع فيه خلطة سحرية

بعض من

أوراقِ الجوريِ

وادعية الصالحين

وترنيمة (دللول) من قلوبِ الأمهات ِ

وآيات من الذكِر

و(ماءُ الفراتُ) قبل الجفاف

وارشهُ رذاذاً فوق (رؤس) العراقين

لينسو (اوجاعُ) الحروب .

وبعض فساد الساسة .

***

كامل فرحان

 

مع تباشير الفجر يتنفس الصبح على صوت ضرب كفوف سعدية وهي تطوع الشنكة (العجينة) وتحولها لقرص مستدير ساخن تملأ رائحته منزلها والمنازل المجاورة لها، ومزيج من روائح الحب ودعوات امها التي كانت تجلي عن روحها الهم والتعب. ومع وجود جاراتها اللواتي ادمنت معهن الحديث والحكايات وهن يتجمعن حول دفء تنورها القابع في احدى زوايا حديقة المنزل. كانت تشعر بالرضا عن نفسها نوعا ما، بالرغم من قسوة الحياة وثقل المسؤولية التي ألقيت على عاتقها خصوصا بعد ان غادرتهم زوجة اخيها المتوفى، وقررت الزواج برجل تقدم لها، وتركت لهم ولدين مازالا بحاجة لمن يرعاهم. فكرت كثيرا بهذا الامر وهي تنظر الى طفلين بحاجه الى رعاية واهتمام وشعور اتجاههما يقول بانها اصبحت بالنسبة لهما الاب والام والعمة.."

تمتلئ الحياة بالمنغصات ولعل الفقر من اهمها ويصبح اشد صعوبة على البعض رغم انه يخلق صلابة للشخص نوعا ما، هكذا كانت تبرر لنفسها واقع الفقر الذي تعيشه. وهي تطبع القبل فوق جبين اختيها الاصغر منها سنا وتعبد لهما طريق الدراسة التي تفانت من اجل يكلل بالنجاح كي لا يصبحن نسخة مكررة منها وتكسوا حياتهن وثيابهن حبات الدقيق. لم ينل التعب وحرارة تنورها من جمال شكلها ووجهها فمازال الخطاب يطرقون بابها، لكن ذلك الجمال مصيره الى الزوال هكذا حدثت نفسها وهي تطوع الشنكة التي ذكرتها بثديها الذي أصبح أكثر طراوة وذبولا منها. وما زاد من قلقها أكثر هو تقدمها بالسن دون أن تشعر في خضم حياتها المثقلة بالمسؤوليات.

في أحد الايام شاءت الصدفة ان تطلب احدى جاراتها يدها للزواج من أخيها الارمل، ابتسمت في سرها وارتشفت كوب الشاي سريعا وغمرتها سعادة كبيرة حاولت ان تخفيها قائلة لها: امهيلني يومين لأفكر، شعرت ان الوقت أصبح مناسبا بعد ان كبر ابناء اخيها واشتد عودهم وتفوقوا في دراستهم، واشتدت سعادتها عندما كانت عندما تسمعهم ينادونها يمه. واختيها اللتين قطعتا شوطا كبيرا في حياتهم الدراسية وأصبحن على مشارف التخرج من كلياتهن، شعرت بانها قد ادت كل ما عليها من التزامات عائلية اتجاههم وعليها الالتفات الان لنفسها فنداء الامومة نداء قاس يداعب خيال أي امرأة، لذا كان عليها ان تخبر والدتها بموضوع الخطيب هذا وتشاركها الراي والقرار فيه، لكنها تفاجأت برد صادم من امها عكس ما كانت تتوقع حين قالت لها: انت كبرى اخواتك وأنت من يقوم على خدمتنا وانا امرأة مسنة، يجب ان تكوني اخر من يفكر بموضوع الزواج هذا، ماذا اصابك اين عقلك؟ هل ترغبين برجل يطفئ النار المتأججة داخلك ويبعدك عنا؟

ارتفع صوتها بوجه امها قائلة: لم يزدني العقل سوى بؤسا، لم يعد أحد بحاجة لي، اود ان اتزوج ويكون لدي طفل كباقي النساء، أتمنى أن تشعري بي وتعامليني بالمثل كما تعاملين اخواتي. على إثر ذلك علا صوت اختيها، اللواتي لم تكن ردة فعلهن اقل من والدتها، رفضن بشدة بل ان احداهن كانت قاسية جدا وقالت: لها بصلافة لم تكن تتوقعها، دعك من هذه الاحلام التي لا تليق بمتصابية عجوز مثلك. وقفت عاجزة مذهولة تشعر بالإحباط والحزن الشديد، تذكرت بقسوة تلك الايام الصعبة التي عاشتها، وهي ترعاهم فهي لم تبخل على اختها بشيء. اصيبت بالحزن وشعرت بانكسار في داخلها، كان الارق رفيقها في تلك الليلة التي مرت طويلة، وشريط الذكريات المليء بالتضحيات يسير امامها يشعرها بالخذلان سبب ردة فعل تجاهها. لم يمر ما حدث عليها بسلام ففي اليوم التالي وعلى حين غفلة شعرت بالدوار، وان نبض قلبها أصبح ضعيفا، وفجأة وهي تقف خلف صفيح تنورها الساخن سقطت على الارض وفقدت وعيها افاقت بعدها لترى انهم قد نقلوها الى المستشفى وأنها محاطة بجمع من الاطباء، يبدو انهم كإنو متأكدين من خلال تحاليل الدم التي اجريت لها، بانها مصابة بمرض السكري المتقدم وسمعت والدتها راي الاطباء بصمت وانهارت في البكاء.

سرعان ما نطفئ بريق عيناها وبدت أكبر من سنها بكثير، وأصبحت تصارع المرض والعنوسة معا وغاب صوت كفوفها ولم يعد للصباحات اي معنى شعرت بأن الحاجة قد انتفت اليها، بعد ان اقعدها المرض وتبوأت مكانها الجديد لتجلس جنب الى جنب مع امها. شعرت وكأنها انضمت لكبار السن وغيرت الحياة مسارها معها. بنت قنطرة الاحلام بينها وبين المستشفى، التي أصبحت شغلها الشاغل حتى حديثها تغير وبات يتمحور حول السكري ومضاعفاته والتي كانت تتداوله مع المريضات ممن يعانين من نفس المرض الذي كشر عن انيابه و بدء ينال منها بشكل تدريجي، بدء بجفاف الجلد ووخز ابر الأنسولين التي تركت اثارها على جلدها الرقيق وبشرتها، تسلل الجفاف بصمت لينال من اسفل قدميها الذي تيبس وزادت التشققات فيه، واظافرها التي بدأت تطول وتتقوس كمخالب قط، رغم حرصها الشديد على الاعتناء بها الا أنها وقعت في غفله بعد ظهور تعفن في اصبع قدمها الكبير، لم تشعر به الابعد ان انتشر الى باقي قدمها الذي اصطبغ فجأة باللون الازرق، اخذتها الحيرة والقلق والتفكير في الذهاب الى وجهتها الوحيدة، وهي المستشفى ودهاليزها التي انتهت بها في صاله العمليات وايدي الممرضات وهن يثبتنها في مكانها وكمامة الاوكسجين التي راحت تسرب المخدر الى باقي جسدها، وصوت يقول لها عدي حتى العشرة ....

***

نضال البدري

 

في تلك الليلة لم يستطِع سليم النوم، فقد داهمته رغبة الكتابة:

لا تسأليني، يا أثيرة، كيف أكتب؛ وهل يُسأَل الزهر كيف يعبق شذاه؟ وهل يُسأَل الطير عن طيرانه؟ إنّه يجد جناحيه يرفرفان بعد أن ينبت لهما ريش. وأنا ألفيتُ نفسي أكتب ذاتَ يومٍ دون أن أعرف السبب.

كنتُ كلّما تحدَّثتُ معكِ، يا أثيرة، تبرعمتْ في روحي رغبةُ الكتابة مثل زهرةٍ ربيعيَّة، وتموسقتْ في مسمعي كلماتٌ لم تُنطَق من قبل، وحلّق في فكري الشوق، مثل سُنونوة مهاجرة في فصلِ الربيع، لعناق القلم. حتّى لو كنتِ صامتةً مطرقةً أثناء لقائنا، كنتِ تفجِّرين فيَّ تلك الرغبة الجامحة في الكتابة مثل ينبوعٍ جبليٍّ. كانت حاجتي إليكِ حاجةَ المزمارِ للهواء، وحاجةَ النغمِ للوتر.

يقولون إنَّ الكتابة كالحبيب المتسلِّط الغيور الذي يدمِّر كلّ مَن سواه وما عداه. ولكنَّ الكتابة عندي وصيفةٌ مسخَّرةٌ لإرادتكِ، وفيَّةٌ لذكراكِ. تأتي بعد ابتسامةٍ منكِ، فتحمل صورتكِ إلى ناظري، وتُجري حروفَ اسمكِ على قلمي. الكتابة منكِ ولأجلكِ، ولم تكُن غريمتكِ أبداً. أستسلم لهاجسِ الكتابة الذي يداهمني وأنا مخدّر معدوم الإرادة كأنَّني أستسلم لهمساتكِ، للمساتكِ، لسحركِ أنتِ. يداهمني هذا الهاجس المستبدُّ كيفما شاء وحيثما شاء؛ طوراً بعد منتصفِ الليل فيسلبني النوم، وطوراً وأنا في رفقة الآخرين فيحرمني صحبتهم. إنَّه كالقدر لا يُرَدُّ، وكالطُّوفان لا يقف في وجهه سدُّ.

لم أَكُن أنشر ما كنتُ أكتب. لا جدوى من ذلك. في وطني كنتُ أكتب في فتوتي لكي يقرأني أهلي وأصدقائي ومعارفي، فأشعر بالفخر. أَمّا في الغربة، فأَنا أَلجأُ إلى الكتابة عندما يُمسي عالمي حزيناً يستحيل العيش فيه. فأكتب لكي أعيد تشكيل العالم حولي بقوَّة القلم. يُسكرني حفيفُ الحرف فألوذ بالخيال وأحتفي بحياةٍ لا علاقةَ لها بالواقع. قلمي كان معولي أقطع به الأسوار، أهدّها، أهدمها، لأنطلق في الفضاء الرحب. ولكن لا داعي لنشر ما أكتب. لماذا أنشر في الغربة؟ لا أستطيع أن أُطلعك على بَوحي. ولا يعرفني أحد من القراء في بلدكِ. فأنا مجرَّد غريبٍ عابر أو ضيفٍ مسافر. وما يُكتَب في قطرٍ عربيٍّ لا يصل إلى الأقطار الأخرى إلا لماماً، تصدُّه الحدود والقيود مثل سلعةٍ مهرّبة، مثل بضاعةٍ محرّمة، مثل عارِ ينبغي طمسه.

بعدما غادرتُ وطني، لم أكُن أكتب للنشر، بل لكي أكسر الطوق من حولي، وأخرج من عزلتي، وأتواصل مع الذين بعدوا عني أو بعدتُ عنهم، ولكنَّهم مكثوا في وريدي. أكتب في محاولةٍ يائسةٍ لأعيد بكلماتي الواهية عالماً خلّفته ورائي؛ أكتب لعلَّني بحروفي العليلة أستطيع أن أعيد بناء وطنٍ فقدتُه بحماقة وجُبن؛ أكتب كي أقترب من نفسي، أغوص في أعماقها، أُحسُّ بوجودي، أَتنفَّس نسيم الأفكار حولي؛ أكتب كيما أبني بحروفي الرهيفة خميلةً وارفةً احتمي بظلالها من هجير الغربة وعَسْف الترحال الدائم... ليس المهم أن يقرأني الآخرون، فمتعتي الحقيقيَّة تكمن في فعل الكتابة ذاته. ففي الكتابة تكتسب الأشياءُ حولي بُعداً رابعاً، وينضاف إلى كياني حسٌّ سادسٌ، فأصوغ نفسي من جديد، وأشكِّل عيني ولساني ومن خلالهما أشكِّل العالَم من حولي؛ أُبدع عالماً جديداً ألوذ به، أداري فيه خيبتي، وأعوّض عن عجزي تجاهكِ. في الكتابة أتخلَّص من سجني ومنفاي، فأستعيد حرِّيَّتي وأمارس إنسانيَّتي. ولكنَّ كثيراً ما يشنقني الحرف وترجمني الكلمات.

تحلّق كلماتي بلا أجنحة في فضاء الحُلم، تخترق غيوم َالأعالي، تستحمُّ في مياه الأمطار قبل أن تولد، تغسل عن ريشها غبار الدلالات البالية، تقترب من النجوم فتتجمل ببريقها، ثمَّ تحطُّ على القمر بكامل زينتها لتغفو على تخومه. ويبقى الأمل يراودني أنَّني بعد رحيلي الوشيك من هذا العالم ستعود كلماتي هابطةً من القمر إليه، نابضةً بالحياة، لتمارس عملية الخلق بعد أن كانت مخلوقة.

يهطلُ الألمُ غزيراً في فيافي القلب، حتّى تفيض به جميع أنحائه، وترتفع درجةُ حرارةِ الضياع في أعماق الروح، فأحاول أن أُسطِّرَ الألمَ على الورق، وأبثَّ الحُمّى بين السطور، في محاولةٍ لإرقاءِ النزيف الداخلي وتخفيض سخونة الأحاسيس. أحفر قبراً لحروفي وكلماتي، ألحدها فيه حتّى يعثر قارئٌ مجهولٌ عليها يوماً ما فيبعثها حيَّةً من مرقدها، وقد تغيَّرتْ ألوانُ سحنتها على شفتَيه، وتبدَّل رنينها على مسمعيه.

عندما كنا نلتقي في اليوم التالي، كنت تنظرين إلى عينَيَّ وتقولين: " دكتور سليم، لا شك في أنَّك أمضيتَ سهرةً مثيرة، فآثارها في عينَيكَ المُحمرَّتَين." فأعتصم بالصمت. ثمَّ يثير صمتي شكوككِ فتسألين: " مع مَن أمضيتَ السهرة؟" فأجيب وابتسامةٌ ساخرةٌ على شفتَيّ: " معك، يا أثيرة.". ويظهر شبحُ ابتسامةٍ على شفتَيكِ، ابتسامة يجهضها الحزن في عينيكِ، والقنوط في خديك. كنتِ لا تجودين بأكثر من ابتسامة في أحسن الأحوال. كنتِ تتجنبين الضحك، تهابينه، تمجينه، لا أدري، ولكن لم أَحظَ يوماً منكِ برنينِ ضحكةٍ تنطلق من رئتَين واسعتَين أو من حنجرةٍ صافية، كأنَّكِ والضحك في خصام. ولكن لماذا ألومك على ذلك في حين أنا نفسي لم أَكُن قادراً على الضحك منذ أن فارقتُ بلدي، وأمسيتُ أعجب ممَّن يستطيع أن يضحك، وأتساءَل في نفسي: " يا تُرى ما الذي أضحكه؟". لم أَنتبه إلى أنّني كنت عاجزاً عن قول شيءٍ مضحكٍ لكِ، وعاجزاً عن الضحك لو سمعتُ ما يُضحِك. فقد خبرت الضحك عندما كنت صغيراً. كنا نحن الأطفال في القرية نضحك من أعماقنا لأتفه الأسباب، نضحك بصوتٍ عالٍ يشيع الفرحة في الفضاء حولنا، وتزدهي الألوان، وتغرِّد العصافير.*

***

الدكتور علي القاسمي

...........................

* الفصلة د89 من الرواية:

- علي القاسمي. مرافئ الحب السبعة، ط4 (الرباط/ الدار البيضاء: دار الأمان/ دار الثقافة، 1444/2023) بمناسبة صدور طبعة جديدة منها. والرواية متوافرة في موقع "أصدقاء الدكتور علي القاسمي" على الشابكة.

في يومٍ

من أيّامِ طفولتهِ

كانَ يقلِّبُ أوراقاً منسيّةْ

مُلِئَتْ بحروفٍ يَجْهَلُها

من لغةٍ لا يدري

هَلْ كانتْ ميتةً أم حيَّةْ

قال سأكْبَرْ،

أتعلّمُ سبعَ لغاتٍ أو أكثرْ

وسأبني بُرجاً يُشْبِهُ بُرجَ مدينةِ بابلْ

سأجيءُ بما لَمْ يأتِ بِهِ أحدٌ قبلي

مرّتْ تعدو السّنواتُ،

وصارَ كبيراً

شنّوا حرباً أحرقتِ الأخضرَ واليابسْ

عادتْ قطعاتُ الجيشِ،

وعافتهُ أسيراً

يستجدي النورَ بظلمةِ وقتٍ دامسْ

-2-

في يومٍ من أيّامِ كهولتهِ

كانَ وحيداً يستعرضُ

ما مرّ وراحْ

من سنواتٍ حبلى

بالأفراح وبالأتراحْ

يتمنّى أن يرجعَ طفلاً

أن لا يبقى كهلاْ

أنْ تُنْقذَهُ الأيّامْ

من كابوسٍ يطردُ ما يملكُ مِنْ أحلامْ

يندسُّ بغَفْوَتِهِ حينَ ينامْ

يتركُهُ يبكي

يتبعثرُ بينَ يقينٍ أو شكِّ

وتهبُّ رياحْ

لتخلّفَهُ شبحاً منسياً بينَ رُكامِ الأشباحْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن – أستراليا

 

عَاودتْني رغبة آلْغوص في أعماق مياه الأُقيانوس، فحركت بقدمي زعانف كبيرة وثقيلة، دفعتني بيُسر وبهدوء في عمق الماء، مُستنشقا الأُكسجين المعبأ في قارورة، تشدها إلى ظهري أحزمة مطاطية، فرأيت في الأعماق وِهادا وأغــــوارا، وغابات من النباتات البحرية، وكائنات غريبة الشكل؛ فجأة برز أمامي من بين الصخور سرطان؛ يكبر عما ألفته عيوننا من سراطانات الشواطيء الصخرية، يُثير الرهبة بنواتِئ درعه، وبمخلبه الحاد الذي يُشهره كلما شعر بخطر يتهدده، ورغم ذلك تعقبته، مُتأملا حركاته الفريدة في محاذاته للصخور والأجمات البحرية، وحاولت الإمساك به؛ فآختفى في سحابة رملية يُثيرها بدبيبه، فلم أخل سبيله؛ بل جددت في البحث عنه، فرأيت في لحظة ما ما يصطبغ بلون الصخر يتحرك؛ فلم يكن شيئا آخر سوى السرطان، سبح بعد برهة بعيدا يضرب في الماء بأطرافه المرنة، فآقتفيت أثره في تحد وعناد، ورأيت أحيانا أنه يتقهقر فيلوذ بحفرة، فيبقى لصقها؛ فآنتشله بقوة، لم يُبد أي مقاومة؛ فآستغربت لأمره، وتأملته عن كثب، فلم أدرك طبيعته، لم يكن سرطانا حيا، هو شيء شبيه به، فآجتاحتني أفكار وخيالات كثيرة؛ قلت في نفسي: «في عمق المحيطات والبحار بقايا سفن وغواصات، وطائرات غارقة، وهياكـــل آدمية لم تتحلل، وقنابـــــل حية قابلة للانفجار، وأدوات معدنية»، فتصورت على آلتوّ محطات (تحتمائية)؛ يسكنها بشر يقومون بأعمال لا تطرأ على بال سكان الأرض؛ لذلك أرتاب أحيانا فيما يجري في أعماق المحيط.

