نصوص أدبية

نصوص أدبية

المساء يقترب وسطح البحر الصاخب يظهر للعين المجرّدة كأنما هو يُخبّئ عاصفة تنذر بخراب آت.. ولا بدّ منه. هناك على الشاطئ تبدو نقطتان بعيدتان مثل قفتين وضعهما مجهول مسرع على حافة الماء ومضى ناسيًا اياهما. إذا ما اقتربت أكثر سيسعفك ضوء القمر الشحيح لتراهما وكأنما هما صيادان ماهران يلقي كلٌّ منهما بصنارته إلى الماء بانتظار الرزقة المقبلة. أنفاس كل منهما تتلاحق ارتفاعًا وانخفاضًا، وكأنما هي ارتبطت بسمكة بوري او انتياسة أو.. قردة، تتلقفها صنارة عمياء في غفلة من عين الماء العلوية.

أحد هذين رجل وعد جارته الارملة بأن يأتي لها بفرش يلعب فيه السمك بذيله حُبًّا وفرحًا بالحياة، والآخر فضّل ألا يقول لزوجته إنه ذاهب إلى البحر للصيد وضمر بينه وبين نفسه، أن يفاجئها باسماك طالما حدّثها عنها دون أن يريها إياها. "هذه الليلة سأضع بين يديها مفاجأة من عيار ثقيل". قال في نفسه وهو يرسل نظرة آملة.. رانية إلى رفيقه الذي تعرّف إليه قبل فترة ورأى فيه الرُبّان المخلُص لسفينته من لجج حياته العاتية.

"شوف الصنارة بتهتز بايدي.. شكلها غمزت"، قال أحد الصديقين، فردّ الآخر وهو يرسل ابتسامة من طرف فمه:" وشو بتستنى.. قلتلك لما تغمز صنارتك.. اسحبها واش واش شوي شوي.. انتبه.. إذا تسرّعت بسحبها.. بتفلت حبّة السمك منها".

ما إن استمع الصياد إلى هذه النصيحة من رفيقه، حتى بادر إلى جذب صنارته باتجاه صدره بنوع حافل باللطف الحنون، غير أن عنادًا غريبًا ركب الصنارة فلم تستجب له. رغم أنه كان يتمنّى طوال الطريق من مشارف الناصرة حتى أطلالة البحيرة، يتمنّى أن يتمكّن من اصطياد ولو سمكة واحدة تُثبت لزوجته أنه رجل ومن أهلها من ناحية، وتؤكد لرفيقه أنه جدير وبإمكانه أن يفاجئ العالم بما اذخره من حظّ وحرفية من ناحية ثانية. رغم هذا كله فقد وجد نفسه يطلب المساعدة من رفيقه:" شكلها السمكة كبيرة.. تعال ساعدني في سحبها". خفّ الصديق لنجدة رفيقه المستغيث به، أمسك بقصبة الصنارة، شدّها الاثنان معًا. قال المُغيث لرفيقه إلى جانبه:" فعلًا شكلها انتياسة كبيرة.. الانتياس عنيد وكبير راس.. لازم نتحلّى بالصبر.. الصيّاد الماهر لازم يكون صبور..".

تقدّم الليل إكثر نحو عتمته، ومضى الاثنان يحاولان استخراج الانتياسة المجهولة من أمواهها الصاخبة، وفي خاطر كلٍّ منهما أنها ستصير بعد قليل معروفة. الصياد الهُمام الاول أضمر أن يقدّمها وجبة دسمة إلى جارته الارملة الحبّوبة لتحنَّ عليه، في حين برقت عينا الآخر وهو يفكر في زوجته وفي مفاجأتها المذهلة بانتياسة دسمة تأكل منها عدة أيام وتتذوّق طعم السمك الحقيقي. الاول فكّر في أن يستبق الامور فيشترط على رفيقه أن يتقاسماها، غير أنه عدل عن اقتراحه.. قبل أن يغادر فمه بشعرة. أما الآخر فقد خطر له أن يتقاسمها معه، سوى أنه ما إن تخيّلها وهي تلعب بذيلها حتى عدل عمّا خطر له.

في هذه الاثناء كان وجه كلّ من الصيادين صافيي النية كلٌّ تجاه الآخر، ينشدّ حينًا ويرتخي آخر، غير أنك لو تمعّنت في وجهيهما سترى التوتر الشديد وقد افترش مُحيّاهما.

"شد يا اخوي". قال الصيّاد الاول، فردّ الثاني:" مش قادر اشد أكثر.. بخاف إنها تفلت".

