نصوص أدبية

نصوص أدبية

(على هامش حقائبي)

أبحث عن دربي

وحيدا أمضي

أنادي الظل...

يهجرني

أنادي... قميصي!

فلا الأطراف والمفاتن

تلقاني

أنادي حبيب القلب

يدسني

ترابي

ثم شهادة الوفاة

تصريح بالشرف

*

أمشي وحيدا

تاركا

صورا وذكريات

كتبا وأحذية

خطوات

شهادة الميلاد

والهوية

على أطراف شوارع

مقاه

ومدينة الغبار

*

أمشي وحيدا إليه

مثقل الأوزار

حائر الدرب

يناديني

عبدي!

لا تخف

أنا المنادي

لا الحمل يثقلك ولا

الأحزان تهزمك

رحمتي

وسعتك... والزلات

وكل الأشقياء

*

يا نسمة روحي

استودعني عذاباتك

الجروح

وآلام القلب

فالطريق لك

مهداة الألواح

استرح ولا تبالي

أنا معك ... فلا تبالي

***

عبد العزيز قريش

فاس في: 16 مارس 2023

بعد إن انتهى الغداء في بيت العائلة الكبير، جلس الأبناء والبنات والأحفاد لشرب الشاي. الجد كان يختار دائماً مكانه المخصص في طرف الأريكة، مستمعاً إلى أحاديثهم عند كل زيارة أسبوعية لمنزله. دنا أحد الأحفاد صوب جده ليجلس قربه، ثم انفرد به الجد بعيداً عن أحاديث أسرته الكبيرة، سائلاً إياه عن دراسته واحواله، فأجاب الصبي أنه بخير وأنه يتمنى بان يكون في المستقبل صيدلانياً. سرح الجد بعد سماع هذه الكلمة بعيداً، حتى أنه لم ينتبه إلى هتاف الجدة - زوجته - التي طلبت منه الانضمام إلى حديث كان يشغلها ويشغل أبناءها. فزَّ الجد معتذراً عن عدم انتباهه لهم، وحين سألته زوجته: ها..؟! أين كنت سارحاً؟ أجاب الجد مع نهدة خرجت من صدره: لقد ارجعني هذا الصبي أربعين سنة إلى الوراء. وحين سألته زوجته عن النقطة التي عاد إليها في الماضي أجابها وأجاب أحداق أبنائه المتلهفة لسماع الجواب: أعادني إلى قصة حدثت في سوق مدينتنا حين كان أبي يملك دكّاناً فيه. إلى صبي عاش معنا كنّا نطلق عليه اسم "فحّوم". ولاحقاً صرنا نسميه "فحّوم الصيدلاني". هتف الصبي الحفيد في فضول عنيف: أرجوك يا جدي أي قصة هذه؟. احكها لنا أرجوك.. هنا اعتدل الجد في جلسته بعد أن وضع قدح الشاي، وصار يحكي للعائلة بأجمعها والتي انتبهت له:

- فحّوم هو شخص في محلّتنا مقطوع من شجرة كما يُقال، ولا تربطني به رابطة. فلم يكن قريباً ولا صديقاً، بل كان شاباً بسيطاً جداً. لقد كان ساذجاً إلى درجة أنه يصدق كل شيء. وكنّا نخشى أن نؤذيه لأنه كما يُقال من أهل الله، وشارته لا تخيب ولا تتأخر. لقبه اطلقناه عليه حين كان يعمل صبياً عاملاً بسيطاً في محل لبيع الفحم. ثم صار لقبه لاحقاً "فحّوم الصيدلاني" حين تحوّل إلى صيدلاني المحلّة.

تساءل الحفيد مقاطعاً جده:

- هل درس الصيدلة؟!!

ضحك الجد بعد ان وضع كفه على رأس حفيدة قائلاً:

- لا لا بالطبع.. الأمر يبدو برمّته غريباً أو مضحكاً أو ربما مبكياً. فهو لم يتعلم الصيدلة عن طريق الدراسة، لأنه قد تركها وهو لم يكمل السادس الابتدائي. أمثال فحّوم "المكَرود" لا يكملون الدراسة. فهم إما يعيشون كسبة في السوق، أو يموتون في الجبهات دفاعاً عنّا. إلا أنه صار من الثقات في أنواع الأدوية وأسعارها وشركاتها، هذا الأمر الذي لم نكن نتقنه نحن الذين كنّا بعمره، حتى بعد أن تخرّج أغلبنا من الجامعات المرموقة. والأمر كله له سبب غريب وما حدث لاحقاً لهو أغرب.

لوّحت إحدى بناته قائلة في فضول:

- نعم يا أبي اكمل ماهو الشيء الذي حدث؟!

هزّ الجدُ رأسه واخذ نفساً عميقاً ثم عاد للحديث:

- منذ سنوات طويلة عرفتُ فحوّم وهو يقبع أمام دكّان مملوك لأحدهم، وكانت أكياس الفحم الملوثة تحيط به من كل جانب. ولم نكن نميّز لون ملابس فحوّم لكثرة السواد المنتشر عليها من الفحم وأكياسه. تلك التي كان يحملها على ظهره تارة وعلى صدره تارة أخرى، ليبيع للزبائن والمطاعم والمقاهي ما يحتاجونه من مئونة لعملهم. كنّا أنا وبعض الصبية من الذين يملك آباؤهم الدكاكين المتفرقة، نقضي أوقات العُطل في دكاكين آبائنا. وحين يطول بنا الوقت والملل، نقصقص أظفار الرتابة بمقص التسلية مع فحّوم القابع خلف أكياس الفحم. فنجلس أمام الدكاكين، ونرمي بصنارات النكات والأحاديث التي يلتقطها فحوّم الواحدة تلو الأخرى. ومع مرور الزمن تغيّر الحال وتبدل السوق إلى دكاكين أكثر تمدّناً. لتتحول أغلبها إلى معارض للألبسة والأزياء والحلاقة وبيع الأجهزة الإلكترونية وحتى بيع المجوهرات وصياغتها. ماعدا المحل الذي كان يعمل فيه فحوّم، ظل مالكه عنيداً ولم يبعه أو يبدل مهنته. فظل هذه المحل الملوث بسواد الفحم كالنقطة السوداء في ثوب السوق الذي صار أكثر ترفاً ونظافة. ومن ضمن المحلات التي فُتحت كانت صيدلية تجلس فيها فتاة تعمل فيها، وكانت بعمر فحوّم الذي بلغ العشرين من عمره. كانت الفتاة الجميلة متدربة في الصيدلية التي كانت مملوكة لأحدهم. عندها انتبهنا أنا والشباب من جيرانه في المحلات إلى شغفه بالصيدلانية الجميلة، والتي لم تكن تنتبه له مطلقاً، بل كانت طوال الوقت لا شغل لها سوى تلبية طلبات زبائن الصيدلية، أو قضاء أوقات فراغها بمطالعة الكتب أو جهاز الهاتف.

تعالت أصوات العائلة مع ضحكات متفرقة، مع عبارات مشاكسة مثل (فحّوم الرومانسي.. صاحبنا عاشق.. ياملعون يافحّوم) ثم هدأهم الجد مبتسماً قبل أن يرد على سؤال زوجته التي قالت له: وكيف عرفتم أن فحّوم المكَرود كان يعشق الصيدلانية؟! فأجابها:

- من البدء عرفنا هذا حين صار فحوّم يأتي لدكّان بيع الفحم، وهو يرتدي الدشداشة البيضاء ذاتها والتي لم يكن يملك غيرها. وكنّا نضحك كثيراً من صراخ استاذه في وجهه، وأنه لم يعد مركزاً في العمل كالسابق ويخشى التلوث برذاذ الفحم وملامسته. إلا أن صاحبنا لم يكترث لعراك استاذه العجوز، وظل يمكث بالساعات أمام الصيدلية وهو ينظر طويلاً إلى الفتاة وهي كالعادة لم تشعر به، أو كانت تشعر به لكنها لم تكترث لحاله. هنا جاء دوري أنا وعصابتنا من شباب السوق. بعد جلسة استجواب سريعة جداً، انشق كيس الأسرار الذي يحمله فحوّم، لتسقط منه آهات واشتياق ولوعة منه اتجاه تلك الفتاة. في الحال نصحناه أن يقترب منها فهو على حاله هذه لن يحصل على شيء مادام بعيداً. وعليه المبادرة، وحين سألنا كيف يبادر قلنا له تظاهر بالمرض واشتر منها دواءً. وحين سألنا عن الدواء الذي يمكن شراءه، أجبته أنني سأكتب له بعض الأدوية المشهورة لخفض الحرارة والالتهابات والحموضة والدوار والإمساك والإسهال. وبالفعل صار فحّوم زبوناً عند الصيدلانية. فقد كان يقسم أجرته اليومية إلى قسمين، قسم يشتري به دواءً لم يكن يتناوله، بل يخزنه في أحد أكياس الفحم الفارغة، والقسم الآخر لمعيشته. وبعد مدة شعر كما يبدو أن هذه الفكرة قد اضرت به، حين صار يصرف كل يوم نصف أجرته على الأدوية التي لا طائل منها. فصار يدور على المحلات والدكاكين وحتى المنازل القريبة من السوق، ممن كانوا يعرفونه وحتى الذين لا يعرفونه. ولا سيما كبار السن الذين يشترون الأدوية كالمعتاد. فقد تبرع للذهاب إلى الصيدلية وشراء الأدوية نيابة عنهم. حتى اشتُهر عنه بهذا الشأن، ولم يكل أو يمل من عمله هذا، حتى بعد أن توفي صاحب دكّان الفحم وجاء أبناؤه وغيّروا الدكّان إلى وظيفة جديدة، وطردوا فحوّم الذي لم يكن نافعاً في العمل الجديد. ومن هنا بدأ لقبه الجديد "فحوّم الصيدلاني" الذي صار عارفاً وخبيراً بأنواع الأدوية وأصنافها وأشكالها وشركاتها. وبعد كلّ مرة ينهي فيها فحوّم شراء وجبة من الأدوية من الفتاة الجميلة الصيدلانية، يظل جالساً على دكّة أمامها وينتظر الفرج. حتى جاء اليوم الذي سألته فيه عن جدوى ما يفعل، فقال لي أنه يحاول كسب ودّها حين تعلم أنه يجمع لها الزبائن. فقلتُ له أن هذا لايكفي، والخطوة المقبلة هي أن يعترف لها بحبه، فأجابني بلهفة وضحكة اندلقت من فمه، أنه صارحها بالفعل ولم يقل لنا. وأن الصيدلانية الجميلة وعدته بالزواج إن كان يرغب على شرط أن يستمر في عمله هذا، مؤدياً خدمة للصيدلة في جلب الزبائن من هنا وهناك. وإنه لم يكتف بهذا وحسب، بل صار يجلس أمام عيادات الأطباء، ويتلقف الوصفات الطبية منهم لكي يحضر لهم الأدوية بأسرع وقت وأقل كلفة. هنا شعرتُ بالألم على حال فحوّم المسكين، حيث لم أكن أتوقع أن المزاح الذي كان قد صدر منّي ومن الشباب سيؤدي بفحوّم إلى هذه الاستغلال!!. فلا ريب أن هذه الفتاة تحاول استغلال سذاجته الفادحة إلى أقصى حد، وعليَّ أن أوقف هذا الاستغلال بأية صورة. لكن الشيء الذي لم أكن أتوقعه هو وقوف الآخرين إلى جنبه!.

تفرقت أصوات من العائلة باحثة عن السبب الذي جعل الناس يقفون إلى جنب فحّوم على الرغم من استغلاله، فأجابهم الجد مع ابتسامة اشاحت عن تجاعيد أسفل خديه:

- الناس في السوق والمحلة صاروا يتبرّكون بشراء فحّوم للأدوية لهم. يظنون أن الدواء الذي يشتريه فحّوم يشفي المريض أسرع بإضعاف من الدواء الذي يشترونه بأنفسهم، حتى لو كان من النوع نفسه والشركة ذاتها. فينادون فحوّم المسكين لكي يأتي مهرولاً ملبياً طلباتهم. حتى أن سيدة أو سيدتين من المنطقة المجاورة للسوق، وبختاني توبيخاً مريعاً في أنني أقف حجر عثرة في تسهيل أمور الناس المرضى، حين أعلنها صراحة أنهم يستغلون فحوّم في هذا العمل الذي كنتُ أظنُّ أنه شائن. فلم يكن أمامي في ليلة إلا أن أعزم النيّة على الذهاب إلى الصيدلانية ذاتها، وحتى لو وصل الأمر أن أكلم صاحب الصيدلية في هذا الأمر، وأخبرهما أنهما يرتكبان خطأ فضيعاً في استغلال فحوّم وسذاجته. وبالفعل في اليوم التالي ذهبتُ إلى دكّاننا وأنا أحمل ما يكفي من الغيظ والحنق للعتب مع أصحاب الصيدلية. فوجدتها مقفلة على غير عادتها في ذلك اليوم وعدتُ أدراجي نحو دكّاننا وسحبتُ كرسياً وجلست أمام الدكّان منتظراً أن تفتح الفتاة الصيدلية. لم أكن وحدي من ينتظر، فقد كان فحوّم هو الآخر منتظراً على الدكّة المقابلة للصيدلية، يطالع بشغف وقلق الطريق المؤدي للصيدلية، منتظراً بلا شك تلك الفتاة التي لعبت برأسه. ومرت عدّة أيام ولم تفتح الصيدلية بابها!!. وعرفنا لاحقاً أن الصيدلانية قد تزوجت من طبيب شاب قد انتقل مؤخراً إلى مدينتنا. وتركت الصيدلية لصاحبها وفتحت صيدلية أكبر تحت عيادة الطبيب زوجها. وحتى بعد معرفة فحوّم بالأمر استمر جالساً لمدة طويلة على تلك الدكّة المقابلة للصيدلية. وهو ينظر نظرات طويلة إلى بابها المقفل. حتى فُتح الباب من جديد وصار يعمل في الصيدلية رجل غريب لا نعرفه.

- (هنا عاد فحّوم إلى رشده) قالت الزوجة مخاطبة الجميع، فأشار زوجها بكفه مستدركاً ثم قال:

- لم يتقاعس فحوّم عن تلبية طلبات أهل السوق والمحّلة في احضار الأدوية لهم كالسابق. بالعكس لقد صار الأمر بالنسبة إليه مصدراً للعيش، لأن كل مريض يحضر فحّوم الدواء له يعطيه مكرمة من المال. لقد كان المرضى يتبركون به كما قلت، وفعلاً كان كل مريض يشفى بسرعة. إلا فحّوم الذي لم يفلح في النجاة من الموت.

هتف الأبناء، والصبي الحفيد وضع كفيه على رأسه قائلين مع آهات: هل مات؟ فأجابهم الجد:

- نعم.. نال منه مرض ولم ينفع معه العلاج، حتى لاقى ربه وحيداً في المستشفى. لم يكن وحيداً وحيداً، لأنني كنتُ أراعيه نوعاً ما لأنه كان بلا أهل، وأنا الذي استلمت جثمانه ليشارك في دفنه بعض الناس. لقد عاش ومات فحّوم وهو لم يبتعد كثيراً عن لقبه. توقّد لمرة واحدة في حياته وانتهى. لقد كنّا نخشى أن يلوّثنا على الرغم من حاجتنا إليه. لقد توقد وانطفأ بهدوء بعد أن نضجت على ناره حكايات وضحكات ونكات، كنّا نشربها في أوقات التسلية والمنفعة. مات فحّوم ومنذ ذلك الوقت كانت حتى الأدوية الغالية بلا تأثير، والصّدق بلا طعم. لا نعلم ربما الشركات التي تصنعها صارت تغشُّ في موادها، أو أنها هي نفسها التي كان الناس يتناولنها منذ القدم، لكن بركة فحّوم المكَرود وصدقه لم يكونا مغشوشين.

***

أنمار رحمة الله

 

 

"أي تطابق بين أحداث القصة وشخصياتها و ما جرى ويجري بالواقع هو من قبيل الصدفة وإبداع التخييل الذي يجعل الخيال واقعا والواقع خيالا"

كنا مشغولين بترتيبات جنازتها بالرغم من نفورنا من أفعالها وكلامها، فقد كانت امرأة بخيلة شحيحة متسلطة لا يسلم أحد من شرها وجبروتها، وكانت عيونها الجاحظة كعيون النسر، وملامحها القاسية المنفرة تجعل حتى قطط الدرب تتجنبها وتفسح لها الطريق مخافة إذايتها …كان همها الوحيد في الدنيا هو جمع المال بكل السبل لشراء المنازل وكرائها للموظفين الجدد...لا يطرق بابها ضيف ولا زائر ولا متسول.. وحتى صلتها بأقاربها مبنية على الحقد والقيل والقال والصراع حول الإرث وما تركه الأجداد والآباء والإخوة بعد رحيلهم...كيف ماتت؟ هذا هو السؤال الذي سألتنا الشرطة عنه بعد حضورها...شرح الأطباء جثتها على وجه السرعة وتأكد المحقق من صدق روايتنا بأنها ماتت بسكتة قلبية فأطلق سراحنا...حضر الأهل وبعض الجيران وجاء أخوها من أقصى الدنيا، ولم يعرف أحد كيف صار موظفا ساميا بعد أن كان موظفا بسيطا في إحدى الجماعات وكيف جمع ما بين المال والسلطة في ظرف وجيز، وظل ذلك سرا لا يعلمه إلا الله...وقف يتلقى العزاء ببرودة الثلج وبتعال واضح وتنكر لطفولته وشبابه وعلاقته بأصدقائه وجيرانه في الحي..فقد تحول من طفل جميل مؤدب وشاب محبوب إلى عابد للدرهم وعاشق للأرقام والصفقات والسهرات الليلية... كيف يغير المال البشر؟ هذا ما وشوشت به جارتنا السعدية للجيران وهي تعزيه، كيف يحول كرسي السلطة الإنسان ويجعله يتنكر لأصله وفصله ذاك هو الحوار والكلام الذي كان يدور بين المعزين في سرية تامة...وصل أبناؤها من فرنسا عند الفجر ونصبوا لأمهم خيمة العزاء وسط الشارع... وانتشرت رائحة الموت في أرجاء البيت والدرب والحي... وبعد تلاوة القرآن وترديد الأدعية ونشر الموائد حمل النعش في سيارة الموتى، وهرول الجميع بها في صمت تحت زخات المطر قاصدين المقبرة خوفا ربما من أن تعود الروح إليها من جديد فتفسد عليهم حياتهم كما كانت تفسدها من قبل بتلصصها عليهم ونقل الكلام من حي لحي ومن دار لدار وخلق المشاكل والفتن والحروب والأحقاد المؤدية أحيانا إلى العراك والطلاق والخصومة...وفي جو بارد لا يسمع فيه بعد أن توقفت الأمطار غير طقطقة الملاعق في قصعة الكسكس وتنفس الصعداء من غيابها عن المدينة بأكملها.. وفي غمرة انشغال الكل بالأكل أسر لي أخوها الموظف السامي السي أحمد بأنه انتهى للتو من تجهيز فيلا رائعة وسط غابة ساحرة تطل على البحر، وواصل حديثه بصوت خفيض لايكاد يسمع قائلا بأنه أثتها على ذوق خطيبته أمل التي سوف يعقد قرانه عليها في فصل الصيف، وأطال الوصف والمدح في فيلته وخطيبته الغنية الشابة الجميلة ذات القوام الممشوق والعيون العسلية التي لم يخلق مثلها بعد وكيف تعرف عليها وعلى والدها.. وكيف ضحكت له الحياة بعد عسر وشقاء وفتحت له ذراعيها بحنو وحب ولهفة وقالت له هيت لك..في الغد وكانت الأمطار الباردة مازالت تهطل بقوة والزقاق فارغ من المارة ودعني على أمل اللقاء به في فرصة غير هذه الفرصة الممزوجة بالحزن والرحيل ورائحة الموت، ودعاني لحضور حفل زفافه في فصل الصيف المقبل تاركا لي بطاقة عليها رقم هاتفه وأقل سيارته الفاخرة وغاب بين دروب الحياة وشوارعها الملتوية ليعود من حيث أتى كلحظة شاردة.. مر على جنازة أخته عايشة شهر بالتمام والكمال ليصلني عبر مكالمة مقتضبة من أخيه الأصغر هشام خبر وفاته...ونزل الخبر على أفراد عائلته كالصاعقة، وتساءل الكل باستغراب وتعجب كيف يتسلل الموت إلى جسد مفتول العضلات لا يشكو علة ولا سقما كيف يهد الموت قامة شامخة كأشجار النخيل دفعة واحدة...؟ دب الرعب في نفوس البقية منهم وبعضهم في دخيلة نفسه يردد الدور على من في الغد أو بعد الغد؟ !...قبيل آذان الظهر وصلنا إلى الغابة التى وصفها لي في جنازة أخته ومع آذان المغرب كان الحفارون يغطون جثتته بالتراب تحت شجرة باسقة مترامية الأغصان، وقد بلل المطر أغصانها وأوراقها فجعلها كفتاة حزينة تذرف الدموع على قبر حبيب عشقته لدرجة الجنون.. في الصباح الباكر ونحن نغادر فيلته وكانت بحق تحفة فنية نادرة الوجود أبدعتها أنامل فنان ماهر تطل شرفاتها الواسعة ونوافذها المقوسة على بحر هادر، تحفها من كل الجوانب أشجار غابة البلوط، وزادها جمالا أثاثها الفاخر الذي كما قال المرحوم بأنه اختاره بذوق رفيع يليق بمقامه ومقام أسرته وأسرة خطيبته.. وقبل أن نضع حقائبنا بصندوق السيارة استعدادا للعودة علق أحد إخوته على جدار الفيلا بالقرب من إحدى النوافذ المغلقة لوحة صغيرة بلون أبيض ناصع دون عليها بقلم أسود وبخط بارز للعيان رقم هاتفه وعبارة مكتوب عليها" فيلا للبيع" وأغلق الباب خلفه بإحكام على أحلام منذورة للرحيل...

***

قصة قصيرة

عبد الرزاق اسطيطو

انتبه من نومه بعد آذان المغرب بقليل، فرك عينيه المهترئتين بكفيه محاولا ان يطرد عنهما غبش النوم؛ تثاؤب مستمر يركبه، تقمطه رغبة قوية في النعاس لم تغادره، رغم انه رمى جسده على السرير قبل الفجر بقليل ككيس من الأسمنت ثقيل، بدأ يتمطى، يجاهد أن يطرد سيطرة النعاس عن عينيه، جرب تحريك ساقيه فوق سريره كمن يسوق دراجة بدواستين كما تعود ان يفعل كلما صحا من النوم. ثقل!!.. كل ساق صار وزنها طنا، حاول أن يعب نفسا قويا، فسرى ألم رقيق في صدره؛ بجهد جهيد استقام في مكانه، مد يده الى خزانة صغيرة بجانب سريره أخذ لفافة من التنباك حشاها بحشيشه المعتاد ثم شرع يدخنها، نوبة سعال تخنقه، حاول أن يحرك رأسه يمينا ويسارا وهو يفرك عنقه بيسراه، أحس تصلبا في رقبته، حالة تصيبه كلما أطال في نوم بعد افراط في التدخين !

تذكر زوجته التي فارقته من شهرين، كم كانت بارعة في تدليك رقبته، عنه غابت الآن بعد أن اتعبها بنومه الطويل، كسله وإدمانه، صوتها في مسامعه كنفير يعلن العصيان، كانت لا تدلك رقبته الا وصوتها هدير:

ـ رجل يتعمد الانتحار..لماذا؟ ماذا ينقصك؟ مدخولك من عقارات إرث أبيك كثيرة، صيَّرك الحشيش شيخا في الثمانين، أمات فيك كل شيء، كل شيء، اذا لم ترحم نفسك فارحم غيرك ممن يعيشون معك. قارن بينك وبين أخيك وهو أكبر منك بعشر سنوات..

"أسطوانة مشروخة"، تعب منها وهي ترددها بلا توقف، هبلة لا تعرف معنى الغياب في حضرة الانتشاء..ثم مالبث أن قطب ازدراءا وهو يحاول أن يتحرك من سريره: يكره ان تقارنه بأحد، فهوعند نفسه رأس متفردة بروح تهيم في ملكوت اللذة..