وضعت السرطان بحذر كبير في كيس مربوط إلى حزامي؛ الذي يحمل ثُقّالات الرصاص، وحركت زعانف قدمي، فآرتفعت أشق الماء، ألتفت بخوف مرة بعد مرة في زُرقة ماء البحر، أتخيل جيشا بمثل هذا السرطان يتعقبني بآستنفار رهيب، لأن عضوا من كتيبته يوجد في حوزتي، ولما ظهر لي غاطس مركبي؛ تمسكت بحاشيته وآمتطيته على عجل، ووضعت السرطان على طاولة الفحص، وفي باطني رجاءُ مَنِ آستنفد كل وسائل الكشف عن شيء له لغز غائر؛ من أن لا يوجد في أوصاله قنبلة بعَدَّاد تنازلي. قد تصدق نبوءتي؛ فلقد طفحت تِقانة العصر، وأنَّى وليت وجهي أجد ما يُذهلني وما يُريبني.

حدثتني نفسي قائلة: «قيل أن في إسمنت الحيطان، وفي السقوف؛ أسياخ الحديد، ولاقط صوت».

ضغطت بسبابتي وإبهامي على أعضائه، فلمست فيها لُيونة طبيعية، أتيت بِمشرط، وشرعت أشق الأطراف والرأس؛ فكشفت عن جهاز متكامل؛ ذو نظام آليّ وتِقاني معقد؛ من أسلاك موصلة للطاقة، وقطع مغناطيسة، تحتل مركزه نواة عقل إلكتروني ببرمجة دقيقة، يستمد طاقة تشغيله من الفارق الحراري لمياه سطح البحر الدافئة، ومياه الأعماق الباردة، فهي إذن أعضاء سرطان طبيعي مُحنطة بمواد كيماوية، عبارة عن غشاء يلف آخر آلي: لاقط صوت، وجهاز إرسال، وآستقبال ذبذبات صوتية؛ يتم تحليلها في مركز ما.

اِرتسمت أمامي صورة فظيعة لعدد كبير من هذا آلنوع من آلسرطان، يجوس بين الصخور؛ قريبا من سواحل المحيط، ومياهه الضَّحلة، تنقل أغشيتُها آلاصطناعية آلحساسة همساتنا، وهمهماتنا، ودبيبنا، وحركاتنا، وتنسخ ملامحنا، ونظراتنا، وقاماتنا.

ألا تكون في الدماء المستوردة أجهزة رصد مجهرية؟ تنقل نظام مجتمع بكامله إلى حواسيب، يُسجل في أقراص، ويُوثق إلى حين؛ إن في هذا كله نشوة إبداع وخلق، وحافز وتفوق، وسطوة أيضا.

أليس فيه زحف وسيحان؟

إنهم بلا شك يُعايِنونني الآن، ويقرؤون ما يجول بخاطري، وما يخططه فكري. إن هذا السرطان الذي ما تزال فيه نبضات بقية من طاقة كهربائية؛ ينقل ضربات قلبي، وتشنُّجات أعصابي، وتقلّصات أوداجي؛ ويُترجمها إلى لغة؟ لم أتردد؛ فأدرت بسرعة محرك المركب، ولُذت بالشاطئ، وسِرت حثيثا إلى غرفتي، وأحكمت إغلاق بابها ونوافذها، وتصورتني أنني في حصن منيع، جعلت السرطان في طَسْت وصَببْت عليه كمية من البنزين وأضرمت فيه النار، فآحترق وتفحم، ثم صار رمادا أذروه بأصابعي.

شعرت بفرحة آنتصار؛ فآبتسمت وغمرتني نشوة؛ ألم أكتشف جهازا ينقل نأمة وإشارة من يمشي على هذه الأرض، وأُبطله وأدمره؟

ما لبث أن داهم غرفتي ثلاثة رجال في زي عسكري، يحملون رشاشات ومصابيح يدوية، أوثقني إثنان منهم، وسحب ثالثهم من جيبه جهاز مغناطيس، ثم مرره فوق الطّست؛ فآنجذبت إليه حبة معدنية، تناولها بين أصابعه مُحدقا فيها، فآنفرجت أسارير وجهه، وقام آخر بملء خزان إبرة بسائل قنينة، أفرغه في عروقي، وتركني أهوي على الأرض، وعبثا حاولت أن أقف على رجلي وأستند إلى الحائط؛ فتمددت على ظهري وأحسست ببوادر غيبوبة، لم أعُد أُبصر بعدها شيئا، فقط سمعت وقع أحذيتهم، ثم ساد المكان سكون.

***

قصة

أحمد القاسمي

 

تعثرت وأنا أكرع قوافي شعر ابو نؤاس، يبدو أن السكر قد نال مني، ويحي!! أهكذا كنت بمجونك عندما تستبيح بيوت الشعر فتغزوا حروفها، أظنك كنت تختلس النظر إليها اولا ومن ثم تُغير على أسرتها ليلا، تشبعها لثما وهي مستسلمة إليك، تُشعرك بلذة ما تتذوقه، أجدني على غرارك اليوم اسير أبحث عن الجيوب الجانبية عَلَّ هناك من تستحق أن أخرج ثعابيني من تحت ردائي ليسبر عالم لم ادخله في حياتي، ها انا بلغت ما يقارب الأربعين ولا زلت بِكرا.. أظنني موبوء أو أن شيطان عهري قد تاب فغفر الله له، حتى أنه قد صام الدهر بعيدا عن ملذات عالم الرغبة..

بغداد يا لذة العاشقين وغربة الفقراء والمساكين، يا زهو زرياب والموصلي، يا طرب ناظم وأم كلثوم، وعبد الوهاب، يا شواطي دجلة.. يا ابواب جهنم الماتعة التي تفتح فيموج على صخب باراتها الراقصات وبائعات الهوى.. انظر الى حالي يا أبا نؤاس عاشق بائس، لفظه القدرة من بطن حرمان ثم ألقى به حيث تراني، اجوب الأزقة والطرق المعبدة والغير منها، أبيع وهما لنفسي، أمنيها بأبيات شعرك الذي حفظت ولا اخفيك ليس وحدك من أحفظ شعره فهناك المتنبي الذي ما ان أسكر حتى ألبس رداء الشدة والكِبر ثم اسمع كلماتي من به صمم.. لكن يبدو ليس هناك من به صمم غير وحدتي الخرساء.. لكن هناك زبانية سلطة متخفين بهيئة سكارى وما هم بسكارى، فألحق ذيل خوفي بأسناني ثم ألوذ هاربا إلى شارعك، أُُمني نفسي بمتعة مع أنثى أي أنثى فعالمي الذي يحيط بي مجرد من كل أنوثة او لمسة منها، إني محاط بخنازير سلطة، كأن لا هم لها سواي مع أني لم أقل شيء يدين أفعالها وما تقوم به من فساد او نهب أو سرقات، حتى جرائم القتل والخطف والمفخخات لم أتحدث عنها مع غيري رغم أني وغيري نراها، كنت أهرب بعيدا رغم أني شاهد عيان.. لا لست شاهد عيان أشطب هذه العبارة يا أبا نؤاس.. أعلم جيدا أنك شهدت ورايت وسمعت الكثير لكنت بقيت صامتا اخرس لم تبح إلا عن مجون مخمور.. أدرك انك لست المتنبي الذي راح ضحية لسانه، قُتل في صحراء بيوت خالية من الشعر.. حتى نصبه أرأيته؟!! لا زال من ذاق ومؤمن في بيوت الشعر التي صاغها يتطلع الى ما يشير إليه على نهر دجلة.. دجلة الخير أم البساتين.. ضاع وتاه في حبك الجواهري من تعرفيه ولا تعرفيني.. ارايت؟؟ إن حب دجلة وبغداد يصنع من المتسكعين مثلي شعراء واقسم ليس شعراء مصادفة.. إني أقرض الشعر كما يقرض الفأر ما يطوله منذ ان كان درصا، يا له من تشبيه لقد صرنا نشبه انفسنا بالفئران فزمن ان تكون شبلا لذلك الاسد قد ولى.. على أية حال.. ها انا استبق ظلي كي أحظى بزجاجة من مخمور قد نال منه السكر وسقط في وحل الخيال، كم أرغب أن تكون الى جانبي نديمة جميلة تنادمني ثغرها وانا أضع بأناملي النقاط التي لم توضع على حروفها الغائرة، أفترش عباءة رجل متدين، أحكي له قصة الصدق والكذب حينما ارتدى الكذب ملابس الصدق بعد ان اغراه بالسباحة معه، فأرتدى الكذب ملابسه وهرب، وحين سار الصدق بملابس الكذب بين العامة لم يصدقوه فكان كل ما يقوله كذب رغم أنه صادق.. هكذا عالمنا الأبيض اسود والاسود ابيض.. ثق بي يا أبا نؤاس إن حياتك الماجنة كانت قبلة للمتسكعين اما توبتك فكانت قبلة لرجال الدين.. استحضر من ابيات الشعر التي قلت في حق نفسك

يا ربّ إن عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعاً فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم

مالي إليك وسيلةٌ إلا الرجـا وجميل عفوك.. ثم إن مسلم

أظنك تنشد التوبة؟ لقد باتت عناوين مداخل ابواب طلب غفران من كان المجون حرثه، ها انا أمامك لا أؤمن بأي شيء سوى ما بين يدي قنينة الخمر هاته التي أظنها توأم نفسي الأمارة بالسوء فلا حظ لي بغيرها.. أطمع ان يجسدوا حياتي وسيرتي بِنَصب يكون قبلة للمتسكعين في عالم التسكع فيه يحتاج الى شهادات عليا، يتوشح بها من يصبو لأن يكون دكتور او ثور.. إضحك لِمَ لا تضحك؟؟؟ لا اظنك منهم فأنت فارس الخمر المعتق من تظهه يكون مثلك، انا لا اقصدك او من هم على شاكلتك.. إنما عنيت عصرنا هذا او تراه صباح او مساء.. لا عليك سأكتم ضحكتي، يبدو ان مزاجك ليس كما أتوقعه منك في كل مرة سأغادرك حيث رأس المنصور.. سأضع رأسي الى رأسه سأتناطح معه بسؤاله أينا رأسه اكبر أنا أم أنت أم الحمار او الثور، فلا بد أجد عنده الإجابة لأن رأسه كبير جدا.

لاشك سيكون جوابه رأس الجسر أكبر.. الجسر الذي شهد الكثير من القتلى والموتى الشهداء وغير الشهداء دون أن يحرك ساكنا، كأننا نرث الاحداث رضاعة من صدور أمهات ثكلى فهناك على الجسر تركوا نعش من كانت الطامورة بيتا له، تركوه بعد أن نالوا منه بسم زعاف.. وها نحن نتجرع السم من متشدقي التدين والدين بعناوين إسلامية كتب عنها المتنبي وابو نؤاس وتغنت بها ولادة وغيرها الكثير.. لا أعرف لم نحن المغضوب عليهم ولم نحن الضالين.. حسنا.. حسنا لا تشح بوجهك عني، سأرحل يبدو أني قد إنحرفت عن مساري الطبيعي، سأحمل نفسي حيث الزقاق المظلم الذي تقبع على جانبيه المواخير والحانات.. وعرابي الأجساد البشرية، لا تخشى شيئا لست منهم بل انا لي حاوية نفايات أراودها عن نفسها كل ليلة فتجعلني انام معها.. أعني بداخلها هكذا هي حياتي بين زقاق وشارع آخر وبينك وبين الرشيد دون هارون.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

 

أَنا لستُ يوسفَ يا أَبي

وحبيبتي لَيْسَتْ زُلَيْخا

واللهُ يعلمُ بيْ

أَنا لَنْ أَقَدَّ

منْ قُبُلٍ

ولا منْ دُبرٍ

قمصانَ شعبي

وما حفرتُ ...

على جدارِ بلادي  

شروخاً أَو ثقوبْ

ولا أَنا مثْلُ الطغاةِ والقُساةِ

كنتُ جَرَّحْتُها بالندوبْ

*

أَنا لستُ يوسفَ ياإلهي

وإنَّما أَنا العراقيُّ الجريحْ

الخياناتُ خرابي ومَتاهي

أَنا تائهٌ في الريحْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

أَيُّها الزمنْ

أَنا العراقيُّ المُبتلى

بالخائنينَ

الكاذبينَ

السارقينَ

وبالذئابِ التي

تَنْهَشُ لَحمَ الوطنْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

أَيُّها الشيْطانْ

اللهُ يعرفُ

قسوةَ الإنسانْ

إِذْ يَطغى

وحينَ يُغوى

وعندما يصحو

في جسمِهِ الحيوانْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

وما أَلقيتُ أَيَّ كائنٍ

في غيابةِ الجُبِّ

أَو في متاهةِ الوجودْ

*

أَنا لستُ يوسفَ

لكنْ أَنا العراقيُّ

المخنوقُ والمسروقُ

والمذبوحُ والمشنوقْ

والتائهُ في العواصفِ

والقانطُ في المتاحفِ

والضاعَ منّي البلدْ

والحلْمُ ضاعْ

وضاعَ الضميرْ

وضاعَ اليراعْ

وضاعَ المصيرْ

وقَدْ بقيتُ

بـلا :

أَ

ح

دْ

***

سعد جاسم

 

 

عبثًا يحدثُنِي عن الأحلامِ

مستبشرًا بقوادمِ الأعوامِ

*

كم كان مغمورًا بحبِّ حياتِهِ

طلقُ المحيا ذائبُ الأنسامِ

*

لكنَّه من فرطِ حبٍّ قادمٍ

ينأى عن الأنغامِ بالانغامِ

*

يشدو القصائدَ من فؤادٍ صادحٍ

ويصوغُ أغنيةً لطيرِ حمامِ

*

سمحٌ، وديعٌ، طيبٌ، ودماثةٌ

يحكي طويتَهُ فمُ الأيَّامِ

*

عقدانِ مرا، وهو طفلٌ حالمٌ

يلهو مع الأترابِ في إنعامِ

*

وثلاثةٌ أخرى انقضتْ بمحبَّةٍ

يسقي نداماهُ بشهدِ كلامِ

*

يهوى الجمالَ مُتيّماً بظلالهِ

صافي السريرةِ لا يردُّ مرامِي

*

عتبي على هذي النسائمِ قصَّرتْ

في أنْ تقي روحي من الآلامِ

*

عتبي على أيدٍ رحيماتٍ أبتْ

الَّا تكونَ رحيمةً بهمامِ

*

تركتْكَ وحدك دونَ أي فضيلةٍ

ومضيتْ مضطرًا بنارِ ضرامِ

*

حاولت أن ترجو الشفاءَ ولم يكنْ

حلمُ الشفا أبدًا بعيدَ مرامِ

*

سائلتني قبلَ المنيةِ، والدي:

ماذا وراءَ السقمِ من أسقامِ؟

*

حولي يدورُ الموتُ، كيف أردُّهُ

قدري أفارقُكم، وقلبيَ ظامي؟!

*

عندي طموحٌ كيف أقطعُ نسلَهُ

ولديَّ الفُ قصيدةٍ وكلامِ

*

وطِماحُ مَنْ غرسَ المحبةَ جاهدًا

ألَّا أغادرَ موضعي ومقامِي

*

قدْ عدتَ يا نيروزُ بعدَ غيابةٍ

لكنَّ عودَكَ لم يكنْ بسلامِ

*

راحَ الذي يُحْيِيكَ، وهو محمّلٌ

بالحبِّ والأنغامِ والأحلامِ

*

واليومَ أنِّي ذاهبٌ لأزورَهُ

لأجددَ الذكرى، بيومٍ دامِ

*

ومعي التي حملتْ ولم تبخلْ عليـ

كَ بفيضِ عاطفةٍ وحلو كلامِ

*

يا عيد نيروزٍ بمن أفجعتني

فإذا بنورِ الصبحِ محضُ ظلامِ

*

وتركتني وحدي أصارع محنتي

إنِّي على حربٍ مع الأيامِ

***

د . جاسم الخالدي

 

إلى ابني رافي

رفائيللو....

كما أحبّ

أن أناديك

رافائيل يا ملاك الشفاء

باركني الله حين أنجبتك للحياة

وأعطاني اسماً قوياً

من حرّاس مملكة السماء

في ليلة من ليالي آذار

رذاذاً من حنين

عذوبة إحساس

تفتحت لها براعم الأزهار

فوق جميع الأشجار

يا ملاك الشفاء

حين أهمّ بنطق اسمك

تضحك الحقول

فتطير من بيادري أسراب

اليمام

ويظلل وجهي قوس قزح

ووشاح سلام

رفائيللو

يا ملاكي الشافي كم من مدن قطعتها

وشوارع مشيتها

كم من ليالٍ هشّمت واجهة الريح

وأنا أرتل تقاريظ وتسابيح...

وأنا أتلو أسفار العبور...

في ممرات الشقاء

شربنا حياة بائسة

عشنا ثالوثا مقدسا

في أقنوم واحد!

شربنا كؤوس مترعة

ونخب الشفاه الكاذبة

حتى الثمالة

كان لئيماً قاسياً عالمنا

لكنك يا ملاكي كنت مؤمناً

بأجراس الآحاد

وأنا أنظر بصمت في بحر عينيك

كان الأمل يغني

رغم دموع المآقي..