الوقت يمضي والاثنان يشُدّان حينًا ويرخيان آخر، على أمل أن يكون ليلهما طويلًا طويلًا، من منطلق أنّ كثيرَ اللقاء بأسماك البحيرة.. كان قليلًا. إنهما يحرصان على ألا تفلت تلك الانتياسة المباركة من بين فكّي صنارتهما السحرية، لهذا اتفقا على أن يتحلّيا بالصبر الجميل وطولة الروح، في هذه الاثناء خطر لأحدهما أن يتحدّث عن الشيخ سنتياغو، وكيف أن سمكته علّت قلبه قبل أن تغادر بحرها، وعندما تذكّر أن سانتياغو شيخ همنغواي العظيم، وصل بها في النهاية إلى برّ الامان هيكلًا عظميًا، ابتلع القصة ولم يفه بأية كلمة منها، فعل ذلك من قبيل الحيطة المطلوبة في حضرة البحر، والحذر المرغوب به في حضرة أسماكه. أما الصديق الآخر فقد فكّر في أن يروي قصة قديمة عن صيّاد منكود الحظ دارت عنه وحوله، إحدى قصص الف ليلة وليلة. مُفاد هذه القصة أن صيادًا رُزق ذات مشوار بحريّ بسمكة غريبة الشكل واللّون.. قلبت حياته رأسا على عقب. سوى أنه ما إن أحس بكلمة.. قبلت حياته.. هذه، حتى ابتلع ما تبقّى من كلمات القصة.. وعاد إلى صمته الليّلي.

نسي الاثنان أن هناك من ينتظرهما في ناصرتهما الغاطّة في نومها، الأول نسي تلك الأرملة الحبيبة المنتظرة تنفيذ وعده، في حين أن الآخر نسي زوجته وما أراد أن يُنعم به عليها من مُفاجأة سَمكية، تهتزّ لها جدران البيت وربّما سقوف الحارة.. ويتحدّث عنها الحُداة والرُكبان. الكثير من الكلام أراد أن يخرج من فم كلٍّ من الصيادين الحالمين، إلا أنه توقّف قبل أن يغادر بقليل، انتظارًا لانتياسة قلّما حلُم بها صيادو المنطقة. انتياسة قذفها البحر الابيض المتوسّط إلى فم البحيرة الطبَرانية الحالمة.. لتكون هِبة الامطار الغزيرة لصيادَين هاويين.. ومحبّين أيضًا.

"أرجو أن نتمكّن من احتضانها قبل انتهاء الليل". قال الاول، فردّ الثاني "على إيش مستعجل.. الانتياس بستحق.. أكثر من ليلة".

مع هذا.. واصلت الانتياسة الغالية مشاكستها الليلية لصياديها العنيدين، بل قُل المؤمنَين بحاجتهما للصبر من أجل أن يحقّقا حُلمَهما.. ويحظيا بإطلالتها البهيّة، وواصل الليل رحلته نحو نهايته غير عابئ بما يجري بين صيادين هاويين وانتياسة مجهولة تقبع في قلب الغيب، حتى وصل إلى هزيعَه الاخير، فاشتدت الظُلمة واشتد بالمقابل أمل كلٍّ منهما بالفوز.. ورويدًا رويدًا لاحت تباشير الفجر الاولى.. ليتبيّن الصيادان الآملان.. لمفاجأتهما غير المتوقّعة، أن ما علق بصنارة أحدهما ما هو الا شبكة قديمة ملأتها الطحالب البحرية.. وفغرا بالتالي فميهما.. كأنما هُما بُحيرةٌ وبحرٌ من عالم آخر.

***

قصة: ناجي ظاهر

 