"أخي !!.. وهل أخي يتمتع بالحياة؟ لايعرف الا المسجد والمتجر والجاموسة أختك، ثعلب !!."كم كان يستغل غيبوبة انتشائي ويتلذذ بالنظر اليك من خلف، كان مأسورا بقدك وجمالك، لم أرتح من نظراته اليك الا بعد زواجه من أختك المطلقة ورحيله عن بيت العائلة "...

لم يستطع الحركة، كل ما على الأرض من جاذبية تشده اليها.. لف سيجارة أخرى وهو جالس على جانب السرير، أخذ نفسا عميقا وكأنه يتنفس نسائم صباح بحري، زغب أنفه وأدخنة حشيشه تمنعان الهواء من أن يمر حرا طليقا الى دواخله.. طارت رشة نار من السيجارة فأتت على فخده، شعر بحرقتها القوية قبل ان يطردها بظاهر يده.. ثقب جديد قد انفتح في سرواله، وأطلقت زغيبات من فخده بخورها، وشم احمر إضافي على الفخد يضيف الى الباقة وساما جديدا!!..

تفو.بصق على الأرض وهو يحرك اصبعه في ثقب القميص؛

مرة أخرى صوت زوجته يخترق طبلة أذنه:

لا ادري من أي نوع صخري قدت رئتاك، وهذا القطران الأسود يعشعش فيهما !!..كل ملابسك صارت عيونا تطل على جسدك المحروق، ألاتنتبه لنفسك قليلا.؟؟!!.

ضحك في غباء و هو يردد مع نفسه: "اعرف انها لم تكن تخاف علي رئتي، ولا على جسدي أو تهمها ملابسي، خوفها صار من رجل لاينام الا غائبا ولا يصحو الا متثاقلا !!.. رجل لم يعد يحرك فيها ماتريد(يقهقه) ليس ذنبي، كثير من الرجال مثلي فقدوا قدراتهم الجنسية؛ "العاهرة عتيقة وحدها تعرف كيف تحيي موتانا، و"للي بغى يربح العام طويل "، لاشيء ورائي.

ـ رحمك الله يا والدي ما تعبت الا ليرتاح ابنك الصغير أما الكبير فهو شقي بالركض وراء تجارته والجاموسة التي استهوته بعد طلاقها. ماذا كان ينقص زوجتي؟ امرأة لا تحمد ربها، غيرها تتمنى قلامة من خيري تعيش بها، غبية هي لا تعرف غيبوبة المتعة فتحياها، لو طاوعتني لكنا معا نعيش سعادتنا بين طيات السحاب.. ليس المهم كم عشت، المهم كيف عشت؟!! وليس بالجنس يحيا الانسان، شرع يدندن:

أنا وانت ولا حد ثالثنا، أنا وانت وبس..

مع نغماته المتثاقلة تخرج متقطعة من بين شفتين سوداوين من أثر مايبرم ويدخن، سمع بطنه تغرغرمن جوع، تذكر انه لم يتناول أكلا منذ غذاء أمس، شرع يضرب على بطنه براحة يده وكأنه يهدئ من غرغراتها ؛ مذ غادرته زوجته ما عاد يجد أكلا جاهزا في البيت، وقلما يتذكر وهو عائد مع طلوع الفجر من خمارته، أن يشتري أكلا فقد ربط علاقة خصام بينه وبين الطعام الا ما يتناوله من لمجات صغيرة مما تقدمه الخمارة مع الخمر..

سمع رنات هاتفه، قام بتثاقل، نظر مليا الى الرقم، ابتسم، لم تكن غير محبوبته عتيقة عاملة الخمارة، تساله متى سيأتي الليلة..

يرتاح لهذه المرأة، تعامله كما يريد هو، لهذا يغدق عليها من ماله بلا حساب، رد بلسان ثقيل، وهو يستخرج الكلمات من بين شفتيه وكأنه يفك لفة خيط تشابكت خيوطها:

ـ اسمعيني، أنا تعبان، انت انهي اعمالك باكرا وتعالي الي، لاتنسي ان تجلبي معك شيئا للأكل وصندوقة من الذي على بالك...

صمت قليلا ثم تابع وكأنه يرد على تساؤل منها:

ـ آ.. موجود، عندي ما يكفينا الليلة..

عاملة الخمارة لم تكن غير احدى جارات الحي الجديدة، تعرف غناه مما ورثه عن أبيه، معرفتها بكل سكارى الخمارة وبتدقيق، صيد ثمين شرعت تتقرب منه بعد تطليق زوجته، وتسير حسب هواه، الى ان جرته الى خمارة تعمل فيها ثم تعينه على العودة ليلا متى لم يغرها سكير بمبلغ مالي كبير، تصل معه الى باب البيت وقد فقد القدرة على التحكم في نفسه. باتت معه ليلة واحدة، ثم اكتفت بمساعدته على الوصول للبيت لاتنصرف الا بعد تأكدها من انه قد اقفل الباب وراءه..

جر قدميه الى الحمام، دوخة تلف الراس، وغثيان يسحق معدته، كان الحمام يرمي روائح نتنة من قلة النظافة، اتكأ قليلا على الجدارعساه يسترجع توازنه.. رنات جرس الباب نبهته من غيبوبة.. من يكون الطارق،؟ ترك الجرس يمارس مهمته وانشغل بنفسه، كان يحاول أن يتقيأ عساه يخفف من ثقل راسه وأوجاع معدته، مرارة تصعد الى حلقه، فتح صنبور المغسل وشرع يعب الماء دفقات في جوفه.. ثم لم يلبث ان يفرغه زعاقا أصفر، جلس على أرضية الحمام ثم اتكأ على المغسل..غاب... لعلها دوخة الجوع وكثرة التدخين، لا احساس بالمكان..

لايدري كم مكث في الحمام وهو نائم على الأرض، وجد نفسه أقل ثقلا مما كان، على الأقل يميز ماحوله.. جر قدميه الى البهو، بدا يعد دقات ساعة حائطية عتيقة مما لم تستطع زوجته حمله ؛ اثنتا عشرة دقة بالتمام والكمال تعلن منتصف الليل، الجوع ينهش بطنه.. حاول أن يبرم سيجارة لكنه تراجع.. يريد اكلا.. بعد أزيد من ساعتين اقبلت عاملة المقهى محملة بما طلبه منها، كانت ترتدي قميصا ابيض بنصف كم وسروال من جنز مقطوع من الركبتين وتحت الحزام، منها كانت تفوح رائحة دخان نفاذة، طريقة المساحيق على وجهها وكحل عينيها تؤكد مهمتها كبنت ليل، اتكأ عليها وهما يخطوان الى البهو بعد أن فتح لها الباب، لثم خدها:

ـ توحشتك واشتهيتك..لماذا لم تعاودي إحدى لياليينا الماضية؟

ضحكت في سرها وقد نظرت اليه نظرة ذات معنى وقالت:

ماذا ينقصك يا العريان؟...

قبل أن تهيئ له أكلا، قامت بجولة في البيت رصدت بعض الأركان بنظرة، نظفت المطبخ من أزباله، لاحظت أن كل أوانيه متلاشية أو متناثرة، فالزوجة لم تترك له في البيت الا ما تهرأ وتلاشى وعافته النفس..

أكثر من فكرة راودتها وهي تجول بين أركان البيت، لم تترك مكانا لم تنبش فيه، أتاها سعاله الحاد، فبادرت الى حمل صينية الاكل وأسرعت بها اليه، حين شرع يأكل قالت له:

ـ لم تترك لك زوجتك في هذا البيت الا ماتردى و عافه الضبع..

ضحك لتعبيرها وقال: كانت تتوهمني ضبعا كأبيها، هي لاتعرف أن عبقرية الرجل ليست في سريره ولا لباسه، وانما في ماله، و لحظة غيبوبة تحققها لفة حشيش، وكاس خمر، فيصير فيلسوف لحظته، يفسر الدنيا على هواه وحسب مايعجبه هو، لا ما يروق لغيره، لم تفهمني أبدا كما فهمتني أنت.. مستبدة، ارتحت منها ومن تحقيرها الوسخ.. لئيمة لم تترك مانعا للحمل لم تستعمله، تدعي انني وسخ ولا تريد أبناء يعيشون في الوسخ، هل انا وسخ؟

أدركت أنه دخن ما يكفي من حشيش قبل مجيئها فشرع يهلوس..بعد كل لقمة يضعها في فمه كان يتبعها بقنينة جعة ؛ كانت تشجعه على الأكل ومزيد من الشرب.. التفتت يمينا ويسارا كأنها تبحث عن شيء..قالت له:

اين الصندوقة، أشار بيده الى زاوية في غرفة نومه..هبت واقفة، دخلت الغرفة، قامت بجولة متفحصة بين كل الأركان، ، حتى سريره فتشت ما تحته، لاشيء مما يجول في خاطرها، كانت صندوقة الحشيش فوق منضدة صغيرة، تحتها لمحت ورقة زرقاء جديدة ملتصقة بالجدار من فئة مائتي درهم، ملتفة على نفسها، مدت يدها فأخذتها ووضعتها في الجيب الخلفي لسروالها..

اقبلت عليه، تركته يتابع أكله، وشرعت تبرم سجائر كمزيد من زاد لما تبقى من الليل، بدأ يتملاها وهو يضحك، ثم يميل براسه على كتفها فيلثم جيدها..

اِشرأبت برأسها قليلا وهي بجانبه لتتأكد من انه لم يرها من جلسته حين كانت تضع الورقة النقدية في جيبها.. قالت: مايضحكك؟

رد بعد سعال: كنت أتمنى لو كانت لي قدرة فأعيش ليلتي معك كما أحب؟

قالت وقد نومت عينيها ووضعت يدها على فخده كأنها تثيره:

- وما يمنعك؟ اساعدك كما المرة السابقة..

-أخشى مافعلته زوجتي بي قبل ان أرمي عليها يمين الطلاق:

ـ وماذا فعلت بك زوجتك؟

سخرت مني، عيرتني بفشلي، ركلتني اللئيمة برجلها احتقارا، واسقطتني من السرير الى الارض، ثم قالت:

"جفافة ديال مسيح الأرض"،.. هل انا جفافة حقا؟ أثق بك قولي...

ادركت معاناة زوجته معه، هو رجل غني حقا، لكنه بلا قيمة، بلا إرادة ولا شخصية، نخره الحشيش وفسخ الخمر دواخله، لا انثى تحتمله الا اذا كانت صاحبة مصلحة مادية..

ناولته لفافة، بعد أن اشعلتها.. أخذ نفسا عميقا، تراجع برأسه الى الخلف وكأنه قد غاب عن وعيه، بادرته بقنينة من الجعة قبل ان يعاوده سعاله، استقام في جلسته وصار يغني:

هذه ليلتي وموت رجولتي

أدركت انه يحس ضعفه، وما يغلي في أعماقه هو فقدانه لرجولته قبل الأوان، ماعادت له قوة للعودة ولا إرادة، صار عبدا مملوكا طيعا لسيجارة يبرمها بعد ان يملأها سما، أتى على رجولته بالكامل، ورغم ذلك فهو يكابر، يتملص من الوقوف امام نفسه، فيخالف لها رغبة.. كبره أبعده عن الحياة ومتع الحياة التي هي أحسن بكثير مما استحوذ عليه وصار له هوى وحيدا متفردا يطويه بلا فكاك.. حين ينسلخ الانسان عن الحياة تموت خبراته ثم تموت ارادته..قطع كل علاقة بعالمه الخارجي، حتى الزوجة تخلص من تبعاتها لأنها تعارض هواه المتحكم فيه، لم يعد وفيا الا لقبضة الحشيش وقد تمكنت منه وازدادت قبضتها عليه بعد موت أبيه..

شرع يهذي، تكلمه فلا يرد عليها، يرفع صوته بإعادة المقطع بصوت يزداد تثاقلا..كانت تريده أن يغيب اكثر ففتحت له قنينة خمر مما يحب، سقته كاسين مترادفين، اتبعتهما بلفافة ثخينة من الحشيش..

كانت عيناها تجول في البيت وفكرها شغال، تنتظر فقط غيبوبته الكلية عن الوعي لتبحث في الأماكن التي رصدتها، مد يده اليسرى اليها يطلب كاسا ثالثة، هوت يده وهي تناوله الكاس فطارت شرارة من سيجارة كانت بين أصبعين من يمناه، تحركت هي بسرعة فتعثرت بقنينة الخمر، تكسرت وقد اندلق مافيها على الأرض، هوت على وجهها فانغرست شقفة في عينها اليمني، اشتعلت النيران، بسرعة امتدت في اللحاف الاسفنجية، حاولت ان ترى ما حولها، دمها الفوار من عينها و أعمدة من الدخان تحجب عنها النظر، تفقد قدرة التمييز، لا تقوم الا لتهوي متعثرة في ما تبعثر على الأرض من زجاج وورق،. النار تمتد في البيت، تأكل بنهم كل ما فيه من لحاف أسفنجية يتطاير شررها.. يشتد سعاله من اختناق، هرج ومرج من خارج البيت وقد اندلعت ألسنة النيران..

حين أتى رجال الإطفاء لم يجدوا الا الرماد، وأثر من جسدين متفحمين في بيت بدأ يتهاوى سقفه بعد جدرانه ثم خزانة حديدية كبيرة لفظها جدار البهو.

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

ولإن صبرك مبلول بصمت عفيف

ترجمين شقاوتي بقبلةِ حفيف

فكم من ضمة حنين سبقت غضبك الدفين

وكأنك تيار عصف في جفن الشدائد

وبحر أمان بموج طفيف..!!!

تروفي ثوب همي المعطوب

بحماس قلب الفرح..!!

فتعيذُ براءتي نفث الوجع ..!!

أأأ..وهبك الإله عين الخشوع

في حضن الدعاء

تلبية بـــــــــــــــُـراق..!!؟؟

كي تلملمي أتراب الوجود من بعثرت الزمن ..!!؟؟

لذا يشرق نور أنوثتك من حياء التكوين ..!!

فَلكِ من فُلكِ الحروف خلقٌ لطيف ..!!

ح.. و ..ا ..ء...

ونون اللغة.. وتاء نحوٍ.. وبسملة القصيد

تهاني ساطعات كحلم الربيع بــ آذار ...

من شمم جسد الألف لروح حِجِر الياء

لأنك كون الهوية.

***

إنعام كمونة...

13/3/2023

 

ما يزال العرب يكرهون بعضهم بعضا

حتى يخرج الفتيان الثلاثة من كهفهم

ويقتل بعضهم البعض

ثم يتساءلون لم قتل قابيل اخاه هابيل

*

لا احد يريد ان يتفرج

على مسرحية هزلية

سيئة الاخراج

تدعى "لم الشمل"

"لم الشمل" مازال قيد التأليف

في دفاتر الانظمة العسكرية القمعية

الحاقدة تجاه الجار

*

عالم العرب آيل للخراب

طال الخلاف والانقسام  بينهم

ففشلوا وتنازعوا

يؤججون التفرقة

وينفخون في نار الفتن

بحماقتهم الصبيانية

حتى تخثر النزيف في رقابهم

و صاروا على طرفي نقيض

يخلطون بين

لا الى هؤلاء

ولا الى هؤلاء

*

يا اخوتي الاشقاء

دعونا نتقاسم الشتائم

والاتهامات

لا يهم ان كانت جارحة

وبألقاب ملعونة

فنحن كلنا عرب

ومن شيامنا الغضب

وزرع الدمار والخراب

*

رغم اننا قطيع خراف ضائعة

في زرائب ولاة الامر

وقعنا لهم ما يبرئهم

من اي خطأ متعمد أو محتمل

وجعلنا من الجنرالات اسطورة

ونصبنا لهم التماثيل

في ميادين الحرية

*

وأتسائل:

كم شاعر كتب قصيدته الاخيرة

عن مأساة "تشتيت الشمل"

وكم شاعر وقف على المنابرالمأجورة

ليقرأ وصاياه عن "لم الشمل"

وتغاضى عن تمزيق الصف

وهتك عرض الجار

*

طالما هزم العرب انفسهم

بايديهم

فليس في وسعهم ان يفعلوا

شيئا آخر

شيئا مثل تحرير فلسطين على سبيل المثال

او اسعاف نخلة سرقها الطغاة

او يكتبون قصيدة رديئة

لرواد التواصل الاجتماعي

اوبلاغات جوفاء متبوعة بمعزوفات خارج السرب

او شعارات ثورية يحرضون بها رعاة الماشية

او يضغطون على ازار الكترونية

لتفجير انفسهم

***

بن يونس ماجن

أيتها القريحة المكلومة

أكشفي عن مكنوناتك

مارسي فوضاك

على مرآى ومسمع البدايات والنهايات

لا تنتظري دنو الليل الضرير

لا تنغرسي في رمال الصمت

فيستبيحك الضلال الكثيف

اِمنحي الحروف هوية النار

عل الجرح يجلجل في منابت الصخر

ينبيء النائمين على هدأة الاحتمال

أني سأنبعث من اليقين

حرفا هيجته مرارة حبر

من عصارة الذاكرة المجبولة

لا أريد للدمع الشجي

المخزن بين الحشا والضلوع

أن يجتبيني .....

كيما أجهش بالوهن

يهتز الاستدراك

المخنوق عند مدخل الوريد

على شاشة اليقين يرسمني

أبجدية مصونة ....لا تنقلب علي

عند منتصف البوح

*

أريدني قصيدة ....تنشد الانسكاب

على امتداد الزمن الهادر

لأعوض الحلم بعض ماكان

من زلاتي ومعاطبي

أعرف جيدا

أن حقيقة الغضب طوفان

لب السماح انهزام

حين تعقمه الثمالة والهذيان

ما بينهما منطقة

لم تنل حكما ذاتيا

ولا هي تحررت

لأخرج من بين الانقاض

والمنافي

أنا الآن انكسار يبدع في التيه

والآه خنجر لا يبرح الخاصرة

عيناي جمرتان حائرتان

بين الغفو والحذر

بين القصاص والغفران

*

يا من كنت شريكي

فيما اقترفنا من شعر

ما اغتلنا من لحظات الفرح

لك مني سلام

ولي منك وعود...أن تمجد حزني

بما ملكت من لغات

تجعل قصائدي

بعضا من صحف الاخرين

احتراقي امتدادا

لما كان عليه الاولون

من وحي الحلم...

جاءت أبهى أشعاري

فكيف تكيلها لأفانين الموت؟

كل ما رسمت على قفا الأمس

من أول البعث ...حتى آخر الدفق

لا ينال من الأصل شظية

فقد تم بتحكيم مخالب الانتظار

حين أجهش القلم بالبوح

دون استئذان الذاكرة النخرة

عدت إلى لطخة الطين

أقرفص قرب حزمة الأحكام الرجعية

أغطس في بحر التباريح

حتى صار الاكتمال بألوان أنت شئتها

اليوم......تدعوك العورة خفاقة

وسط ظلمة شاسعة

أن نتخاتم بوهج الصمت

بصيغة الحضور...ننتفي

ليترسب في القعر صوتي

على تلة الغربة يرتفع الدعاء=

حيى على الحسرة ...حيى على الكمد

هنا تناهيد أشرقت

تنقط السماء جمرا بوذييا

بمقص القسوة تقد جدائل فرح

زادت عن حدها

فلعثمت لحن الابتهاج

*

لم خطفت الدواة؟

والحرف عند عنق الزجاجة

استوقفته تعاليم الليل

لا انطلق صرخة...ولا صار برهانا

ها قد أرقيت نفسي

بما تهاوى من فوهات السحب

قرأت تراتيل الليل

حتى تقيأت الموج

وما التهمت من ملح

على شطآن الوهم المطوح

فافتوني فيما ترون من امري

ولا ترجموني

فقد قدمت القرابين لشيوخ النار

كيما يعطبوا قلبي بعصاهم

*

لست الكم المنفصل

ولا الكيف المتصل

ولا أنا تلك الغواية المنفعلة

انما انا أناشيد انحازت الى رقيق الشعر

هاجر الشعراء وبقيت هنا وحدي

أعلك المدى

حتى صلبني الملل على جدار النسيان

كيف السبيل اذا

لتسلق سهاد الحواس؟

عبور ثورة القلق؟

لأنظم للارتياح أغنية الاقامة؟

*

كم استجليتك أيها الغياب

أنار اشتعالي دهاليز غموضك

لكنك أمعنت في استعتامي

تضليل ما وضح مني

حتى ضمختني بالتلف

*

سأرحل ....لأبرأ من جرح

لج عميقا في جسد الملح

موحشة دروب الهجر

الا من قبس نزيف يرسم الطريق

وفرح قتيل يرافقني

حتى اذا صارت الحكاية فقدا

أضحت الذكريات مقصلة

لحروف طالما عطرت المسافات

مسكا .... وكثير عنبر

***

مالكة حبرشيد

 

عانق صديقته مرحبا بها قائلا:

- الترحيب بالاصدقاء واجب

ولم تعلق هي، ومرت كل اقواله وتصرفاته دون ان تبدي رأي مخالفا لما وصلها منه.

لم تجد الرغبة في مناقشته فقد مضت الحياة بهما هو يقول ما يتعقد انه صحيح، تعبت هي من صراخه واقواله المتكررة انها دائما مخطئة وانها بعيدة عن الصواب ولا تعرف ان تتصرف التصرف اللائق ولا يمكن ان تتخذ منه قدوة في صحة الأقوال والأفعال، سنين العمر التي مضت سريعا وخلت من كل ما يبهج القلب عودتها دائما ان تكتفي بالصمت ولكن هذا ايضا لم يرضه:

- لماذا تصمتين؟ أليس عندك ما تقولينه؟

لم تجد ما تقوله ككل المناقشات معه هو المتحدث دائما وهي الصامتة، وككل مرة يتحدث اليها معنفا تتذكر كل تلك المناسبات التي كان يحثها فيها على عدم رد السلام :

- المراة في مجتمعنا لايمكن ان ترد السلام هو عيب كبير

- وهي تود ان تحيا بسلام وهدوء لا يعكر صفو حياتها صراخ او تعنيف  وكل جاراتها يرددن السلام ويحيين كل الجيران والجارات باحس ما يكون السلام الا هي تكون كالبكماء التي لا تحسن شيئا وهذا الذي يسمونه زوجا يقودها الى حيث يشاء حتى لو بدت مخلوقة لا رجاء فيها ولا تحسن شيئا ولا يمكن ان تتغير نحو الأفضل كبقية خلق الله .

قلت لك مرارا اننا مجتمع محافظ وانه من المعيب جدا ان تردي السلام حتى لو كان البادئ بالتحية جارا

- لكنني اجد كل الجارات يسلمن الاا انأ ابقى صامتة حين يحييني جار قريب منا يزورك باستمرار.

- لا تجادليني اجد عندك هذه الايام رغبة في مجادلتي انت ليس مثلي انا رجل اعمل ما أشاء وانصرف كما يحلو لي وأنت امرأة كلها عيوب يراقبها المجتمع ويحكم على تصرفاتها مهما تكون وانا لا اريد ان تكوني مضغة في أفواههم، اقول لك لا تردي السلام وهذا يعني الا تكوني انت البادئة بالسلام حتى لو كان على احد من جيراننا المقربين .

- ومنظره يعانق صديقته ما زال يؤرقها ويسلبها الراحة ويبعد عنها الطمأنينة وعنده العديد من الصديقات والأصدقاء يسهرون معا ولا تفترب منهم، تحضر لهم كل ما يلزم سهرتهم دون ان تشاركهم الجلوس ومرة واحدة اقترح احد اصدقائه :

- لماذا لا تجلسين معنا نحن أصدقاء زوجك وصديقاته واصدقاؤك ايضا نوال زوجتي تطلب مني ان ادعوك ان تشاركينا سهرتنا، حرام ان تتعبي في تحضير لوازم السهرة وفي طبخ العشاء دون ان تجلسي معنا .

- تسمع صوت المدعو زوجها

- اذهبي بسرعة عندك عمل في الصباح ولا تسهري معنا، وفي الصباح اغسلي الصحون التي تركناها على المائدة .

تصمت هي ولا ترد على اقتراح الصديق او أوامر الزوج، تسير وحيدة محبطة دون ان تتمكن من النوم، تنتظر ان ينتهي القوم من السهرة وتناول العشاء لتتمكن من ترتيب الصالة وغسل الصحون والتهيؤ للدوام صباح الغد. ويأتيها صوت الزوج معنفا:

- هل اشتكيت لصديقي صلاح؟ لماذا اصر على مشاركتك سهرتنا؟

***

صبيحة شبر

18 شباط 2023

فجأة

هكذا

من دون مقدمات

يطغى عليه زمن ما تحت الماء

الماضي اختفى.. لا وجود له ولا أثر.