وأنت تردد: لا تبكي يا أمّاه

أيها الفرح الأخضر كالعشب

ياربيع قلبي

أنت رحيق الحياة وبهاؤها

أسير في ظلالك

أتبعك في تخوم دمشق

وحاراتها

وأبوابها السبعة

إلى محيط الجنوب العظيم

تنام من تعب

و ذراعي لك سرير

لم تصمت رياحنا العتيقة

ولم يهدأ قلق حبري يهادن القصيدة

وانت تشاكسني

مثل شقيّ صغير

تقمصّتني ..

تقمصت روحي وبدوت كأنك أنا

يا وتيني

يامؤنس الروح

ساغب فمي بالدعاء

ليحرسك رب السماوات

وينثر بركته صباحاً ومساء

***

راغدة السمان – سيدني / استراليا

 

 

من يعتلي عرش جنوني

بعد انتهاء ثورة العبث

يقايض سوط الصبر

بمشنقة انطلاق

أختزل بها طريقي نحو العتمة ؟

فبعض العتمة وجود

وكثير من النور عدم!

*

من يفتح دوائر الصمت

ليحط السحاب رحاله

على ارتعاش نخلة

منفية خارج الفصول

يقلم براثن المرارة

لتلتقط القصيدة

بعض أنفاس عن بعد

يطرد خفافيش الظلام

من مملكة الشعر

لتفرد الأبجدية أجنحتها

قبل أن يستبيح النشاز

مدائن البلاغة ؟

*

من أشعل كأس الحنين

جمرا وضيئا

حتى صار الارتواء رمادا

وصارت الحكاية مسخا ؟

كيف أخذت الريح كل الشوق

وما نسجنا من أحلام

في ليالي الأرق

لنموت ببطء

في جذل الكذب المراق؟

*

النحيب يغتصب

الظلال في مكمنها

يغتال الابتسامات

في زاوايا ارتباكها

*

كانت الهفوة الأولى

حين انتشى الليل

بضحكة مخذولة في غبطتها

انهدت أشرعتها

على زجاج مرآة مخادعة

أفسدت عرس اللقاء

فشاخ الدم في العروق

جفت آخر قطرة

قد تروي الحنين النابت

في صحراء الذاكرة

وتحيي الشوق الذي مات

بين الجمل الباردة؟

شفق هذا اليوم فاتر

لا تستجيب له النجوى

ولا ترد صداه صهوة الأفق

النداء مصلوب في المدى

عبير الأمس

تجمد على أجنحة السراب

أزهار النرجس

ما عادت تشعل شهية القصيد

ولا هي قادرة على

أن توقد صقيع الإلهام

ليتورد الشعر في حقول الهيام

حتى الطريق التي كانت تعبرني

وهي تضج بسمفونيات الحنين

لم يكتمل قمرها رغم استدارته الموقدة

ولم تعترش في دجاها

مسافات توهان امتطيناها

ونحن ننسج للخطو نجمات

لم ننتبه متى ضاع منا

ذاك التيه المشتهى

ولحظات شجو فتحت لنا فسحة

في شراع الأمل

*

الغروب مضمخ بالأنين

اللحن ينزف في الخواء

عيون الحلم تمتطي الهزيع الأخير

من أنشودة ثمالة غيبتني طويلا

في غبار الكلام !

***

مالكة حبرشيد

 

نحن اليوم في القرن الثمانين، بالضبط في العام 74000 بعد الكارثة، بحسب التوقيت السمكي "المد والجزر" الموافق للسنة الميلادية 2223. كان أمراً متوقعاً أن ينتهي حكم الإنسان لهذا العالم الغريب، بعد أن ارتفعت حرارة الأرض 4 درجات مئوية بسبب السموم التي تبثها المصانع والمعامل. انقرض البشر، وأكثر الحيوانات والنباتات إثر سلسلة من الكوارث الطبيعية.

اندفعت سمكة الجريث قاطعة أمواج البركة التي تبقت في أعالي شط العرب. خففت من سرعتها لتلحق بها رفيقاتها:

-يا للخيبة، هذا كل ما تبقى من دجلة والفرات!

لم يكن من السهل أن تعثر على ما تأكله. أضافت وهي تتنقل بين أعواد القصب:

- لعنتي أن أكون سمكة خالدة. هذا جزائي منك يا صالح.

قالت إحدى رفيقاتها: أما آن الأوان لتخبرينا من هو صالح؟ هيا يا عزيزتي، لقد انتهينا من وضع بيوضنا، ولم يعد أمامنا شيء.

كانت تؤجل الجواب على ذلك السؤال المتكرر باستمرار، لكنها الآن بحاجة لأن تتحدث. قالت:

- ذات يوم، في زمن حياة البشر كنت أنعم بهناء وعيشة هادئة في دجلة، متنقلة بين نباتات مياهه العذبة، غير مدركة لمصيري، وإذا بي أقع في شباك أحد الصيادين، ثم استقر بي الحال في عربة تضم عدة أسماك نافقة من جنسي. يبدو أن البائع كان متعباً. لم يشعر للوهلة الأولى بأنني لا زلت على قيد الحياة فتقمصت دور السمكة النافقة لأنجو، فعلى عكس بقيه الأسماك في السوق كانت أسماك القرموط تباع هكذا، ميتة، وبسعر زهيد.

اقتربت امرأة عجوز، قلبتني، لكني لم أعجبها. بعد فترة قرر البائع أن يغير مكانه داخل السوق عسى أن يجد فرصة أفضل للبيع. لم ينتبه الى أن المرأة وضعتني قريباً من حافة العربة، وبينما كان يدفع عربته الخشبية باتجاه إحدى الأزقة الضيقة، الغنية بالروائح العبقة كالخبز المشوي، وروائح الأطعمة المعروضة، ولا أنسى رائحتي أنا سمكة الجري كما يطلق عليَّ في بغداد أخذت العربة تتمايل بعد أن زاحمت عجلاتها بعض الأحجار. وجدت نفسي وقد وقعت على حافة الطريق، بالقرب من فتحة لتصريف مياه الأمطار. يا ترى هل هو قدري، أم كانت مجرد مصادفة؟

قادني المجرى المطري إلى آخر أكبر حجماً. قاومت تيار المياه بما تبقى لدي من قوة لأصل إلى إحدى الفتحات الجانبية واذا بي في مغطس داخل بيت عتيق مهجور. قضيت في الحوض أياماً وأنا أندب حظي، وأقتات على بعض الحشرات، والحشائش. كان البيت لعائلة عراقية هاجرت إلى خارج العراق. وكانت تستخدم المغطس لطقوس دينية قديمة. هذا ما قاله سمسار العقارات للرجل الذي جاء لشراء المنزل وهو يمر بجانبي دون أن يلتفت لوجودي.

بعد عدة أيام قررت أن أنهي حياتي، فالمياه الآسنة داخل المغطس كادت أن تتلاشى، فخطرت لي فكرة التهام بعض الأحجار لأنهي معاناتي. لمعت إحداهن بلون اخضر فيروزي التهمتها على عجل، فاجتاحني ألم فظيع تفوق شدته عضة أنياب أقوى سمكة قرش. وإذا بي أتحول إلى امرأة جميلة بشعر أسود، وعيون زرقاء، جاثية داخل مغطس قديم!

- يا ترى ما حال بائع السمك صالح؟

قالت الأسماك:

- لا تستعجلن، فهو ليس بائع السمك، ولم يحن دوره بعد.

أجابت السمكة حورية. ثم استرسلت قائلة: كانت ساعتي الأولى قاسية ومؤلمة لأني لم أتقن المشي برجلين، فرحت أرمي بقدميَّ يميناً ويساراً، كما هو التجذيف، إلى أن اهتديت الى الوقوف، وبعدها خطوت أولى خطواتي، وأنا مستندة إلى جدار الحوض. قضيت أيامي الأولى وحيدة في البيت المهجور، عارية جائعة، أنام على أريكة مهملة في إحدى الغرف، يبدو أنها وضعت لغرض ما، إلى إن فاجأتني حركة غريبة داخل المنزل. كان سمسار العقارات قد عاد وهو بصحبة امرأة. تبين لي بعدها أنه يستغل خلو المنزل لأغراض شخصية دون علم مالك البيت.

انتابني الخوف، فوجدت من الأفضل لي أن أختبئ. وبينما كانت أصوات الضحكات تتعالى في الغرفة المجاورة، أسقطت قدحاً دون أن أدري، فأثار الصوت انتباه بائعة الهوى، كانت تحتفظ بوعيها عكس رفيقها المخمور. دخلتْ علي الغرفة وهي متهجمة، واقتادتني من شعري صارخة بوجه السمسار. كانت تظن أنني إحدى عشيقاته. رحت أتوسل ليتركاني في حال سبيلي، رويت لهما ما حصل معي فاطلقا ضحكات هستيرية عالية .

-اشگد شفت كلاوات بس مثل هاي ما سامعة! قالت بائعة الهوى المسماة عفاف.

تركاني وحدي في الغرفة. وأخذا يتداولان في أمري. كانا يحسبان أنني هاربة من أهلي. وقد وجدت فيَّ عفاف العوبة -وهذا ما كانت تعرف به- فرصة ذهبية، فاستغلت جمالي في جذب الزبائن لدار البغاء الذي كانت تقيم فيه. ازدادت أموالها بسرعة، إذ خصصتني في البدء للتجار، والميسورين، ثم لبعض الشباب الصغار في الحيِّ. قدري أن أُستبدل. أن لا أكون سمكة مقلية على صحن رز أحمر في مطعم نعمان أبو الجري القريب من بيت عفاف، وأن أكون غانية تتقلب فوق سرير لذَّة عابرة.

في إحدى الليالي دخل علي شاب وسيم، ملاك بهيئة إنسان يدعى صالح. كان شاباً خجولاً أراد أصدقاؤه أن يكسروا انطوائه فدفعوه لزيارتي. وبينما كنت مستلقية على السرير بثوب نوم رخيص الثمن، وبما أنني سمكة جريث تغوص قريباً من القاع تمكنت من النفاذ لشخصيته، لكني تفاجأت بردة فعله، فقد ذهل صارخاً:

-حتى أنت! يا للخيبة! بنات جنسك بقين طبيعيات، إلا أنت. ما الذي اقترفتِ لتكوني هكذا؟

- ما الذي تقصده؟ قلت له، بعد أن اعتدلت في جلستي.

- أنت سمكة جريث. أجابني صالح ضاحكاً.

ذهلت تماماً! هو الوحيد الذي عرف حقيقتي، فرحت أخبره بتفاصيل حكايتي من البدء، حتى لحظة لقائي به. وبعد لقاءات عدة، حكى لي صالح معاناته منذ أن كان طفلاً، فهو يرى بعض الناس على هيئة حيوانات. وقد ثبت له أن هؤلاء هم السيئون منهم. كانت أشكالهم الحيوانية تظهر تبعاً لأفعالهم الشائنة، فالساسة الفاسدون كانوا يظهرون على شاشات التلفاز كطيور العقاب النهمة، ورجال الدين المخادعون الذين يقطعون الطريق بين العبد وربه تظهر أشكالهم بهيئة حيوان القندس. حتى أنه راح يشاهد مؤخراً الكثير من الكلاب أينما توجه. أخبرني أن حياته أصبحت جحيماً فتعاطفت معه. مرة قلت له إنه ربما يكون تحت تأثير قوة خارقة نتيجة تناوله لشيء ما، كما هو حالي أنا. قفز صالح من مكانة فجأة، تذكر قصة قديمة كانت أمه ترويها له، وكيف أنه حين كان صغيراً تأخر في النطق، فقررت هي ووالده اصطحابه الى المزار ذي البئر السحري، حيث تتلى بعض الصلوات على حافة البئر، ثم يسقى الطفل من مائه، لينطلق لسانه. يبدو أن لجرعة الماء تلك آثاراً أخرى.

حبي لصالح بدأ منذ اللحظة الأولى، أما هو فكان يبادلني المشاعر لكوني سمكة مسحورة صدقت به، وأعطته مخرجاً وتفسيراً لما حصل له. وفي أحد الأيام، كنا نتنزه معاً على ضفاف نهر دجلة، وكانت الدقائق تمر مسرعة كأنها شباك الصياد التي التقطتني، لكنها كانت جميلة هذه المرة، أمسك صالح بذراعي وقرب شفتيه من أذني هامساً:

- هل تعرفين ماذا أحضرت معي يا حورية؟

أخرج من جيب معطفه قارورة ماء، جلبها من البئر السحري ذاته، وقال مازحاً:

- اشربي. لقد جعلتني هذه المياه اتمتع بقوه البصيرة. اشربي واخبريني ما هي هيئتي .

تناولت القارورة، وما أن دخلت جوفي بضع قطرات منها حتى زالت عني اللعنة، ورجعت لهيأتي الأولى، سمكة جريث طبيعية. سقطت على الحافة الحجرية للنهر. هوى صالح فوقي ودموعه تنهمر كحبات المطر. أمسك بي بكلتا يديه وأطلقني في مياه النهر برفق. نعم. هذه هي نهاية قصتي مع صالح يا رفيقاتي. لازلت احفظ كلماته، وهو يركض على حافه النهر مودعاً:

-نعم. إنها مياه البئر. كلامك صحيح يا سمكتي! إنها من تمنح القوة، والحرية أيضاً. وقبل أن أغوص في أعماق النهر سمعت آخر ما قاله صالح: تذكريني يا حورية دائماً، تذكري هذه اللحظات، ولا تنسي هذا المكان: جسر الجمهورية.

***

قصة قصيرة

ياسر هادي - كاتب من العراق

الـصـبـحُ فـي سـيـدنـي طـويـلٌ

كـانـتـظـارِ قـصـيـدةٍ عـذراءَ

تـأبـى أنْ تـطِـلَّ عـلى

الـورَقْ

*

ومـسـاءُ سـيـدنـي روضـةٌ ضـوئـيـةٌ

أزهـارُهـا غـسَـقٌ

بـحـبـلِ الـضـوءِ شُــدَّ الـى الـشـفـقْ

*

وأنـا الـغـريـبُ الـسـومـريُّ

مُـفـتِّـشًــا عـنـي أحَـدِّقُ فـي الـوجـوهِ

لـعـلَّ وجـهـًا سـومـريَّـا

يـسـتـضـيءُ الـسـنـدبـادُ بـهِ

يـمـدُّ إلـيـهِ صـوتًـا مـن لِـسـانِ الـضـادِ

يُـنـجـي الـسـنـدبـادَ الـضـائـعَ الـحـيـرانَ مـن شـبـحِ

الـغـرَقْ

*

الـوقـتُ مـصـلـوبٌ

وشـمـسُ الإنـتـظـارِ بـلا ألـقْ

*

سـأعـودُ ـ قـال الـسـومـريُّ الـمُـسـرِفُ / الـمُـتَـزَهِّـدُ

الـطـفـلُ / الـفـتـى

الـشـيـخُ الـمُـخَـضَّـبُ بـالـتـبـتُّـلُ

والـمُـضَـرَّجُ بـالـنَـزَقْ

*

سـأعـودُ ـ قـالَ ـ الـى مـتـاهـةِ غـرفـتـي

فـلـربَّـمـا

سـتـطِـلُّ مـن تـحـتِ الـجـفـونِ الـمُـغـمـضـاتِ

إلـهـةُ الأمـطـارِ " إيـنـانـا "

لِـتُـطـفـئَ غـابـةَ الـنـيـرانِ فـي جـسـدي الـمُـفـخَّـخِ بـالـشـبَـقْ

*

وتـؤمُّ بـيْ فـوقَ الـسـريـرِ

صـلاةَ " حـلاّجٍ " بـمـاءِ لـظـى تـهـيُّـمِـهِ

احـتـرَقْ

*

وتـصـبُّ لـيْ كـأسًـا مـن الـقـبـلاتِ ..

تُـطـعِـمـنـي رغـيـفًــا مـن طـحـيـنِ أُنـوثـةٍ

فـهـيَ الـوديـعـةُ كـالـحـامـةِ والـرقـيـقـةُ كـالـفـراشـةِ

أو أرقْ

*

مُـتـعـكِّـزًا ظـلّـي مـشـيـتُ ..

عـبـرتُ جـسـرًا ..

جـزتُ سـاحـاتٍ وأرصـفـةً

أضَـعـتُ الـدربَ .. أيـنَ أنـا ؟

سـأرجـعُ قـلـتُ فـي نـفـسـي

ولـكـنـي نـسـيـتُ اسْـمَ الـذي أودعـتُ فـيـهِ حـقـيـبـتـي

ودواءَ وحـشِ الـسُّـكّرِيِّ

وشـاحـنَ الـتـلـفـونِ ..

أثـقَـلـنـي الـرَّهَـقْ

*

قـدمـايَ مُـتـعـبـتـانِ

تـشـتـكـيـانِ وخـزَ تـنـمُّـلٍ

والـدربُ نـحـوَ الـفـنـدقِ اسـتـعـصـى عـلـيَّ

فـمـنْ يُـعـيـدُ الـى مـراعـي الـقـوسِ

ظـبـيَ الـسـهـمِ غـافـلَ مُـقـلـةَ الـراعـي الـمُـكـبَّـلِ بـالـمـتـاهـةِ

فـانـطـلـقْ

*

نـحـو الـبـعـيـدةِ

بُـعـدَ قـلـبـي عـن يـديَّ

وقـربَ شـمـسٍ والـنـجـومِ

عـن الـحَـدَقْ

*

وَعَـدَتْ بـثـوبٍ مـن حـريـرِ الـعـشـبِ

يـسـتـرُ عُـريَ صـحـرائـي

وتـغـسـلُ مُـقـلـتيَّ مـن الأرقْ

*

وتـهـشُّ عـن غـزلانِ رأسـي فـي مــفـازةِ غـربـتـي

ذئـبَ الـقـلـقْ

*

فـأنـا اصـطـبـاحـي فـي الـمـسـاءِ ..

وفـي الـصـبـاحِ الـمُـغـتَـبَـقْ

*

لأعـودَ طـفـلاً ضـاحـكَ الأحـداقِ

دُمـيـتُـهُ الـغـسَـقْ

........

............

...............

مُـسـتـهـزئـًا مـن سـوءِ ذاكـرةٍ

يُـقـهـقِـهُ فـي قـرارتِـهِ الـغـريـبُ الـسـومـريُّ

فـقـد تـذكَّـرَ

أنَّ فـي مـفـتـاحِ غـرفـتِـهِ الـذي فـي جـيـبِـهِ

عـنـوانَ فـنـدقِـهِ وخـارطـةَ الـطـريـقِ الـى الـمـكـانْ

*

مُـتَـعَـثِّـرًا بِـظـلالِ خـطـوتِـهِ

يـسـيـرُ الـسـومـريُّ الانَ نـحـو سـريـرِهِ

فـي نُـزْلِ " بانـكـسـتـاونْ "

*** 

يحيى السماوي

21/3/2023

.......................................