ما الذي يعرفه العصفور عن قلق النمور

قالها وانصرف محمد محسن

الذي ياسره  طفل اللحظة

موت الآن

ومازال يحاول حل طلاسم

فقدان الصدفة بوصلة الأحساس

قالها وهو يحزم أمتعة اللذة

ويخادع صمتا

يمارس عمله وسط ضجيج اللاهين

وهو يدخن رغبته

في افق الوطن

ذاك اليقلق من اختباء حقائق هذا الكون

في غصة طفل يستجدي بتقاطع سوق الگيارة

وينتقد اللامعنى حين تستاصله الرغبات

لم يقف الى جنب سدنة التاريخ الكاذب

الذين اورقوا كشجرة سامة

وتطحلبوا مثل الموت

ويدورون كدورة حياة الضفدع باستمرار

لم يخدعه الذين يتحدثون بوجهين

وينسون احدهما في لحظة نسيان طاهرة

ما الذي تعرفه العصافير عن قلق النمور

هو استبطان  للغتين، تنتصفان عند شروق المعنى

ومحاولة اقتحام خلوة وجودين

يستحمان برغوة ذاتهما

وما بين الرغوة  ورؤوس الدبابيس الشائكة

يقبع طفل الوجود الخائف

يمارس محمد محسن نقده

بين اغماضة طفل، وبين الغيض المتقد بداخلنا

بين حدة سكين شرهة

وبين استسلام البطيخ لمصير الخاصرة الرخو

يتوقف، كان كثيرا، كي يفكر بالركض

ويمهل ذاته ان تبطىء باستمرار

كي يقفز معنى الكهل

ويظل يفكر بذاك المعنى ببطىء

***

ا. د. رحيم الساعدي

لاشيء اكثر بؤساً مثل ما أجدُ

ليت التقاعد يا اختاه يبتعدُ

*

أحاور النفس ما ابقى لنا زمنٌ

مشى التبغددُ حتى سامه الكمدُ

*

في الليل آهٌ وفي الأصباح منغصةٌ

وفي صدى الطرق مايشقى به الوتدُ

*

دعِ التقاعد ليلٌ ماله أمدُ

بلواه بلوى مع الأمراضِ تتحدُ

*

حيث المرتب لايغنيك عن ألمٍ

وحيث يجفوك من قد كنت تعتمدُ

*

تنهارُ اجزاؤك الأخرى بلا ألمٍ

يموت جزءٌ وجزء منك يزدردُ

*

جميلُ ثوبك يغدو رثَّ أمنيةٍ

مشى بها الكأسُ حتى ملّهُ الرشدُ

*

الموتُ أقربُ ماقد كنت تحسبهُ

ترجوه حيناً وحيناً يلعبُ الحَرِدُ

*

ينذركَ جزءٌ من الأجزاء في عطبٍ

فيستغيثُ بأجزاءٍ له تجدُ

*

ليت الغرام الذي قد عاد ثانيةً

يغادر اليوم حياً مابه أحدُ

*

وليت صرح الهوى ينهارُ آخرهُ

إن كان اولهُ نارا ستتقدُ

***

محمد الذهبي

 

 

تلك هي حكايتنا.. لدي هوس الكآبة في هذا التأريخ.. اليوم استلمت راتبي ولا أدري لماذا قطعوا عشرين الفا منه وهذه حكاية كل شهر احيانا اكثر وأخرى أقل ربما البعض يعده مبلغا بسيطا لكني اشعر بالغبن والتجاوز ليس على راتبي انما على كرامتي وحين سألت موظفة المصرف أجابتني.. عليك بمراجعة الدائرة المختصة بإصدار بطاقتك.. الدائرة تبعد عني عدة كيلو مترات.. اما جواب الدائرة فكان راجعي بعد اسبوعين.. أعترف اني أشعر بالخجل لما آلت اليه أوضاعنا.. لذلك تناسيت الموضوع تجنبا لإصابتي بصداع شديد..

تذكرت قائمة المشتريات التي سجلتها لي ابنتي.. انشغل تفكيري بأمور عديدة حتى لم انتبه للمكان الذي سرت فية.. أوقفت السيارة للتبضع.. كان دخولي بالجهة المعاكسة للسير.. ربما بسبب الضجيج والحركة الغير طبيعية للسيارات في الشارع وذلك لتغير مسار الطريق فقد كانت هناك تحويلة مؤقتة من أجل ترقيع الحفر الموجودة فيه لذلك أستوقفني شرطي المرور قبل مغادرتي للمكان ولصق ورقة على السيارة لغرامة مالية.. الحمد لله.. ما هذه الاحباطات التي نزلت فوق رأسي.. قلتها بعصبية مفرطة لكن هاجسي يقول.. بان الجميع يعانون مثلي.. وكل منا لديه قصة أغرب من قصص الف ليلة وليلة..