هو لا يتذكره قط ولا يعرفه إلا حين تقع عيناه عليه

يشعر كونه يختلف عن الآخرين.

فلا يحس بوجود سابق لما مضى بل لما يكون.

أين كان قبل هذه اللحظة؟

وإلى أين هو ذاهب؟

ومن هو؟

يتحسس جيوبه فيعثر على بطاقة وصورة له، وقد وجد نفسه يمشي على الرصيف، يعي لحظته الحاضرة وحدها:مما يؤكد وجوده :علامات كثيرة تشير إليه.. إنسان يمشي في الشارع.. ليس هو، فهو في حلم يمنعه من أن يتذكّر كلّ شئ ماعدا اللحظة التي يرى نفسه فيها.أين تلاشى الماضي؟ليكن ذلك حلما.. كابوسا ليسمِّه ما يشاء فالأحلام هي الحقائق الوحيدة التي نعيشها.

وتساءل:

أشياء كثيرة تدل على أنّي كنت في أمكنة أخرى غير هذا الشارع من قبل فهل تفاجؤنا الامراض هكذا دفعة واحدة فلا نعرف من نحن لكن لساننا لا ينسى الكلام، شارع سوق.. ناس.. شمس غيم.. معرض أمامه، وشارع يصخب بالمارة، هناك من ينادي بعد غد عيد، يجوب الشارع يستوقف المارة على الرصيف الآخر، وامرأة تدفع عربة طفل، يجتازه شاب مشغول بالهاتف النقال،، سيدة بشال أبيض تقول لأخرى في عمر ابنتها بعد سنتين يصبح ابني مهندسا اصوات صاخبة واخرى هادئه لايهمه أين كان ومتى ضاع لم يبق لديه إن كان هناك شئ سوى لسانه والكلام.

كيف تعلم هذا

وعرف لغة الاخرين الذبن يتهامسون ويزعقون ويتناجون !

يعرف لغة العابرين ولا يعرفونه شخص ما يبتسم بوجهه يهز رأسه اليه مرحبا، وآخر يقصده ظنه صديقا أو من معارفه ثم تبين أنه يبيع أوراق اليانصيب.هناك شئ واضح غامض لايقدر أن يفهمه. يسمع شخصا كأنه يناديه عبد الودود، عبد الودود، تلتقي نظراتهما فينسل الآخر وسط الزحام ويغيب.أين يذهب ومن أي مكان أتى؟

هل هو عبد الودود؟

من أين مكان خرج ومن هؤلاء الذين يعبرون أمامه.

توقف لحظة أمام بائع عصير عنب كان في حالة عطش شديد تحسس جيبه وجد به بعض أوراق تشير إلى علامات لا يذكرها.دينار نصف دينار عملات معدنية يقرأ الأسعار على اللوحة ويتردد لا يريد أن يغامر بأشياء لا يعرفها وإن كانت في جيب سرواله.. خطا وقد أعاد النقود إلى جيبه..

ثم واجهه مقهى شعبي.. يدخنون، ويحتسون الشاي والمشروبات الغازية.. كلمات لا يعرف كيف دخلت عقله، يريد أن يعود إلى مكان انطلق منه ويتحدث مع آخرين لم يعد يعرفهم .ملامحهم ضاعت.غادر الرصيف المحاذي للمقى واتجه نحو مكان ما لاح له أنه ساحل نهر عريض.اختار مسطبة وبدأ يفكر، وفي لحظة ما، لحظة أبطأ من سنين طويلة امتدت يده إلى جيب سترته، فتحس شيئا خشنا.

بسط البطاقة وبدأ يقرؤ:

وديع عبد الله

موظف حكومي

1967

إذن

لم يكن العابر المتعجل وسط الزحام يناديه.

صورته أم صورة شخص قريب الملامج منه .من دسّ هذه البطاقة في جيبه.إنها تشير إلى سنة لا يعرفها .1967 في أية سنة نحن وكيف تمت عملية الحساب.اسم أمه أبيه يظن نفسه يعيش في عالم افتراضي هنا في الحلم لا شئ يثبت وجوده وبطاقة عليها صورة أخرى.لا بد أن يكون حلما ولا يشك أنه يستفيق منه بعد دقائق أو ساعات.نهض من مكانه، وقادته قدماه إلى شارع آخر.

مشاهد جديدة تتكرر يراها في إطارها العام بغير حالات سابقة.. كأنه قذف في هذه الدنيا من غير أن يعلم في لحظة غريبة مقطوعة، أشجار وأبنية وطيور شوارع عريضة وضيقة، يقف في واجهة محل يبيع الأجهزة الألكترونية، يشاهد من على شاشة التلفاز إعلانا، فتراوده فكرة ما، يلغيها ويهم بالدخول، أشياء يعرفها غريبة عنه أكثر من تلفاز أجهزة كومبيوتر، ملوك ورؤوساء.يعرف ولا يعرف، يعود للتساؤل عن نفسه:

كيف دخلت المعرفة إلى رأسه فعرف كل شئ حاضر ونسي كل شي غائب.. يعود للشك:

إنّه حلم

كابوس لطيف يرغمه على التفاؤل

سيستيقظ منه يتأكد تماما أن الأحلام هي الواقع الوحيد الذي نعيشه في حياتنا.أنا الآن مجرد فكرة، والحلم واقع، تجذب نظره لافتة تحمل اسم طبيب.

يتأمّلها.

هل من المعقول أن يُقذف فجأة في هذا العالم من دون منقدمات ولعل الطبيب يفهمه ويأخذ بيده.يبتسم يصعد درجات يقابله بابتسامة السكرتير ذو الوجه النحيف الأشيب الشعر:

اسم حضرتك؟

يتردد قليلا يتذكر البطاقة التي في جيبه:

وديع نعم وديع.. اسمي وديع

هناك شئ التصق به، شخص آخر لا يعرفه، وتردده في نطق اسمه يثير ريبة السكرتير الذي غادر مكتبه ودخل غرفة الطبيب، وخلال دقيقة أبصر عالما على الجدران يعرف اسماء بعضه ولا يعرفهم .. لوحه على الحائط تجسِّد شخصا شفّ جلده فبانت العوالم الداخليّة والأحشاء:لسان وبلعوم معدة رئتان .كلّ شئ واضح، ولوحة أخرى لمكعبات متباينة الألوان تحيط بساعة جميلة تشير إلى الرابعة.. يدرك أن الوقت عصر وأن الساعة لا تكذب، لم يتذكر في هذه اللحظة أنه كان يؤمن أن الساعة لا تكذب سواء تقدم الوقت فيها أم تأخر.. بوستر آخر على الحائط فوق مكتب السكرتير لسيدة شفّ جسمها عن أوردة وأعصاب تتواصل من جمجمتها إلى أظافر قدميها.. ثمّ دعاية لحبوب ليس من الضرورة أن يهتمّ بتفاصيلها، وهناك أيضا مفكرة على الحائط .يوم سبت .رقم شهر وسنة .. 2003اليطاقة في جيبه تذكر عام 1967 لم يتذكر أصدقاءه الأرقام .. عشرة.. مائة ألف.. حصة المشروع الزراعي.. وارد الجمرك السنوي.. لأرقام الحسابات الكثيرة التي مارسها في البيت.. جلوسه طول اليوم أمام الحاسوب، ساعات وساعات مشاريعه مع راضي أو محادثته صديقه المهاجر ( محسن)

كلّ شئ تلاشى

انمحى

في يده بطاقة تقول 1967 وأخرى على الحائط لعالم مبهم وليس هو متفرغا لتفاصيل الأرقام الصغيرة التي تلحق هذين الرقمين الكبيرين.

أيّ رقم صغير لايهمّ

لا يعني شيئا

رجل آخر يدخل .. مريض ثان في الثلاثينن أشقر.. لابدّ أن يعرف أدق التفاصيل عن الآخرين والصور الهياكل والتماثيل.. اللون والكلمات فقد توصله إلى حقيقةما تتعلّق بوضعه الحاضر .. المريض يتخذ مجلسه على الأريكة أسفل الإعلان، والآخر جنب مكتب السكرتير.

حسنا إنه يرى الآخرين ويعرفهم ويمكنه أيضا أن يقدّر أعمارهم.

بعد لحظات يقدم السكرتير، ويجد الطبيب بانتظاره .. مرة أخرى لايخطئ.. الطبيب.عبد الكريم الرشيد الاسم المتقوش على العارضة في الخارج وسبم.أشقر طويل القامة:

يتذكر، يعرف، الزمن الحالي..

يبقى هناك شئ ما لايدركه..

مشى بسوق، وجلس على حافة نهر، تعامل بنقود مع السكرتير، يقابل الطبيب يدرك ألوان الظواهر حوله ولايدرك نفسه.

أبيض

أحمر

أخضر

ماء.. فرح .. مأتم.. عيد.. ضحك

لا يتذكر ملامحه: يجهل اسمه، وحالما أغلق الطبيب باب الغرفة حتى تلاشى ماكان فيه من ذاكرة سابقة عن الشارع والآخرين:

تفضل.

يجلس عند حافة المنضدة ويعود الطبيب إلى مكانه:

سيدي من أنت؟

ينظر الطبيب باستغراب، يدرك بحكم خبرته أن المريض إما يعرفه منذ زمن وإن لم يكن من مرضاه أو قرأ اللوحة خارج العياده فدخل لعلّةٍ ما فيه:

أنا الدكتور عبد الكريم الرشيد وأظنك قرأت العنوان فدخلت ودفعت رسوم الكشف ولست مخظئا للعنوان.

ينظر بدهشة حادة.يجرفه ذهول.قبل قليل عرف شيئا ما وحالما قابل الطبيب، وجد نفسه هكذا فجأة في مكان غريب ولم يسبق له أن عرف مشهدا آخر:

نعم مم تشكو؟

نظرة بلهاء حائرة

لا بد أن يكون الأمر كذلك.المعدة أم الأمعاء؟

لا أظنه مرضا عضويا

قال الطبيب مستغربا:

مذا تقصد؟

ياسيدي حدث أني وجدت نفسي في هذا العالم هكذا فجأة من دون مقدمات من أنا ؟كيف عشت ؟متى حدث لي ؟المعاني في ذهني والمفاهيم.. أرى الآخرين ولا أعرف نفسي كيف اقتحمت هذا الوجود أو كيف اقتحمته، وها أنا أعرف معاني لا أدري بأيّة طريقة انسلّت إلى ذهني، والأدهى كيف وصلت إليك وأين كنت؟.

ازدادت دهشة الطبيب نظر إليه يشكّ وقال:

لكن ماتشكوه خارج عن إرادتي

صدقني أني وجدت نفسي بهذه الصورة عندك من غير وجود سابق لي في هذا المكان.

فهز الطبيب رأسه ولعبت أنامله بالقلم الفضيّ ثمّ نحّاه جانبا :

ألم تقرأ اسمي وتخصصي واضح أنا طبيب عام .. طب باطني يتعلق بالأحشاء وأنت بحاجة إلى طبيب نفساني

فتساءل منكسرا:

ماذا تظن ما بي إذن؟

أعتقد أنك تعاني من فقدان الذاكرة؟

تمتم الطبيب مع نفسه احتمال وربما بعض من نوبات الجنون الذي يمسح الذاكرة:

أنا لا أعرف على الأقل الآن أحدا ولا مكانا لا أعي كيف قًذِفَ بي في هذا العالم أدرك ماحولي من حضور هو أنت وحدك المنضدة التي تقصل بيننا سرير الفحص الأبيض الطويل مصباح الغرفة ولا أدرك أي شئ مما مضى.

هز الطبيب رأسه برما :

لا بأس عليك هناك مشفى ليس بعيدا من عيادتي فيه أقسام كثيرة يمكنك اللجوء إلى أحدها هناك يساعدونك أما أنا فسأرسل سكرتيري يرافقك إلى المشفى وسأكتب لهم احتمال إصابتك بفقدان ذاكرة مفاجئ.

شيعه الطبيب إلى المكتب، وحالما دخل غرفة الفحص مريض آخر وأغلق الطبيب الباب حتّى وجد نفسه في مكان جديد.. المشاهد التي رآها من قبل يراها الآن للمرّة الأولى:بدن رجل على الحائط وأحشاءه.. صورة لجسد سيدة تبدي جهازها العصبي، مفكرة.. تواريخ وجداول.. اليوم.. وساعة تحيطها مربعات زاهية الألوان يشير عقربها إلى الرابعة والنصف:

ترى أين هو الآن ومن جاء به إلى هذا المكان؟

قادته قدماه إلى الشارع ثانية سأل السكرتير من أنت وأين كنا فظل الرجل صامتا واستقلا سيارة أجرة إلى مشفى النورالفخم.طوال الطريق فكر بما حدث له .الماضي ليس بباله ولا يعرفه، والرجل الذي يجلس جنبه.لا يثير ريبته بل حيرته أين كانا هما الإثنان.

يدرك فقط الحاضر والمستقبل، بل الأكثر إلفة له الحاضر، الدنيا لحظة نعيشها تذوب فلا نتذكرها.بطاقة جديدة في يده

إين كان.. ؟

يدرك أنه يمشي في الشارع ويبحث عن مشفى اسمه النور ولا يذكر من وضع البطاقة في يده.لحظته التي يعشها معه فإذا مضت نسيها تماما أو لم يعد يؤمن بها .لا ماض ولا مستقبل هو الحاضر وحده الذي يملأ الفراغ من حوله..

أين كان قبل لحظة إن كانت هناك لحظة مرت ما يثبته قاموس المعاني في ذهنه كلمة ماض .. أمس.. البارحة.. مجرّد كلمات باردة تستقر في ذهنه، وقد وصل إلى المكان الفخم، فتاة شقراء بمريلة بيضاء طويلة الشعر تركت شعرها يتدلّى على كتفيها، ولوحة تشير إلى مكان استراحة واستعلامات:

لو سمحت انتظر قليلا

وقد نسي الرجل الذي رافقه ومازال لا يدرك كيف وصل.

تتطلع في البطاقة التي في يده والتقرير القصير الذي زوده به الطبيب من قبل.

تهز رأسها، وتتحاشى أن تنظر إليه بريبة.

حسنا جئت من عند الدكتور( عبد الكريم )

ماذا تقولين؟ الدكتور(عبد الكريم )؟

لا بأس انتظر قليلا.

يتساءل مع نفسه:الدكتور؟

البطاقة التي يراها الآن يراها على المنضدة، ونظرات موظفة الاستعلامات تحوم بين التقرير القصير، دهشة وشك ثم تسأل:

معك بطاقة تعريف؟

يتحسس جيبه ويخرج البطاقة يلمح اسما مكتوبا صورة له لا يعرفها إلا الآن.. يأتي موظف ضخم يقود عربة ذات عجلتين عريضتين، ينطلع في بطاقته ويطلب منه بلطف أن يرتقي العربة، صعد وعندما عبر الدهليز انتظر الممرض خلفه لحظات حتى انفرج باب عريض، فوقع بصره على ممرضة تقف أمام خزانة مفتوحة أخرجت بدلة بيضاء تركتها.

***

رواية قصيرة

قصي عسكر

هل للغريبِ هنا قضِيّه؟

هل للغريبِ هنا حقّ السّؤالْ ؟

هل للمُهاجِر ِهنا ذاك الإسمُ

أوالعائِلة ُ الكريمة ْ؟

ليس للغريبِ هنا سوى رقم ٍ

وبعض أحْرُفٍ كتبتْ  بدَفترْ .

هل لي ولكَ هنا جُغرافيا أو تاريخْ؟

ليس لي ولكَ هنا

حَتى دفء الرّغيفْ

ليس للغريبِ هنا

ديوانٌ،

مَضافة ٌ،

كلمة ترحاب ٍ،

وقولُ: يا هَلا بالضيوفْ....

ليس للغريبِ هنا

سوى مَصابيح الرّصيفْ.

**

لا نسمَعُ هنا صَوتَ البائع أبي محمود

في الصّباحْ،

لا نرى ابتساماتِ الأهلِ والأحبة

في سهراتِ الصّيفْ.

لا يَفرَحُ الأطفالُ  في بيتِنا

لعودةِ الراعي – الولد – وضّاحْ،

من الجبل ِ الأخضرْ.

لا حاجَة َ لتذكير الغريبِ بوطنِه

فهو يَزورُهُ كلّ ليلة ٍ

في المَنامْ.

**

موحِشة دنيانا هنا ..

بل غليظة القلب ...

لا تلقاكَ هنا

أشجارُ التينِ، والزيتون ِ

وعشبة ُ الزعتر

ونبتة ُ العَكوبْ.

لا حاجة َ لتذكير الغريبِ بوطنِه

فهو يزورُهُ كلّ ليلةٍ

في المنامْ.

**

مِسكينٌ أنتَ

يا ابنَ أحمدٍ

مسكينٌ أنتْ،

لقد انتزعوا مِنكَ عقالكَ

والكوفية ْ

حَرَموكَ  التكلمَ

بِلغتِكَ العَرَبيّة ْ.

لا حاجَة َ لتذكير الغريب بوَطنِه

فهو يَزورُه كلّ ليلةٍ

في المَنامْ.

***

بقلم: إسماعيل مكارم

كتبت عام 2018

لا أكتب شيئاً هذا اليوم أصبت بقحط الكلمات منذ آخر سطر أرسلته لك...

أستظل بالشمس في ظل هذا الهطول المتواصل للصقيع والذي أصاب أناملي بالوهن...

الغريب في الأمر أن لا يعني لي غيابك أكثر من إنك لم تعد على  قائمة الحاضرين في هذا الزحام الصباحي المكتظ بالأسماء والوجوه..

أن لا يعني سوى إنني ألبست قصائدي قرطاً  فضياً في أذن الأبجدية دون عناء عندما كنت أحاول أن أنتزع الأحرف الكتابية من مخبأ ريشتي دون جدوى...

إنك الآن على قيد حبر تطوف الأوراق المبعثرة هنا وهناك وعيناك غارقتان في بحر ذاتك...

هل غريباً أنك لم تعد توقظ الفرح في الأشياء التي تملك حق مقاربتك؟!.. ولم تعد كلماتك تلتصق في جدارية سطري كما كانت...

يا لتلك الكتابات التي تطايرت حتى أحدثت ذاك الإنشطار النيزيكي في سماء ليلتي...

 ويا لتلك الأحاديث التي إنصهرت في مواقد النسيان وتلاشي الحنين رويداً رويداً مع إنحصار المد والجزر في مرافئ ورقي....

ليس غريباً أن تخمد رغبتي في العتاب وأن لا تعزف  موسيقاك أوتار مواسمي...

وأن يكثر الضمير الغائب على رسائلي وتكف الأعراس عن ضجيجها المعهود حداداً على غيابك الوهمي...

صار الأمر أكثر من كونه محاول إجتذاذك من تربة النصوص المتجمدة ووضع مساحيق باهته على ملامح الورق كمحاولة أخيرة لطمس الحياة من تلك الأحرف القليلة...

لم يعد يهم الأمر أصبح كل شيء فاقداً للذاكرة بعد أن تسللت خارجاً ومتخفياً من الأبواب الموصدة بقفل الحنين..

لا تقل شيئاً لأن الأمر إنقضى ولأن محاولاتي في إنعاش حرفك باتت مستحيلة... لا تمد يدك نحو حرفاً سقط متعثراً لأن الأشياء لا تسقط من تلقاء نفسها إلا حين نتعمد أن نفلتها...

***

مريم الشكيلية / سلطنة عُمان

مُهْدَاةٌ إِلَى صَدِيقَتِي القاصَّةُ السورية

 ريتا سكاف

***

تَوْقِيتُ قَلْبِكِ بَثَّ الْحُبَّ فِي نَفَسِي

فَاخْضَوضَرَتْ رَايَتِي فِي صَحْوَةِ الْقَلَمِ

*

أَحْلَى لِقَاءٍ يَعِيشُ الْحُبُّ قِصَّتَهُ

أَنفَاسُهُ بَسْمَةٌ تُنْجِي مِنَ الْعَدَمِ

*

فَبَارِكِي لِي رُجُوعَ الْحُبِّ يَا قَمَرِي

وَدَنْدِنِي قِصَّتِي فِي مَوْكِبِ السَّلَمِ

*

نُوحِي عَلَى الْقُدْسِ فِي الْأُولَى لِآخِرَةٍ

دُسْنَاهُ فِي مَحْفِلٍ لِلْعَاهِرِ الرَّخِمِ

*

لَمْ نُلْقِ بَالاً لِمَسْرَى فِي أَجِنْدَتِنَا

وَحَارَبَتْنَا ذُيُولُ الْقِطِّ فِي زَخَمِ

*

وَاحَسْرَتَاهُ عَلى الدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا

قَدْ خَلَّفَتْنَا بِسُوءِ الْعُهْرِ كَالْخَدَمِ

*

مَسْرَى الرَّسُولِ أَسِيرٌ فِي يَدَيْ نَفَرٍ

مِنَ الْيَهُودِ بِعَهْدِ الْعُرْبِ وَالْعَجَمِ

***

شعر: د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

شكراً له..

إذ مايزال واقفاً ولايُريني مصرعي

فقط، كهيئة وشكل خارجي ساكن

يا ظليَ الوفيْ، تعبتُ من كثافتي ووحدتي

هل ضِقتَ بي؟ يسأَلني

يُكرِرُ انسكاب صمتنا بصمتنا

نص أخير للمساء

صدَّقتُ فكرةً..

ظننتني إضافة مهمة

تنكسر المرآة والرؤى وصورتي

حمامةٌ ستُربكُ الهواءَ كي تُطَيِّرُ السكوت

يسألني، هل ضِقتَ بي؟

يا ظلي المكابر المكسورْ تعبتُ من تكسري

خطاي.. والموسيقى.. والجهات

ضوءٌ يرمم الشروخ في قصيدتي

ظلٌ جديد للغناء

قمحٌ وفير في الجسد

***

فارس مطر / برلين

ارسم على

مراة قلبي

بنفسجا

نرجسا

واقحوانا

وقرب نبع

الكرستال المضيء

اطارد الدود

العناكب

والجراد

والاعب البرق

الريح والنسيم

غازلا من حرير

احلامي ورؤاي

خياما لاحبتي

العشاق الحزانى

الفقراء وعازفا

على قيثارة قلبي

لحن الشفق

الازرق وقوس

قزح الصباح

داعيا كل غزلان

الكون وكل ايايله

كي ننصب فخاخنا

في طريق بنات

اوى والثعالب

وفي طريق

الشواهين

العقبان

والبزاة

وقرب حدائق

وبساتبين العشاق

ننصب خيام امالنا

واحلامنا مغنين

للبرق للشفق

الازرق وللمطر .

***

سالم الياس مدالو

 

تَمادى الغيبُ ما بقيَ اسْتتارا

ويُدرينا إذا رَفعَ الستارا

*

حِجاباتٌ بها الأفهامُ حَيْرى

وإنْ بَعُدَتْ فقد زادَتْ وَقارا

*

يَفيضُ الصَمتُ قَطْرا مِن مَديدٍ

فيَجْعلُ وعْيَنا لجَجا مُثارا

*

تَماسَسَتِ العقولُ بلا لقاءٍ

وأطلقتِ الرؤى وهَجا ونارا

*

وقالَ الروحُ مَنْ دَهَمَ الخفايا

ومَنْ وهبَ المعانيَ إنْبهارا؟!

*

وإنّ النفسَ ناطقةٌ هَواها

بساجعَةٍ تُبادلها اسْتعارا

*

فهلْ جُهِلَتْ جَواهِرُها وخابَتْ

وهلْ صدَحَتْ مَعارفُها جَهارا؟!