(*) بانكستاون : اسم الفندق الذي نزل فيه كاتب النص الأسبوع الماضي ويقع في ضاحية بانكستاون في سيدني .

عربيٌّ حُبّكَ أنتْ

مَحجورٌ تتدثّرُ بالرَغَباتْ

عرَبيٌّ ...

كالقاربِ حبُّكَ بينَ الصاري والمَرساة

تَحرثُ في الماءْ

تَحشو في ذاتِكَ آلافَ الأعذارْ

كي تبذرَ إنْ عُدِمَ البذرْ

لو عَصَفتْ بك ريحُ الصحراء

لو غطّىٰ هامتكَ الثلجْ

أو إذهب حيثُ تشاءْ

لن تثنيكَ بلادةُ عمرِكَ عن بَيعِ الصَمتْ

وستسعىٰ ذَكَراً شَرقيّاً

ترفعُ راياتِ الإغواءْ

تَصطَفُّ بطابورِكَ مُرتقِباً

كالنسرْ

تبحثُ بين ضحايا الوقتْ

عن إمرأةٍ

تصلبُ فوق أنوثتِها مَنْعَتَكَ الرَعناءْ

ستقولُ بأنّكّ نبتُ الطُهرْ

لكنّكَ تَهتكُ مُفتخراً سرَّ الوجدانْ

أتُراكَ غَزَوتْ

فوراءكَ تأريخٌ يفخرُ بالغَزَواتْ

وسبايا البلدان

فلتُكثِر أنتَ الكَرّ

وليَكُ حبُّكَ كالهَيجاءْ

ولتأسِرَ ما شئتْ

فيَمينُكَ طولىٰ

أتريد الحُبّ

أحببْ واحدةً واعبثْ بسواها

وانكرْ

فذكورَتُكَ المُثلى تغري فيكَ النكرانْ

**

عادل الحنظل

تلكَ أمي تغرسُ نغماً في نبضِكَ

ترويه من عطر الشَّفقِ

من همسِ الوَدَقِ

من فؤادِها صنعَت عَرْشكَ

على أهدابها تهليلةُ قَمَركَ

هل تدري ؟

حولَ هالةِ الشمسِ ستعرِّشُ القصيدةُ...

أرى الصيفَ يشقُّ غيمةً سَكرى

بجناح فراشة

السماءُ تُمطُر حبّاتِ نورٍ

والأحلامُ ترتدي معطفاً مُزركشاً

نصفهُ ياسمينٌ ونصفهُ قداح

هل أخبروكِ..؟

في مواسمِ الضوِء تحترقُ الفراشاتُ

شوقٌ كالتماعِ الشواطىءِ..

يطُيرُ فوقَ أمواجي..

يلثمهُ الغروبُ..

فينعكسُ آياتٍ مِنَ الطُّهْر على ماءِ الجنَّة

كُتب فيها" ...

أمي عشق على أغصانِ السَّماء"

يَزفُّ بشارةَ الحنينِ..

يحبو نحو أرضٍ لا تموت.

***

سلوى فرح - كندا

 

وضعت أمي صحن فتة الشاي على المنضدة أمامي:

- كل. رجتني قائلة.

- بديش اوكل. أجبتها بحرد، هي تعرفه عني أكثر من أي إنسان آخر في الوجود.

- ليش بدكاش توكل..؟ عادت تسأل.

- لأنها الكنفوشة ـأكلت مبارح من هذا الصحن. عدت أرد عليها.

تناولت أمي الصحن من ـأمامي، وتوجّهت به إلى مطبخ بيتنا ذي الباب المخلوع، وعادت بعد قليل لتضع صحن فتة جديدًا وهي تقول لي:

- هذا صحن جديد.

ووضعت ملعقة من النحاس إلى جانب صحن فتة الشاي. شكل الملعقة حملني إلى أمس عندما وضعت أمي صحن المجدرة أمام كنفوشة وأمها، انتابتني حالة من الاشمئزاز وأنا أتصوّر كنفوشة تملأ تلك الملعقة بالمجدرة وتدخلها إلى فمها معيدة إياها بعد لمحة قصيرة لتعاود ملأها من الصحن. لاحظت أمي ما أدخلت نفسي فيه، فعادت تقول.

- كل هذه ملعقة نظيفة.

لم أستجب لأمي ولم آكل، فقد تصوّرت أنني إذا ما أكلت من صحن الكنفوشة أو ملعقتها، فإنني سأصبح كنفوشًا مثلها. ورحت أتصوّر الكنفوش يمشي بصحبة تلك الكنفوشة، وأنهما يتوهان في الغابة، فيضطر للبقاء معها وإلى جانبها، وعندما يجوع يأكل معها من صحن واحد، فشعرت بمزيد من الاشمئزاز. وانطلقت باتجاه بوّابة الدار في محاولة منّي للمغادرة إلى الحارة. قبل خروجي من بوّابة الدار، دفعتني كنفوشة إلى الداخل وهي تقول لي:

- وين رايح فوت.. أنا جاية العب معك.

كانت كنفوشة في الثامنة، أكبر منّي بثلاث سنوات، وكانت تأتي إلى بيتنا المستأجر، في حي السوق بصحبة أمها، فتجلس أمها بالقرب من أمي وتأخذ الاثنتان في التحدّث وشرب القهوة معًا.. وكثيرًا ما كانت لبيبة، أو كنفوشة، تطلب منّي أن العب معها، فكنت أرفض، الغريب أنها كانت كلّما رفضت أن العب معها، تزاد رغبتها في اللعب معي. تهرّبت من كنفوشة وخرجت إلى الحارة، ناديت على توفيق ابن الجيران، لم يرد، حاولت أن العب وحدي، لم أتمكن. أحاطني الملل من كل جانب، فاضطررت أن أعود إلى الدار. في باحة الدار الصغيرة تصنّعت اللعب، وأنا أعرف أن كنفوشة ستأتي إلي وسوف تطلب منّي أن العب معها. وحدث ما توقعته. وجاءني صوتها من ورائي:

- تعال نلعب سوا.

أرسلت نظرة مشمئزة نحوها:

- شو بدك نلعب؟

ابتسمت كنفوشة:

- بيت بيوت.

وأردفت في محاولة لإقناعي: لعبة حلوة كثير. مبارح في نص الليل شفت أمي وأبوي بلعبوها.

تصوّرت نفسي رجلًا ذا شارب مثل أبي.. ينهى ويأمر، فأعجبتني الصوّرة. قلت لها:

- بلعب معك بس على شرط إنك متقرّبيش مني.

وافقت كنفوشة دون أن تفكّر على ما بدا. وابتدأنا اللعب. أقمنا بيتًا صغيرًا في إحدى زوايا باحة البيت.. أدخلنا إليها ما تحتاج إليه غرفة النوم، وابتدأنا اللعب. اتخذت هيئة رجل عائد من العمل إلى بيته، فيما اتخذت كنفوشة هيئة زوجة تستقبل زوجها العائد من العمل.. ورفعنا الستار.

أنا: وين انت يا كنفوشة؟

كنفوشة: هاي أنا هون يا زلمة. فوت.. فوت.. الله يعطيك العافية.

أنا: الله يعافيك.. شو طبختيلنا اليوم؟

تضع كنفوشة أمامي صحنًا فارغًا: كُلّ يا زلمة بالهنا والشفا. طبختلك ملوخية اليوم.

أمد يدي إلى الصحن، أقبِل على صحن الملوخية إقبال الرجل الجائع، أنا جوعان كثير.. الله ما أطيب اكلك. آه هيك لازم يكون الأكل.. تسلم إيديك.

- الله يسلمك حبيبي.

تلك كانت أول مرة تقول لي فيها امرأة "حبيبي"، نسيت نفسي ونسيت اشمئزازي من كنفوشة، بل نسيت أنني لا أريد أن أشبهها، واندمجت بالدور. نظرت زوجتي كنفوشة. تمعنت في وجهها، كانت جميلة، أجمل ممّا خطر في بالي، ها أنذا أراها أول مرة في حياتي كما هي في الواقع وليس كما يبشّعها لي الخيال. اقتربت منها حدّ الالتصاق، فاحتضنتني:

- انت بتعرفش قديش اشتقتلك يا زلمة.

- وأنا كمان اشتقتلك..

اندمجنا بالدور. مرّت اللحظات خفيفة لطيفة. شعورٌ طاغٍ جذبني إلى كنفوشة. في المساء كان لا بدّ للعبة من أن تنتهي. انتهت اللعبة ليبدأ يوم آخر ولنستأنفها معًا. لقد بنينا حياتنا معًا.. ولا بدّ من المواصلة... رحلة الحياة مع كنفوشة كانت الأجمل في الحياة.. فقد كانت أول من أدخل الفرحة الحقيقية إلى قلبي وروحي.. عندما قالت لي: الله يسلمك حبيبي.

***

قصة: ناجي ظاهر

منذ أن عمل في الإدارة، وهو لم يعد يعرف من طرق المدينة غير واحد؛ هو ذلك الذي يربط بين بيته والبناية التي يوجد في أحد مكاتبها التي تتالى في ممراتها؛ المكتب الذي يجلس خلفه، وهو قد اعتاد على ما يحتله من ملفات من الورق؛ موضوعة إلى يساره بترتيب وبعناية، وحاسوب إلى يمينه، وإذا ما سلك طريقا آخر، فهو إما لتعذر المرور من طريقه المعتاد، أو لحاجة هو أو أحد أفراد أسرته في أمَسِّها؛ في يوم من أيام عطلة نهاية الأسبوع، إلى أن كان ذلك اليوم الذي تذكر في إحدى ساعات ليله المتأخرة؛ أياما مضت كان حُرا فيها، في بُروحِه لبيت الأبوين، والتمشِّي في أي طريق، وفي اتجاه أي مكان، والعودة إلى حجرته، وحسبه أنه طاف دنيا شارع المتاجر والمقاهي، وشارع تحف به أشجار بفروع مورقة، وأرصفة مُعشوشبة، وسار في شاطيء صخري أو رملي؛ يخلو إلا من القليل من الناس وقت غروب الشمس، فتاقت نفسه إلى مغادرة منزله في وقت مبكر؛ لا لدافع؛ إلا لأنه أحب أن يقوم بذلك وبحرية، والسفر في طريق، وليس أي طريق، فهو ذلك الذي يمتد أو يكاد بموازاة مع شاطيء البحر، فينتعش من يمشي فيه ببرودة نسيم البحر.

إلا أن فرقا كان بين أيام خلت كان يتنقل فيها راجلا، وبين الآن؛ فهو يركب سيارته الجديدة، التي أتاحت له المضي لمسافات طويلة، وإلى أي مكان يُعجِبُه، ولم يكن يدري من قبل أن سلوك طريق واحد قد لا يُتيح لك الالتقاء بوجوه أُناس كثيرة، منها ما كنت على معرفة قديمة بها، وسلوك طريق آخر أو طريقين؛ قد يمكِّنك الالتقاء بأشخاص، وإن غيرت سنوات العُمُر من ملامح وجوهها، وأحالت سواد شعر الرأس واللحية الفاحم إلى بياض شيب، إلا أن علامات ظلت على حالها تُعرّفُك إليهم.

فما هو ذلك المكان الذي أتاح خروجه في ذلك اليوم على غير عادته الوصول إليه، ومن هو ذلك الشخص الذي تعرف إليه بعد مضي ثلاثين سنة؟

سواء كنت تريد أن تتعجل القيادة في ذلك الطريق الشاطئي، أو تتمهل سياقة مركبتك فيه، فإن علامات تحديد السرعة تتراوح بك ما بين الأربعين والستين والثمانين، فكان هذا يُناسب مزاجه في صباح ذلك اليوم، فليس هناك ما يستعجله، كما عوّدته واجبات العمل وواجبات البيت، فكان يقود سيارته مُتمتّعا بانسيابها به على طريق ذات أسفلت أسود ناعم، لا يُسمع لآحتكاك العجلات به صوت؛ إلا في بعض أجزاء منه تآكلت بفعل ما، وبالاستماع إلى موسيقى هادئة تصدح من مذياع السيارة، وإلى موج البحر الزاحف على الصخور وعلى الرمال، وبالنظر من حين لآخر إلى ما يظهر على جانبي الطريق من أراض مزروعة، أو بساتين عامرة بالأشجار المثمرة، أو بيوت كبيرة، و(فيلات) جميلة البناء؛ بناها ميسورو الحال، وهو يَهبُ نفسه لطبيعة الطريق عن طيب خاطر، ويرتمي في أحضان ذلك الجو الذي تُضِيئُه إشراقة الشمس، وما تزال حرارته معتدلة؛ إذ شد نظره وجذبه بناء بجانب الطريق؛ فُتحت أبواب له ونوافذ من كل جانب، وشُرِّعت دفاتُها أمام طقس الساعات ما قبل الثانية عشرة الرطب، وطواجن بَلدية موضوعة في خط مستقيم على مـِجْمر قصديري مستطيل؛ يرتفع منها بخار ما يُغلى فيها من مرق، وما يُطهى فيها من خضر ولحوم؛ فعرف أنه مطعم، وفي الجانب الآخر من الطريق موقف يتسع لأربع سيارات لا أكثر، وما بعدها تنخفض الأرض، وتتسع لموائد بلاستيكية، ومظلات تقي من يجلس؛ يتناول مما نضج في طاجين من ذلك المطعم؛ من حرارة شمس شهر يونيو، ويُمتع بصره بتلال من رمال الشاطئ؛ تبدو هنالك بعيدا، وبما بعدها حيث تمتد مياه البحر إلى الأفق.

فما أمتع الجلوس في هذا المطعم المنعزل والبعيد عن ضوضاء المدينة وصخبها! وما ألذ ما في طبق يُتناوَل على موائده المستديرة والمستطيلة! ولم يكن يقطع سكون المكان وهدوء الحركة داخل المطعم إلا صوت مرور سيارة أو شاحنة، فخفَّض السرعة وأدار المقود جهة اليمين، وترك سيارته تجد مكان وقوفها، وترجل مُستكشفا بالتدريج وبتآلف واجهة المطعم، وعمال هذا الأخير الذين لم يكن يتعدى عددهم ستة، وطالت قامة أحد بينهم؛ ما إن خطا قاطعا الطريق حتى ألقى عليه نظرة حادة مُرحّبا به، ومُخيِّرا إياه بين أن يجلس بين جدران المطعم، أو في الحديقة الخلفية الواسعة، والمفتوحة على سماء صافية زرقاء، فعرف أنه صاحب المطعم، ونادى هذا آمرا من ينظف المائدة، ويعدل من ساق المظلة؛ بحيث تُلقي هذه الأخيرة بظلها على أكبر مساحة من مكان الجلوس، فشكره وجلس باحترام وتقدير للحفاوة، وطفق يدير رأسه إلى جانبيه وإلى الخلف؛ ليمنح لعينيه فرصة مشاهدة قفص باتساع حجرة صغيرة، وبعُلوّ يتعدَّى قامة رجل طويل؛ يسكنه زوجان من طائر الطاووس ودجاج ودِيَكة، وفي ركن بعيد على يمينه كلب مربوط قريبا من مسكنه الخشبي ذي السطح الهرمي؛ ينبح بين الفينة وأخرى؛ ناصبا أذنيه الطويلتين، ومُتصفّحا بنظرات حارسة وجوه القادمين.

عاد ناظرا أمامه، فرأى مالك المطعم يقصده مُبتسما، فبادله بالمثل، وقال:

- مرحبا بك مرة أخرى؛ أي نوع من الأطباق تشتهيه في هذا اليوم، وفي محلنا هذا الذي أرجو أن ينال رضاكم؟

أجاب وهو يحاول أن لا يظهر من أنه لم يتعود الجلوس في المقاهي والمطاعم:

- في الحقيقة ما أمتع الجلوس في مطعمكم... أريد طاجينا باللحم...

ولم يزد حرفا واحدا من طلبه هذا، وظل يحدق في عيني صاحب المطعم مدة وحدات من الدقائق، ويجول بعينيه في صفحة وجهه، ويدقق النظر في ملامحه، وقد استرجع صورة من الماضي البعيد؛ لم تُفارق مخيلته قط، كما لم يتركه نفس السؤال عن الذي وقع حينذاك؛ يُعيده في ذهنه منذ ذلك التاريخ، ولا يمكن أن يجد له جوابا.

فحاول مرة ثانية استحضار وجه ذلك الشاب الذي كان يركب عربة خفيفة من عجلتين، ويمسك بالأعِنّة؛ حاثا الحصان على الركض بالسوط الطويل، ليجري بالعربة الحديدية بأقصى سرعته، ويجلس بجانبه على المقعد الجلدي الطويل شاب آخر في مثل سنه، وإن نسي أشياء، فلن يغيب عن ذاكرته خوف مريع ينبعث من عيونهما، وتأهّبهما الظاهر إلى فعل خطر، وكان قد التفت الشاب المرافق إلى الوراء مرة واحدة؛ ليرى ما إذا كان أحد يتعقبهما، وغابا؛ لا يسلكان مِسربا ممهدا أو طريقا، وإنما قاطعين بلا هوادة الأراضي المحصودة والحقول المزروعة.

كان قد مر به هذان الراكبان للعربة السريعة، وهو واقف خلف السياج الشائك؛ المحيط بالاستغلالية الفلاحية التي كان أبوه يحرسها، وكانت في ملك أحد الأغنياء، كان سنه آنذاك أربعة عشر عاما، وكان قد صنع من القصب النابت في جانب من البستان مزمارا، بتشكيله بسكين قديم ذي مِقبض من العظام، وينفخ في أنبوبه مُزمِّرا بانتشاء تحت ظلال أشجار وارفة الأغصان والأوراق، في حر شهر يونيو.

ولم يخلف ذلك الحوذي وصاحبُه وراءهما غير صوت تكسير الأغصان اليابسة؛ سُرعان ما توقف ذلك الصوت، وعَجَاجة من التراب أثارته العجلتان المعبئتان بالهواء المضغوط والسريعتان، ولم تمر خمس دقائق حتى ظهر رجلان يكبران سنا عن الشابين؛ يمتطيان دراجة نارية، ولم تجد عجلتا هذه الأخيرة أرضا ممهدة لتستقيم قيادتُها للذي يُمسك بالمقود، فكان هذا غير ثابت في يديه، فكان سيرها متعثرا، وكان تعجلهما هستيريا؛ لم يُجْد نفعا، فتوقفا وسألاه:

- هل مر من هنا شابان يقودان عربة؟

ولم يكن على معرفة حتى ذلك الوقت بخطورة ما يجري، فأجاب بتلقائية وبسذاجة الغير المدرك للأمور:

- نعم... مرا منذ قليل.