كنت أسير ببطء شديد لأستعيد نشاطي وحيوتي.. لكن شيئا ما استرعى انتباهي فمن بعيد لمحت وجه صديقتي انها مفاجأة غير متوقعة لكنها جعلتني ابدو سعيدة نوعا ما.. آه انها نجاة.. صديقة الطفولة والشباب.. تمتلك روحا طيبة وتتحدث بأريحية محببة وتميل للمزاح دائما.. كانت تقف على الرصيف في انتظار سيارة.. عندها نسيت مسألة غرامة المرور والعشرين الفا وحتى أخبار الفيس بوك (صعد الدولار.. انخفض الدولار) يا لها من لعنة ممقوتة حلت بنا.. على كل حال تفاءلت خيرا برؤيتها.. أوقفت سيارتي حين اقتربت منها.. صعدت بجانبي ووجهها يتهلل فرحا مثلي تماما.. تبادلنا العناق والتحية والسؤال والجواب عن أحوالنا وأبناءنا.. وطالت احاديثنا بشتى المواضيع ثم تذكرنا ايام طفولتنا التي لا تنسى والمواقف المضحكة التي كنا نمر بها وكيف ان جارتنا العجوز التي تسكن وحدها في بيت كبير موحش يحتوي على غرف كثيرة وباحته الوسطية مفتوحة على الفضاء الخارجي.. كنا نزورها دائما ولا ندري ما الذي يشدنا لزيارتها المستمرة ربما تعاطفا مع وحدتها مع انها لم تطلب منا ذلك.. لكنها كانت تحدثنا عن خيانة زوجها الذي لم تنجب منه وكيف كانت تهتم به وترعاه كأنه ابنها ثم غدر بها وتزوج من امرأة أخرى.. تلعنه وتشتمه بأقسى الكلمات ثم تقول بصوت خفيض انه الآن في قبره وبالتأكيد يسمعني..

كانت عجوز شرسة وقاسية وكانت تستهوينا شراستها وقسوتها.. وبفضل معجزة من السماء ان نضع اقدامنا على دكة الباب ونهرب بسرعة البرق ان سمعنا صرختها المدوية في ارجاء المنزل في حالة تبدي انزعاجها منا.. قلوبنا تكاد ان تخرج من صدورنا خوفا وترتجف أبداننا رعبا..

والغريب في الأمر ان نجدها أحيانا أخرى عجوزا وديعة وهادئة ولا ندري انها مثل أبن آوى حين يخطط لأمر لصالحه.. نعم كانت تكلفنا ان نقوم بأعمال شاقة لتنظيف دارها أو غسل ملابسها وأوانيها غير عابئة بطفولتنا وبراءتنا وكنا نساعدها بسخاء مفرط ونقوم بتلك المهمات ونحن نشعر بسعادة غامرة نضحك ونمرح ونغني لها اغنية ست الحبايب.. وهي تبتسم لنا وترفع يديها بدعوات مباركة لنجاحنا في المدرسة.. تسألنا عن أخبار اهلنا ونفرح حين نسمعها تمدح امهاتنا وعوائلنا..

وبعد برهة من الزمن تشعر العجوز بالتعب والنعاس وتبدي لنا رغبتها بالنوم لكننا وبعمرنا الطفولي لا نقدر ذلك ونبقى نلهو ونمرح وضحكاتنا العالية يملأ صداها غرف المنزل.. وهنا تمسك بعصاها وتطردنا شر طردة وتسمعنا كلمات نابية وتلعن جميع أهلنا.. حينها نستخدم أقصى طاقاتنا للهرب.. ولكن بعد مرور عدة أيام ننسى كل شيء ونعيد الكرة ثانية لزيارتها..

ضحكنا انا وصديقتي كثيرا حتى سالت دموعنا فشعرت كأنني طفلة لحد هذه اللحظة ومما اسعدني أكثر ان صديقتي ما زالت تحتفظ بصفة مرحها الدائم وتعليقاتها المثيرة للضحك رغم ما تعانيه من تعب في تربية أولادها الأربعة بعد وفاة زوجها..

كنت اسير وئيدا لإطالة الوقت معها.. توسلتها لضيافتي فبدرت منها ابتسامة مريحة للنفس مع كلمات شكر وامتنان ثم قالت ان أولادها بانتظارها لتحضير وجبة الغداء.. وحين وصلت صديقتي قرب دارها ودعتني بقبلة ونزلت.. تابعت السير الى داري وعند نزولي من السيارة افتقدت محفظتي فلم أجدها بحقيبتي ولا بالسيارة.. بحثت عنها وعدت للسيارة مجددا فلم أجدها.. رانت على روحي كآبة موجعة !! فتح أولادي الباب ثم تسمروا بمكانهم فهم يقرأون ملامحي جيدا