*

توارى كلُّ مَكنونٍ بحُجْبٍ

وبانَ مُبهَّماً لَبِسَ الدِثارا

*

فوعْيُّ الشيئ مَرهونٌ بجُهْدٍ

يُجاهدُ خَنْدَقا مَنعَ ابْتصارا

*

خَلائقُ رَحْلها تُلقى إليْهِ

وكمْ وَفدَتْ وما قطعتْ مَسارا

*

وما نظرتْ بزاويةِ اعْتمادٍ

تُسطّحُ حَوْلَها فترى الغبارا

*

وما نَهَضتْ بدائرةِ انْغلاقٍ

ولا كشفَتْ مَفازاتاً ودارا

*

تَعَثرتِ الخُطى في وَحْلِ ظنٍّ

يُقيّدها ويَمنَحها انْكِسارا

*

وأُجْبَرتِ العقولَ على انْصفادٍ

بأوْديةٍ توافيها انْحِسارا

*

وتأخْذها لشطآنٍ تلاحَتْ

لتُغْرقها وتَجْرفها حَيارى

*

وتؤنِسها بأوهامٍ ورُغْبٍ

وقد رَسَمَتْ لها سُبلا عِثارا

*

يُوالدها ترابٌ مِنْ ترابٍ

ويَخدَعُها ويُلقِمُها انْصِهارا

*

وما عَلِمَتْ ذواتٌ مُحتواها

ولا وَصلتْ قوافلها مَطارا

*

رأيْتُ الغيْبَ غيّابَ اغْتفالٍ

ومُنتهلا يُعاطينا اخْتبارا

*

فلا غَيْبٌ إذا غابَتْ نفوسٌ

وأوْرَدها التنائيُ إحْتِضارا

*

قيودُ الخَلقِ طاقاتٌ تَنامَتْ

بأعْماقٍ وما مَنحَتْ خَيارا

*

كأنّ وجودَها طغيانُ أمْرٍ

يُعذبّها ويُشبعُها انْقِهارا

*

وما غَنِمَتْ منَ الويلاتِ دَرْسا

وما سَئِمتْ بها يوما جِوارا

*

وإنْ ظفرتْ بعاليةٍ تهاوتْ

وأرْدَتْ كلّ ساميَةٍ نِثارا

*

سُقينا من مَشاربها فخُرنا

وما زالتْ تُساقينا المَرارا

*

نغارُ على هواها منْ غَريمٍ

فيُلقينا على حُصُرٍ خُسارى

*

تداوينا بأوْضارٍ وداءٍ

وما غَفلتْ وكمْ خاضَتْ غِمارا

*

تَحاوَرَتِ الخَطايا واسْتراعَتْ

وألقتْ حِمْلها ونَضَتْ خِمارا

*

تُعاصِرُنا المَنايا كيفَ شاءَتْ

فأضْحى المَوتُ في زَمَنٍ عِقارا

*

تُخاطبني بمُنْطلقٍ لجَوْرٍ

وتَنْهرني وتُهْلكني انْسجارا

*

وما الغيبُ الذي غابَتْ سُداهُ

وإنّ الغيْبَ يُدْركُنا كبارا !!

*

يَبوحُ لسانُها بلغاتِ كنّا

فيوقِظنا ويُلْهِمُنا افْتكارا

*

وإنْ قَفزَتْ إلى العَلياءِ خَطوٌ

تَشاسَعَ خَطوُها وبَدى اخْتِصارا

*

رُبوعُ الكونِ في كوْنِ انْفِلاقٍ

يُعاجلُها ويُلْقِمها ابْتِدارا

*

غَياهِبُ نورِها كَنَزتْ غُيوبا

بأفئدةٍ وما ظهَرَتْ عَيانا

***

د. صادق السامرائي

7\4\2015

أُسَائِلُ نفسي: الزمانُ بغى؟

تُجيبُ: ويحملُ عُنْف الزمنْ .

*

ويغلظُ في كل حينٍ يُريد

ويُضْمِرُ في وجْنَتيهِ المِحَنْ!

*

ويَعْجَبُ للمفرداتِ اللواتي

عَشِقْنَ وكُنَّ مَثَار الشجنْ!

*

ويَغسِلُ وجْهَ الحقيقةِ صِدْقاً

بإفكِ اللحى و(عمائِمِ لنْ)!

*

ويَدْهمنا بينَ حينٍ وحين

بآفاتِهِ الحارثاتِ البدَنْ!

*

فأوبِئةٌ وارداتُ الأذى

وأوبِئةٌ قابضاتُ الثمن!

*

وأنظِمةٌ جائحاتُ الردى

وأنظِمةٌ أعْطَبَتْ كل فنْ!

*

واللصُّ في ثوبِ دينٍ نراه

يؤمُّ ويَخطبُ فينا عَلَنْ!

*

وأوطاننا في أتونِ الحروب

تَظَلُّ زماناً...تَطْحَنُ منْ؟!

*

وحُكَّامنا ضيعوا قدسنا

وغطوا( الرؤوس)...وماذا إذنْ؟!

*

و(قيسٌ) يموتُ بكلِّ  وباءٍ

و(ليلى) تخونُ علاج الوطنْ!

*

إذا لَمْ نَرَ يوم سعْدٍ لنا

من الدهرِ فاسْعَد بماقد يَقَنْ!

*

فمابالُ هذا الزمان بغى؟

متى الحل يأتي؟ متى يازمنْ؟

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

 

شجرتي

لست من يتحجّبُ عن مخفياتي

ولا أنت من يراني مجرَّدَ دخانٍ في الغابة

أوَّلَ أمسٍ

تفتتتْ أوراقك بضحكةٍ غرائبيةٍ

وغاب عنكِ اللَّمع

طبعاً كنت مدجّجاً بأصل الكونِ

ليس الماء.. ليس الهواء فقط

بل بالنقيض والمضاد

بالشيء واللاشيء..

أنا برادوكس أتلف نعمانة صغيرة

في حدائق جنَّتك..

كل من ينقب من فوق رأسي حبَّةَ جنونٍ

هو حرٌّ..

ليس لي خاتم سليمان

ولا أحتمي بحضنِ مُرضِعةٍ

لأردَّ دورةَ الأرضِ الى الصفرِ

ليس لي عصا موسى الحكيمِ

لأزلزلَ البحر..

رحلاتي لا تتوقفُ أبداً..

سفينتي تخلَّتْ عنِ الشِّراعِ الأزلي للجاذبية.. بوصلتي في كف ساحرٍ معتوهٍ..

مجدافي أقصر من قامتي..

غالباً ما تتحاشني الدلافين أمام بوابة البحر.. لكنَّ لحمي مالحٌ..

ليس لي بوراق يقودني الى أفقٍ أبعد من السَّماءِ..

في حينٍ أسأل الرّبَ طلةً من وراء الحجاب..

لقد سخّر لي الشرُفات، وألهم الجبال مرونةً لأسعى فيها بلا كلاٍ..

رأيتُ ما لاتراهُ العيون..

أبو الهول مشنوقاً..

رأيت كارل ماركس وسبينوزا يعرقان..

رأيتني بدون صلاةٍ..

وجهتي بتلفِ العُميان ترصدُها الخوارقُ..

عاكفٌ على حفرِ كفوف الموتى..

لا جدل ولا جدال..

وحدها سعاد عروسة بين يدي القديس..

كانت تقامرُ بعيونها لأجلي..

بودها لو تعرف مآل السًجَّان..

عمر الإنتفاضة..

ثورة الخبز..

وعشقِ الإنسانِ للإنساِن..

ما ألهمني ربي بطلةٍ الاَّ والقمر جانبي..

هنا لا جدوى للكلام..

لا طائلة من التفكير وصياغة أفق السعادة..

لا خيال ولا تخيُّل..

طلقة يتيمة تركت الأعراف في يدٍ واحدةٍ

شعلةً ُمطفأة..

ترى من صفَّد الأقدام بحبلٍ فولاذي.. ؟

وصنعَ ثابوتاً بخشب شجرتي..

أأضاعت قدسيتها بين شهوة الرجالِ.. ؟

هي أثمرت مرةً واحدةً..

لتسقطَ آدم ..

المهزومون ينتظرون انتهاء ضجيج المرايا

ليبتلعوا صبيب الصَّمتِ في شكٍ وارتيابٍ..

الكلُّ يرى ساعة حائطه تنكسر

لحسن الحظِّ بُعِتنا جمعياً مبصرون.

آه شجرتي من أعياكِ..

هذا كتابي بيميني أو بيساري

أنا صاحبُه..

لا تنشغلي فهو أضخم ممَّا كنت أتصورُ

أسأل من وهبني طلّتي

أن يغفرَ ذنبي

شجرتي..

لا تبكي ..

سأستظلُّ بظلّك يوم تنتهي الظِّلالُ

سأحرسُكِ من الآيادي الطَّويلةِ

من البندُقياتِ والعيُّون..

صوتي لا تأكل منهُ العُقبان..

ولنْ أطأ بقدمي رماداً دائمَ الإشتعالِ..

أنا عرشٌ من أعراشكِ

وإنْ أخذتني العزَّةُ بالتَّمنِي..

أنا عينٌ في مجسَّمكِ الفضيِّ أقرعُ أجراسَ السكوتِ..

وأمتصُّ صدأ تعب السِّنين..

لا تقتلعي من أدغالكِ ندى الأفنَانِ

زهرتي اليوم تشرب من طيفِكِ تمهُّداً لإحترافِ الهاويةِ..

***

عبد اللطيف رعري

03/03/2023

.................

دائماً.. وفي مثل هذا اليوم أستحضرُ تاريخاً عميقاً بذاخلي، كلُّهُ أوهام وحسرة، وانزعاج، مضايقات، كلُّه اعتراضٌ لسبلِ

الحُرية وحقوق الإنسان.. واليوم وأنا أرسمُ الطريق المؤدي الى حتفي يحضرني نفسُ الإحساس..

في جوقة مروعة لإستعراض فنون النصب والإحتيال خطفتُ قصيدتي هذه..

لا أعرف يدي ترتجفُ.. وجسدي بدأ يعرق.. هل تخلّصت من ثقلي أم لا.. هل أنا الان محاطٌ بمن يقرأ على جثتي بعض ما تيسَّر من الذكر الحكيم.. سلام وبعده سلام

فاجأنا عمّي، بعد انتقال زوجته المصون إلى رحمة الله، عن عمر ناهز السبعين عامًا، بأنه ينوى الارتباط بامرأة تستر عليه شيخوخته وتكون سندًا له في ارذل العمر، ولم يكتف بهده المفاجأة وإنما تجاوزها بزيارة ليلية ليطلب مني المساعدة بالعثور على زوجة مناسبة له.. تملأ الفراغ الرهيب الذي تركته زوجته المرحومة، هززت راسي محبذًا ومباركًا، فنحن نعيش في فترة تختلف عن سابقاتها من الفترات، بما فيها فترة تهجيرنا من قريتنا، بقوة السلاح، وأكدت رأيي قائلًا إنها فترة لا يوجد للمرء إلا نفسه، وقلت له بالعبرية "ام اين لي أني مي لي"، فطلب منّي عمّي أن اترجم له ما قلته بالعبرية، إلى العربية فرفضت، وأردفت حتى لا أزعله "بحكّش جسمك غير اظفرك"، ابتسم عمّي ومضى في ليله، لاكتشف في اليوم التالي أنه شرع في إخبار الجميع بما انتوى أن يفعله.. وأن قصة رغبته بالزواج، قد انتشرت على كل شفة ولسان من السنة أبناء الحارة.

سمعت في الايام التالية أنه لجأ إلى أحد متشرّدي الحارة وشذّاذي آفاقها ليساعده بالعثور على زوجة تملأ ما خلّفته زوجته الراحلة من فراغ، وأن هذا أوصله بعد دعوته على ثلاثة أرغفة فلافل، إلى إحدى العوانس، المعروفات بهبلهن، فحملت نفسي وهرعت إليه: هل ما سمعته يا عمي صحيح؟ ماذا سمعت يا ابن اخوي؟ سمعت أنك تفكّر بالزواج من تلك الهبلة. آه.. وشو فيها يا ابن اخوي.. على الاقل بتدير بالها على عمك. بس هاي هبلة يا عمّي. هبلة.. هبلة يا ابن اخوي.. ولك إن شا الله بتشُخ على حالها. بدّي وحدة تونسني بوحدتي.

تركت عمّي وأنا افكر في كلماته الجارحة.. هل أوصلته وفاة زوجته إلى تلك الحالة التي تحدّث عنها؟ هل هو يعيش مثل هكذا وحدة ونحن حوله موجودون؟ ركبني شيطان الاسئلة، لقد بات أمر ارتباط عمّي جديًا، لكن هل يوافق أبناؤه وهم كثر وبينهم الشرس الحاضر طوال الوقت للشجار، هل يوافقون على ارتباطه في سنّه تلك المتقدمة؟ هكذا وجدت نفسي أردد سؤالًا يحتاج إلى إجابة ليست بيدي. اتصلت بعمّي وسألته عمّا إذا كان أبناؤه موافقين على زواجه؟.. فجاءتني إجابته الفورية: شو دخل اولادي.. وين بكونوا لمّا بكون لحالي في الليالي الطويلة.. كلّ واحد منهم ملتهي بتَبع مرته.

أثّرت فيّ كلمات عمّي، وقرّرت من فوري مساعدته.

في اليوم التالي ابتدأت رحلة البحث عن زوجة لعمي، فرحت أسال عمّن ترضى به زوجًا لها في تلك السن المتقدمة، وكان أن قلّلت عقلي واتصلت بمن سبق لعمّي وأن اسأله، فأخبرني أنه توجد في بلدة مجاورة امرأة في الخمسين من عمرها وتريد أن تتزوّج. وراح يعدّد مناقبها الطيّبة، توجّهنا، عمي، أنا وذاك المتشرّد، من فورنا إلى تلك البلدة، عندما أوقفنا سيارتنا بعيدًا عن بيت كبير فاره، أخبرنا مرافقنا المتشرد أن ذاك هو البيت المقصود، طلب منّا أن نبقى في السيارة، وترجّل منها قبل أن يستمع لإجابتنا، وولّى مسرعًا كمن ضربته بعصا على قفاه. لم يطل انتظارنا، لنستمع إلى جلبة وصراخ، وشتم وسباب، تنبعث من البيت قُبالتنا، عندما عاد المتشرّد بثيابه الممزّقة، أدركنا ما حدث معه، فقطّب عمّي ما بين حاجبيه، فيما لاحت ابتسامة على شفتي. ومضينا في طريق عودتنا إلى بلدتنا خائبي الرجاء، على أمل أن نجدّد البحث في اليوم التالي.

في اليوم التالي تكرّر موقف اليوم السابق، لكن بفداحة أكبر، فقد رأينا امرأة ضخمة معافاة تقذف متشرّدنا من بوابة بيتها، وتلحق به، ليدخل إلى سيارتنا وليطلب منّا أن نهرب ناجين بجلدنا، غير أن تلك المرأة تمكّنت من منعنا من الانطلاق، وراحت تتساءل مين هذا الشايب العايب اللي بده يتزوجني؟ انكمش خالي، فيما هتفت بها قائلًا..إانه كان معنا وهرب خوفًا منها. تقبّلت المرأة الضخمة الحانقة الغاضبة روايتي وسط علامات شك بدت على وجهها، وسألتني عمّا إذا كنت متأكدًا مما أقول؟ فأرسلت نظرة استجارة بعمّي، عندها مد لي حبل النجاة وهو يقول، نعم نعم هو هرب. ابتسمت المرأة ومضينا نحن الثلاثة هاربين، وحامدين الله أنه نجّانا من براثنها ومن لكماتها.

بعد يوم من هذه الحادثة وقعت الحادثة الثالثة، فقد انتهت بأن أكل مرافقنا المتشرّد نصيبه من اللكمات والصفعات، ووزّعت العروس العتيدة، هي وأهلها، علينا ما تبقّى من لكمات لا تنسى، بعد أن أكلنا نصيبنا من الضرب، وتوقف مهاجمونا عن توجيه الاهانات رأيناهم يبتعدون عن سيارتنا واحدًا وراء الآخر حتى أنهم بدوا مثل صف عسكريّ أدى مَهمته على وجهها المنشود وعاد غانمًا سالمًا، فما كان منّا إلا أن لجأنا إلى ما تبقّى في سيارتنا من قوة واندفعنا اندفاع عاصفة قاصفة مبتعدين عن تلك الشريرة وأهلها الكرام.. سامحهم الله.

عندما اتخذ كل منّا، نحن الاشقياء الثلاثة، لم أجد أفضل من هذه التسمية، مجلسه في أحد المطاعم الشعبية في حارتنا، لم يسألنا عمّي عمّا ننوي أكله وطلب لكلّ منّا رغيف فلافل كبيرًا، فأتينا عليه.. من غلّنا.. وفتكنا به عن بكرة أبيه، ما دعا عمّي إلى طلب رغيف آخر وبعده آخر.. بعد أن شبعنا، أولًا ضربًا وثانيًا فلافل، تفرّقنا وقد تأكد لنا أننا لن ننجح فيما وطّنا أنفسنا عليه، غير أن ما حدث في الايام التالية جاء مختلفًا، كما تبيّن لي على الاقل فيما بعد، ويبدو أن ذلك المتشرّد، بحث عن طريقة أخرى يلهي بها عمّي، فاقترح عليه أن يجلس في المحطة المركزية للحارة، وهناك تجد ما هبّ ودبّ من النساء، كلّ ما هو مطلوب منك، هو أن تفتعل أي حركة، أن تقول على مسمع من تروق لك، مثلًا، إن الباص قد تأخر، فإذا تجاوبت معك، تابع معها، أما إذا لم تفعل، فانصرف إلى غيرها.

ما إن دخل كلام متشرّدنا عقل عمّي وركب على عقله، كما علمت فيما بعد، حتى سارع من فوره لارتداء كلّ ما على الحبل من ملابسه الجديدة، وأغرق نفسه في بحر من الروائح العطرية، وتوجّه في ساعات الصباح المبكّرة إلى محطة الحارة المركزية. اتخذ هناك مجلسه مثل ملك غير متوّج، وجعص يعج على سيجارته المارلبورو الثمينة، وما إن لاح له طيف بغيته من النساء، حتى شبّ على قدميه وتعمّد الوقوف قريبًا منها، وهو يتمتم بكلمات عن تأخر الباص، افتعلت المرأة حركة، فهم منها أنها غير معنيّة بالتحدث إليه، فعاد إلى مجلسه كسيرًا متهدّل الاذنين. بعد ساعة من الانتظار شاهد امرأة.. تقترب من المحطة فراودته أحاسيس جدّية أن صنّارته قد غمزت، إلا أن نقبه طلع على شونة هذه المرة أيضًا. فعاد إلى مقعد الرئاسة في محطة الحارة المركزية. بعد ساعات من الانتظار، وقع حادث مكّن عمّي من تحقيق بغيته. كان ذلك عندما رأى شابًا يحاول معاكسة إحدى الواقفات فانتابته حمية ونخوة عُرف بهما في أيام الصبّا والشباب الغابر، فدنا من الشاب مشددًا قبضته في محاولة منه للكمه، الامر الذي لفت نظر تلك المرأة. الشاب على ما يبدو فضّل الانسحاب وولّى مختفيًا في الفضاء الرحب. اقترب عمّي من تلك المرأة فابتسمت له، فتجرّأ وهو ينتقد شبيبة هذه الايام: أما شباب. عندها انفكت عُقدة لسان الاثنين، خالي وبعده تلك المرأة التي اكتشف أنها حسب الطلب .. ربلة.. ملانة وملظلظة، وأخذهما الحديث، إلى أن جاء باصها فانصرفت.

هكذا وجد عمّي ضالته.. وبادر في صبيحة اليوم التالي إلى المحطة ليجري محادثة عمره مع تلك المرأة.

دبّ هذا النجاح الحمية في راس متشرّد حارتنا، فتحدّث عنه لآخرين بصورة هامسة.. وبعدها مدوّية.. بلغ خبر علاقة عمّي بتلك المرأة اسماع أبنائه.. واحدًا تلو الآخر، فما كان منهم إلا أن أرسلوا إليه أشرسهم، ليخبره أن أمر علاقته بامرأة محطّة الحارة، قد انتشر وذاع، وأن اخوتها قرّروا إطلاق النار عليه في أول فرصة يرونه يتحدّث فيها لأختهم. ما إن سمع عمّي هذا التهديد الواضح المكشوف، حتى انكمش وانطوى على نفسه.. وأغلق باب بيته على نفسه.. منذ ذلك اليوم لم يرَ أحد عمّي.. فاعتقد البعض أنه مات.. علمًا أنه حيّ يرزق.. ويتطلّع إلى يوم آمن.. يجمعه فيه رب العالمين بفتاة أحلامه.

***

قصة: ناجي ظاهر

وقصص أخرى قصيرة جدّا

هذيان

أضع يدي على جبينه المتّقد فينفطر قلبي.. وتطوف بذاكرتي صور من ماضينا السّعيد فأزداد وجعا وأقول ها هي سُنّة الحبِّ تمضي فينا...

ويأخذني البكاء...

سمعته يرطن بكلام غريب جاءت به الحمّى. يذكرني ويذكر امرأة أخرى. وبدا لي كأنّه يناجيها، فتيقّظ في داخلي حدس الأنثى بخطر ما...

"في بيتي أفعى. دعيني أتخلّص منها أوّلًا!"

**

بحر الظُّلمات

دفعوني في قوّة فمضيت أتعثّر في جوف الحبس حتّى كدت أنكفئ على وجهي.. كان خافت الإنارة يقطع سكونه الثّقيل أنين متقطّع.. رأيت أحدهم متهاويا كخرقة بالية وتحته خليط دم وبول وغائط... قلت في نفسي: "هذا مصيري إذن؟"

وحينما دخلوا عليَّ كذئاب جائعة درت في وسطهم كعاصفة عمياء، فجعلتهم يفرّون من وجهي وهم يتلاطمون أمامي ويتعثّرون ويسقطون...

**

سنة 1985

مدّ بصره الجائع نحو أجسام بضّة تتحمّم بماء حارٍّ جاء به الوادي من أعلى الواحة.. وشعر بدمائه تُحشى ببارود غاشم وخياله المحموم يرحل نحو إحداهنّ...

بيد أنّ التفاته حواليه خشية أن يُضبط بجرمه لم يفلح في جعله يتفطّن إلى تلك اليد التي هزّته هزّا وكادت تقذف به من أعلى..

والتقت نظراته المرتبكة بنظراتها. نظرات زوجته...

"خائن! هذا آخر يوم في حياتِك!"

**

ويحلو السّمر

اللّيل بهيم بلا نجوم، والسّكون شامل محيط، وكلّ شيء في الجبّانة يدلّ على أنّها في بُعد آخر...

تحسّس الأديم من حول القبر بيد مرتجفة، وهو لا ينفكّ عن تخيّل مخلوقات غامضة تشمله بنظراتها الشّرّيرة... وما كاد يعثر على برهان شجاعته حتّى نفر كما ينفر الأرنب المذعور. بيد أنّه انجذب إلى الخلف في شدّة وعنف ليسقط مغشيّا عليه...

وهنالك ثارت عاصفة من الضّحِك...

***

حسن سالمي

 

كنتُ مُحاطاً بجبلٍ من نارٍ

لمّا عدتُ من رحم المتاهة

كان لي منقار

مغمسٌ في الطين

منذ البداية ….

لا أغتاظ من تورُّم أنفي …

ولا أشكو الأنام معصية نظمي …

كانت أمّي تلعنُ وجهي

وتتمتم طولَ الظهيرة بقولٍ مبثورٍ

هي لا تكرهني

لكنَّها تحسبُ أنّ الملعقة التّي في فمي من ذهب

وأنِّي سأصيرُ كاهناً…

بعد أن اخترتُ الجبلَ

عدتُ أنشدُ تآويلي الحزينة

ألطِّخُ مقصورة الإمام

بما تبقى من وحلِ المقابرِ

أجنّ لفراغ الأقبية من ضجيج العصافير

أترعُ أبواب الدّمار في وجه أعدائي

أسحلُ بالقدر الكافي الأشرار والغزات

عصاتي تشهدُ على جرائمي

التَّمردَ

والعصيان…

لا أستبشرُ رحمة من أقنان القصور

وبين الفينة وطول نحسي،

تحترقُ بين أصابعي ومضات البحر

الأسطورة تقول:

إنِّي مخلوقاً ورقي

مهزوماً حين المطر…

والشّرط ذمَّة للغائب ومن ظهر….

قسماتُ وجهي حين يصفعني الهُزال

تشبهُ ثقب في مجرَّة تحتضرُ…

من أصلٍ خرافيّ

أضمُّ البحر بعرضه بين أنينٍ وأنين…

قالت عنِّي العرافات:

إنِّي أسرقُ زرقةَ السَّماء

أزعجُ نومة القمر..