وسأل أحدهما قائلا:

- في أي اتجاه ذهبا؟

أجاب بإشارة من يده إلى الاتجاه الذي اختفيا فيه الشابان، وإن حاول راكبا الدراجتين اللحاق بسرعة، إلا أن مُحدبات ومطبات الأراضي المحصودة والمزروعة حالت دون انطلاق الدراجة بهما كما ينبغي، وظلا يجاهدان حجارة وحصا وحفر التربة المحروثة؛ بقليل من النجاح.

لم يُخف القابض بمقود الدراجة حقيقة ما يحدث، فقال له:

- إننا نطارد هذين الشابين، لأنهما اقتحما على أحد مُلاّك الضيعات القريبة من هنا بيته، وسطوا على مبلغ كبير من ماله، وقتلاه، وهربا راكبين عربته، ويكونا بهذا سارقين للحصان أيضا.

وجرى آيِبا إلى الداخل؛ باحثا عن أبيه؛ وجده بين فروع عروش كروم يُقلِّم فروعها، فأخبره، فتوقفت يدا الوالد عن العمل، وظل الـمُقلّم متعطلا، ونظرت عينا الكهل برزانة إلى إبنه، والذي تفوه به وبصوت هادئ هو:

- لا تعود مرة أخرى إلى الحديث في هذا الأمر، ولا تُخبر به أحدا؛ إننا لسنا في مأمن في هذه الناحية الخطرة.

فأُلجِم لسانه، وتراجع وقد أدرك ووعى بخطورة ما شاهد وما سمع.

كان هذا قد حدث منذ عشرات السنين، ولم يخطء، فصاحب المطعم وهو الآن شيخ، هو ذلك الشاب القوي البنية، والمجيد في إرسال لجام فرس العربة عاليا؛ هامزا الدابة.

وقال بينه وبين نفسه، وهو ما يزال يسترق النظر إلى صاحب المطعم؛ كلما ظهر يتردد بين أركان مطعمه والمطبخ؛ مُلبِّيا طلبات الزوار من حين لآخر »... ونفّذت أمر والدي، فلم يغرِني لساني بلذة الثرثرة في ذلك الموضوع، الذي لم تكن تُحمد عقباه في ذلك الزمن على الأقل«.

وهذا أحد السارقين الهاربين ما يزال حيا يُرزق، ويُدير مطعما فخما في ملكه، ويخطر في مشيته آمرا في رَقِيقِه؛ وزاجرا وناهيا إياهم، ولا يُهمل له قرار يتخذه في الحين، ولا يتقاعس عنه أحد ممن يخدمون المطعم... اِجتاح هذا الكلام خاطره، واحتوت عيناه الـجُدُر والسقوف والأرض الرحبة، وآب متحدثا في داخله »أهذا من ربح استثمار ذلك المال المسروق... مال ضيعة المقتول؟«.

وقد مر على ذلك الحادث زمن، فماذا تتالى عنها من الأمور؟ هل طُوِي ملف البحث عن الفاعل وإلى الأبد منذ ذلك الوقت؟ وهبْ أنه عرف بأن هذا الذي يجلس بين موائد الحديقة الخلفية؛ ينتظر أكله من أحد طواجين مطبخه تَذكّره، ولم تغب صورته عن ذاكرته قط، فهي ظلت حاضرة في مُخيلته وتأبى أن تتركه، وإن كان يحاول أن يمحوها؛ إلا أن الذاكرة لا أطوار في عمرها، ولا تشيخ ولا تموت، وأن النسيان لا ينال من أي مما وقع في ماض حياة الإنسان، لو حاكمت الذاكرة الناس على أفعالها المنكرة لفني العالم... فماذا سيفعل؟

إذا ما بُحِث عنه آنذاك، وأُلقي عليه القبض، وحُوكم عليه، ونُفّذ الحكم فيه؛ فهو قد نال جزاءه، أما إذا كان ما يزال صاحب المطعم هذا هاربا من العدالة، فهو القاصد لهذا المطعم النائي للإسترخاء وللإستجمام؛ قد فتح ملف قضية سطو وقتل؛ ظل منذ عشرات السنين مُهملا في دهاليز المجهول.

وقُدّم إليه الطاجين على المائدة، ورُفِع غطاؤُه القُمعي، وارتفع بخار الطهي، وفاحت به روائح لذيذة؛ تُحرّك شهية معدة جاعت وأضناها أكل البيت ومطاعم المدينة اليومي والروتيني. لكن هل ما يزال يتوق إليه بعد الذي استحضره من الماضي المخيف، والطاجين من صَنْعة مطعم هذا الرجل المتعدي؟ وما إن تناول منه ثلاث لقمات حتى عافت نفسه وأرادت الانصراف عنه، إلا أنه تابع الأكل مُكرها، حتى لا يُلاحظ عنه ذلك صاحب المطعم، فيُصبِح محط ريب، فأكل حتى لم يَفضُل في الصحن الطيني إلا بعض العظام؛ أُستُعصِي عصبُها ونُتف لحمها، فلم تنال منها القواطع، وقِطعا من البطاطس والجزر، ولم تغب عينا مالك المطعم عن الآكلين، فهو يسعى إلى الاطلاع على العلامات التي تُؤدي إليها الطواجن؛ هل هي إعجاب ورضى أم شيئا آخر؟ وقد رأى أنه قد انتهى من الأكل، فقَدِم إليه مُبتسما كعادته، وما دام الجالس الوحيد، وبدون صُحبة فقد جلس صاحب المطعم على الكرسي الشاغر، وسأل يريد الرأي في الأكل:

- بالصحة والعافية... ما رأيك في طريقة صنعنا لِأُكلة الطاجين؟

حاول أن يُخفي الآثار التي يمكن أن يتركها تَوصُّله إلى معرفة هذا الشخص على وجهه، ومداراته بابتسامات مصطنعة، وبالتفاتاته في الصحن، وفي وجهه هو، لكن غلبه الفضول الذي قد يؤدي إلى رد فعل خطر، وظل يحدق في وجهه ويتحقق من العلامات الباقية من شباب ذلك العهد، وهو يقول:

- ما أراه في الطاجين ليس مجاملة لك، فهو بحق لذيذ، وقد نجحت الأيدي التي صنعته في ذلك، وبالطبع هذا هو الهدف لجذب المزيد من الزوار والزبناء.

وكان صاحب المطعم وهو الذي امتد به العمر، وله خبرة في سبر أغوار نفوس الناس؛ قد لاحظ التفرس الطويل في وجهه، ولم يفطن وقتها بما وراءه، ونطق باطمئنان إلى رواج طواجنه على جميع الموائد تقريبا؛ قائلا:

- لم أدرس فن الطبخ، ولم أتعلمه من طباخ معلم، فالذي فكرت في العمل فيه هو أنني عندما هاجرت إلى إيطاليا، وعملت هناك مساعدا في عدة مهن وحرف مدة ثلاثين عاما، ولما عدت لم أجد من الشغل المناسب، والذي يضمن مدخولا قارا إلى حد ما هو فتح مطعم، واخترت له هذا المكان لوجوده بجانب الطريق الساحلي، ليقصده السائقون المهنيون، والمسافرون في أيام عطلات نهاية الأسبوع، أو عطلات فصل الصيف السنوية.

لم يُضف على سيرته العملية هذه المقتضبة أو الموجزة كلاما آخر، وكان ينظر في عين الذي أمامه، وطال تمليه لملامحه وقراءة ما في داخله، وما يُمليه عليه عقله؛ إذ كان قد لاحظ كيف انبتّت عينا المتغدي على الطاجين فيه، ولم تَمِل إلى أي جهة، ولم تَرمش جفونه إلا مرة واحدة، فغزا صاحب المطعم شك آسر، وقام من جلوسه وقد تغيرت سِحْنته، وتحول ولأول مرة من رجل ذي ثقة في النفس؛ لا يُطأطأ الرأس استخذاء ولا ينهزم، ولا يخاف من أي أحد؛ إلى آخر زُعزِع في وجوده، وسار ولم يلتفت، فقد أدرك أن هذا الذي لم يعتد الجلوس في المطاعم والمقاهي، ولم يألف الذهاب إلى الأماكن البعيدة والمعزولة؛ يعرف حكاية من حياته، والحكاية المثيرة والمخيفة كان حدثها قد مر في سنون الشباب، وفي حيوية وخفة هذا الأخير، وطيشه واندفاعه الغير المحكم ومغامراته الغير المخطط لها؛ هي المرافقة للسطو والقتل؛ هذا الأخير كان يجهل فنه آنذاك وكيفية الإقدام عليه.

وعاد إلى عمله دون أن يُلقي أي نظرة إلى الوراء، فقد كان أدرى بقراءة العلامات المرتسمة على ملامح ذلك الذي يجلس إلى إحدى موائد محله، ولم يكن شكلها الغريب إلا تعبيرا عن السر المخفي، وآثار إحساسه هو الرهيب؛ طفت على الوجه.

لم يعد إذن ليكون للطاجين طعم، ولم يرُق لصاحبِنا أن يستطيبه أو يستمرئه؛ لصورة الماضي المريعة الـمُستحْضرة، ولم يطب له الجلوس أطول مدة، وفارقته رغبة الاستمتاع، أو الميل إلى هدوء هذا المكان، فقام على رِجلين مرتجفتين وتائهتين، وخزر في الناس المنكبة بلذة، وفي مداخل بناية المطعم، وخطا وهو يرجو أن لا تتبعه عينا ذلك الرجل المتقهقر إلى الماضي الذي يكاد أن يضرب في جريمة البشر الأولى، وظهر أحد المستخدمين؛ ناظرا إليه بعينين قلقتين ومتحفزتين؛ قهرهما أمر صادر عن مالك المطعم، فأدرك أنه مبعوث به لأخذ نقود مقابل الطاجين، فأفرغ هو في يديه ما كان في جيبه معدودا لذلك، وقطعت قدماه المسافة التي كانت تفصله عن سيارته، وما إن أدار المفتاح، وتناغمت عناصر المحرك الميكانيكية؛ حتى كان يجاري انعراجات طريق الرجوع، وحتى لا يُخطيء أو يَغفل أو يُهمِل ما يُسبب في وقوع زيغ عن خط السير، أو اصطدام أو انقلاب مميت، وحتى ينسجم مع حركة التجاوز، أو إعطاء فسحة أو مُهلة للذي يتجاوزه، فإنه كان ينظر مرة بعد مرة في المرآة الداخلية، والذي لفت انتباهه في إحدى المرات ظهور سيارة سوداء اللون؛ في إطار المرآة المستطيل؛ حافظ سائقها على مسافة معينة تفصل بينهما، وسبق أن شاهد جزءا من مؤخرة هذا الطراز يظهر من مدخل مَرْأَب يُحاذي المطعم الذي تناول فيه طعامه، وغادره منذ عشر دقائق. هل هذه السيارة تتبعه؟ هل سائقها يمشي خلفه؟ وإذا ما استمر في متابعة عودته، فسيتعرف الـمُقتفي للأثر على الحي الذي يسكن في أحد منازله، فما إن ظهر له من بعيد طريق في الجانب الأيمن؛ يؤدي إلى أحد شطآن الاصطياف حتى انعطف إليه وخفّض السرعة، وألقى نظرة خاطفة إلى الوراء؛ إلى السائق الذي يقود الميرسيديس، والذي لم يكن في باله أن السيارة التي كان يتبعها ستنعطف، كان يرتدي نظارة حوَّل شكلُها هيئة رأسه إلى شخص غير معروف، ولم يعرف أنه صاحب المطعم إلا من شعره الأشيب، ومن ياقة قميصه العريضة والزرقاء اللون، إذن فهو يتعقبه، فتابع السير في ذلك الاتجاه بسيارته، وهو يقرأ في لوحة إرشادية إسم (مقهى الرمال الذهبية)، ثم ركَّن السيارة في صف من السيارات، وصعد دَرَجا، وجلس على أحد كراسي مائدة المقهى ناظرا إلى البحر، فالحل الذي توصل إليه وأملاه الظرف الآني هو يكفي أن يظل هنا جالسا يفكر في الكيفية التي ينفلت بها من الطريق الساحلي، ويؤوب إلى بيته كما غادره؛ لا يعرفه أي أحد، من أن يتابع طريقه فيهتدي هذا الذي يتبعه إلى حي سكناه، وهو ما يزال يستجمع تفكيره، ويتغلب على خوفه ويلم بما يحدث الآن؛ إذ طرق أذنيه هدير محرك (الميرسيديس)، والتفت ليرى تقدم مقدمتها خلف سياج المقهى النباتي وتوقفها، وظهور مالك المطعم يرتقي الدرجات قاصدا إياه؛ تاركا جسده الممتليء يستقر على كرسي، وقال بعصبية، ووجنتاه اللتان تكادان تذوبان بالشيخوخة ترتجفان:

- لا تـُماريني، فإنك تعرف حكايتي، وإني أقول كلاما عليك أن تصدقه، وقد مرت أكثر من ثلاثين سنة على ذلك الفعل؛ أنني لم أقتله؛ نعم لم أقتله، فالذي رافقته للسرقة هو الذي أجهز بضربة على رأسه بقضيب من حديد، لأنه أراد مقاومتنا؛ بأن وجه بندقية صيد إلى جسدينا، وكان يظهر من عينيه أنه كان يحاول بكل ما يتسلح به أو بكل جهد قوته في انقاذ حياته وماله.

حار الـمُتعقَّب فيما سيتكلم به، ويدفع عنه اندفاع هذا الرجل الهستيري، الذي بدأ ظهره ينحني بعمره الذي تعدى سبعة عقود؛ ويفكر فيما يمكن أن ينطق به ليُكذّبه؛ بأنه لا علم له بما قام به منذ أعوام مضت، فقال:

- كيف عرفت يا سيدي بأني أعلم بحادثة القتل هذه التي برَّأت نفسك منها؟

رفع الرجل أُصبُعه في وجهه وجسده يرتجف، وقال:

- لا تتجاهل؛ فإني قرأت على وجهك ما تحتفظ به ذاكرتك، وما تُبطِنه نفسك.

رد هو قائلا وقد خاف من بطش الرجل:

- تنحّى عني أيها الرجل... وهبْ أني على علم بما حدث، فما تظن أني فاعل الآن... لا شيء.

برقت عينا الرجل وضحك بانفعال حاد، وقال:

- ستشي بي... ستُبلّغ بي إلى جهاز الأمن ليقبضوا علي.

رد هو محاولا النهوض والانصراف من المكان:

- ولأي هدف؟ أنا لا أُبلّغ بأحد، وكيف أنقل فَعلتَك إلى إدارة الأمن وقد مرت عليها عدة سنوات، وإن هذا لمن أفعال من لا يقدرون العواقب، ولماذا أزج بنفسي في سرقتك، وفي قتل إنسان أنت تُبرِّئ نفسك منه.

لم يبال لما وعد به نفسه بأنه بعيد كل البعد عن قصته، فقال متوعدا إيّاه:

إنك معروف الآن، وسأترصد لتحركاتك، وإذا ما اشتهت نفسك إلى الاخبار بي سأقتلك.

ثم تذكر شأنا ذا بال؛ كان غائرا في نفسه، فعاد إليه هدوؤه قليلا ما، وقال، وكانت نفسيته المتأثرة بذلك الحال قد ملأت العين بدمع يلمع، وباحمرار حزن دفين:

- كنا؛ أنا وهو والآخرون قد رمينا بأنفسنا إلى أمواج البحر الهائجة، وسبح من كانت له القدرة على مجاهدة الأمواج الضاربة لصخور الشاطيء بقوة قد تُهشّم عظامك. كان قائد القارب يمسك بمقبض المحرك الموجه؛ وهو المهرب للكائنات البشرية إلى سواحل إيطاليا؛ إما هم أحياء أو كثل من لحم تجرفها تيارات البحر الأبيض المتوسط إلى الشواطئ المهجورة، ويصيح فينا بذلك الأمر المريع؛ أنِ اسْبحُوا، فشاطئ النجاة والوصول يظهر من وراء ضباب نسيم الصباح، وسبحت مع السابحين، وناديت عليه فأجابني صاحبي بصوت كليل ومختنق بماء البحر المالح أنه هناك، ولم يرد علي في المرة الثانية، فعرفت أن موجة عاتية أطبقت عليه، وخرت به إلى أعماق البحر، ولم يقتله فقط الموج المائج، فقد كان الجسد الآدمي لا يتحمل درجة الماء التي انخفضت إلى مستوى التجمد في ذلك الفصل، فقد مات الذي قتل مالك الضيعة غريقا، ونحن نحاول أن نطأ أرض إيطاليا مهاجرين سريين ؛ أرض حلم الثراء؛ كنا نتزود به في مُخيلتنا الجدباء، وفي قلوبنا الظمآنة ، ولم أعلم عن أي خبر عن جثته، بل اختفيت عن العيون الراصدة، وتحاشيت البحث عنه، أو الاستعلام عن ما إذا رمى البحر بجسده، لأني كنت أريد أن أفلت بنفسي من المحققين في جريمة السطو والقتل، وأن أنجو من الغرق.

وفي غمرة هذا الجو المشحون بلقاء مُفاجيء بين المشترك في السرقة، وبين من تعرف عليه، وباسترجاع حادثة القتل، وأيام الهجرة عبر البحر العصيبة، والنهاية المؤلمة آنذاك لأحد ذانك الشابين المغامرين والمندفعين بحماس خادع، وبمحاصرة صاحب المطعم الغير المنتظر؛ طرأت عليه فكرة ليُخلي سبيله، فقال:

- أنصت إلي أيها الرجل إلى ما سأقول لك؛ حكم عقلك فيما اعترفت به، فإني لست شاهدا على ما ارتكبته، وليس لدي أي دليل على ذلك. كنتُ فتى أتسلّى تحت ظلال الأشجار بمزمار من قصب؛ لا أعي بما يحدث في الواقع، ومرت عربة بشخصين يتعقبهما آخران؛ يركبان دراجة نارية؛ هذا كل ما أتذكره؛ أكنت أنت أحد المسرعين بالعربة؟ فإني غير مُتيقّن، وإن حاولت فإني أكون قد زججت بنفسي في أمر لا أعلم بتفاصيله.