يا الهي.. لا أحد صعد معي سوى صديقتي نجاة.. أيعقل هذا.. لا والف لا انها فكرة مرفوضة ومستحيلة اذ اني أعرف اخلاقها جيدا.. أذن يتوجب البحث مجددا في السيارة وفي الحقيبة وافراغ كل محتوياتهما واحدة بعد الأخرى.. وبعد ان تعبت تماما اتكأت على حائط بجانب باب داري.. وأنا أضرب كفا بكف ولا اعرف كيف اتصرف تاركة باب السيارة الامامي مفتوحا.. حاولت وبشتى الطرق ان استرجع جميع خطواتي من لحظة استلام راتبي وحتى صعودي الى السيارة وكذلك حاولت ان أتذكر تحركات صديقتي هي الاخرى ثم غاصت روحي ندما.. وتعوذت وأستغفرت ربي ( ان بعض الظن أثم ).. لم يبق أمامي سوى دعاء الله ان يخرجني من هذا المأزق..

وفي تلك اللحظة سمعت صراخ ولدي منبها اياي لما فعله اخوه الأصغر منه.. ها هو طفلي الصغير ينثر الدنانير فوق الارض وهو يقول هذه فلوسي ولا اسمح لاحد ان يأخذ شيئا منها.. عندها تنفست نفسا عميقا وانتابني فرح غامر ثم شرعت بالتقاطها واحدة بعد الاخرى.. وسألته اين وجدتها ايها اللعين.. ؟؟ وكيف صعدت للسيارة دون ان اراك.. !!.. فأجابني بهدوء وبصوت خفيض.. هناك.. واشار بيده الصغيرة على مخبأ بين الكرسي وحافظة السيارة..

فشكرت الله كثيرا.. ليس لأني وجدت راتبي.. ولكن الحقيقة اني وجدت صديقتي..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

 

رفع الطبيب صوته ناصحا:

- كم مرة أخبرتك سيدتي ان الانفعال يضرك، عليك ان تكوني هادئة في تقبل الأمور.

- فلت مرارا انك يجب ان تطيعيني، فانا رب الأسرة وأنت عاجزة عن القيام بأي شيء.

هي في صراع بين ما تتطلبه الصحة من إتباع تعليمات الطبيب وان تحافظ على بناء الأسرة التي أخذت تنبيء بالانهيار

- خذي الأمر ببساطة واخرجي وتمشي وتمتعي بدفء الشمس والهواء النقي تنفسي بعمق، ولا تدعي المتاعب ان تهز كيانك.

- حين أقول شيئا عليك السمع والطاعة صحيح انا اعمى لكني اشد بصيرة منك.

تستحي ان تحدث أحدا بمتاعبها، مضى العمر سريعا ولم تر طعم الراحة، كل وقته صراخ وعويل وارتفاع بالصوت يسبب لها التوتر وانعدام الرؤية وعدم القدرة على التحدث بشيء مما يرعبها ويقض مضجعها، لم كل هذا؟ وماذا جنت ؟حتى تعاقب بهذا العقاب الذي لا ينتهي مهما بلغت من العمر، دائما هي الفعالة والمبادرة،قامت بنجدته حين سقط أرضا وسارت به نحو الطبيب الذي فحصه واخبرها انه بحاجة الى عملية فهل بامكانها أن تجريها في مستشفى حكومي أم تبقى هنا حيث المستشفى الأهلي والرعاية الضرورية، تناست ما بها من متاعب صحية واسرعت لنجدته كما تتطلب عشرة العمر.

- لم تفعلي شيئا من اجلي ولم تسرعي، كما تهرعين لآمر عزيز عليك، وها انا اعمي بسبب تقصيرك.

قالت جارتها:

- لولاك لفقد عمره ولكنك عجلت في الذهاب به الى الطبيب ففقد عينيه وكان قبل ذلك قصير النظر يشكو من أمراض عديدة مزمنة،ولا يرى بوضوح كما ترين انت.

- ماذدا يتعبك سيدتي ؟أجدك لا تتقدمين، هل أنت مواظبة على اخذ العلاج ؟

- علاجي يتطلب نقودا كثيرة وأنت بخلت بها علي. ماذا تنقصين ان صرفت على علاجي من راتبك، فهل تقولين انك تصرفينى على الايجار والطعام، اضافة الى ما تقومين به، ام انك ترين اني لا أستحق ؟

كانت مدينة لأشخاص عديدين، للقيام بالعملية وإجراء العلاج، واثمان العناية المركزة وبقيت تدفعين لمن وقف بجانبك واستلفت منه النقود، كل شهر تدفعين فسطا من راتبك، وهو يبالغ في لومك وتقريعك، أنت حريصة على صحتك كما تحرصين على صحة من يرافقك في الحياة لكنه لا يرضى بما قدمت له.