وتُؤسَرُ العصافير في أقفاصي…

وأنا الآتي بها من عدمٍ

والمضافُ الى خمائري دمويٌّ

لذا مصابيحي باهتة

كاشفة للعيَّان غبشَ من أكون؟

عفوا الطبائع ليست وفق المشيئة….

أنا بارٌّ بالكائنِ الذي يمتلكني…

وأكياس الملح التي على ظهري

سأنثرها

لربيعٍ أكثر شراسة

من هذا الربيع

أعتذرُ فقط لليد التي استقبلتني

ولم أقبلها….

والعين التي لم تنم ليلة مخاضي

ولم أضع فوقها كحلاً حراً…

أمَّا عن هجرتي واغترابي

فالأمر سيان

عودة للجبل

او عودة لقرن الأسطورة.

***

عبد اللطيف رعري

06/03/2023

......................

عادة أحسب نفسي ثقلاً لا يُحتمل ،عنصراً غيرمرغوب فيه، بلا أهميَّة، وكأني أنا من اختار هذا القدر المشؤوم،لدرجة انّ العالم فوق رأسي يطفو.. بجانب شرذمة بشرية عافها الزمن، ولم تقو على البقاء، تتهاطل عليّ الإستفهامات كأني طبيب نفساني او فقيه حلّ ببركته ليحمي المكان…

من يستشيرني عن عملية انتحار..عن الجنّة والنار …عن الحساب والعقاب..من يقرأ لي رواية سجنه الأخيرة وسبل النجاة من أبشع الجرائم ..وهناك من اكتفى بمراقبتي وكأني وحش قادم من وراء الشمس ..الذي ينفث الأرض ..سجائر رخيصة..نتانة واتساخ خلوي ..

ما أحوجني الى حمام سيكولوجي كذالك …ليتني ما استيقظت اليوم..-

هي لا تعرف لها أبا ولا أما، فمذ رأت النور وهي لا تجد أمامها غيرهذا الشيخ الهرم الذي هبرالزمن من قوته.. وما ابقى له غير صورة لحم ودم لليث أبيض غزا الشيب وجهه وراسه، أشفاره وحواجبه كوَسم لتاريخ هو نفسه يتكتم كيف مرحله تكتمه عن حقيقتة ومن هي بالنسبة اليه:.

"وجدتك كسخيلة في قماط رث واحدى النعاج تقطر حليبها في فمك فتكاد تخنقك "..

هل هي الحقيقة ما يحكي ويعيد ؟.. لا تدري !!..

كانت تضحك لتصريحه، ثم صارت تشك، ثم قمطها تفكيرعميق ؛هو الوعي الذاتي بوجودها.. قدرها الذي أوجدها ووضع هذا الشيخ في طريقها أو وضعوها عمدا في طريقه فهو ليس أباها ولا جدها ولايريد أن يفصح حتى عن الرابطة القوية التي تجعلها ملتحمة به..

"ما أصعب أن توجد وأنت لا تحمل حقيقة نفسك ومن أوجدك ؟.. "

يزورالرُّحل الأصدقاء العابرون الخيمة اذا عطشت الأرض من حولها وضحل العشب، فيفكونها إذا رغب الشيخ و أذن، ثم ينتقلون بها حيث لا يقيمون لان الشيخ يمتنع أن يقيم في مكان يضايقه فيه غيره، لا يشترط غير ماء قريب ومساحة ارض صغيرة ترعى فيها شياهه التي هي أقل من أصابع اليد الواحدة.. كان عند الكل مطاع الكلمة مستجاب الرغبة..

كانت عيونه كزرقاء اليمامة، يرى القادم عن بعد أيام، ولكل غريب آت يسمع حسا وصدى، فيأمر الصغيرة بكلمة أو إشارة بالمكوث متخفية وراء حصير الحلفاء لا تخرج حتى يمر الغاشي الزائر منفردا كان او في رفقة..

هكذا ترعرعت أمامه وفي رعايته، صبية نحيلة الجسم، ضعيفة البنية، لكن بقد مياس، بشرة سمراء، أنف خناسي صغير، وعيون يختلط فيها الأزرق بالأخضر، أما الشعر فحريري أشقر يعاكس بشرتها، يتطاير مع كل هبة نسيم كانه يساير ذاتها وهي تهفهف وتطول بالليل والنهار..

كانت كثيرا ما تسائل نفسها:

"لماذا يحتويني هذا الشيخ بخوف ويدفدف علي بحرص"؟

كان يجلس عند باب الخيمة يتطلع الى البعيد بمتابعة، ويتفرس في القريب دون أن يبالغ معه في ثرثرة، حتى اذا استطاب الزائر الحديث معه وقلما يحدث هذا، بسرعة يحسسه بالنفور فيتحرك الزائر متابعا سيره..

كان يصفق أو يصفر، فتخرج الصغيرة من وراء الحصيرجذلى يغمرها الفرح لتعانقه أو تجلس على ركبتيه وقد عانقت حريتها يستغرقها تفكير فيما كان يتبادله من حديث مع غيره، فقد كانت لاتفهم لهم كلاما، وان كان الشيخ الهرم "بويا ' كما علمها أن تناديه لا تستعصي عليه كلمة مما ينطقون ولا إشارة مما يرسمون؛ عالمي النزعة يتفاهم مع الجميع بسرعة كانه منهم وهذا ماجعله محبوبا مطاعا عند كل الرحل مثله، او الزوار من السياح العابرين، في حين كان يكتفي مع الصغيرة بكلمات قليلات وبإشارات بليغات.. حين كانت تسأله:

لماذا لاتعلمني الكلام؟ كان يضحك متأملا مساحة وجهها التي تعود به الى صورة تسكن خياله فيقول:

ـ وهل منعتك؟ تكلمي كيف تسمعينني أتكلم..

ـ لكني أجهل ما تقول

كان يتنهد بغصة، تداريها بسمة، يضمها وقد تدمع عيناه:

ـ كان يلزم أن نكون ثلاثة بسمع وبصر ولسان..

لا عليك سوف تتعلمين..

كثيرا ما كان الزوار يتركون لهم علبا بها طعام من شرائح اللحم او الدجاج او السمك ؛كانت وحدي تستطيب أكلها أما هو فكان يكتفي بماء وكسرة خبز وتمر.. كانت له رغبة قوية في الصيام وقدرة عجيبة على تحمل الجوع..

شيئا فشيئا بدأت الصغيرة تتحرر من مراقبته حين ارتفعت قامتها طول شجيرة، كانت تستغفله اذا غفا او تلبسه تعب مفاجئ؛ فترود خلف الخيمة اذا ماغابت الشياه عن عيونها، لا تسرح بعيدا، فكأنها كانت قانعة بما تسمع وترى منفعلة ومتفاعلة بواقع ما يحط بها، وما أحست حقيقة وجودها الا حين تجاوزت حدود الخيمة أكثر فبلغت عينا يتفجر ماؤها من تحت صخرة سامقة، تحتها تجتمع الفتيات للسقي أو تنظيف ملابسهن، وفي الصيف كن يصنعن نصف دائرة وخلفهن تتناوب البنات على الاغتسال بنتا بعد أخرى، وقد تلتحق بإحداهن رفيقة تضع ليفة في يمناها وتشرع تفرك ظهر صاحبتها قبل ان تصب سائلا لزجا يتحول رغوة بيضاء ناصعة من قنينة لدائنية على جسدها.. بينهن عاشت لحظاتها الواعية فبعد أن كانت لا تعرف ما يقلن وباية لغة يتحدثن.. صارت مع تكرارحضورها تتعلم لغتهن، تستوعب معناها وتستنبط مدلولها من اشارتهن،، من ضحكاتهن وسلوكهن..

صارت بينهن معروفة ببنت "بويا الشيخ "، تساعدهن وتغتسل معهن كما يغتسلن، كان لون عيونها لديهن مقارنة ببشرتها مفاجأة تحرك في كل بنت منهن ما تطبق عليه في أعماقها،

كما كانت سيقانها الطويلة الملفوفة مبعث انبهار وتمنيات حتى أن من البنات من كانت تقيس سيقانها بقبضة اليد كافتتان بجمال أنوثة ظاهرة، ناهيك عمن تتغنى و تزجل بكلمات ترددها الأخريات.. كما كانت تستغرب من رسومهن لصورتها بالرمل على الصخور أو نقشها على الأشجار الضخمة.كما تنقش الحناء على الذراعين.صارت لديهن كبنت غريبة عن عالمهن البشري..

بدأت تعي أنها صارت تفهم قيمة وجودها ككائن يأخذ ويعطي ويتبادل مالديه بما لا يملك كلما وجدت نفسها خارج نطاق خيمتها..

صارت ترى نفسها تنمو وكل ما فيها يتغير، طولها، صدرها، نظرتها لصويحباتها في النهر، وابلغ من ذلك عقلها الذي أضحى يستوعب أكثر مما كان يختزن.. هن نفسهن صرن ينعتنها بتعابير تمدح صمتها الكثير، تناسق قدها وجمال وجهها الذي يشرق مع لمعان الشمس، أما عيونها فكانت السحر الذي بوأها لديهن أنثى فوق الخيال والشعروالجمال..

حين ضبطها "بويا "تتسلل الى العين وتجالس بنات الخيام والدواوير القريبة غضب كثيرا وان في صمت كانه كان يخاف عليها من عين حقود حاسد، أورصاصة طائشة من بندقية قناص، فعوَّل على الرحيل وتغيير الرقعة التي ارتاحا اليها، بكت، ولأول مرة تحس الدمع حارا غزيرا يكوي وجنتيها..

لم تجرؤعلى البوح لصويحباتها بما عول عليه "بويا "..

كم تماطلت في لملمة أثاث الخيمة، وأمام عدم قدرته على الحركة ووهنه كانت تتعلل بانتظار من يساعدها على فك أوتادها..

"يلزمني أن أفكر في حل لايؤذيه أو يغضبه

فيضاعف من احساسه بمرضه وعدم قدرته على التحمل، أكره أن يعاني بسببي"..

وغاب عن ذهنها أنه هو نفسه قد أحس بدنو أجله ويخطط لمكان يَطمئِّن عليها فيه، أو يجد من يأتمنه عليها..

يموت "بويا الشيخ"، ويداها بين يديه يضغط عليهما كرغبة بقاء تقول من خلال نظراته وتمتمات لم تع منها غير هذه الكلمات:

"وفيت بما وعدت وأني أحبك حبها لك والحرص على أن تستعيد حياتها على يديك "

بموت "بويا" تتعرف على الموت لأول مرة كمفاجأة مزعجة قاسية مُرة، تهددها بالضياع والوحدة، ما اشد مايخامرها فألم فقده أكبر منها..

أقبل علي الخيمة رجال لم تشغلهم رهبة الموت عما يسكن عقولهم، فعيونهم كانت متدلية عليها ونساء كن حريصات على مراقبة أزواجهن، لم تكن "بنت بويا الشيخ "تعرف كل هذا الحضور وان كانوا جميعا من آباء وأمهات صويحبات العين الذين لم تميز غيرهم ممن قام بالواجب.. كم أكلها الاستياء لانها لا تعرف ما يقال ولا مايجب فعله، كانت تبحلق في وجوه الحضور تستمع الى مشاعرهم بلا ردة فعل ليس في عقلها الا كيف ستعيش بعد "بويا الشيخ"؟ ومع من ؟

أصرت أم أحدى صويحباتها أن ترافقها في نهاية العزاء الى خيمتهم الواقعة بعد عين الماء بمسير، فمنذ حضورها الجنازة وهي لصيقة بها لا تفارقها..

"كم تضايقني هذه المرأة بإلحاح لم أتعوده، وريبة لا أدرك دواخلها "

فقد جعلتها بحق تحس بفقد حرية التفكير فيما يجب أن تقوم به بعد أن تختلي بنفسها وتواجه وحدتها، خصوصا بعد أن همست لها إحدى البنات سراعن المرأة ما ارعبها!!..

"لم تكن غير راعية تعيش على الحدود الشرقية في الفقر والضنى الى أن أغراها متسكع منبود فار من قبائل ليبية بالهروب معه ؛ يقال أنهما صادفا فقيها أعاناه على حفر كنز ثم قتلاه.. أصبح الفار المنبود غنيا وصارت لديه الراعية فأل خير فتزوجا بالفاتحة ولاعقد، لهذا فهي تتحمل شراسته رغم ضرتين شاركتاها فيه عدا خياناته وما أكثرها مع السائحات اللواتي يختلفن على المنطقة..

صار المنبود وأهله كثير الترحال ظهرت له بعد ان استغنى عزوة ممتدة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا منتشرة تتاجر في كل شيء..

لبت بنت" بويا الشيخ" الدعوة مضطرة فدخلت خيمة جديدة، مؤلفة من عدة قطع ومصنوعة من شعر المعز والضأن بأفرشة منسوجة بعناية وبتأثيث لم تكن تراه الا في صور المجلات التي كان يخلفها السياح في خيمتها، وجدت عادات وطقوس جديدة لم تعشها مع "بويا الشيخ "من قبل

صارت ثالثة ثلاثة من بنات في عمرها تقريبا وثلاث زوجات لرب الخيمة الذي لم تتشرف برؤيته الا بعد شهرين من اقامتها، حتى في حضوره فهو غائب بليل نائم بالنهار، ثم عجوز"جدة شمطاء " قولها يسير على الكل بدون مناقشة ولا اعتراض، قليلة الحركة تستقل بزاوية قريبة من مخرج ضيق تستغله وحدها لحاجاتها..

أول مرة ترى فيها صاحب الخيمة كانت تساعد فيها العجوز للخروج من منفذها الخاص، أقبل يركب فرسا وكأنه قطع فيافي وقفاراعلى عجل، ما أن واجهها حتى تسمر في مكانه، راعها استغرابه، بتلون وجهه بين صفرة وزرقة، ترجل أمامها مبهورا مبهوتا ثم سألها في عدوانية وجهد مضني يركب صدره:

ـ ما اسمك ؟

لم تستطع أن ترفع اليه بصرا، فالسؤال أتى عنيفا قويا أرهبها، موقف لم تعشه في حياتها " مع بويا" الذي كان رحمة إذا تكلم وبسمات سعادة إذا أشار. مسحت الأرض بعيونها وقالت:

ـ كان بويا يناديني ايناس..

استغرب، وبنفس العنف اللفظي وعينين جاحظتين تابع:

بوك ومن بوك هذا؟ومن أتى بك الى هذه الخيمة؟.

بادرالرجل الى جدة يقبل يديها وكأنه لم يرها الا بعد أن اطلت من وراء ثقب صغير في الخيمة، في لحظة خرجت فيه احدى زوجاته، قبلت يده وحمدت له سلامة العودة ثم جرته بعيدا عنها..

لا تدري ماقيل وأي حديث جرى ضدها بعيدا عنها، كل ما تنبهت اليه أن سلوك أهل الخيمة انقلب رأسا على عقب، تغير إعجاب البنات بها، وصرن يحترسن الكلام معها خصوصا عند حضور والدهن ؛ فعيونها الساحرة قد صارت "عيون القطة الحولة" والسيقان الملفوفة الطويلة "رجلين القرعة الخضراء"إحدى الزوجات الثلاث وهي من دعتها الى خيمتها بدأت تخاطبها بلغة جافة وطلبت منها ان تستعد للعودة الى خيمة "بويا"؛الزوجة الثالثة الصغيرة شرعت تحدثها بالإشارة واضعة سبابتيها تحت عيونها كأنها تحرضها على الانتباه، وحدها العجوز الشمطاء التي أجلستها بجانبها وقالت:

ـ لازمي رفقتي ولن تغادري الخيمة الا بارادتي أنت في بيتك..

اختلط عليها الحال وما عادت تفهم شيئا مما يحيط بها، شك وارتياب هو ماصارته العيون حولها، وقلق داخلي حولها الى فريسة للاجترار..

"أية عيوب ظهرت في سلوكي لم أنتبه اليها، أو أية أقوال تلفظت بها أحدثت هذا السلوك المفاجئ الذي حل بالخيمة بعد عودة صاحبها ؟ ماسر تلونه وقلقه حين واجهني أول مرة ؟

أنا شخصيا لم يسبق لي أن رأيته أوصادفته ؛ربما هو يعرفني.. لكن اين ومتى ؟ كل تاريخي ليس فيه غير خيمة "بويا "، وشجيرة أقيس بها طولي، والعين التي لا يصلها رجل.. "

هو ذا التفكير الذي كان يستغرقها ويلفها في خوف داخلي تجاوز حدود عقلها..

ذات ليلة وهي متكومة قريبا من جدة بين صحو ونوم، تناهت اليها خطوات قادمة ؛ فارسٌ يترجل رَكبْه، لم يكن غير رب البيت ما أن لمحها حتى سأل العجوزان كنتُ نائمة، حركت الجدة راسها بايجاب فقال لها في حديث مهموس:

ـ يلزم أن تدعيها تعود الى خيمتها !!..

لم ترفع اليه عينا، فقالت وكأنها ترفض قوله:

ـ ولماذا تصر على ذلك ؟ هل تنوي ذبحها فتفشل كما فشلت مع أمها، لقد أيقنت أنها بنت النصرانية وبناتك من أكدن ذلك من نطعة على كتفها، دعنا نعيش في سلام.. وكفى.. ألم تشبع من الدوران وسفك دم الناس ؟

أغضبه ردها فأجاب بانفعالية زائدة:

ـ أنا لم أفشل، ومافشلت يوما في أمر، بالكاد مررت الموسى على عنقها فتناهى الي صوت حسيس خلته خطوات من خلفي لرجال الدرك فالقيت بها في الترعة ووريدها يفور.يقينا مني انها ستموت غرقا.

ــ لم يكن قتلها ضرورة فالنصرانية أصلا لم تكن تفكر في التبليغ عنك الا بعد أن استحوذت بالقوة على الأموال التي اكتشفتها في رحلها، وبالغت في اغتصابها وحرق لحمها كيا بسجائرك، والنتيجة أمامك اليوم بعد خمسة عشرة سنة..

ـ كافرة لم أكن أثق بما تقول.. لكن مايحيرني كيف خرجت من الترعة ؟ ومن أنقدها وقد بقيت أطل من فوق الصخرة ولم يظهر أثر لغاشي قبل أن أغادر المنطقة ؟ كيف ظهرت البنت ؟ولم تظهر أمها؟ قالت أن الشيخ هو من رباها.كيف؟ وهي لم تظهر أبدا في خيمته ؟

ـ الشيخ كان حالا مرتحلا ولم يستقرأبدا قريبا منا؟

ـ ألم تسأليها عن أمها ؟

ـ سألت، هي لا تعرف أحدا غير من رباها.. البنات أنفسهن أكدن انهن من علمنها لغتهن وكتابة بعض الحروف حين كانت تأتي الى العين..

زفر بقوة وقال:

كان يلزم أن أراها وأتأكد منها وأنهي الامر هناك في العين منذ أن تحدث عنها البنات، لم يكن يخامرني شك في موت أمها مذبوحة وغريقة في الترعة، غيرها قد مات غريقا دون ذبح، خمسة عشرة سنة و لم يظهر لها اثر ولا السلطة أعادت تحريك الملف..

صمت قليلا ثم تابع:

لقد فاجأتني !!.. توأم متطابق من أمها..

ألح على العجوز ان تشجها للعودة الى بيتها الذي تربت فيه قبل أن يستدير ويشق الخيمة الى الداخل..

لم يطل بها وقت، في نفس الليلة تسللت من الخيمة بعد أن أدركت من هي وماينتظرها، كانت تسير على غيرهدى، يلفها ليل بهيم، كانت لا تخشى غير عواء الذئاب وهي تقطع المسافة الى خيمة "بويا الشيخ"تستعيد كلماته كأنها سوط يحرضها على السير..

" يوم أموت و أنتفضلت الرحيل عن الخيمة اياك أن تنسي التليس ففيه ما يعينك "

لم يكن يشغلها غير وسواس الموت وقد أطبق عليها يتعقبها مع رهبة الليل وامتداد الطريق حاملا صورتين متناقضتين: صاحب الخيمة أبوها القاتل السفاح، وصورة "الليث " بشعره الأبيض وضحكته ونظرات الحياة تشع من عينيه

كان عليها أن تفتش ما بداخل التليس فكثيرا ما رأت " بويا "يفتق غرزاته أو يرتقها بمئبر.. كتيب صغيرمكتوب بحروف صغيرة دقيقة كان مندسا قلب التبن، وكيس من خيش ملئ بأوراق نقدية وضعت الكتاب في جيوبها بين نهديها وحملت الكيس في يدها ثم خرجت مسرعة..

أشرقت شمس الصباح على دورية من الدرك تضع علامات تشويرللمراقبة.. لم تتكلم، قدمت لهم الكتيب وفي مركز الدرك أدركت أنها كانت تفر من أبيها ؛الذي ذبح أمها كعالمة سائحة تاه بها رحلها عن قافلة للبحث ذات زمن، تربض لها، هتك عرضها الى درجة تمزيق جسدها بكي، وسرق أموالا كانت معها، ثم رماها في ترعة فأتت على لوحة صغيرة كانت سبب نجاتها.. لم تمت، لكن الصدمة أفقدتها البصر والقدرة على الكلام.. وبويا الشيخ من أنقدها وسهر على شفائها، تنبهت لحملها فأخبرته وطلبت منه الرحيل لكنه اصر على بقائها معه ؛ضاعف من عنايته بها الى ان وضعت حملها..

"لم أفكر في التبليغ عمن كان سببا في ايذائها وهي من أصرت على ذلك "

" فاذا لم يعاود قتلي فحتما سأموت بيد غيره من فصيلة عزوته "، وأنا أريد أن أحتفظ بما في بطني فهو الفاصل بيننا "

ثم بألحاح منها حاول ترحيلها الى أحد الاديرة لكن بادرها الأجل في الطريق.. طال البحث سنوات الى أن سجلت الجناية في اسم مجهول و تم اليأس من إيجاد جثة المرأة وقاتلها الحقيقي، فطوي الملف..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

كنت أسافر من وقت لآخر إلى البادية، هروبا من التّعب الذي ينالني من العمل الـمُضني بالمدينة؛ إلى أن يحين وقت للعودة أنا مُلزم به، وكانت تجمعني بابن عمتي هنالك جلسات عائلية حميمية، وكان ألذ لي هو ما يحكي علي؛ مما حدث في تلك البادية الواسعة، التي تمتد أراضيها؛ إلى سفوح، وأودية، وفجاج جبال عالية؛ تضرب بقِممها إلى الأعلى؛ إلى أن يتجمد فيها الماء؛ بانخفاض درجة حرارة الأجواء العليا، فتكسوها ثلوج في فصل الشتاء البارد...

فمِما رواه علي؛ هو ما وقع أيام الاستعمار الفرنسي للبلاد، واحتلال دولة لبلد آخر؛ فيه استضعاف وقهر، واستعراض لقُوة العَدد والعُدّة، التي لا تُقاوم ولا تُقهر، ونشرٌ لفُرق عسكرية مُدججة بالبنادق والقنابل والمدافع، والدبابات المدرّعة، وبناءُ الثكنات العسكرية، فيقوم أفراد من تلك الفُرق المنظمة باجتياح المدن والقرى والدواوير؛ المنتثرة في بِطاح البادية؛ لجهض أي محاولة دفاع عن النفس أو مقاومة، فقد يفعلون بأناس عُزّل أشياء كثيرة، ولا يعترض طريقهم إلى ذلك أي أحد، ولا يَثنيهم عنه أو يردعهم...

فماذا نطق به ابن عمتي على مسامعي؟ وكان قد شاهده بعينيه اللتين لا تُكذِّبانه، وفي لحظات من وقت حكيه كانتا تشعان بحماسة الأبطال، لأنه كان حاضرا، وإنه لَـحَظٌّ لم يُؤت لغيره، وفرصة تسنح له؛ ليُخبر أيَّ أحد بما رآه؛  يلتقي به أو يضُمّه وإياه مكان يحلو فيه سمر الحكي؛ على ضوء قمر الخلاء، وهدوء الليل المطبِق...

حكى فقال؛ وعيناه تدمعان حنينا، بأن الجو في ذلك اليوم كان صحوا، فقد خلت السماء من الغيوم، ومن ضباب قد يُغطي وجهها الصّبوح دائما، فبدت زرقتُها الغير المخفية الغامقة، فأضافت بها جمالا على الدنيا؛ جنبا إلى جنب مع خُضرة النباتات، وإزهار هذه في شهر (يونيو)، ولون بُني تصطبغ به تربة غير مزروعة، وألواح صخرية عرّتها المياه؛ فيما مر من أزمنة سحيقة في القِدم، فانشرحت الصدور بالألوان المختلفة والعديدة، وجرى ماء العيون رقراقا، ومُتلألأ بأشعة الشمس، وصهل حصان هنالك بعيدا، ونبح كلب حراسة، وسُمع ثغاءُ قطيع من الأغنام...