نقر مالك المطعم بأصابع يده اليمنى على سطح المائدة بتشجنج، وقال:

- نعم... ليس لك دليل مادي قاطع... نعم...

لقد أنهك رجل مطعم جانب الطريق حِمل فعل إجرامي والعُمُر الطويل، فأدار وجهه جهة البحر، واستنشق بعمق وبيأس هواء مشبعا ببرودة البحر وأعشاب وطحلب هذا الأخير، ثم ترك المكان.

تنفس الصعداء ذلك الموظف العمومي، وذهب عنه الخوف من جدية الموقف، لقد شعر بمدى ثقل الماضي الرهيب على الرجل، فهو قد عاش هذه المدة المديدة بشعور يومي؛ بذنب تزداد حدته مع دنو الأجل، وبعد أن دبت في الجسد أعراض المرض، ثم آوى إلى بيته، ولم ينم إلا ساعات قليلة، ولما استيقظ في اليوم التالي؛ أحس برغبة شديدة في معرفة أول ما حدث، فالذي على علم به الآن هو الجزء الأخير من الحكاية؛ ثم قتل مالك الضيعة، وهروب المهاجمين بمبلغ من المال، وحتى يختفيان عن المحققين في الجريمة، وتعقُّب المفتشين لهما؛ لا يُعرف لهم مكان يمكن أن يتواجدا فيه، فيُلقى عليهما القبض؛ هاجرا إلى إيطاليا سرا عبر البحر، واستطاع أحدهما السباحة إلى أحد الشطآن وغرق الآخر، بعد أن لم يعد بالإمكان اقتراب قارب الهجرة السرية أكثر؛ لاحتمال وقوعه في قبضة سلطات خفر السواحل البرية والبحرية.

فكيف تسللا إلى الضيعة؟ وكيف اهتديا إلى مكان المال؟ وكيف ضبطهما المالك فاصطدم بهما؟ وفي النهاية ما مآل أملاكه بعد موته؟

فما هو السبيل إلى الإجابة عن هذه الأسئلة؟ ويعود مُراجعا نفسه، فيقول بأن الواقعة لا تعنيه في أي شيء، ويستمر في تَرداد تلك الأسئلة التي تجيب عن محاور الحدث، فيُقرِّر في الأخير أن لا يتراجع، فيُسافر إلى الجهة التي كانت فيها ضيعة صاحبها المقتول، وأن يسأل من ما يزال يتذكر واقعة الفاجعة وأن يتتبع الخطى.

للذهاب إلى هناك عليه أن يقطع مائة كيلومتر، وهذه ليست بمسافة طويلة، وقد يكفي يوم واحد على الأقل ليجد أحدا يتكلم إليه، فيُمسك بالخيط الذي يُفكِّك كُبَّة الحياكة.

وقد سار في الطرق المؤدية إلى هناك، وكانت المفاجأة الكبرى، وهي ذلك الانفجار العمراني؛ كأن الأراضي الـمُغِلّة والمسارب التي كانت تربط بينها، والتي جرى فيها حافي القدمين مُنتشيا بسخونة ترابها المذرور بحوافر الدواب وعجلات العربات؛ قد أينعت هذه العمارات العالية والمكتظة بالسكان، وهذه الفيلات المفروشة أرضيتها بِبُسط معشوشبة مُستنبة، وبُسط بعشب اصطناعي؛ كل ما رآه شكلته الأيدي الماهرة، ولا أثر للطبيعة فيه إلا شجيرات عاقرات أو لا لاقح لها؛ لا تُنبِت حلوا ولا حامضا، وهي للزينة فقط، ولم يَفْضُل من ذلك الزمن إلا طريقا قديما تقف له الممهدات الميكانيكية بالمرصاد، وفي أحد جانبيه دار متهالكة البناء، وآيلة للسقوط، ما يزال يشغل جزءا من واجهتها حانوت حلاق؛ كان أبوه يجره إليه جرا، وهو صغير السن كارها لماكينة قص الشعر المخيفة؛ ليحلق شعر رأسه، وواجهة الدكان لم يتغير فيها أي شيء، قبل أن يدخل إليه نطق بتحية السلام، ولما ردت مجموعة من الرجال بالمثل أطل برأسه نحو الداخل، فرأى رجلا كبيرا في السن جالسا يتحدث؛ على كرسي انتظار الزبناء الطويل والوثير، والحلاق عاكف على جز شعر الجالس على كرسي الحلاقة، وأطال النظر في وجهه، فعرفه؛ إنه حلاق الطفولة، وإن تقلص الجلد وبدأ ينكمش، وذبلت الشفتان، وبرحت بعض الأسنان الأمامية فمه إلى غير رجعة، وإن ناداه باسمه فلم يلتفت، ورد بأن» نعم «؛ لأنه من المألوف أن يسمع الحلاق تحية السلام؛ سواء من القادم للحلاقة أو المار من أمام حانوته ممن يعرفونه، وأن يسمع اسمه، وألقى عليه الحلاق في الأخير نظرة باردة، ثم عاد وظل يحدق، فتذكر الوجه وقال:

- إني لم أنس صورتك، فأنت ابن حارس الضيعة.

أجاب هو بابتسامة المغتبط بلقاء الوجوه الطيبة القديمة:

- نعم؛ ولم آت لأحلق، فإنك الحرفي الوحيد الذي يحتفظ بما مر من أحداث الأفراح وأحزان المصاب، والوقائع المؤلمة في هذه المنطقة، ولا أتذكر أنا غير حادثة القتل التي تعرض لها مالك الغِلل، كانت على ما أذكر غير بعيدة من هنا.

ولم يكد يُنهي كلامه حتى تكلم الشيخ الجالس الذي كان صوته يُؤنس الحلاق الصامت والـمُركِّز بانتباه على آلة الحلاقة وصاحب الرأس المحلوق؛ قائلا بحماس:

- مر على تلك الواقعة زمنا طويلا.

قال الحلاق:

- إنها حادثة قتل قديمة، وحسب علمي فإن القاتل ظل مجهولا؛ لم تُوفّق إدارة الأمن في الاهتداء إليه.

قال الشيخ:

- كانت قد روّعَت جريمة القتل تلك السكان، وغيرت حياتهم من المسرات والطموح إلى أحزان وخوف وإحباط، وعدم الثقة في المهاجرين الغرباء القاصدين للضيع للعمل في مواسم جني ثمار الأرض، وصارت منذ ذلك الوقت حكاية يتناقلها الناس فيما بينهم، ويرويها الكبار للصغار، والآن غدت من الماضي، وزحف العمران، وأُعطيت أسماء غريبة على الأذن المحلية للشوارع والأحياء، وسكن البيوت القادمون من بعيد، وانقرضت أجواء الواقعة الدموية التي رانت لثلاثة عقود فقط، كما مات مُتألما من كانت له قربى أو صداقة بالمقتول أو من كان يُجاوِره في السكن.

ولو لم ينطق الحلاق لمضى الشيخ يُطيل في الكلام، ويمتد به التذكر إلى التأسف على ما مضى من حياة جيله، التي لا يذكر منها إلا المفاخر وإنجازات حيوية الشباب، وبطولات الكمال الجسماني؛ إذ قال:

- ولم تنته المأساة عند القتل، فبعد الدفن ونهاية مدة الحزن على المصاب الجلل؛ اجتمع الورثة، فحضر من لم يعُقه أي شيء، وتوكل من بينهم على من كانوا يقيمون خارج البلاد، وعددهم ما فوق العشرين، لأنه لم ينجب إلا ابنة، فكان الأحياء من إخوته وأخواته، وأبناء وحفدة الأموات منهم؛ جميعهم من الوارثين.

قال الشيخ:

- يظهر من كلامك أن حالة الأرملة واليتيمة بعد تصفية التركة لم تكن سارة.

قال الحلاق:

- بالفعل ذلك ما وقع.

ولم يضف الحلاق على ما تفوه به كلاما آخر؛ حتى لا يُطلع الجالسين في محله عن ما قد يشيع بين الناس، وإن فرّقت المدينة الزاحفة أفراد جماعة الضيع الفلاحية، الذين يكونون راغبين في معرفة نهاية أسرة مالك الضيعة الثري المقتول.

وكان هذا ما فَهِم من الحلاق، وما قاده تحليله إليه، ورغم هذا فإنه تشجع وسأل الحلاق بنبرة استعطافية:

- إن قصة هذين الفردين؛ الأرملة والابنة أثرت في نفسي كثيرا، فما أقسى ظروف الحياة، فلا أستحيي أو أمتنع أو أتردد فأسألك.

قال الحلاق برضى:

- فإني أُجيب إن بالتلميح أو بما يفي بسؤالك بدون مُراوغة.

فسأله قائلا:

- أو تعرف أين تُقيم الآن الابنة؟

أجاب الحلاق بدون تردّد:

- ... ولما لم ترض البنت بعد مقتل أبيها وتوزيع الإرث بالسكن في المدينة مجهولة؛ لا يعرف أحد ماضي والدها المجيد، الذي كان من كبار مٌلاّك الضِّيع، وأن تنتهي حياتها في بيت من بيوت المدينة ببؤس وبفقر؛ فإنها اِشترت قطعة أرض تبعد عن عمران المدينة، وبالضبط بعد الانعطاف عند ملتقى الطرق؛ عند الكيلومتر مائتي وعشرة، وبنت عليها بيتا مُتواضعا، وهي تتعيش الآن من فلح الأرض وتربية الدواجن والمواشي والدواب، وتجيد ركوب الخيل كما كان يجيدها والدها، ويراها الناس هناك ممتطية صهوة جواد هزيل في كل صباح؛ هذا ما نقله إلينا بعض ممن يزالون يعرفونها.

ما إن انتهى الحلاق من رواية نهاية القصة الدموية؛ حتى شكره وأنهى زيارته القصيرة لمحل الحلاق بتحية الانصراف، وركب سيارته وقادها بسرعة تطوي المسافة المائتي عشرة كيلومتر.

نظر إلى جهاز تسجيل ما قطعته السيارة من الكيلومترات، فخفّض السرعة وانعطف مستمرا في طريق ضيق مُشظِّي الجانب مسافة ثلاثة كيلومترات، فوجد أرضا مُسيّجة بأشجار؛ تملأها تغاريد العصافير والطيور، وبين أشجار الليمون والبرتقال واللوز ظهر له بيت صغير مطلي باللون الوردي الباهت، ولها باب على جانب الطريق، فقرعه بقوة بحيث يصل صوت الدقات إلى من في السكن الموغل في وسط البستان، فنبحت كلاب بسُعار، وظلت تنبح حتى تلقت أمرا ممن سمع الطرق بالسكوت، فُتِحت إحدى دفتي الباب الحديدي، فظهرت امرأة في عقدها الستين؛ مُتشعّثة شعر رأسها الأشيب، ترتدي لباسا طويلا؛ ترفعه عن ركبتيها؛ رابطة أطرافه بخصرها، ويستر سيقانها كُمّا سروال قصيران، وترتدي على جذعها صِدارا صوفيا؛ حيك باليد من خيوط من الصوف، وتحتذي فردتي حذاء ذو رقبة من البلاستيك؛ طالتا حتى قاربتا الركبتين، فلقد كانت المرأة تعمل في العَرصة أو في خُم الدجاج أو في زريبة الماشية أو في إسطبل الدواب.

حياها فردت على تحيته، وتساءلت بملامح وجهها قبل أن يتحرك لسانها، تستفسر قائلة:

- نعم... أ عندي غرض أقضيه لك؟

قال؛ حتى لا تصرفه عنها، لأنها كانت حازمة للعمل:

- ليس لي أي حاجة عندك سيدتي؛ ما أريد قوله هو أنني سبق وأن رأيت السارقين لمال والدك يرحمه الله، وكان القاتل أحدهما.

خففت قبضة يدها اليمنى عن مقبض الباب، وتقدمت خطوة خارجة، وظلت تحدق في وجه هذا القادم الغريب الذي هو على علم بالقصة الدرامية كاملة، وقالت مُقطّبة الحاجبين:

- أو أنت تتكلم بصدق؟

قال بثقة:

- نعم؛ ولماذا أقطع مسافة ثلاثمائة كيلومتر لآتي إلى هنا؟

قالت باستنكار وبشجاعة:

- قد تكون نصابا، كما نصب علي ذلك الذي أغراني واستمالني بحب كاذب، واستحوذ على ما ورثته من مال، فطلّقته.

قال بصوت خافت لم تسمعه بوضوح:

- هذا فصل آخر من المأساة.

قالت وهي ما تزال تجيل ببصرها في هيئته:

- نعم... ماذا تقول؟

قال:

- سأحكي عليك ما يُثبِت صدقي.

فروى لها عن مرور الشابين سريعا بالعربة، وهو واقف بجانب سياج الأشجار يتلهى لهو سن الصغر؛ بمزمار من قصب، وزاد فقال:

- تعرفين يا سيدتي ما تركه هذا من خوف ورهبة في نفسي آنذاك، وظلت الصورة ماثلة في ذاكرتي، والحادثة لا تُنسى.

صدقته فدعته إلى الدخول، وأوصدت الباب، وقادته إلى مكان أغصان كروم العنب؛ فيه كراس ومائدة من قصب، ثم أشارت إليه بالجلوس على أحد الكراسي، وجلست هي على آخر باسترخاء لأخذ نفس عن ما سمعته، وطفح وجهها بالدم، واغرورقت عيناها بالدموع، وتنهدت بعمق، ثم أجهشت في البكاء، وقالت بصراحة الأسيف:

- أًعِد علي ما رأيت في ذلك اليوم المشؤوم.

فأعاد على مسامعها ما شاهد؛ في هذه المرة كان يتكلم بالتفاصيل وبإحكام؛ كانت هي تُنصِت باهتمام وتتأمله؛ كان قد بدا لها صبيا من ذلك العهد، وقرأت في عينيه وفي ملامحه كلامه الصادق. كان هو قد وعد نفسه بأن لا يُطلعها على السارق الباقي على قيد الحياة، حتى يحين الوقت لذلك، وعلى مصرع الثاني وهو القاتل غرقا في مياه البحر.

قالت بيأس وبواقعية وهي تُكفكف دموعها:

- ما الفائدة الآن من كل هذا؟ فقد مر على الحادثة مدة زمنية طويلة؛ لم يُعرف لحد الآن مكانا لهما، وقد أتت السنوات على أعمار الناس، فرحل من رحل، وينتظر من ما يزال من المسنين القدر المحتوم، ولا أحسب إلا أن القتلة يموتون دقيقة دقيقة بتأنيب الضمير، وهم الآن إلا اصطناعا للمظاهر.

واستطردت قائلة بحنان:

- لن تبرحني الآن، فإني أحسست بأنك عشت طول عمرك تتذكر ذلك اليوم الدامي مثل ما عِشناه، وما يزال مشهد والدي وهو ملقى على الأرض، ورأسه مشجوج ينزف سيولا من دمائه؛ لا يفارق مخيلتي.

وقامت من جلوسها، ثم غابت في ممر بين أغصان الأشجار وأُصص نباتات وأزهار الظل، وبعد وقت قصير عادت حاملة صينية عليها براد تقليدي الشكل؛ من تركات الماضي الزاهر، فقدمت له كوب شاي ساخن.

بعد أن رشف الشاي المنعنع عدة رشفات، سألها:

- والوالدة؟

قالت خافضة النظرات وبتنهيدة:

- توفيت بعد عمر طافح بالأحزان.

قال:

- الله يرحمها

قالت له بعطف:

- أعِدني أن تزورني من حين لآخر، فإن زياراتك تُرفّه عني وتُنسيني مأساة الماضي.

وعدها، وأكمل شرب كوبه، وانصرف يريد الرجوع إلى بيته، بعد أن شيعته إلى الباب، يشملهما معا نباح الكلاب المسترسِل، ولوحت له بابتسامة وبدموع فرح جديد هلّ عليها في ذلك اليوم.

وقد وفى بوعده، فكان يتردد على بيت ابنة الثري المقتول؛ كلما سنح له الوقت، وفي أيام عطلات نهاية الأسبوع، واطمأنت هي إليه، واستأنست به في وحدتها، ومالت إليه بعاطفة الأخوة؛ ذلك أنها لم ترزق بأخ، وظلت محرومة بإحساس بوجوده، كما فقدت حنان الأبوة بفقد والدها، وحنان الأم بفقد هذه.

وكاد أن ينسى تهديد مالك المطعم له، وكأنه أدرك بحسه أنه بدأ يشيخ، وانهار جسده بأثقال واقع الحياة، وتحت تأثير نداء العقل، ولومه لنفسه. لم يكن يتصور هو أو يطرأ على باله أنه سيحيى نهاية القصة، فماذا جرى؟

كان في ذلك اليوم في إحدى زياراته لآبنة الفلاح الثري المقتول، فكان قد غادر الطريق الرئيس بسيارته؛ بعد أن قطع مسافة الكيلومترات المعتادة، وانعطف إلى يمينه ليسير في الطريق الثانوي الضيق مسافة الثلاث الكيلومترات ليصل إلى بيتها، ولم يفطن إلى وجود سيارة كانت متوقفة عند ملتقى الطريقين، الذي غالبا ما يكون خاليا؛ بوجوده في امتداد الأراضي الزراعية الشاسعة، ولم يفطن إلى وجودها أول الأمر، فما إن انعطف حتى رآها في مرآة سيارته الداخلية، وسائقها يحاول اللحاق به، فشعر بخطر يتهدده، فأسرع بالسيارة، ولم يستطع الإفلات، فتجاوزته السيارة التي تتبعه وسدت دونه الطريق، وحاول أن يُراوِغ إلا أن سيارته زاغت به عن الطريق، وإن كبح دوران العجلات السريع، إلا أن هذه وبتأثير قوة الاندفاع اِنزلقت ساحقة حجارة وتراب جانب الطريق، وغاصت به مقدمة السيارة في قناة تصريف المياه التي تفيض في فصل الشتاء؛ غير عميقة، والتفت بخوف، فرأى شخصين يهبطان من السيارة الغريبة ويتوجهان إليه، تعرف على أحدهما؛ إنه صاحب المطعم، كان يتحرك ببطء؛ بجسده الممتلئ والمترهل، والرجل المصاحب له اِنهال على الزجاج الأمامي للسيارة تكسيرا، فاستطاعت يده أن تمتد إلى المفتاح الداخلي ويفتح باب السيارة، ويُحكم بقبضة قوية بياقة قميصه ويُخرجه بقوة مُدحرِجا إياه، ورأى مالك المطعم يرفع قضيبا ثقيلا من حديد عاليا ليضرب به على رأسه؛ إلا أنه مال بجذعه جانبا، فتفادى ضربة قاتلة، وبقوة حركة الساعدين ضرب القضيب الأرض، وكان صاحب المطعم سيحاول للمرة الثانية، إلا أن صوت بندقية دوى في المكان، وتردد صداه بعيدا، فالتفت الرجل المرافق إلى مصدر الصوت الحاد، فرأى كائنا مُلثّما يصوب ماسورة بندقية إليهما، فركب السيارة وقادها هاربا، واستطاع هو النهوض ليشاهد ذلك الملفّع باللثام يضرب بمدراة صاحب المطعم من الخلف؛ على كتفه العريض، فسقط منبطحا على الأرض، وزاد عن ذلك بأن نزل برؤوس المدراة على عنقه، وصاح عليه متوعدا إياه:

- لا تتحرك أيها السافل، وإلا غرزت المدراة في أوداج و وأوردة ونحر عنقك.