- عليك ان تطيعيني فانا اعرف بمتاعب الطرق وتعرجاتها، وانت امرأة بلهاء لا تدري ما الذي يسيء اليها وما ينفعها؟

حرصه على مصاحبتها أينما تذهب اثأر استغراب الأصدقاء والمعارف، فهو الأعمى يذهب معها الى اي مكان تريد وعليها ان تجلسه في مكان يريحه، ويجلس مع الصديقات ويسمع أحاديثهن وهذا سبب إحراجا لها وللصديقات.

- ما الذي يتعبك سيدتي؟ أحسن الدواء هذا الذي وصفته لك. والدواء لا يمكن ان يشفي الا اذا أراد المريض الشفاء.

- يجب ان تقوذيني حين اسير معك فانا أرى ببصيرتي وأنت البليدة لا يمكنك ان تري.

تنفسي بعمق سيدتي المتاعب لن تكون قادرة على هزيمتك،الا ان رغب بالانهزام. وسوق ترين الهموم وقد انجلت والفجر آت لا محالة.

***

صبيحة شبر

15 شباط 2023

قبل هطول مطر يناير

كانوا يمدحون الظلال

اخذتهم خطاهم إلى مدن الثلج

والرماد

ليس في دفاترهم حكايا الرحيل المباغت

إلى الملكوت

اصواتهم تجاوزت الشرفات

قبل مجيء الغروب، يأتي الغرباء

ذاهلين تراهم عيون العسس

حالمين بالافق والتلال البعيدة

كانها منارة امراء الحرب قبل ضياع

الفريسة

هنا وصايا الولد العنيد تكتبها سواعد

فتيان الرصيف

لم نر في وجوه العابرين

دهشة الأجداد حين غابت عنهم حكايا

الولد الأسير

كثير من نبيذ الشرق على طاولة الذكرى

قليل من بياض الروح حذو النهر المتاخم

للحنين

*

قيل لاولاد الروابي انهم جاؤوا من ضفاف

المدى

ليس لهم في المدينة ذاكرة وأحفاد

لا يخافون من الأنواء

لا يهابون الضجيج الطالع من افواه

السفهاء

لا مكان لهم في مشهد الغيم المتناثر

في الزوايا

ربما خذلتهم الأجساد

و تبعثرت ألأوراق

بامكان القوافل الآتية من بعيد

أن تحفر في دهاليز الزمان

للمدى ذاكرة وانوار

للصدى إنفتاح المسافات على بهاء

الصياح

للريح الآتية من جنوب الأقاليم

ولد جسور وصبايا ذاهلات

هنا حبري وغضبي وذاكرتي ودعاء الأمهات

إحداهن إسمها آمنة

كانت تقول لي فجر كل يوم:

أكتب يا ولدي

ولا تلتفت إلى الوراء

حبرك محلق في سماء الينابيع

أكتب أيها الآتي من الزمن البعيد

ولا تخف من سفهاء المرحلة

في البدء كانت الكلمة ونوارة الروح

ربما نسي الأحفاد ذاكرة الأجداد

و صار المكان القصي ملاذا للعابرين

هنا قريباً من الصدى ينام الفتى

بلا حقيبة باذخة

ولا مدد يأتي من الأنصار

لا خوف في الجسد النحيل

لا افق تراه العيون

لا أمل في القادمين من الأنفاق

كانهم جاؤوا من زمن بعيد

يحملون على الأكتاف بهاء اللغة

المشتهاة

هنا حبري ودمع الرجل الشريد

لم نكن وحدنا في لهيب العاصفة

كانت معنا الرياح اللواقح

ذاكر الأيام

إنفتاح الكلام على ورقات الحنين

إخضرار الشجر الحزين

قبل هبوب العاصفة

رحيل الخطى إلى الملكوت

*

للجسد الغارق في المتاهة

آهات وصيحات الآتين من الأقاصي

قبل مرور الشاحنات تباغتني امراة

النور بالسؤال اليتيم:

كيف صار المشهد قريباً من الغيم

و البلاد صارت سرابا....؟!

ستبقى أصوات الرعاة ملاذا للعابرين

هنا سرب من حمام الشرق

يعبر الأقاليم

على الأجنحة ذاكرة الفيافي

وإرتمام الجسد في النهر المتاخم

للرخام القديم

***

لبشير عبيد - تونس

28 فيفري / فبراير 2023

 

في عينيك

اكتشفت مجدي

حلما بلوري اللون

فقلت للحياة:

السُّؤدد في مقلتيها

امتداد للحقيقة

الخالصة...