وفي غمرة هذه الطبيعة التي تملأها تغاريد العصافير، وتُصدر أجنحةُ الطيور المحلقة حفيفا، وبرغم كل هذا فهناك صمت البادية وسكونها الغالبان، كان يرعى ابن عمتي قطيعا من الشياه؛ غير بعيد عن جانب الطريق الـمُعبّد، الذي يربط بين المدينة وسوق أُسبوعي؛ نادرا ما تمر منه سيارة أو شاحنة أو دراجة نارية؛ في غير يوم السوق، وتسير فيه عربة واحدة أو عربتين؛ يجرها واحد، أو زوج من الخيل، أو الـحُمر، أو البغال؛ تُنقل بها أكوام تبن الحصاد، أو حُزم سنابل  محصودة إلى مكان الدّرس، أو صناديق خشبية أو سلال مجدولة بالدوم؛ تحتوي على ما تُثمره الحقول المسقية؛ من خضروات وبُقول، وغير بعيد عنه؛ في الجهة المقابلة له؛ ما بعد عرض الطريق؛ راع آخر لا يتوقف عن التلويح بعصاه؛ في اتجاه خرفان ابتعدت واقتربت من جانب طريق أَسْفلت خشن، وعن التصفير بلسانه؛ مُنبِّها إياها، وكابحا جماحها واندفاعها بشراهة؛ إلى سيقان السنابل الممتدة والحلوة المذاق.

ويمضي كل واحد منهما كأنهما يتنافسان في إطلاق العنان لـمُجترّاتهِما؛ كل في حِماه، ويصل ابن عمتي في روايته إلى ما تفاجأ به وقتها، وقد طرق سمعه أصوات مُقعّرة وحادة؛ تصدر من محرك مركبات ميكانيكية، فالتفت فرأى سيارة من نوع (جيب، JEEB)؛ يجلس بانتباه إلى مقود عجلاتها عَسْكري، وإلى جانبه عسكري آخر، وكلاهما يُثبّتان قُبعتيهما الخضراوان بعناية وبحزم، تتبعهما شاحنة غير مَغطاة، يركب في جزئها الخلفي جنود يجلسون إلى حد ما بانضباط؛ كانوا يمرحون، وترتفع حناجرهم بالصياح، وترديد نشيد وطني عسكري، ومرت بهما المركبتان بهؤلاء العسكريين؛ ذوات محركات الوقود، واستمرتا في الطريق، ولم يُمِل ابن عمتي - كما قال- بوجهه عنهم، فقد ظل يتتبّعهم مُتسائلا عن المدينة أو القرية التي تؤدي بهما الطريق، وفُوجئ مرة أخرى، ودب إلى نفسه بعض الخوف، وقد شاهد سيارة (الجيب) تقف، وتُفرْمَل خلفها الشاحنة، ويدور السائق بالسيارة، فتبدو مُقدمة هذه تدنو راجعة، ويقترب صوت محركها فيُثير التوجس والوحشة في باطني الراعيين، وينظران إلى بعضهما البعض بعجب، وإلى السيارة العسكرية المرهِبة، فكان سؤال واحد يسيطر عليهما وهو: ماذا يريد هؤلاء العسكر منهما؟ أسيُسألان عما لا يعرفونه، أهو المكان الذي ينتهي به الطريق؛ هل سيخطِفون أحدا منهما؛ ليتخذوه خادما مُستسلما لقدره في ثكنتهم العسكرية؟ وسمعت الأغنام دنو السيارة، فالتحمت واضطربت، وضلت عن الاتجاه الذي ستهرب إليه، وحاول الراعي تهدئتها، وإرجاع الطُّمأنينة إليها.

ترجّل القائد، والـمُميّز في قَوامه، وفي قُبعته وبنياشِينِه، وسار قاطعا أجمات لنباتات يابسة قصيرة؛ إلى أن اقترب من الراعي، وتحدث إليه، وابن عمتي كما أكد كان يتابع ما يجري بقلق، ولم يطُل كلام القائد مع الراعي، وخطا راجعا ونادى على أربعة من الجنود، فنزل هؤلاء من الشاحنة باستجابة خُضوع وسريعة، فتلقوا أمرا من قائدهم العريض الجسم والفارع الطول، والراعي يأتي بحركات من يديه مُتضرّعا ومُستعطفا، وجرى يحاول أن يحول بين الجنود وخرفان من قطيعه، فدفعه أحدهم حتى سقط على الأرض، ولم يستسلم هو، فقام وحاول أن يضرب المتعدّي عليه بعصاه الغير الـمُقلّمة اللّحاء والناتئة الفروع، فأخذها الجندي من يده بعَنوة وبقوة، وكسرها إلى نصفين؛ بالضغط عليها على ركبته الصلبة ورماها، وعاد مرة أخرى وأبعد الراعي؛ مُهدّدا إياه بتوجيه قبضة يده المعقودة الأصابع القوية؛ إلى وجهه الممتص الوجنتين، والمحترق بأشعة شمس البادية، فخلت الأرض، ومُهّدت للأربعة المندفعين بعمى مرضي، وقبض كل اثنان منهم على كبشين أقرنين سمينين، وجروهما، والتراب ينتثر ويرتفع بالأظلاف العصية والصعبة الانقياد، ثم حملوهما في الشاحنة، وكان القائد قد أخذ مكانه على كرسي السيارة المتأهبة، وأشار بيده القابضة بالعصا المصقولة، والملمعة والمطعمة بالمعدن، وبتيْه؛ بالتحرك؛ مرفوع الرأس، فما يُنجِزه من أعمال؛ هو مستمد من نظام عسكري متماسك وصارم، ولم تكد الكتيبة تترك المكان، وتبتعد سيارة القائد والشاحنة؛ حتى شوهد فتية ونسوة يعدون حُفاة؛ في اتجاه الراعي المسلوب الخروفين والضعيف، وقد حركتهم دماء الانتماء إلى القبيلة، واستعرت فيهم عاطفة القرابة، وتحمسوا للذود والمناصرة؛ حاملين الـمَدارَى، والـمُديات، والمناجل، والهراوات، والعصي، والحجارة، ووقفوا يتوعدون أولئك الجنود وقائدهم، وقد اختفوا في إحدى مُنعطفات الطريق.

تصوّر ابن عمتي آنذاك -كما نطق بذلك- كيف سينحرون أولئك الـمُرتدِين للزيّ العسكري، الـمُحاكة خيوطه بإحكام خاص الخروفين؛ طعنا في نحريهما بالسكّين، وكيف سيشوون لحمه على جمر ملتهب بالنار، وسترتفع رائحة الشواء في أرجاء الثكنة العسكرية، وسيمزِجون قِطع اللحم الناضجة باللهيب والساخنة؛ بجُرعات من مشروب النبيذ الأحمر، وجِعة مُسكرة مُقطّرة، من حبوب نباتية، وبقُبلات يطبعونها عل وجنات وأعناق وصدور نساء؛ يحترفن مصاحبة الحاملين للبنادق، والمحافظين على دم وجه بلادهم، التي لا ينبغي أن تتقهقر عن ساحة منافسة قريناتها من الدول الأخرى؛ والمستميتة في الاستيلاء على المزيد من مساحات الأرض الجغرافية.

وقد انتهى ابن عمتي من حكايته مُتأسّفا، وغُصّة الاحساس بالاستضعاف التي ظلت في حُلوق القرويين، ما تزال في حلقه هو أيضا، لأنه فرد من دمهم، واستغربوا بعض الشيء لفعل أولئك العسكر، لأنهم لم يعهدوه، لا هم الأحياء ولا أجدادهم الأموات.

***

احمد القاسمي

لمعانُ البحرِ

شدَّ عيونَ العاشقينَ

تكسرتْ أوتارُ العودِ

*

انتظرنا زوالَ مواسمِ الخيانةِ

تجمدَ العقلُ

غردَ عندليبٌ خوفاً

*

أبحرَ الناقدُ  بصمتٍ

قرأَ مجاميعَ شعرٍ

أنتبذَ الفارسُ خمراً

*

لي رحلةٌ لغاباتِ السحرِ

رافقتني ذكرياتٌ

تسمرتْ الموجةُ نورسةً

*

إليك تراتيلَ الغزلِ والفرحِ

تصفقُ لها الطيورُ

يعاندُ القلبَ الخفقانُ

*

الموتى يتغزلونَ بالارضِ

الترابُ يشدو

بُعثَ يتجددُ في الكونِ

*

شجارٌ منذُ الخليقةِ

خسارةٌ دائمةٌ

خلاصٌ ينتظرُ الغزلانَ

*

ترحمٌ على أفاقِ الزمنِ

خذْ أغنيةً

شمعةً تبكي دماً

*

تمهلْ عندَ الصعودِ

تمتعْ بالتسلقِ

الجموعُ طفلٌ أخرسُ

*

لا تحاكي الصمتَ

النطقُ عدوهُ

نورسةٌ خارجَ الديارِ

*

تعلمْ الموسيقى والتغريدَ

كلَّ السمفونياتِ

تأتِكَ ارضاً ساجدةً

***

عبدالامير العبادي

كل الاوراق التي

انتعشت من صمتي

كتبت عليها

الرياح أسماء

وهمية وطيرتها..

هل علي ان  ألهث

وراء قصيدة

ينفخ عليها

فتطير بخفة ريشة..

هل علي أن أستجدي الكلام

من عتمة ليل عقيم

ربما علي أن

سأسمي الاشياء بمسمياتها

القطيعة هي القطيعة

والخذلان هو الخذلان

والخيانة هي الخيانة

حتى لو جاءتك

بإبتسامة عريضة على وجهها

حاملة بين يديها

باقة من زهر التوليب الأحمر

ربما علي ان لا

ارسل  حاستي السادسة

وراء

هذيان لا لون و لا رائحة

ولا طعم له..

سأضرب على أذني

حتى تمر القوافل

المحملة  بطنين الذباب

ربما..

لم يعد الوقت يشبهني

الان ..

الوقت صار  يشبه القيامة

دعوني  أكلم حزني قليلا

قبل أن  أغمض  عيني

للأبد..

على من أغمضوا عيونهم عني..

وأغلق الذي مايزال مواربا

من أبوابي..

وأغلق قصيدتي

المفتوحة على المدى

والبحر..

وأقف بعيدا..

أمحو عن كفي خطوط الحب

الوهمية..

وأمحو عن أصابعي  بصمات

قصيدة عابرة

وأتركها فقط

لألوح بها تلويحة الوداع

للغرباء و العابرين..

وحين تناديني

من وهمها الأسماء

سأقول لا وجهة  محددة

للمشتاق..

ولن  أدخل جنة

يسألني حراسها

من أنت !؟..

سأعلم كلماتي

كيف تسير علي قدميها

بحذر شديد على

أطراف الأحجية..

وتمنحها نصف الجحيم

الموعودة به..

لن أوقع بإسم  مستعار

على أوراق الصمت

سأترك  الرياح  توقع

عليها كيفما تشاء

وأينما تشاء..

لن اكتب على الظل

حرفا واحدا من إسمي

انا التي

منحت ليلك

حلما جميلا  لتستر به

عورته

أمام

النجوم البعيدة..

سأكتب  اليوم

دون ان أفتح قواميس

اللغة القديمة

الآن .. الآن

لا وقت لشروقي

ولا وقت لغروبي

لا صلاة ترهق كاهل

الليل ..

ولا وهم يغني

علي وتر

نشاز..

***

بقلم: وفاء كريم

 

 

سَأَكْتُبُ عَنْكِ لِقَلْبِي الْمُتَيَّمْ

 سَأَكْتُبُ عَنْكِ لِكَيْ أَتَعَلَّمْ

*

سَأَكْتُبُ عَنْكِ بِأَنَّكِ حُبِّي

 وَأَنَّكِ قِبْلَةُ عِشْقٍ لِقَلْبِي

*

سَأَرْوِي أَقَاصِيصَ بَحْرِ الْغَرَامْ

 لِقَلْبِكِ بَعْدَ شَدِيدِ الزِّحَامْ

*

سَأَرْفَعُ فِي الْكَوْنِ رَايَةَ حُبِّكْ

 وَأَدْخُلُ بَعْدَ انْتِصَارِي لِقَلْبِكْ

*

سَأُخْبِرُ قَلْبَ الْخَلَائِقِ أَنِّي

 أُحِبُّكِ بِعْدَ بُحُورِ التَّمَنِّي

*

سَأُنْشِئُ فِي الْحُبِّ أَحْلَى قَصِيدَةْ

 أُهَنْدِسُهَا وَتَكُونُ فَرِيدَةْ

*

سَأُعْلِنُ أَنَّ الْحَيَاةَ سِجَالْ

 وَأَنِّي ظَفِرْتُ بِأَحْلَى وِصَالْ

***

شعر: د. محسن  عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

 

من رخام

الحكمة الخضراء

اشيد جدارا

بيني وبين

ثرثرة الثعالب

الشواهين

والبزاة

واعكس على

زجاجات مرايا قلبي

روعة النسيم

الشفق الازرق

والمطر

ومن ثم امضي

صوب كرمة

ذاكرتي الخصبة

لا زرع في تربتها

ازاهير اوركيد

بنفسج واقحوان

وهناك هناك

قرب دالية

الشوق المضيء

انتظر عندليب قلبي

لنغني معا

اغنيات

البرق والريح

واغنيات المطر

***

سالم الياس مدالو

كيف ينامُ من تجرُّه الأطيافُ الى عدن…؟

من يراني أمجِّدُ خجَلي،

و أسوِّي ظلِّي لحاشية تهوى جورَ الخريف ..

أتلذذُ حطَامَ الفراغاتِ على صدري..

ويغلب على خطوي تثاقل الرِّيحِ ..

فليعلم:

أنَّ أخطائي كانت بالقصد المستباح..

ومُوَّلدتي ضريرة

تحسستْ بعكس الطَّالع،

أنِّي قادمٌ

لاقتلعَ الغَضبَ من ظمأ القصيدة..

فاجأها صراخي

لم ينقطعْ..

تمتمتُ لها بآيةِ الصلاحِ ..

وعدتُ للصُّراخِ..

**

فليعلم:

أنَّ أوجاعي أمطَرت في الأرض سنابلَ

أينعَ حبُّها

وتلقفهُ غرابٌ

مسعورٌ

عائدٌ من فرشة السَّقمِ…

أتذكّرُ أنِّي طلبت ُ رغيفاً مقابلَ أعضائي

وفي عزِّ طيشي استهواني عنفواني

وبطولاتي ..

استهوتني الأرقام والأسماءُ …

اغتالتني آخر الصيحات .

.وأثملتني معزوفات الشرق والغرب…

وتملكتني الحيرة  حين  لطمني الخريف بعزفٍ حزينٍ…

لكنّي هيَّأتُ لنفسي رَشَداَ..

أكلتُ تراباً

شربتُ حنظلاً..

ونمتُ كما الجُردانِ…

**

فليعلم:

قأنَّ تشرُّدي ليس ابتلاءاً من أحدٍ..

بل تطاولتُ بالرَّقص مع الإمبراطور

وعيني زاغتْ في مقصورة الأميرة…

قالوا:

هذا مارق…

هذا سارق..

لتنصب  لهُ المشانق

وتطرق له الطرائق…

حرروا الجنود من الخنادق….

صففوا رجال البيارق..

امسحوا دموع الأسرى …

واتركوا أبواب القلعة بدون حرس اليوم في القصر حصل طارىء….

**

فليعلم:

لقد هاجمني صيَّادُ الذكرياتِ

وأخذ منِّي حُلمي

كسَّر قلمي

شتت حزمتي  …

وراحَ منشغلاً برثَاءِ الكرامةِ ..

لقد داهمني شيطان طفولتي بالليل وعزمني الى ماخور الكلاب ..

ترادف على حالي البلاء ..

فخطف منِّي ظلِّي ..

آخرَ سهدي..

أخذَ استعاراتي والصُّورِ…

وراح هو الآخر يلعق ماء الغديرِ..

فليعلم:

أنِّي لستُ قطاً بقرب مدفئة ولا أنتظر ظهور وردة من النافذة…

ولا بريديّاً مصحوباً بالهدايا..

قاموس ميلادي مثخمٌ بالأعطاب….

تكفيني عينُ الشَّمسِ…

ولم يشخ مزماري حتى الان…

في قُبِّ جلبابي  وأدتُ الوراء ..

قال  أبي:

اخلع جلبابك ونم طويلاً ياطويل الجّبهةِ…

قلت:

أنامُ ووسادتي أثقل من الحاضرِ..!

قال:

كسِّر المصابيح والمزهرياتِ

وكؤوس الطِّلا

ونمْ

قلت:

وكيف ينامُ من تجرُّه الأطيافُ الى عدن…؟

***

عبد اللطيف رعري

 02/03/2023

كل الأشهر تتشابه وكأنّ لعبة التعاقب لم تفض الى حال.. في مستودعٍ للأموات ضاعت منّي بوصلتي … الحيطان تتشابه ..الممرض الوحيد هنا بسحنةٍ داميةٍ…دائم العتمةِ….كل الناس

تعرفهُ بقسوته وتطيّره …وحدي بسوادٍ مطلق ..مهمتي ملأ الفراغات بامتياز. ..دخل من دخل وخرج من خرج…هذا يضمر وجهه ، والآخر أتلف القبلة..أنا أجهل كل الممرات…لا تأشير ولا تفسير ..ولا من يشُدُّ بيدي الى الخارج…تتعالى الصرخات… ويتعالى الألم .. تعصبَّ الجميعُ..قلت لنفسي هذا يوم حزين…! رنَّ هاتفي  فقفزت مذعوراً ،إنَّه مدير الوكالة ،يأمر بانسحابي فوراً من بوابة المستودع ..مخافة انهياري أمام الملأ…

 

فتنته الزهرةُ ذات الحمرة الفاقعة، هام بها كما هيام عشقه الذي أسرى بروحه المغرمة بتلك التي صار يلهج باسمها.

بات يحاكي نفسه بحثا عن أقرب فرصة للوصول إلى روحها التي لم تدنُ بعد إلى خياله العاشق.

أخذ يتحدث إلى الأغصان المتدلية، متأملًا الفراشات المنتشرة بين أريج الوريقات المتوجة بالألوان، ليته يجعل من ذلك الزهو جسرا إلى قلبها الذي لم يشدُ استجابته بعد.

جلس عند دفئها المستدير متناغما مع أحاسيسه المتيمة، دنا قريبا، همس ببطء شفيف في عروق اجزائها المتربعة، أحس بالتوهج، سرت رعشة خفيفة بين خباء تركبها الندي، أطلقت حسراتها انتابها الأسى، دب فيها شعور بالوجل، حاولت أن تحتج، لكنها سرعان ما وجدت نفسها مذعنة لأصابع باغتت تماسكها العالق، بينما تفقعت أطرافها المتدلية عبر دموعها التي جرت بحرارة شجية.

عادت تلومه بحزن مذكرة إياه بأطياف بريقها المشع

عند فضاء شرفته، بكت مواسية لحظة اقتطاعها، استأثر المكان بالفجيعة. استفز مسامعه نداؤها الشاجن، أدرك عبره أنه استأصل عطر رقتها الحنون.

فكر مع نفسه طويلا، انتابه الغم، استرسل مع أفكاره، أصبح يحاور أوجاعها بعد أن أضحت بين يديه،

أوعز إلى نفسه أن يفلح بإهدائها لتكون رابطة بينه وبين من أحبها.

اقتربت الفتاة، استأنفت مشيتها، تهيأ الجميع للمحاضرة المقبلة، باتت قريبة إليه، ارتجفت الوردة، حاول أن يمسك بها، لم تلتفت إلى ندائه الخفي، حاول أن يناديها باسمها، تثاقلت قدماه، أراد أن يمسك نفسه دون أن يفلح، سقطت الوردة بعدها مغشيا عليها تحت أقدام من لم تكترث له، أدرك أن الفتاة لم تبادله ما يشعر به، أحس بالاعياء، ارتدت الزهرة ثوب الحداد.

***

عقيل العبود

...................

- الخباء أوالكربلة: الجزء المؤنث من أجزاء الزهرة.

الى روح صديقي الشهيد الفنان التشكيلي

 أَمير الشيخ

***

الشهداءُ

نزيفُ الأَرضِ

الشهداءُ

قناديلُ السَماءْ

**

الشهداءُ

قلوبُ الآباءِ والأُمَّهاتْ

والشهداءُ

دموعُ اليتامى والأَرملاتْ

**

الشهداءُ

شهودُ الحروبِ والهزائمْ

الشهداءُ

رواةُ المسكوتِ عَنْهُ

والتاريخِ الدمويِّ الكاذبْ

**

الشهداءُ

ليسَ هُم القَتلى المَغدورينْ

الشهداءُ

هُم الذينَ يرثونَ الأَرضَ

وجنائنَ اللهِ الموعودة

**

الشهداءُ

ليسوا خونةً

الشهداءُ

ضمائرُ أَوطانٍ

وشعوبٍ مقهورة

**

الشهداءُ

نزيفُ الذاكرةِ

وقرابينُ البلادِ المهدورة

**

الشهداءُ

هُم الخالدونَ الابديونْ

ونحنُ ضحايا الطُغاةِ

والخوفِ والقهرِ والجنونْ

**

في الشرقِ النائمْ

والمظلومِ والظالمْ

الشُهداءُ مُجرَّدُ أَمواتْ

وفي فراديسِ السَمَواتْ

هُمْ ملائكةُ الحكمةِ والرحمةْ

وهُمْ جنودُ اللهِ والقياماتْ

**

الشهداءُ

ليسوا ضحايا التُرابِ والخَرابِ

وأَوهامِ وحماقاتِ الجنرالاتْ

الشهداءُ

حُرّاسُ خزائنِ السماءِ

وبُسْتانيو فراديسِ الأَبديَّة

**

الشهداءُ

ليسوا ملوكاً ولا سلاطينْ

الشهداءُ

فقراءٌ وطيّبونَ ومساكينْ

والشهداءُ

أَطفالٌ وملائكةٌ وأُمراءْ

وأَنتَ واحدٌ منهم:

صديقي " الأَمير" المُتوهّجُ

بالحبِّ وطقوسِ اللونِ

والكونِ والعطرِ والبهاءْ

***

سعد جاسم

ويدٌ تلوحُ من بعيد

أم انها يدُ الغريق

*

العمرُ يلهثُ في سباقٍ

وله عويلٌ وشهيق

ونثارُ أيامي شظايا

على طولِ الطريق

*

الذكرياتُ صدى تلاشت

صورٌ ملونةٌ

خبا فيها  البريق

للهِ دركَ كم وفيٌ أنت

يا حزني الصديق

*

نحنُ أرتفقنا الدربَ من أولهِ

ثم افترقنا عند مفترقِ الطريق

لا أنتَ بعد الآن تأنسُ رفقتي

ولا أنا يا صاحبي في جعبتي

شئٌ كثير فأطيق

*

يا صاحِبي

كم قد ضَحِكنا او بكينا

وفرحنا أو شَقينا

فأرقصْ لي اليومَ  واطربني

فأنا حرٌ طليق

*

هاكَ خذْ اغلالي وقيدي

وتعالَ نتبارى

فلنا الكأسُ المعلى

ولنا الخطو الوثيق

*

يا صاحبي

إياك أن تندم أو تأسى

فها نحن وإياهم سواء

يومان:

هما كل الحياة

يومٌ قريب ورحيب

وآخرٌ بعيد وعصيب

*

أقدامنا نحنُ

مدماةٌ حفاة

لكنها كالطودِ ثابتةٌ

وطيدةٌ لصقَ الطريق

على الصراط المستقيم

أما هم يا ويلهم

ستنزلقُ أقدامهم بدموعنا

يهونَ كالأحجارِ

في وادٍ سحيق.