والذي هُرع إلى المكان هما راعيان كانا يرعيان شياهما قريبا من ساحة المعركة، وقد تابعا باستغراب وجزع السباق الجنوني بين السيارتين، والهجوم على أحد لقتله، وأول ما قاما به هو إبعاد الملثم وإزالة سلاح المدراة من بين يديه، وبُهِتا لما عرفا من يكون بعد أن جلس على ركبتيه لاهثا وأزال اللثام، إنه ابنة مالك الضيع المقتول، فأشارت إليهما بأن يُوثِّقا يدي هذا المنكفئ على الأرض، وتسليمه لرجال الأمن، إنه أحد الاثنين؛ الذي قتل أحدهما والدها.

وسارت بثبات ووقفت أمامه ترنو إليه بهم وقالت له:

- وإن لم تخبرني بأنك صادفت أحدهما، فإني عرفت ذلك بحدسي الذي لا يخونني، قرأته في عينيك، وانتبهت إلى أن راكبي سيارة كانا يراقبانك، ومرا كم من مرة من هنا؛ يتحينان فرصة الانقضاض عليك، فقررت أن أحميك منهما، وإن تطلب مني ذلك الكثير.

واستطردت بيقين:

- إنه كان يريد أن يرتاح من سياط الضمير، فجاء يُقاتل بيأس، وقد امتد به العمر، والجزاء على فعل غير أخلاقي يُريح النفس الـمُتعدّية.

وركب معها سيارتها القديمة، متوجهة به إلى بيتها الريفي؛ لتضمد جروحه، تفوح روائح زروع الصيف والغلة والبهائم من مركبتها المنخورة الهيكل بالصدأ، والتي تنقلت بها مُتأهبة للمعركة التي خططت لها، وحاولت أن تنتصر فيها، ذائدة عن هذا الذي قصدها يوما؛ مُتأثرا بحادث شهده وسمع عنه وهو صغير السن، وكان له كبير الأثر في حياته.

***

احمد القاسمي

 

(قِصَّةُ حُنَيْنٍ ما)

مِن حَبْلِهِ السُّرِّيِّ مَدَّ مَشانِقَةْ

مَن ذا يُعِيْدُ عَلَى الغُروبِ مَشارِقَهْ؟

يَبكي الظَّلامُ بِهِ عُصورًا أَدْلَجَتْ

كانت تَفِي فيها النُّجومُ مَواثِقَهْ!

**

شَبَقُ الفُتوحاتِ انتهَى.

وبِغَيرِ أَقدامٍ (حُنَينٌ) عادَ

يَحمِلُ خافِقَهْ

في الوَحْلِ غاصَ جَبينُهُ،

مِن بَعْدِ ما رَفَعَ السَّماءَ بِكَفِّ شِعْرٍ شاهِقَةْ!

**

كَمْ أَرهقَتْ أَفلاكُهُ ماءَ الشَّواطئِ!

والقُرَى رَفَّتْ إليهِ مُراهِقَةْ

تَصْطَكُّ فيها، في الأَجِنَّةِ، أَعْظُمٌ

إنْ مَرَّ ذِكْرُ خُيُولِهِ المُتَسابِقَةْ

ويُطارِدُ الجاثُومُ كُلَّ طَريدةٍ

مِن أرضِها بِرُؤَى لِواهُ الماحِقَةْ!

**

رَسَمَ الخَرائطَ بالدِّماءِ حَدائقًا

ما كانَ أَشْهَى كالحَريقِ حَدائقَهْ!

وعَواصِفُ الثَّلجِ التي جَبَهَتْهُ،

واستَضْرَتْ بهِ،

أَضْرَى بهنَّ صَواعِقَهْ!

**

فتَرمَّدتْ عَيناهُ،

واستَكْراهُما حَوَلٌ قَديمٌ في العُيونِ النَّافِقَةْ

وعَراهُ في تلكَ المَعارجِ فالِجٌ

أَغْرَى بحَمْلِ المُوبِقاتِ عَواتِقَهْ

كصَفيحةٍ أَمْسَى:

المُدامةُ نِصفُها،

والنِّصفُ ماءٌ يَستَرِقُّ فَيالِقَهْ!

**

ويُفَكِّكُ الطَّيرُ المُهاجِرُ أَمْسَهُ

فمَتَى (ابنُ فِرناسٍ) يُفُكِّكُ خانِقَهْ؟

اللَّيلُ يَزحَفُ كالجَريحِ بأُفْقِهِ

وعَماهُ يَزحَفُ في العُيونِ الرَّامِقَةْ

والرِّيحُ تَصْفِرُ بَينَ جَنْبَيهِ

كما صَفِرَتْ يَداهُ مِنَ المرايا الصَّادِقَةْ!

**

وهَوَى الكِلابُ نَواهِشًا في قَلْبِهِ.

وَسْمُ الجِباهِ المُشْرِقاتِ:

"زَنادِقَةْ"!

ما مِنْ حِجابٍ؟

لا تَمِيْمَةَ أُلْفِيَتْ؟

يا كُفْرَ عَصْرٍ يَستبيحُ خَلائِقَةْ!

والطِّبُّ؟

ماتَ الطِّبُّ،

شَعبيًّا ورَسميًّا،

وأَهرقَ في الجَحيمِ دَوارِقَهْ!

**

في الغابةِ السَّوداءِ

لا يَبْقَى عَلَى التَّاريخِ غَيرُ فَرائسٍ وأَفارِقَةْ

سادُوا بِعَصْرِ السَّيْفِ والرُّمْحِ الوَرَى

واستُعبِدوا بالعِلْمِ سَلَّ حَقائقَهْ

أَكَلُوا الفَراغَ،

وناكَحُوا، في أَمسِهِمْ،

وكَيومِهِمْ،

رِجْسَ الجِراءِ الطارِقَةْ

سَفِهُوا ثَراهُمْ ،

فاستقالَ سَحابُهُمْ،

لا أَمطَروا أو أَخْلَبُوا مِنْ بارِقَةْ!

**

هذا (حُنَيْنٌ) ضاعَ خُفَّاهُ،

وها انْتَعَلَتْ خُطاهُ بأَخْمَصَيْهِ بَيارِقَهْ

والأرضُ ضاعتْ تحتَ رِجلَيْهِ..

أَلا بِئْسَ السَّروقُ وما يُمَنِّي سارِقَهْ!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

مهداة الى روح الشريف الرضي

في ذكراه الخالدة

***

ذِكراكَ نورٌ، تسامَتْ فيه دُنـيانا

يا رائـداً قــد مَلَكْـتَ القـلبَ أزمانا

*

فكنتَ أصْدَقَ مَــن يَهوَى بناظِـره

حتى كسَوتَ الهـوى أمْـنـاً ورضوانا

*

سَلَكْتَ في الحب نهْجاً لو أُريدَ به

كـما أرَدّتَ لَما زادتْ خـطايانـا

*

هـذا قَصِيدُك، تَهْـدي فــيه قافـيـةً

للـغِـيـدِ حِـيـنـا، وللفـرسـانِ أحـيـانـا

*

فَـفــيه للغـيـد ما يَسْمو اللقاءُ به

بـينَ الحـبـيـبـيـن لا زيفاً وبُـهْـتانا

*

وللفـوارِسِ في يوم الوَغى نَـغَـمٌ

يـهـزُّ خَـيْـلا وأسْــيافــا وأرْســانا

*

يا قدوةً تـفـخـرُ الأجـيالُ أنّ لهــا

صوْبَ المعـالي أهـدافـاً وعــنوانـا

*

لكُـل بَصمَةِ نُـبْـلٍ، مَوْقِــفٌ عَـطِرٌ

وقــد مَـلأتَ الـدُنـا بِــرّأ وإحـسانا

*

أرَّخْـتَ حُـبَـكَ، فـي أجـواء قـافـيـةٍ

ألـبَـسْـتَـهـا عِـفَّـةً، صِدقـاً وايـمانـا

*

أخْـرَسْتَ فيها قريضَ الفُسقِ فازْدَهَرَتْ

مَعـالِـمُ الطُهْـرِ، ترتِـيلاً وتـبـيانا

*

الحُبُّ بالروح لا تزويقَ واجهةٍ

وما وصفـتَه، يُعطي عـنـك بُرهـانا

*

يا مُودِعا في ثنايا القلب سيرتَه

على خُطاك، بروح العـزْمِ مَـسْـرانا

*

تبقى قصائـدُكَ الغرّاءُ صادحةً

على شــِفاه زمانٍ، تـَروي ظـمآنـا

*

بلاغةُ الوصفِ فيها نورُ فَرْقَدِها

مَن رامَ لحنا .. صداها صار الحانا

*

في (ظبية البان) جَسَّدتَ الهوى ألَقاً

فـيـه الـنـقـاءُ مُـضِيئٌ أيـنـمـا كـانا

*

(هامتْ بكِ العينُ لم تتبع سواكِ هوىً)

صَدقْتَ ما قلتَ، تلميحاً وإعلانا

*

عـلى خُـطاكَ، ربـيـعُ الحُـبِّ مُـزدهِرٌ

قـوْلاً وفِـعلاً، وأمناً فـي نَـوايانا

***

عدنان عبد النبي البلداوي

نجوم الليل تُعْرِبُ عن أساها

بِمُقْتضبِ الحديثِ لِمَنْ رآها

*

تقولُ بأنها عَشِقَتْ غلاماً

وكان تَظُنهُ حقاً فتاها

*

تُسَامِرهُ اللياليَ دون مَلٍّ

تَبثهُ من حفيظتهاجَواها

*

بأولِ نظْرةٍ لمَّا رَأَتْهُ

تَمَلَّكَها وبَلَّغَها مُناها

*

بأنْ صار الحقيقة لا خيالاً

تُقَلِّبها بما شَاءَتْ يَداها

*

فتقرأُ فيهِ حاجتها إليهِ

وتُسْلِمَهُ البلاد وما حواها

*

فلبَّاها على عجلٍ صَبَاهُ

وأشركها عَراءً واجْتَناها

*

فضمَّتْهُ هلاكاً إذْ رأتْهُ

بـشيءٍ مُسْتَلذٍّ لايُضاهى!

*

وقَضَّاها لِبُغْيتِها...ولكنْ

تَجاهَلها وأنكرَ أنْ رَ آها

*

وحطَّمَ في كرامَتِها...فأَضْحتْ

بلاشرَفٍ ولابابٍ يَرَاها!

*

وأَنْبَتَ (ذِئْبَهُ) فيها عليلاً

إذا ماجاعَ يَنْهَشُ في حَشَاها!

*

وألبَسها مِنْ الذلِّ احْتِمَالاً

فلاتدري أمامَها مِنْ وراها!

*

فتنزُل عند رغبتِهِ انكساراً

فلاتَقوى عليهِ بما أتاها

*

وتَمْضَغُ حَسْرَةً وتجوعُ حتى

لهُ تَبَعَاً يَسِيرُ بها رِضَاها !

*

نجومَ الليل عاريةً أمامي

يُلاحِقُني إلى الدنيا سَلاها

*

فتَعْجَبُ من تَصَرُّفِها حُروفي

وتسألُ حالها عمَّا دَ هاها!؟

*

فلا تَلقى وضُوحاً واكتِفَاءً

سوى أنَّ الفتى العربيُّ تاها!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن / تعز

                                    

الإهداء: إلى الشعب الجزائري الأبيّ، بمناسبة الاحتفال بعيد النصر 19 ( مارس 1962 م.)

استلقت على أوراق الأشجار الميتة.. ثم استندت بظهرها على جذع شجرة صنوبر وهي ترنو بعينين ذابلتين، متعبتين إلى صالح الذي جلس قبالتها يسترجع أنفاسه... أحست بالوهن يسري في أقاليم جسدها النحيل نتيجة طول السير. والدروب الوعرة التي سلكاها منذ الفجر. قالت والسكون يبتلع الغابة:

-" أمازالت الطريق طويلة أم ,,,؟ "

قاطعها وابتسامة تطفو على شفتيه:

- لا تقلقي يا ابنة العم.. سنصل قبل مولد الفجر إن شاء الله "

- لا. لست قلقة.. أنا مشتاقة لرؤية الثوار.."

وبعد صمت لم يطل أردف صالح:

- سنرتاح بعض الوقت ثم نكمل المسير فالدرب وعر. سنضطر إلى الصعود والنزول مرات عديدة.. وأنا أخشى عليك من صعوبة المسلك..."

- كن على يقين يا صالح أنني لن أتعب.. كل شيء يهون من اجل الوطن.. المهم أن نصل

كذلك رددت بنبرة تشع حماسا لا حدود له

لحظتها كانت الشمس تجمع أشعتها الذهبية معلنة الرحيل.. بينما راح المساء ينشر نسائمه الحلوة، الطرية على أشجار الصنوبر والعرعار والبلوط دون ادني جلبة.

عاشت نعيمة يتيمة.. لم تدخل المدرسة قط... ولم تزر الفرحة قلبها يوما رغم أن الدهر قد قضم من عمرها تسعة عشر ربيعا... ترعرعت متعبة... ضامرة البطن.. ذابلة العينين... محرومة من البسمة.

شيعت والدها في ربيعها الثامن.. لم يزل ذلك المشهد الدموي الرهيب نابضا أمام عينيها.. وهي تراه غارقا في لجة دمه بعدما اخترقت صدره رصاصات المعمرين اغتالوه وهو العائد من حرب لا ظفر له فيها.. كان عليهم أن يقلدوه وساما ويستقبلوه بالورود بدل الرصاص بعدما قاتل إلى جانبهم دفاعا عن بلادهم.

لقد بكت نعيمة , حتى كادت تفقد بصرها..

سألت والدتها:

- لماذا قتلوا أبي يا أمي "؟؟

لكن الكلمات احترقت في الحلق... فاضت دموع والدتها انهارا وسواقي... أجابتها بعد طول إصرار قائلة:

- عندما تكبرين ستعرفين لماذا قتلوا والدك.. ستنكشف لك الحقيقة دون زيف:

و بعد تسعة عشر فصلا دمويا.. أدركت نعيمة لماذا قتل الغزاة والدها الذي حماهم من كيد النازية وشراستها.. وبانت الحقيقة دون زيف كما قالت لها والدتها ذات يوم.. أيقنت أن هذا الهم الرابض بكلكله على صدر وطنها كالطود العظيم لن تزيحه سوى طلقات البنادق العطشى وسيول الدماء الطاهرة. وأقسمت أن تلتحق بالثوار , وتجاهد معهم جنبا إلى جنب حتى تنال الشهادة أو تعيش عزيزة مكرمة.

قالت لها أمها عندما أخبرتها بقرار الالتحاق بالثوار رفقة ابن عمها صالح:

- حياة الجبال صعبة يا ابنتي وأنت لم تتعوديها..."

- سأتعودها يا أماه.. وأنتقم لأبي الشهيد..."

- وماذا ستفعلين هناك... الثوار في حاجة إلى رجال أقوياء.. لو كنت متعلمة لأصبحت ممرضة كابنة الجيران جميلة..."

بعد أن نالا قسطا من الراحة.. واصلا المسير في لجة الظلمة التي صيرت الغابة كتلة واحدة. راحت نعيمة تحث الخطا وتقفز كأرنب بري. لم تشعر بالتعب رغم الصعود والهبوط والتواءات الطريق.

أما صالح الذي قارب الثلاثين من عمره فقد كان يسير أمامها بجسد نحيل.. وعينين براقتين، ثاقبتين.. وقلب ينبض بحب عارم لوطنه الذي ملأه الغزاة سجونا وقبورا ومنافى.. وزرعوا قلوب وعيون الأبرياء أحزانا ودموعا وسدرا.

لقد ترك دراسته الجامعية.. والتحق منذ سنة تقريبا بالثورة.. لم يطق العيش وسط لقطاء يسفكون دماء شعبه المقهور.. وهاهو يقفز بخفة وهو قابض على بندقيته ملء يديه.

عند محطة الفجر وصلا قاعدة الثوار.. استقبلهما القائد وهو يشتعل حماسة وإيمانا وحبا.

سألها وهم يلجون المركز:

- من أين قدمت؟.

- من العاصمة..

- كيف هي الأحوال هناك؟

- سيئة جدا.. كل يوم يعتقلون الأبرياء.. ويعذبونهم أشد العذاب.. لقد أعدموا بالأمس بعض المعتقلين...

ردد القائد وهو يضرب بمجموع قبضته على ركبته اليمنى:

- الأوغاد.. الجبناء.. سنكنسهم إلى الجحيم..

وفي الجبل تعلمت نعيمة القراءة والكتابة.. ولبست البذلة العسكرية وحققت أمنيتها التي طالما حلمت بها.. وبعد مدة صارت ممرضة تداوي الثوار الجرحى بأناملها الطرية ونظراتها الممزوجة بالأمل.

أحست أنها ولدت من جديد.. وشعرت بلذة العيش وطيبة الحياة.. وهي تحيا بين أبطال مدججين بحب الوطن.. همهم الوحيد تطهيره من الكلاب المسعورة..