*

يا روعة التوحد

في رَشْف الكأس

المُعتقة...

يا صحوة القلب

في رسم الخطى

الشّاردة..

*

أَعْبرُ الى زمنك

الوردي

فأقطف ثمار

حلمي اللذيذ

كًمّثرى

وشطائر موز

أحتمي باليقين

وخلاصة الحقيقة

واِنبلاج الفجر.

أُطارد غيمة

مبتسمة ..

أعانق نجمة

خضراء

أرتشف فنجانا

من شفق

وألملم على سبابتي

خيوطا من نور

أمد شراع مركبي

وأبحر في محيط

الوهج....

*

أفتح شرفات

تطل على حقول

الوجد

وانساب

كهبة نسيم في مجرى

الورد..

اعلن للفراش الهائم

بدء موسم الرحيق

ولقُبرات الميلاد الابيض

موعد السّفر

الى جزر العُنفوان..

*

وكما حَدث وقيل

في سفر الكمون

أحتفي بقطرات

النَّدى

وعناقيد السنا...

وأدون على رقّ

الاِنشطار

أجزاء وميض

لا ابعاد له

***

محمد محضار

2009

 

في قيلولة الشفق

ارى شعلة الحرائق

تمتد نيرانها على مدى النظر

فتحرك الذكريات البعيدة

لتطفو على بحر آلامي

انه الحلم القديم الجديد

يتسلق كالشبح اكتافي

أتأمل نفسي في وحشة الطبيعة

قدمايَّ تثبتان في مكانهما كالمسمار

صوت يتناهى من مكان ما

حسبت من يناديني باسمي

صراخ ينبثق من عمق التراب جروح

تعبنا من ظلم الزمان

ومن اهانات لدمائنا النازفة

وتضحياتنا من أجل الحرية

الى متى يبقى الوطن مهزوماً

والشعب تحت السياط مهاناً

وقفت مشدوهاً من هول الخجل

أصابني البكم

لا املك تبريراً في الرد على تضحياتكم

سوى انها ذهبت هباءً منثورا

وشقاء لنا نحن الأموات الأحياء

الضمير حذفت من قواعدنا اللغوية

اليوم احتل المال منصة الأخلاق

يتهافت الجميع لا لبناء الوطن

فأملاء الجيوب على حساب الشرف

غدا ثقافة اللصوص منهجاً في عالم السياسة

***

كفاح الزهاوي

 

في مدينتي فاجعة

صوتي مخنوق

هنا في الأبعاد،

صوتي شبيه

بتلك الأصوات الكتيمة

تحتَ الرّكام والأنقاض.

*

دقيقة واحدة

من فعل الطبيعة،

دقيقة واحدة

ومصير أليم.

*

قولي لي

أيتها المدينة

هل ما أراه حقيقة؟

أجل يا أختاه

إنها حقيقة مُرّة،

قولي لي

إني أعيد النظر

ولا أصدّق،

نعم  في مدينتي فاجعة!!

في مدينتي

صَرخاتٌ، ورُعبٌ، وكآبة ْ،

ألم، وأملْ!!

**

صوتي مخنوق

وأنا عاجز

حتى عن الصراخ،

الحزن في مدينتي

في كل الأنحاء:

في البيوتِ

في المنازل ِ

في الشوارعْ.

**

لماذا لا يلعَبُ الأطفالُ

في الساحات؟

لماذا لا تفتحُ النوافِذ ُ

كي تعانق الشمسَ؟

يؤلمني هذا الصّمت!

يؤلمني هذا القبح!

*

أفتحُ هذي الشاشة الصغيرة

أسمعُ أصوات رجال الإنقاذ

تتلوها صرخات الأقرباء ....

نظرات نحو الحطام،

نظرات نحو البيوتِ المُهدمة،

وفي العمق ِ أحياء

بالعمق ِ أحياء.

*

إنه بؤسٌ

لم نرَ مثله من قبل

سَبَبهُ العَجزُ،

إنكَ عاجزٌ أن تفعل شيئاً

تفتدي به من تحب

تفتدي به من هم هناك!!

*

أخبار مُقلِقة

وهذي الشاشة تجرحُ الفؤادَ!

بلدي هناك يكافح،

بلدي يكافحُ بؤساً لا مثيلَ لهْ،

بلدي، الذي لم ألمسه في البعد

لكنه

بين أضلعي يغلي

منتظرا فزعة الشجعان.