***

صالح البياتي

انتشرت في نداء بعيد

لعل المدى يضج بأغنيات اللقاء

كان الصدى خريفا..تزوبع في ذاكرة الوجد

حتى الطريق الذي سلكت

حين غادرْتَ قلبي الموصد على المرارة

لم يفض إلى شجر أو مسافات

تعترش فيها الدجى

وتفرد فيها السنونوات رجفتها

*

وجدتني بين قصائد عارية كالليل

عند آخر السطر..تتهاوى انفاسي

تسقط أشكالي وما أوتيت من صدود

في دهشة مثلومة

على مرأى الكبرياء تتقافز ..زبدًا

يبدده الصمت.. واليقظة الحارقة:

هنا صورة للبحر

يحمل ما وهن من أمواج

ما أعياه الترقب من صدفات

يدخل قيود الرمل

على الملمح دمعة انكسار

*

هنا ظل غجرية

يتسلل نحو أحراش النشيد

يقنص المتاهات

وما سقط سهوا من الجمل الآبقة

*

كيف يصير السيسبانُ المرُّ

فاكهة العشاق؟

كيف يصير جسرُ الموت أرض لقاء؟

وكيف يُعد الانهيار

منازل لما تشرد من نبضات؟

*

سأستلُّ سيف الحنين من أضلعي

رغم ما في الروح من متاريس

وأرحل دون مراسيم

فقد كانت الرؤيا

أصغر من مرثية الحلم!

***

مالكة حبرشيد

 

 

لم ندرِ ماذا تضمرُ الأقدارُ

طلعَ النَّهارُ ولم يَعدْ يا دارُ

*

ما زلتَ تحلمُ بالرجوعِ وقد مضى

عامانِ، لا طيفٌ، ولا تذكارُ

*

أشكو إليكَ الحالَ،  وهو ممزقٌ

وأَنا على الحالينِ  قلبيَ نارُ

*

اطلقْ سراحي، تهتُ فيكَ مدائنا

وبقى يجاورني الهوى الدَّوارُ

*

أشكوك ماذا؟ كلُّ شيءٍ سائلٌ

وأنا جوابٌ صامتٌ محتارُ

*

يا ويحَ نفسي كيفَ  بتُّ مكتَّمًا

وأَنا الذي ضاقتْ بيَ الأسرارُ

*

أَنساك، لا أقوى، هواك ربيعُنا

فمتى يعودُ الماء والأطيارُ

*

ساءلتُ عنكَ الغيمَ، قال: غمامةٌ

ستزولُ مهما  طالتِ  الأَسفارُ

*

ويعودُ ذاك الوجهُ أسمرَ مشرقاً

وعليهِ ملحُ الأرضِ والأنوارُ

*

وتفيضُ من حولي جوابي ربعِنَا

وغناءُ راعيها عليكَ مدارُ

*

لكنَّهُ حلمٌ ولستُ مبالغًا

إنْ قلتُ ليلي ما إليهِ نهارُ

*

يا أيُّها الوجهُ الذي  لازالَ عنـ

دي ساكنًا، ما دارتِ الأقمارُ

*

اطلقْ سراحي، ليسَ مثلي صابرٌ

من أين تُقبلُ أيُّها المدرارُ

*

أرجوكَ عُد قلبي يفيض صبابةً

لا أهل  من حولي ولا أَنصارُ

*

يرضيك أنِّي  ألتظي بأوارها

والماءُ غادرني ولا أمطارُ

*

سُحقًا لعمرٍ ينقضي بمصيبةٍ

وتموتُ في قيثارتي الأوتارُ

***

د . جاسم الخالدي

لم أختر مكاني قرب النافذة، حيث كان ضوء الشمس في صباح ذلك اليوم الخريفي، يخترق الزجاج، ليملأ الصالة التي تضج بالمدعوين.

لكني وجدت نفسي مرغمة أجلس هناك، في تلك الزاوية حيث لم يكن ممكنا سوى مشاهدة جزء من وجه الشاعر ذا العمر المتوسط وهو يلقي قصائده ويتحدث عن تجربته في الشعر ويستمع لملاحظات الجالسين. في الحقيقة كانت القصائد مملة جدا. ربما أنا وحدي لم أفهمها! لقد أخفقت تماما في اكتشاف ماذا يريد أن يقول الشاعر.  ولوهلة شعرت بالغباء. أخرجت هاتفي لأدفع الملل. لاحظت أن ثمة دائرة بيضاء مشعة صغيرة تتحرك على الجدار مع حركة الهاتف، بدا ذلك الإنعكاس مبهرا حقا، وكانت اللعبة مسلية  وسط أجواء السأم تلك. كنت أحرك بقعة الضوء بالطريقة التي أحب، صعودا وهبوطا، يمينا وشمالا، حتى إني كتبتُ على الجدار بضعة  كلمات، ورسمت شجرةً وحمامة وفتاة تلعب بالحبل وعشبا ونجوما.. وكدت أرسمُ صمتا عميقا لولا أن آهةً ندّتْ من فم الشاعر.  وغمرت المكان لحظة صمت مفاجأة قاسية، أعقبتها همهمات رافضة غاضبة وعيون متسائلة منصبة على وجهي، شعرت أنني ارتكبتُ إثما مريعا، وسوف يتم إلقاء القبض عليّ بتهمة إرباك الشعر. لقد انزلقت بقعة الضوء إلى عينيّ الشاعر تماما. كان هناك جالسا على كرسيه، يضع يديه على عينيه ويتأوه، حوله الكثير من المتعاطفين، وقد سكت الشعرُ تماما في ذاك المكان، وحلتْ بعض الفوضى، حتى بقعة الضوء نزلت للأسفل بخجل. كان كل ما أفكر فيه هو الإختفاء، والهرب، هكذا أنتشل بقعة الضوء وأتلاشى بعيدا عن هؤلاء. لكني لم اتزحزح عن مكاني، أدركت خطورة الهرب آنذاك، وقررت تجرّع الشعور بالعار. كنت ساكنةً في مقعدي. أنتظر أن يتحسن الشاعر ليهدأ الجميع، ومع عودة كل شيء لسابق عهده، سأنسلّ للخارج بخفة.

عندما زادت حدة التأوهات، قلقت فعلا، حتى إني لم أستطع السيطرة أبدا على نبضات قلبي المتسارعة، فقد كانت النظرات الغاضبة تجلدني كلّما إرتفع صوت الشاعر. لقد عزموا على طلب سيارة الإسعاف. بدا الأمر خطيرا، قال أحدهم (قد يفقد نظره)!  يا للهول! سيحاكمونني ويزجون بي في السجن. كانوا لا يزالون حوله يتكلمون بصوت عال وقد تباينت الآراء. هاتفي كان لايزال في يدي، أما الشمس فهي أكثر سطوعا من قبل، تخرق زجاج النافذة بكلّ بهاء.

لملمت قوتي المتناثرة وكبريائي الذي جرحته النظرات الناقمة، ورحت أحرك الهاتف بجميع الإتجاهات. كانت نقطة الضوء المذهلة تتحرك على وجوههم بشراسة وبلا رحمة، وأصواتهم تتعالى، فيما كنت أنا أتراجع حتى غابوا عني وخَفتت أصواتهم وتشظت في الفراغ.

تنفست بعمق وكنت وحيدة إلّا من بقعة ضوء ترافقني.

***

تماضر كريم

 

 

لفظتها القرية كما لفظت مثيلاتها ممن صرن على هامش الحياة، وقد ضاق بها جفاف الدوار وقسوة الأهل وذئاب الليالي.. أو ربما هي من لفظت الدوار هروبا من ذئاب انقضت على أمها وقد تعوي خلفها ذات يوم، ثم دخلت المدينة طفلة في عمر الزهور، ابنة الرابعة عشرة ربيعا، بعد قتل الأب في معركة انتخابية مدروسة، وهو الذي كان من الممكن أن يحميها من ثعالب الردى لو ظل حيا، وما بقيت الا الام التي أرخت الحبل واستسلمت بعد مقاومات شديدة، وسلمت نفسها بدءا من قائد المنطقة بعد أن رآها تقطع الطريق الى الساقية لجلب الماء..

انبهرالقائد بجمال أمها.. وكأنه استكثر على قرية منسية، قست عليها الطبيعة و تحجرت عنها دموع السماء أن تنجب أنثى بجمال أمها..

أنثى لا تتعدى الثلاثين، وجه قمحي وحاجبان رفيعان اصبغا على العينين الواسعتين جمالا أخاذا فوق أنف خناسي وقد رياضي متناسق، ورغم ما ترتديه من ثياب فضفاضة فقد أعلن النهدان من داخلها تهاليل التسبيح في شموخ صارخ..

ثم ما لبث القائد أن بدأ يتسلل بليل بين حين وآخر الى كوخهم تحت جنح الظلام، يختلى بأمها، وقد عاينت من شقوق الباب كيف أخذ في اقناع أمها تارة بالتهديد وأخرى بالسجود تحت اقدامها ذليلا حقيرا عبدا لشيطان نزوته الى أن تعرت له وكان ماكان..

هكذا صار القائد كلما قضى الليل في بيته القروي أو تعمد أن يقضيه، وحمد سراة الليل، تسلل كلص الى الكوخ، فيبيت بين أحضان أمها، بعد أن يكون قد أرسل قفة فيها كل ما لذ وطاب مع قاضي حاجاته وكاتم أسراره، ثم لا يغادر قبل الفجر حتى يترك ورقة نقدية زرقاء..

كم احتقرته الطفلة وثيابه تنشر عطرا خلفه ثم يخلعها ويرميها على افرشة من تبن وسخة، فيتعرى حيوانا يقتات من أنثى قهرها الزمان وصيرها كجيفة صيد بلا كرامة، جمالها وحده يعلن عن وجودها ككائن يعيش على رقعة ارضية غير نافعة، لا تحظى بدعم، ثم يغادر وقد احتفظ فراش التبن ببقايا عطره..

كثيرون هم شباب القرية الذين حاموا حول أمها طلبا للزواج لكن ما ان رأوْا كلب القائد يحمل فتات القائد الى كوخها حتى تواروا، فأمها ليست هي الاولى التي طوتها يد رجل سلطة يتم تعيينه بالقرية، لكن الساقطات في براثن الاطماع كن أغنى وأيسر عيشا من أمها، بل منهن من كن أمهات متزوجات جنى عليهن جمالهن وهو ما تهبه طبيعة القرية لنسائها بسخاء..

ذات ليلة وقد خلا القائد بأمها جمعت الطفلة من البيت القليل مما خف، وتسللت خارج الكوخ، سارت بمحاذاة سكة القطارالى أن بلغت موقفا اختياريا ؛ركبت القطار، ثم نزلت عند أو ل محطة في المدينة..

كان الليل عند وصولها قريبا من ان ينزع عنه عباءته السوداء، احتمت تحت سقيفة أحد المتاجر، حذرة متيقظة، منتبهة، وما أن بزغ الفجر حتى يممت نحو سقاية ماء، غسلت وجهها ثم قصدت امرأة تبيع الحريرة، سمعت من أتوا بعدها ينادونها:أمي خدوج، قرفصت بجانبها وطلبت زليفة حساء، ظلت امي خدوج وهي احدى العيون الخفية للسلطة تراقبها.. اذ لأول مرة ترى الطفلة من بين زبنائها، فهي ليست من بنات الحي ولا يمكن أن تكون تلميذة ممن يقصدنها لتناول الحريرة صباحا قبل الذهاب الى المدرسة، كما لا يمكن أن تكون خادمة، فلاخادمة تستطيع الخروج في هذا الوقت.. ما أن انهت الطفلة حساءها حتى سألتها أمي خدوج من تكون؟ ومن أين أتت؟ وكأن امي خدوج قد فجرت سواقي من عيون الطفلة التي وجدت نفسها عزلاء من اي حب او حماية، شرعت تذرف دموعا حارة و من صدرها تتصاعدغصات ألم وكأنها قد فقدت شيئا أو سرق منها أحد شيئا ثمينا. قالت أمي خدوج:

مابك؟ قولي، لا تخشي شيئا.. هل لك أم؟ أين هي؟

هل سرقت شيئا فطردك اهل البيت في هذه الساعة؟

ضمت امي خدوج الطفلة الى صدرها بعد أن علا نحيبها عساها تهبها قليلا من الطمأنينة، ثم أدخلتها من باب خلفي الى بيت صغيروقالت لها:

الآن نامي، ونتحدث بعد انهاء عملي..

لم تستغرب أمي خدوج مما روته الطفلة عن قتل أبيها إثر معركة انتخابية، عن كلاب الردى كيف اسقطوا أمها وقد كان جمالها وباء عليها، وكيف كان الألم يعصرها وأمها قد استحلت ماصارت اليه، فجعلت منه حرفة تقتات منها، ورغم ما في حديثها من حرقة فهي لم تذكر الاسم الحقيقي لقريتها، ولا من اسقط أمها، او توحي اليه بلقب، فقد كانت حذرة لا تعرف ماقد يصادفها..

تمعنت أم خدوج في الطفلة، وقد أدركت بخبرتها أن ملامح من جمال طاغ قد يبرز بمجرد أن تستقيم حالاتها، فهي كما حكت عن أمها صورة منها وربما تكون أجمل وادق، لم تفكر أن تشغلها معها لانها تخشى المستقبل، ولم تستطع أن تتركها لمصيرها لان متشردي الليل قد يجدون فيها ضالتهم.. قالت لها:

ستبقين معي، الآن ساعديني الى أن أدبرلك مكانا تستقرين فيه..

كان تفكير أمي خدوج منصبا على رجل سلطة، يمتلك إضافة الى وظيفته معملا للتصبير سبق لها أن اشتغلت فيه قبل أن تصاب بالربو وتغادرالمعمل؛ ابلغته الخبر عن طريق احدى عيونه فما لبث ان أرسل سائقه وأخذ البنت تلبية لرغبة زوجة رجل السلطة بعد وضع عطية في يد أم خدوج من صاحب المعمل..

دخلت الطفلة بيتا جديدا ماتعودت ولا حلمت أن ترى مثله، بين عيونها تبدت حياة غير حياة القرية بكل أوساخها وحنظل ناسها الذين لا يقلون رتبة عن البغال والحمير، حتى من أتوا لحراستها والنهوض التنموي بها، حولوا سكانها عبيدا يستصغرون الرجال ويستحيون النساء لملذاتهم..

هي الان قلب منزل كبير هو واقع آخر لحياة أخرى، القائد الذي أسقط أمها في حبائله أحد امتداداتها، جعل أمها في القرية واحدة من آلات ترضي نزوات الكبار، تبني مستقبلهم وتشيد قلاع سعادتهم.. لكن لماذا تتصاغر نفوسهم أمام نساء وسخات لاتفوح منهن غيررائحة أدخنة الافران، وغوث الزرائب؟.. حارت أفهام الصغيرة وهي تقارن بين حياة كانتها وأخرى دخلتها..

تسلمتها زوجة صاحب البيت وهي امرأة وديعة مربوعة القد، تحسس المتحدث اليها اعتزازا بالنفس بلا كبر، ذات وجه بشوش يوحي بالاحترام، لا يخلو من مسحة جمال، سألتها عن اسمها، عن أهلها وذويها، ثم أنهت كلامها:

مرحبا بك على شرط ان تكوني بعقلك، عين مغمضة وفم مسدود..

كانت الصبية ترد بخجل، رأسها مركوز في الارض وعيونها تمسح أقدام سيدتها:

ـ اسمي نجلاء، ابي ميت وأمي بلا عمل في البادية..

حركت صاحبة البيت راسها اسفا في لطف يكشف أعماقها الطيبة وقالت:

اسم جميل لوجه أجمل، مرحبا بك..

نادت صاحبة البيت امرأة باسم زهور، نزلت من الطابق الثاني ونصحتها بنجلاء خيرا..

نزلت بها زهور الى قبو تحت أرضي به غرف صغيرة كل غرفة بسرير وخزانتين، واحدة صغيرة عليها مذياع، ثم قالت لها: هذا القبو هو بيتنا جميعا، ثلاث غرف صغيرة الطباخة وانا والثالثة صارت لك مسكنا..

كم كانت غبطة نجلاء كبيرة، سرير عصري نظيف وغرفة لوحدها، ومذياع.. حمدت الله في سرها، ستنام في بيت أكثر راحة وأوفى نظافة مما يبيت فيه القائد حين يزورأمها.. ركبتها غصة على قوم اعطاهم الله نعما فنفروا منها الى اعتناق الحرام ومذلة النفس..

أدخلتها زهور حماما بعيدا عن الغرف واهتمت بحك بدنها بليفة خشنة سوداء ثم بأخرى لينة مع صابون سائل.. لأول مرة تتنسم نجلاء رائحة زكية تفوح من جسدها بعد حمام ساخن، أحست بانتعاشة قوية تسري في بدنها..

سلمتها زهور وزرة صفراء جديدة ثم عقدت لها ظفيرتين طويلتين من شعرها الغزيرشدتهما وسط راسها ؛ عند الخروج وجدت نعالا رطبة جلدية فانتعلتها.. قالت لها المرأة بعد أن سلمتها منديلا مزركشا للرأس:

ـ الراس عار ممنوع، ظهور الشعر اثناء العمل ممنوع، المشي بلا نعال ممنوع، كل مانراه لايمكن أن نتكلم به مع أي كان، مهمتنا نحن جميعا هنا تنفيذ الأوامر والطاعة لاهل البيت ومن يحل بينهم من عائلة وضيوف..

كانت نجلاء تسمع، وتحرك رأسها بالإيجاب..

طيلة الأسبوع الأول ونجلاء مندهشة لماترى، كانت تنفذ ما يطلب منها بمهارة نابعة من ذكاء وفطنة، وقد ساعدتها ذاكرتها القوية على ان تختزن الكثير من التعليمات والوصايا بلا تكرار من زهور..

صارت كل غرفة تدخلها في البيت تتملى محتوياتها وتدقق النظر في أركانها، حتى اذا كلفت بعمل في إحداها أنجزته بلا تباطؤ أو خطأ، وما كانت تتكلف به ليس كبيرا، جمع منفضات السجائر ان وجدت، نفض الوسائد، ومسح الغبار عن الطاولات، وأحيانا مسح بلاط الأرض بمكنسة كهربائية ومادة معطرة كانها شحم ذائب، ولا تخرج من مكان حتى تأتي زهور لتراقب ثم تصدر أمرا آخر..

كانت الغرف بالنسبة لنجلاء كأنها بيوت الملوك كلها رخام وزليج مختلف الألوان والاشكال والأحجام، حتى سلالم الادراج الموصلة لكل غرفة مغطاة بزليج مربع صغير من الأرض الى السقف، أما الأرض فهي عبارة عن مربعات رخامية متقاطعة بزليج أسود، في حين أن السقف كله تخريقات خشبية أو جبسية الا بعض غرف النوم الصغيرة وحدها مدعمة بأعمدة خشبية مخروطة الحافتين، أغطية الافرشة كانت من أثواب لم يسبق أن رأت مثلها، حين سألت عنها زهور قالت: الغلاف الأول هو التلامط من الموبرا وما فوقه نسميه اللحوف، اما في الصالونات فالتلامط من الخريب، او البهجة، الوسائد الكبيرة منها المزركشة بطرز الغرزة والتكرير، ستائر الأبواب نسميها الخوامي وهي تشكيلات من جوهرة وموبرا و خريب و بهجة..

كانت زهور وحدها مكلفة بالبقاء اثناء أكل أصحاب البيت قريبة من غرفة الأكل اما نجلاء فتنتقل الى المطبخ لتساعد الطباخة في ترتيب الاواني الى حين انتهاء زهور فيجلس الثلاثة للغذاء ثم تنزل مع زهور الى القبو بلا حركة خصوصا اذا كان صاحب البيت موجود ويفضل أن يقيل بعد الغذاء لفترة طويلة لأنه قلما يعود في أول الليل وأحيانا لا يعود..

كم سالت نفسها من يكون صاحب البيت، فهي قلما تسمع بوجوده، كم مرة همت ان تسال زهور لكن امام الممنوعات التي نبهتها اليها منذ اليوم الأول كانت "تنكتم"، سوى ان الطباخة سالت زهور ذات يوم، هل وصل القايد؟

يتغير نظام البيت حين يحل به ضيوف، وكانوا لا يأتون الا بليل، فكل ما يقدم يتكلف به ممون خاص يرافقه خدم من نساء ورجال، تبدا السهرة بالمشروبات والفواكه الجافة، يتلوها العشاء ثم تصفف موائد الخمور والطرب، كانت نجلاء تراقب من بعيد..

وهي واقفة عند مدخل صالة الحفل بأمر من زهور وصل الى اسماع نجلاء همسات من غرفة صغيرة تقع على الأدراج المؤدية للطابق الثاني (قوس)، خشيت ان يكون أحد أعوان الممون قد تسلل اليها، اقتربت من الباب لتسترق السمع قبل أن تبلغ زهور، كان الصوت لرجل وامرأة ؛قالت المرأة وكأنها تتمم حديثا سابقا: وهل معنى هذا ستتركه ليدخل السجن، أنسيت خيره الماضي فيك؟

رد الرجل: لم أنس لكن كل بثمن.

قالت المرأة: أنا معك ماذا تريد أكثر؟

قال الرجل:أنت لي لا انكر ومتى شئت.. لكن العقدة ليست في يدي، يلزم تدويرة لمن يحلها ولن يقنع باقل من خمسين مليونا..

قالت المرأة جاتك.. متى ساراك؟

لم يكن صوت الرجل غريبا عن نجلاء وقد تيقنت بذكائها أن الحديث ليس بين أعوان الممون فالحديث فيه مساومات مادة وعرض.. تنحت الى مكان قريب وظلت تراقب من سيخرج من القوس ؛ولأول مرة ترى صاحب البيت، لم يكن غير القائد الذي لن يلتبس عليها صوته أو تغيب عنها صورته وهو متوسل راكع أمام أمها، نفس الصوت الذي كثيرا ما تناهى اليها وهي في القبو، فهو من كان يساوم المرأة التي لم تكن غير زوجة أحد الشباب الحاضرين في السهرة والذي كان مستغرقا في حديث مع صاحبة البيت داخل صالة الحفل، اهتز قلب نجلاء من ذهول، وأحست بغشاوة على عينيها..

"أي قدر ساقني لأجد نفسي في بيته ومع أهله؟"..

اخترقت خياشمها رائحة عطره والذي كثيرا ماخلف اثره على لحاف التبن في كوخ القرية، كيف لرجل يملك كل هذا الثراء، أن يطمع في امرأة قروية في دوار منسي لاحول لها ولاقوة، لباسها خرق، وفراشها من تبن ضمخته الرطوبة.. وها هو اللحظة يساوم غيرها وكأن يداه سطوة عليا تطويان الكل بإرادة من حديد. !!. جلست نجلاء على احدى الادراج وشرعت تبكي.. رأتها زهرة فأقبلت اليها:

ـ مابك نجلاء، هل تعبت؟ يلزم ان نصبر، هذه لحظات عمل لالحظة بكاء، انتبهي جيدا، افتحي سمعك وبصرك..

وقفت في مكانها وهي تردد مع نفسها:

فتحت.. لا ادري ماذا وجد القائد في أمي؟ ماذا اثاره في رائحتها؟ كيف يترك انثى بأناقة زوجته ونظافتها ومساحيقها، نسبها وغناها ثم يطمع في امرأة لا حول لها ولاقوة، يخرجها من طهرها الى نجاسته، أهو طغيان الغنى وسطوة جبروت الكبار أم شيء آخر لم أدركه؟

والوسخ، وروائح روت البقر، أهي كذلك تدخل ضمن شهوة التسلط؟ !!.. أن يساوم القائد زوجة صديقه أو قريبه فهي من "سهمه " ومستواه لكن أن يركع تحت اقدام أمها ويستمتع بها وهي عبقة بروائح روت البقر وأدخنة موقد الحطب وعرق القرية، فهذا مرض وأي مرض !!..

لم تنم نجلاء ليلتها، حاولت زهور أن تعرف السبب فلا تزيد نجلاء عن القول:

تعب اصابني و معه صداع قوي..