{تمـــــت}

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

يا إلهي سَوْفَ نَحْيا مَجدَها

برِسالٍ ما تَخابى نورُها

*

ضَوْعُها الآياتُ فينا شُعْلةٌ

وبِنا الدُنيا أقادَتْ عَقلَها

*

يا شَفيعَ الخَلقِ يا نَبْضَ العلى

أمّةٌ تَرقى بشَعْبٍ ودَّها

*

وبتَقوى كمْ كَسوْنا عِزَّها

وعَلى الآفاقِ بَثّتْ عِطرَها

*

مَنبعُ الأشواقِ في كُنْهِ الرُؤى

كضياءٍ في بِحارٍ أجَّها

*

مُطلقُ الإدْراكِ مَسْموقُ الذُرى

وبَعيْدٌ عَنْ سَماكٍ فَوْقَها

*

يا حَبيبَ الروحِ يا فخرَ المُنى

يَسْتَبيحُ الشوقُ دوماً قَلبَها

*

فَتَرَنّمْ ببَديعٍ هادِفٍ

وهَديلٍ يَتغنّى قُرْبَها

*

يا روانُ الليلُ مَنهوكُ القِوى

بهجودٍ ورَحيلٍ للسُهى

*

ذَهَبَ الروحُ كطيْفٍ هائِمٍ

وتَلاشى كدُخانِ المُنْتَهى

*

وأراها كهَباءٍ ضائِعٍ

يَتوارى ولمَوْتٍ دَرْبُها

*

يا هُدى الإنْسانِ يا نورَ الوَرى

تاهَتِ الأبْصارُ في إبْصارِها

*

طافَتِ الروحُ بكوْنٍ مُطلقٍ

ثمَّ عادَتْ مُسْتَباحاً سِرَّها

*

بفؤادٍ لاعِجٍ صَوْبَ الهَوى

باحَتِ الأيّامُ قولاً عِندَها

*

فَسلامٌ صادِرٌ مِنْ مُهْجَتي

لحَبيْبٍ بثَنايا نَبْضِها

*

آيةُ العِرْفانِ مِنْ نَبْعِ اسْتوى

ما غَوى فيها ولكنْ هَزَّها

*

قوّةُ الإدْراكِ تَأويلُ انْطوى

في خَبايا كَلماتٍ كُنهُها

*

إسْتفاقَ الليلُ أوْ جُنَّ الدُجى

كوْكَبُ الإشْراقِ أرْدى نَجْمَها

*

وعلى الآفاقِ حامَتْ مَوْجَةٌ

تَتواصى بضِياءٍ حَفَّها

*

نَبْضَةٌ فيها وروحٌ داهَمتْ

رَمْزَ طينٍ ذاتَ يوْمٍ وَدَّها

*

فتَعلمْ كيْفَ تُسْقيها السَنى

وتَدَعْها يَتباهى عَرْشُها

*

وتكلّمْ بلسانٍ واضِحٍ

وتَساقى برَحيقٍ أوْ بها

*

إنَّها نَبعُ عَبيرٍ عابقٍ

وأريجٌ يَتسامى بَيْنها

*

ومِنَ السّلاّفِ فيضُ المُشتهى

سالَ ضوءً بشعاعٍ مَدَّها

*

يا حَبيبَ الروحِ يا نوْرَ النهى

عِشْتَ فجراً بحَنايا صَدْرِها

***

د. صادق السامرائي

في صالات

الغياب

حضر من حضر…

البهلوان مكسور الخاطر بلا مساحيق…

عاد الحكيمُ حكيماً..

البلوى في يدي…

غدرٌ هنا و غدرٌ آخر هناك …

حضر عازفين في قبب الخناق ..

ووحشٌ واحدٌ يصنعُ الثمالة…

بيدي

للأسف قنبلة مطاطيّة

لتفكيك جوقة الإستعارة

عازف يعشق أوتار الخُلدِ

وعازفٌ يُخلِّدُ للعشقِ أوتاراً..

جربوا المقاطع الحزينة كلَّها..

ولم تبك بينهم فراشة…

في طريقي للمدى أضعتُ عكازي وأضعت عيني جنب البئر

وتحسستُ الحريق…

المرآة التي تجهل وجهي خائنة ،

لكن

كؤوس المُراهنة تملأ جوفاً

يعشق المرارة

حينما

أغمض عيني تنزلق الكواكب ماءاً…

الزُهرة شاردة …

القمر سكرانٌ…

تارة أزرعُ رعباً فتنشرُ الحيتانُ على قارعة النَّهرِ..

فأكتفي لوحدي بجرعة ٍ خبَّأتها لسنوات في قِدْرِ المُحالِ..

هي الآن ملهمتي..

تلعثمت كلَّ لغات العالم..

أتلفت مفاتيح قلعتي في شون الإدمان

واحتميت كملعون وراء أغطية الأديان…

أظنُّ

ولدتُ

لكي

أكون

مشاكساً

لست من يغزل رذاذاً برائحة الجنَّة..

ولا ملثماً بما تبقى من قميصك

يا يوسف…

أرقبُ كمن سبق فرصة شفاعةٍ

لكتابة موت جديد…

لست تمثالاً

صامتاً

لايعشق شيئاً ..

أتحركُ من كومة لكومة..

أنفخ الجمر حتى يحمرُّ

ثمَّ يصيرُ رماداً..

لأبني قبراً لجدٍ فقد صوابه لمّا سمع جرس الرَّحيل

ً

أنقعُ كأس المنيَّةِ بأصبعٍ حتى تنتهي الثمالةُ…

لأجعل البياض كله في قنينة من خشب

فأبي

ينتظر عودة سحنته الأبدية ..

ينتظرُ يداً طاهرةً تنسيه طعنةَ الإبتلاء..

يقرأ

كتابه

بلهفة

واشتياق…

لقد تعرى من صدمة الحياة ….

أصيح للصبح بميقات الحقيقة

وأترك أيضا خدشتي

في المرايا

إن لم أكسرها…

لانّ قلة حيائي يصيبها بالهذيان

هاجمت أسراب النّحل بالدخان …

أربكت مضاجع

الحمقى

المشردين

والعميان

بأغنياتي المقرفة ..

أغلقت المعابد والكنائس والمساجد لتقام الصلوات

في بهو

الديار…

أكلت من حاويات الأزبال

فتشتُ محفظة جدتي ولم أعثرُ سوى على ضحكة لا تنتهي…

استحممت بمياه المستنقع …

صليت بدون وضوء..

أنا من مزَّق لموشي شاشية التقوى..

ودقَّ المسمار في قدمهِ..

أنا من ارتجل زجلاً لقلب الأنظمة العرجاء..

أنا من هرب ألف مرة

من اسر الطغاة

انا من ظلّ سجيناً خارج السجون…

طريداً بالأمكنة

أعجن رغيفاً مراً ممّا تحطَّم من الحجرِ،

لأطعمَ شيطان حلمي

والحسُ أصابعي

كي لا تنبت صخرة أخرى ،

وتخفي عنِّي عشقي للعبث…

انا

منذ صرختي الأولى

أقسمت على المشاكسة،

أبيعُ القرد وأستهزء ممن اشتراه…

أخادعُ السّراب ولا أتبعهُ..

أجرُّ قط الجارة من ذيلهِ وألحق به في المزبلة…

أطعن زوابع الرمل بسكين لأقتل الجن…

أسند ظهري للقبلة وأرتوي من

كأس

باخوس

المعظم…

مستمتع بشهوة النسيان…

المارّة لا يلقون التحية ..

لا تمسهم حاجتي بشيء…

منهمكون في المشي كالنَّملِ

،مهزومون بثقل المآرب البسيطة…

لا يعتذرون …

قليلون يتخلصون ما في جيوبهم ..

بابتسامة خادعة وكأنهم حمات     الجبل

أعرفُ :RR

سكرتي عنيفة ..

وأنا لا أموتُ هكذا بدون وجعٍ..

**

ثمن الخطيئة إذن…

أتذكرُ أنَّ الهزيمة شرَّدتني..

أطاحت عن رأسي تاجاً سلفاً للملوكِ..

ستبكي العيون عند صخرتي..

ولا أعرفها …

لكنِّي دون شكٍ سأنهارُ حتى ينتهي حفار القبور من الحفر…

أعشق التراب لرائحته فقط…

أعشق أغاني المطر..

فأين أزهاري…؟

وساعات الفرح…؟

أين معشوقتي …؟

أين الخمَّارة ،…؟

أين أقلامي والورق..؟

فلست راعياً مقلقاً لطوابير النَّملِ..

لكن

بخطيئتي

سأدخل

قلوبكم…..

***

عبد اللطيف رعري

 

انا لا أبكي حين أريد أن أبكي

أنا أضحك و أترك القصيدة

تنكسر من الحزن

بين صمت و ضجة الصمت

أرتب يومي

وأعد عدة الصبر

لغدي

*

انا لا أمضي مع الوقت حين

يغادرني الزمن

لدي عيون

في قاع زمني

تشدني

الى زمن بعيد

من الأسى والشجن

*

انا لا أنام حين أريد أن أنام

يأخذ الأرق كل ليلة ملامحي

ويعبث بها

وفي الصباح

لا أعرف وجهي

في المرايا

*

انا لا أموت حين اريد أن أموت

أنا أرتكب الحياة

وأنتحر كل يوم

***

بقلم: وفاء كريم

مُهْدَاةٌ إِلَى اَلشَّاعِرَةُ

فاتن ابراهيم حيدر

***

يُنَادِيكِ قَلْبٌ فِي الضُّلُوعِ يَصُولُ

وَيَهْذِي بِحُبٍّ خَالِدٍ وَيَجُولُ

*

أَصَابِعُ حُبٍّ تَبْتَغِيكِ حَبِيبَتِي

لَهَا وَهَجٌ مِثْلَ الضُّحَى وَقَبُولُ

*

وَأَقْلَامُ أَلْوَانٍ تَؤُمُ مَشَاعِرِي

تُنَادِيكِ أَحْواشٌ لَهَا وَطُلُولُ

*

وَفِي كُلِّ صُبْحٍ تَبْتَغِيكِ بِحِضْنِهَا

تُنَادِي مَلَاكاً لِلْغَرَامِ يَمِيلُ

*

وَقَوْسٌ يُشِعُّ الحُبَّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ

تُعَانِقُهُ فَوْقَ الْغَرَامِ حُمُولُ

*

فَأُلْصِقُ رَسْماً لِلْغَرَامِ مُحَرَّكاً

تُنَازِعُهُ بَيْنَ الْغَرَامِ طُبُولُ

*

فَيَسْتَبِقُ الْحُبَّ الْمُتَيَّمَ حَفْلُنَا

تُغَنِّي بُدُورٌ حَوْلَنَا وَفُلُولُ

***

شعر: د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

 

عصورٌ وقُلوب

عِنْدَما كنتَ تُفكّرْ

بِغَراباتِ العصورْ

وعَذاباتِ البَشَرْ

مرّ في ذِهنِكَ ما كنتَ قرأتْ

عن حكاياتِ العصورِ الحجريّةْ

فسَألْتْ

كَيْفَ كانَ الناسُ فيها يأكلونْ؟

كَيْفَ كانَ الناسُ فيها يَعْشَقونْ؟

هَلْ لبعضٍ من بنيها

نَزَعاتٌ دمويّةْ

أو قلوبٌ مِنْ حَجَرْ؟

**

ملاذٌ مهجور

عِنْدَما كانتْ تغني وَحْدَها

تحتَ زخاتِ المطرْ

لوَّنَ الماءُ برفقٍ خَطْوَها

وبعطرِ الورد قَدْ فاحَ الشجرْ

فلماذا غِبْتَ عنها؟

ولماذا

لَمْ تَجِدْ فيها اِبتهاجاً و مَلاذا؟

**

أشواكٌ ووفاق

عِنْدَما كنتُ أراكْ

عِنْدَما كنتُ أراها

كانَ لونُ الشّوكِ يبدو في خُطاكْ

وجراحُ الشّوكِ تبدو في خُطاها

قلتما أنّكُما

كلّ ما يهفو له حُلْمُكُما

أنْ تعيشا في وفاقْ

قَدْ تُطيقانِ عذابَ الشوكِ لكنّكُما

لا تُطيقانِ عذابَ اللاِفتراقْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

ثلاث قصائد

- نظرة

غوغاء الماكثين في الصفوف الأخيرة.

صخب الموسيقى.

صراخ الرضّع بعد توقف المطر الأبيض.

تشبث الدبابيس الصغيرة بمغناطيس حواء.

هسهسة الشفاه النقية ذات الكفن الأحمر.

انهمار شلال الفضة فوق الكتفين.

دقات الساعة القطنية.

رهبة السيجارة الأولى في فم العشب.

كل هذا كان مجرد هلوسة

لو أن ذلك الغلاف الكحلي، تجعّد قليلا

لو جلس القرفصاء ثانيةً - رمشةً

لتفجر من تحته الرّبيع الأقدم.

**

- سؤال لسؤال

منفيّ أنا، هنا، في أعماق الرفض

حيث كل شيء هنا متعفّن بالخطايا

كل شيء مشبّع بالصمت.

إلى السؤال يا إخوتي، ولينته الصمت ..

أيها العباقرة

أيها المجانين

أيها المهزومون منذ الأزل

أيها السكارى العائدون من معركة طلوع الفجر

أيتها المومسات المتنقلات من جنازة إلى جنازة

أيها الخياليون، يا من تجوبون أوربا في ليلة مجنونة

أيها الإرهابيون

أيها القساوسة

متى تولد الحياة . . .

**

- قصيدة

وحين يأتي شيخ الطباخين بتوابله العليلة

سأغلق النوافذ

وكل ما يسمح لي برؤية الرجال السود

أنئذٍ سأسمح لروحي بالخروج

عارية كما هي في الصنع الأول

حالمة بالحدائق والقبل

لأنني سأكون غارقًا

في متعة استحضار سِفرٍ جديد

إن كنت سأنشر بذوري

لابد من سِفرٍ جديد

لابد للمطر أن يحفر الأرض

ولكن من يدري إذا كان الجنين الذي بهِ أحلم

سيجد في هذا القبر

الغذاء الحقيقي الذي يمنحه الحياة.

***

ضرغام عباس – العراق

ما زالَ للشَّمسِ مهدٌ في رُوحِي

سَأستَرجِعُ ذاتِي

كَي يُعرِّشَ الآس

دَالياتُ الحبِ في قَلبِي

النَّدى يَقطرُ مِنْها

لا ترحَليْ أيَّتُها العَصافير

لنُكمل ترنيمةَ الصَّباحِ

الحُلمُ يُؤَرِّقني

رُويداً شَقائِقَ النُّعمان..

مَهلاً ياسمينَ الشَّام

مازال للحبِّ بقيَّــة

ما زال للأملِ بريقه

للفرحِ أُنشودتةُ

للبحرِ نوارسُهُ

سيبرق السُنونو رسائلَه

وينتفضُ السَّوسَن

ما زِلتُ على نافذَةِ الليْلَكِ

أَنتَظِرُ..

ولادة اليَمامَة

أتطرَّزُ جَناحَ حُلمٍ

فتتبعني الفراشات

***

سلوى فرح - كندا

 

هي المرّة الرايعة أو الخامسة

كلما دخلت زوجته الحظيرة اهتاج الحصان الأسود ذو الظهر الطويل الذي يمكنه أن يقفز العوارض بكل يسر وليونه. كان يزفر ويضرب بقوائمه الأرض، ولا أحد يعرف السر. تساءل ماعلاقة زوجته بالحصان الأسود الرشيق كي يثور غضبه كلما دخلت الحظيرة عليه، لو كان في زمن الخرافة لسأل عرّافا ومنجما ولو كان في زمن الدين لذهب إلى أحد أولياء الله الصالحين يستعلم منه الأمر، وليس هو في زمن تناسخ الأرواح، لكنه في زمن العلم والكومبيوتر، وإليه بلا شكّ يعود.

هذا أفضل.

تمتم مع نفسه.. وترك زوجته نائمة دخل مكتبه وتطلع في الحاسوب كتب في غوغل:

لماذا يهيج الحصان الأسود الجميل كلما دخلت زوجتي ندا الحظيرة؟

بعد لحظات جاء الجواب.

هذا سر لو عرفته لأصابك الهلع.

كتب ثانية: ليكن مايكون

جاء الردّ:إذن اسمع ولا تندم فذلك شئ يقال ولا يكتب

قل إني في لهفة

انقلبت صفحة الكومبيوتر على رموز جديدة وجاءه صوت من الروبوت :

سيدي زوجتك ندا جنية تحب مردوخ، وهي شابة بيضاء جميلة ومردوخ الجني أسود وسيم، لكن ندا وهي تسيح في عالم الفضاء دخلت الأرض بالخطأ، وتقمصت صورة فتاة جميلة فلم تستطع بعدئذ أن تتحرر ومن سوء حظها أنها أحبتك ولا يبطل عنها سحر التطبّع إلا في حالة أن يفشي أحد سرها ومن دون كشف السرّ ستظل في صورة آدمية إلى الأبد ولن يراودها حنين ما لأهل السماء أما مردوخ الأسود الوسيم فقد بحث عنها واستاف رائحتها في الأرض فدخلها بشكل حصان وقع بيد تجاريتعاملون بالخيول فباعوه لك.

ضحك في سره من هراء الكومبيتر .عليه أن يستعدّ لسباق الخيول المشهور نهاية الأسبوع فقد بقي يومان ليبدأ، لكن لا بدّ من أن يكون هناك سبب لهياج الحصان حالما تدخل ندا الحظيرة، وحين رجع إلى غرفته لم يجد زوجته في الفراش ازدادت شكوكه، وتهافت قلقه، فاندفع إلى خارج المنزل

لعله يلمحها في الرواق أو الحديقة

ندا ندا

هل يعقل هذيان آلة؟ لا ينكر أنه هو الذي اندفع، وغذى غوغل بمعلومات سابقة عن الحصان الذي اشتراه منذ شهر.معلومات عامة لا بدّ منها استقاها من دائرة البيطرة ومن تجار الخيول.

كيف ردّ غوغل بجواب خرافي وقد غذّاه بمعلومات علمية صحيحة؟

لم يسمع أي جواب من زوجته، ولم ير لها أي أثر..كان يتجه إلى الحظيرة:

هنك بدأت الصدمة

ندا

لم يجد الحصان الأسود الوسيم...

اختفى ولا أثر يدل عليه

انقلب القلق إلى غضب عارم، فهرول إلى غرفة المكتب، بدا كالثعبان الهائج.. رفع الكومبيوتر بكلتا يديه وقذفه على الأرض

مرة وأخرى

وثالثة..

ثمّ جلس خلق المنضدة وهو يلهث من الغضب والتعب كأنه يتحدث مع شخص قريب منه يراه ولا يراه.

***

قصةُ لمحة

قصي الشيخ عسكر

في نصوص اليوم