بعد أزيد من ثلاثة اشهرعلى رؤيتها للقائد، ، كانت نجلاء صاعدة من القبو حين واجهته مقبلا من الطابق الفوقي نازلا الى الطابق السفلي، انفزعت، واهتز قلبها حتى أوشك ان يغمى عليها، بسرعة تراجعت و استدارت الى الجدار حتى لا يرى لها وجها، ظل واقفا يتابع حركتها، وما لبث ان صاح بها وكأنه يصدر أمرا عسكريا:

التفتي بوجهك الي !!.. من انت؟

بسرعة استعادت نجلاء وضعه وهو ساجد تحت اقدام أمها يتوسلها ان تتعرى له.. حقير ضعيف لا يملك الا صوته وعينين ضيقتين كعيني ذئب تنفتحان بمكر عند الغضب، صورة لا يمكن ان تمحى من ذاكرة بنت مراهقة، قتلوا أباها لهدف انتخابي وقتلوا عفة أمها بان أرغموها على التنازل عن شرفها، كل الاحقاد تجمعت الان في عيون نجلاء التي رفعت رأسها وصارت تنظر الى القائد بنوع من التحدي حين أعاد سؤاله بصوت أقوى من المرة الاولى، حتى بلغ الى مسامع زهور وهي في الطابق الفوقي فاتت مهرولة تستخبر ما وقع، ظلت واقفة في اعلى السلم تتابع الوضع، احست نجلاء وهي ترى نصف جسد زهور في الأعلى بشجاعة وقوة دافقة في ذاتها فردت عليه وعيناها مغروستان في عينيه: خدامة لآلة..

نزل درجين حتى صار قريبا منها وقد اثاره قدها وجمالها ثم قال:

هنا كاين سيدك ماشي لالاك..

زاد منها اقترابا فمد يده وأمسك حلمة نهدها بأصبعيه كمن يريد سحقها وقال:ماذا عندك هنا؟

صاحت نجلاء من ألم، ولم تدر الا ويدها مرفوعة في الهواء ولطمة قوية تنزل على وجه القائد !!..

بسرعة ركلها برجله ثم نزع حزامه من وسطه، وظل ينزل على نجلاء بقفل الحزام بضربات قوية على الرأس والكتفين وقد تكومت في ملتقى الأدراج، نزلت زهور وهي تتوسله ان يرحم البنت من ضرباته فقد يقتلها بعد أن رأت دماء رأسها تفور؛وكلما توسلت زادعنف القائد أكثر؛أقبلت الطباخة تهرول وهي تستغيث بسيدتها التي لاحت من بهو الدار تستطلع ما يقع منبهة زوجها:

ـ كفى هل تحلم نفسك في "حبس قارا "؟ماذا فعلت البنت لتنال هذا العقاب منك؟

تراجع وحاول الانسحاب أمام صيحة زوجته وحضور خدم البيت خوفا من ان تتطور الأمور وهو يقول:

سأعود الليلة ولا اريد ان اجدها هنا وسيظل حسابي معها عسيرا..

بسرعة خرج وهو يلف حزامه على قبضة يده..

مدت صاحبة البيت يدها الى نجلاء، احتضنتها ثم قالت لها تعالي معي اريد ان اسمع ما وقع بالتفصيل بعد أن اضمد جروحك..

لم تبك نجلاء او تسمح لدموعها بجود، لكن مع الم السوط على وجهها وكتفيها ورأسها ودمها السائل، وبين انفاسها الصاعدة النازلة كانت حائرة هل تبوح بالحقيقة ام تطلب مغادرة البيت، في كل الحالات لابد ان يطولها القائد ولو عن طريق أحد كلابه، ولن يكون عمرها طويلا، خادمة تصفع القايد فهذا قمة التطاول على الأسياد، تستلزم القتل، اما و ان يخضع القائد أمها لنزواته وان يكسر شرف القرية بكاملها فذاك حق من حقوقه..

لا لن أصمت، كلنا أبناء تسعة أشهر، سأفجر الدلاحة وليكن ما يكون، لكن هل تصدقها صاحبة البيت؟وهل تشهد زهور بما رأت وتابعت من بداية الواقعة؟لا احد يرمي نفسه في جهنم، زهور قبلها هنا وتعرف كل شيء عن اصحاب البيت، وهم واثقون منها مؤتمنة على أسرارهم، فكيف تشهد لصالحها، تقطع رزقها وتعمي عينيها بأصابعها !!.. لم يعد لها شيء تندم عليه، منها ضاع الأب بقتل، وضاعت الام بفساد أخلاقي وسمعة سيئة، وضاعت القرية بإهمال حتى صار رجالها يتابعون نساءهم وهن يقتتن من أرحامهن ولا احد يحرك ساكنا جبنا وخوفا، ومن جبروت سلطوي، ما بقي لها شيء تندم عليه.

ظلت صاحبة البيت تنتظر ان تهدا نجلاء بعد أن توقف دم رأسها ثم عاودت سؤالها، ماذا وقع بالضبط؟

روت نجلاء الواقعة بصدق وقد تفاجأت من زهور بعد ان سألتها السيدة:

هل رأيت شيئا مما وقع؟

اتي رد زهور:من الاول الى الختام وما قالته نجلاء صحيح !!

قالت صاحبة البيت:

هذا حدث يجب ان يموت هنا وسأعرف كيف أعالجه مع زوجي..

انبرت نجلاء وفي محاجرها تجمدت دمعات:

الحديث لو انتهى هنا فسيظل يجر في قريتي ذيولا، جروح رأسى والم الضرب لاتساوي شيئا أمام جروح نفسي وكرامة أمي، وروح أبي في قبره..

جحظت عيون صاحبة البيت وقالت:

ماذا تقصدين؟

وشرعت نجلاء تحكي عن قتل أبيها، عن نظرة القايد لامها في الساقية، عن هجومه على كوخهم ليلا و ركوعه تحت أقدام أمها الى أن اسقطها في حبائله، ثم خروجها من القرية خوفا على مصيرها، والصدفة التي جعلت مي خدوج ترسلها الى هنا.. عن حديث "القوس" ليلة السهرة..

وتفاجأت نجلاء و صاحبة البيت تقول:

الان ادركت سر الرائحة، وأدركت سر حبسي بحديث تافه من قبل زوج من كانت مع القائد في القوس !!.. ديوث بلا كرامة ولا أخلاق !!..

نجلاء اجمعي ثيابك وكل أغراضك وسأرسلك مع سائق الى بيت والدي، ولن يستطيع مخلوق ان يمسك بأذى..

أخذت السيدة هاتفها، حدثت أمها قليلا، ثم طلبت أباها بالقدوم اليها..

وجدت نجلاء راحة عند والديّ سيدتها، كما وجدت نفسها في بيت أهله مسرورون بها، مما أصبغوه عليها من عناية لذكائها وخلقها، وقد أحست بعلو نفسها، فاختلاف الطقوس جعلها تتعلم الكثير مما لم تستطعه في البيت الأول، من تحضير تشكيلات متنوعة للحلويات وما تتطلبه من فن وإتقان، وطقوس الشاي وطريقة إعداده، وابداع في إتقان أنواع من الطبيخ الذي استلذه أهل البيت وشجعوها على مزيد من الابداع فيه، وكما قالت عنها أم سيدتها:

ـ نجلاء خلقت لتكون سيدة بيت لاخادمة..

بعد اقل من سنة عادت نجلاء الى مقرها الأول، لتحتفل بسيدتها التي تزوجت رجلا آخر بعد طلاقها من القائد، كان رجلا من اشرف أصول المدينة، ضاحكا بشوشا، وقد قدمت لها زهور العزاء في موت أمها، و أخبرتها ان القائد هو من تورط في قتلها بعد ان ذاع حملها في القرية وبعد شكه أن هي التي أرسلتك للانتقام منه، كما تم الحجز على المعمل الذي لم يكن يؤدي ضرائبه ولا يصرح بعماله وقد تدخل والد سيدة البيت وصاحبته بكل ثقله كقاض سابق مشهور الى ان أخذ القانون مجراه الطبيعي..

تألمت نجلاء لمصير أمها، فقد قضت بنفس مصير ابيها اتحدا في الموت قتلا، واختلفا في السبب، وقد أسعدها ان القرية قد رفعت عنها اللعنة بعد إضرابات شبابها وقومة رجالها، فشرعت تعرف نموا بعد بناء معامل للورق من الدوم كما تمت إعادة هيكلتها كمركز سياحي جبلي..

***

محمد الدرقاوي

 

 

برْحاءُ ضَمَّتْنا إلى برحاء ِ

ومعيشةٌ..

بنا تستبدُّ بأضنك ِالإشياء ِ !

*

وتُلينُ جانبها

لمن عاثوا بنا

واستغفلوا أيامنا

وتقاسموها شطارةً

واستفحلوا..بتجارة ٍسوداء ِ !

*

وتفارقوا بتوافق ٍ

ولكاعة ٍ..

ووضاعة ِ ٍالرخصَاء ِ

*

كلٌّ يزايد باسمنا

ويزيد في أوجاعنا

ويذر ملحاً

كي ينامُ

ولاتــنامُ من اللهيب ِبلادنا !؟

وتظل  دامية الرؤوس تَشُقُّنا

ونظل نخبطُ بعضنا

ليعضنا

ويقودنا

نحو المتاهة ِ

أتفه الأجراء ِ !

*

بَرْحَاءُ آلام ٍ

وإيلام ٍ

وأسقام ٍ

بما لا ينتهي ..!

هل تنتهي ؟

ونعيش يوماً

فسحة  الأمراء ِ!

***

محمد ثابت السميعي

 

 

على جَبلٍ من الأخطارِ كُنّا

تُحاوطُنا حَنافيشٌ ودُمْنا

*

بنا عَبثتْ حروبٌ دونَ جَدْوى

نقاتلُ بَعْضَنا والخُسْرُ إنّا

*

ثلوجٌ مِنْ تَحامُلِها عَليْنا

تُدَثّرُنا بأطنانٍ وعِشْنا

*

تمُرُّ بنا ليالينا برُعْبٍ

كأنّ النومَ قتّالٌ تَجَنّى

*

خَنادِقنا مَغاراتٌ بصَخْرٍ

بها عُمْراً على عُمْرِ حَجَرْنا

*

إلى قِمَمٍ بإجْهادٍ صَعَدْنا

ومِنْ قِمَمٍ على سُفُحٍ دَرَجْنا

*

تُراقبنا عيونُ الرصْدِ دَوْما

وتُرْدينا بما أهْدَتْ إليْنا

*

تَذكّرْتُ المَنايا حينَ طاشَت

تُخبِّطنا بعْشواءِ احْترَنّا

*

نَجيعُ شَبابنا رهنُ انْسِكابٍ

على رَمْضاءِ مَبْقولٍ تَشنّى

*

فكم طاقاتُنا ذهبَتْ لهَدْرٍ

وكمْ خَسِرَتْ بلادٌ أحْرَقتنا

*

نُكرّرُ فِعْلةً ذاتَ انْسِجارٍ

وما تُبْنا ولا مِنها اتْعَظنا

*

تَعيلُ شبابَها نيرانُ شرٍّ

تُحَنّذهم على حَجرٍ مُدَنّى

*

مَطالبهمْ بها أمِنَتْ حَياةٌ

فتحْبطُهمْ عَقابيلُ المُكنى

*

قسائمُ حَتفهمْ تُهْدى لأهْلٍ

وجُثمانٌ يُبعّثهمْ أنيْنا

*

يَديْ خَطّتْ شهادةَ مَنْ تهاوى

إلى حَتْفٍ يغيّبه ُحَزينا

*

يَطيشُ رَصاصُها والقتلُ نَصْرٌ

وما انْتصَرتْ وإنْ دارتْ سِنينا

*

صِراعاتٌ بلا جَدْوى ومَغزى

يُنازلُ غَرْبَها والشرْقُ يَضْنى

*

أحاطونا بليْلٍ مِنْ صَقيعٍ

تأسّرَ بعْضنا والبَعْضُ يَفنى

*

وجاءَ الصُبْحُ يُخبرُنا بصَوْلٍ

ومَعْركةٍ على جَبلٍ فغِرْنا

*

تَساقطَ بَعْضُنا طُعْماً لوادٍ

وسارَ البعضُ مَأموراً مُعنّى

*

تقدّمْ أنتَ مقتولٌ شهيدٌ

كذا صُنِعَتْ حُروبٌ تَشتهينا

*

وَثَبْنا نحوَ مَقتلِنا بجَهْلٍ

تؤازرنا العواذلُ فاحْترَقنا

*

وما بلغَتْ كما شئنا سلاماً

وقد ذبَحَتْ على نزقٍ فَطينا

*

ومنْ رُعُبٍ إلى رُعُبٍ خُطاها

تُمزّقنا وتجْعلنا طَحيْنا

*

جًحيمُ الليلِ في جَبلٍ أرانا

نجوماً ذاتَ نارٍ تزْدَرينا

*

هو الموتُ الذي فينا تَواصى

وحتفُ وجودِنا أضْحى القَرينا

***

فكانتْ جَبهةً فيها انْتِحارٌ

تُبادلهُ الأوامرُ إمْتِهانا

*

تبقّلَ رأسُها فحَمى وَطيْساً

وأشْعَلها وألقمَها ارْتِهانا

*

تَساقطَ جيلُها هَدراً وجُرْماً

فدربُ الموتِ قد أدْمى مُنانا

*

تسجّرَ عَقلها والقلبُ يَشقى

وقاضيةٌ كأرْقامٍ تَرانا

*

بَلغنا بَلغةَ الأرْدى كجَمْعٍ

لتأكُلنا جَوارحُ مُنتَهانا

*

أرى جُثثا مِنَ الآنامِ تَبقى

تُراقبُها لتقتلنا عِدانا

*

فلا أحدٌ يُحاول أنْ يَراها

عَدوٌّ قانِصٌ أشْقى خُطانا

*

خَسِرْنا من سَذاجَتنا رجالاً

وأشبالاً فطاشتْ مُبْتغانا

*

بخفَّيْها رجَعَنا مِثلَ بَدْءٍ

تُسائِلُنا عَواقِبُ مُنْطوانا

*

تذكرتُ المَواجعَ يومَ أجّتْ

على قِمَمٍ توطنَها أسانا

*

حُطِبْنا دونَ ذنبٍ أو لجُرْمٍ

وجَوْهرُنا تطامى مُسْتدانا

*

بها جارَتْ نوازعُ إسْتياءٍ

لسيِّئةٍ تؤمِّرُ مُحْتَوانا

*

لقد ماتوا وعِشنا باغْترابٍ

تُعذّبنا مَواجِعُ مُكْتوانا!!

*

فلا وطنٌ بنا يرقى عَظيماً

ولا شعبٌ تَسامى في رُبانا

*

تقيّحَتْ النفوسُ وما تشافَتْ

ومِنْ دُمَلٍ على بَعْضٍ حَنَقنا !!

***

د. صادق السامرائي

2\2\2016

.................

*من الجبال العاليات العاتيات في شمال العراق، أمضينا أشهرا على قمته النائية الزمهريرية القاسية البيضاء، وتفوح من حولنا رائحة الموت والدماء.

قفزَ اللاشيء في حضنِ الهاوية

على شفيرِ الفناءِ

سقطَ كلُ شيء..

الدُّموعُ تجلدُ ذاتها

بغصنِ رُمَّانة

أحلامٌ مؤجلةٌ تلحقُ

ريحِ الأملِ

*

أنا ابنةُ الوطن الذي لم يُولَد بعد

أحملُهُ جنيناً في أحشائي

*

شهقاتي صدى التُّراب

تتلولبُ أنفاسي ..

قلبي سقطَ  بين الحُفرات

*

أبحثُ عن كوخ ٍ سرمدي

كي ألِدَ فيه وطنَ البقاء

وأولدُ فيه عذراءُ  الخلود

*

أبحثُ عن فخَّارةٍ أُعتِّقُ فيها

دمي المُخَضّبْ

برقائقِ ياسمين الشَّام

من أثداءِ الضُّوءِ الأزلي

أقطرُ الصَّحوةَ بين شفتيه

*

إنه اليوم الثالث بعد الموت

إنها  الولادة الخضراء

لا للصَّلبِ .....ثانية

لا للموت .......ثانية

***

سلوى فرح - كندا

في مخيلتِي أنِّي سأقتَرِفُ مزيداً من الهَفَواتِ ….

سأحترفُ ساعات حزني

بدلَ انشغالي

بالثورة..

سأركضُ كغزالٍ هاربٍ من عين الشَّمسْ.. أتغنَّى بالمحرّمات كلها

وأنتهي في قمم الجنون..

أغالطُ حقائق الأشياء…

أمارسُ طقوسي السحرية

لتنهار تحت قدمي سلفيات الفكر العقيم…

وأراهم بعين الحق….

سكارى….

عراة….

أختلقُ لهم الهزائم ثمَّ ألوي الأكعابَ  بحبل كان في الماضي وصمة للعار…

سأحرق كلَّ القوارب البئيسة من شطِّ عزلتِي ..

وأصلب الأشجار  جدعاً جدعاً لأثقاب  الجدران..

أرخي على الجبلِ فورة غضب الأولياء..

نعم سينهار الدير والخلوة…

ويتدفق مداد الكهنة على الألواحِ…

نعم  سأحطم السَّرَايَا وصالات المتعة  وقاعات الخطيئة الكبرى…

سأعدم أدميَّاتي  بمسامري أنا

ليس بمعول جدنا المعظَّم ناهب سحنة الفرح عن السَّماء….

سأكنس الأرصفة من مصفاة السجائرِ..

من آثار الكسلِ..

من بقعِ الدمِ المغدور ..

وخزرة العملاء..

من اندسَّ منهم وماانجلى…

من بطش البذلة الموحدة وأصدافها وأصفادها…

سأنصب تمثالاً من الذهب لمن يزن ذهباً…

هذه الأرض تملكها الفراشات وتتَّسعُ للغائبين عن عرسنا…

لمن مشت أقدامهم حافية وسط الوحل…

لمن حوَّلوا الوادي أحمراً مقابل قطعة خبزٍ…

هي لسنبلة  احتمت بظهر النَّهرِ

حتَّى تنطَّرَ في اليد منجل…

نعم سأشحن بطارية مصابحي  بأعوادٍ هيَّأتها لموسم احتراقي…

وأعزمُ من  كلِّ فجٍ عميقٍ

جاراتي

وأطيافي…

بائعة الخبز بالحارة..

حفظة ألغاز الطير..

ونكسُّر السَّاعات..

ونقوِّمُ العاهات..

وأمسحُ تجاعيد الوقتِ عن الوجوه..

أمَّا عن وسادة السلام فلكلٍ منَّا شجرته الأصلُ…

يستظل بظلها…

يستأنسُ يهذبها

ويستبيحها للشهوة والتَّشهي….

***

عبد اللطيف رعري

01/03/2023

منزوياً في مارستان للأمراض النفسية أنتظر إخلاء الممرات من المرضى، لنرصعها بمزهريات مختلفة احتفالاً بعودة الروح للجسد لشاعرٍ أحسَّ أنّهُ لا يشبهُ باقي الشعراء…قد أكون أنا المعني بأنانيتي وقد يكون شاعر آخر في مكان ما…

 

في جلسةِ شواءٍ مع زُمرةٍ من الصَحبِ، حين هربنـا من وَخْمَةِ برلين إلى ضفة النهر..

كَرَعنـا ما تَيسَّرَ من "الزحلاوي" وآثرَ أَحدُنـا "إبنَةَ العِنَبِ.. ولَمّـا إنتصفَ الليلُ، وغدا الهواءُ عليلاً، طابت النفوسُ..

- زُرنـا بلقيسَ، كانت تُلمِّعُ خُلخالَها، قبلَ أَنْ تدخُلَ على سُليمانَ وتَكشِفَ عن ساقيها ...

- صعدنـا سفحاً، ودخلنا كهفاً، فوجدنا "أهله" نياماً .. لَمْ نُعكِّرْ رقدَتهم ..

- زُرنـا بِـلالاً، أَيقظناه .. كـي لا يفوتَه أذانُ الفجر، لأنَّ الخمـرةَ أَثقَلَتْ رأسه..

- مَرَرْنا سِراعاً بدارِ أبي سفيانَ، لكننا لَمْ ندخُـلْ..!

- ومن وراءِ، ما لا أدري كمْ من الحُجُبِ، زُرنـا أُمهات المؤمنين،

وجدناهن شَمطاواتٍ، إلاّ عائشة وزينب .. كانتا حلوتينِ تسلبان العقلَ،

بَضَّتَينِ، فيهما عَبَقُ أُنوثةٍ طاغية..

- رأينا أبا ذرٍّ يَتسوَّلُ تارةً عند بابِ بن عوف، وأخرى عند بابِ أبي سفيان !!

- زُرنـا الحلاّجَ .. لَمَمْنا ما قَطَّعه بنو العبّاس من جسده، نَفَخنا فيه.. ولمّا إعتَدَلَ، أَهديناه نظّـارةً من ماركـة " أبولو " وإشتراكاً كي يسوحَ مجاناً في "الشبكةِ العنكبوتية"..

- زُرنا سرفانتس، وجدناه مُنشغلاً، على ضوءِ سراجٍ كليلٍ، بمخطوطة لسيدي أحمد بِنغالي عن دون كي خوته، فلمْ نُزعجهُ،

- أبصرنا مولانا جلال الدين الرومي يَرقصُ الهب هوب، لكنه تَعثَّرَ بجُبَّته فسقطت عمامَتَه،

- رأينا بروميثيوس یرتعشٍ عارياً تحتَ الجسر في كرويتسبرغ، يتسوَّلُ وَلعَةً لسيكارة حشيش تُرتجفُ بين أصابعِه... فصَعَدنا الأولمب ورمينا بصندوقة پاندورا عند قَدَمَيْ زيوس !

- زُرنا فيدريكو لوركا، نَزَعنا الرصاصَ من قفاه، فأنْشَدَ لَنَا غجريته " أمبارو "(2)

- زُرنـا بول روبسن، طَمَعـاً بواحدة من إسطواناته، أحالنـا إلى لِيوِي أرمسترونغ، ونام..

- زُرنـا ماركس، فأَخبرَنـا أنـه ليس ماركسياً (3)

- رأينـا عصـا موسى، نَخَرَهـا السوسُ من الداخل ..

- أبصرنـا خبزَ المسيح في عيـونِ الجيـاع..

- ورأينا ما لا أجرؤُ على البوح به ....!

لكننـا لَمْ نَزُرْ حاتم الطائـي، كي لا يُفَتِّتَ لنا شحمَ فَرَسِه..

***

الحاناتُ نامت فَرْطَ السَهَر،

بائعاتُ الهـوى ذهبن يُجرجرنَ أَذيالَ النُعاسِ، بعدَ ليلةِ عملٍ شاقّة..

الدجّالونَ بائعو الأوهام حملوا حقائبهم بخفةِ لصوصٍ مَهَرَةٍ، ليدفنوا رؤوسهم في وسائد توفِّرُ لهم أحلاماً بصيدٍ سهلٍ في اليوم التالي .

وهكـذا عُدنا، قبلَ أَنْ يَقرِضَ الفجرُ الليلَ .. ويرحلَ آخرُ قَطـارِ مترو !

***

یحیى علوان

.....................

(1) (الوخمة: قيظٌ شديد مصحوبٌ برطوبةٍ عالية (عاميّة عراقيّة، بصرية تحديداً، لأنَّ البصرةَ تقعُ على فم الخليج العربي).

(2) آخر قصيدة له، كتَبها قبل يومٍ من إعدامه على يد الكتائب الفرانكوية الفاشية .

(3) قالها في معرض نقده للإشتراكيين الفرنسيين، لاسيما صهريه بول لافارغ و شارل لونك.

 

من مرآتي تخرج سمكة

تقفز في هلع

طوال الوقت

ولا تموت

تهزم الرتابة المرسومة

على وجهي

أرفع حاجباً

وتتسع عيناي

في دهشة ...

*

على حافة نافذتي

ليلة ترقص

من دون دف

ولا تتعب

همس القمر في أذنها

انك أجمل النساء  ...

*

في غرفتي مساحة

للجنون

ينثر كل محتويات حقائبه

ولا يسألني الإذن

ينام على وسادتي !!!

لذا يضج رأسي بهفوات صغيرة

أن أفتح حديثاً مع تلك السمكة

أو

أن أقف على الحافة

لأشارك الليلة المُغرمة

الرقص ...

*

في كلا الحالين قد أبدو مجنونة

ولكنني أحتاج هذا

الجنون

لأدرك مالا يدرك

لأستحم في ذلك البحر

وأخرج مبللة الشعر

لأؤكد لمن حولي أن داخل المرايا بحار

أحتاج أن أصدق

همسات الغرام

لأرقص حافية في قلب الليل

من دون خوف ...

***

أريج محمد أحمد - السودان

 

في نصوص اليوم