*

كلمة ٌ

تتلوها كلمة ٌ،

كلمات فظيعة

تصيبني بالألم والأسى .

*

هناك

خطوات

خطوات

خطوات ...

خطواتُ رجال الإنقاذ

شبيهة بخطى الأنبياء،

الرسلُ

والأنبياء

يأتون لتأدية الرّسالة،

ها هم رجالُ الإنقاذ

جاؤوا

تحدوهمُ النخوة والمَحبّة.

*

ماذا نقول لهذي الوجوه الحَزينة

على أطراف ِ الهاوية؟

ماذا نقول لهذي الأصوات ِ المخنوقة؟

ماذا نقول للأطفال؟

ماذا نقول للنساء؟

ماذا نقول للعذارى

في العراء؟

نعم إنها الفاجعةّ!!!

*

كثيرون في سباتٍ عميق،

كثيرون رحلتْ أرواحُهم إلى جوار الخالق،

صعبٌ وقاس ٍ

صَمتُ الإحتضار،

ظلامٌ في القلبِ

والدنيا لا تزال صَباحْ،

إنه ظلامُ النهار.

*

أصواتُ الأحياء

تحت الأنقاض،

أصواتهم تناديني

تمزق الصّمتَ في المكان،

وتدعوني،

تدعو الجميع،

كأني بها تقول لنا:

هَيّا إلى العَمَل ِ....

*

إنه بؤسٌ أوجدته الطبيعة:

الزلزالُ

والثلوجُ

والرّياحُ العاتية

والبردُ القارس!

*

حصارُ أمريكا

"قانون قيصر"

لا يعرفان مَعنى الرّحمَة،

أمريكا لا يعنيها أبداً

تعب الأجسادِ،

التي تهتزّ وترتجفُ

تحتَ الأنقاض.

*

نعم

صوتي مَخنوقٌ

هنا في الأبعادْ .

***

بقلم إسماعيل مكارم

روسيا الإتحادية

إلى نور

لا تربي الحلم في هذي البلادْ

ولْتُرَبّي غضبكْ

واحرسه بالنار التي أضرمها القهرُ

واسْقه إن لزمَ الأمرُ دمَكْ

لا تربي الحلمَ إلّا إن استوى العابدُ والمعبودُ

لا فقير ولا أجير ولا أسيرَ.. لا أميرَ ولا ملكْ

*

لا تربّي الحلم في هذي البلادْ

سوف يسرقه الفسادْ

ويخونك ويُقالُ إنّ الله في عليائه قد أهملكْ

*

لا تربّي الحلمَ دون ثورةٍ

لا تربّي الحلمَ إلا ثورةً

تتفقّد الأسواقَ وشوارع الفقراءِ

تعيش بين النّاس تحميهم

تكبر فوق أيديهم

إن الحياةَ أملٌ دائمٌ مشتركْ

***

أحمد عمر زعبار

شاعر وإعلامي تونسي مقيم في لندن

 

حرية لها قضبان

لما ظلم الحكام والرعاة تذئبَ الناس، فانقلبَ الميزانُ، وباتت القضبان رمزا للحرّيّة، والظلام رمزا للنور، وطُوي الحق بلفائف من الباطل، وعلا صوت عواء الذئاب، وفحيح الأفاعي، وزئير الأسود وزمجرة الضباع، حينئذ لم يكن بوسع الملائكة سوى الإعلان عن قيام دول الغابات.

***

لم تطق كلماته، فقد كانت تترامى على سمعها كالصاعقة، وتنزل على جسدها كسياط من لهيب بركان جائع، ففرت منه ركضا -لا تلوي على شيء- إلى حيث لا تدري، شعرت بقدميها تركضان على ذوائب سيوف باترة، وأن الليل أرخى سدوله ليعلن عن نهاية الأمل الوحيد الذي كانت تبتغيه ليبدلها عن سنوات الملجأ المريرة.

ورغم أنها صدقته القول -حيث إنها تعلم أن أبلغ الصدق أن يكون من ضفائر دموع ساخنة مجدولة- داس بكلماته على وجيعتها.

لم يفارقها ما دار بينها وبينه وهي تركض ركض الخائفين.

واستعادت في مخيلتها الحوار: «نشأتُ في الملجأ»، فدهش دهشة رشح من بين ثناياها غضب جارف، واستدار ليتفحصها بنظرة استعلاء وغضب، ثم اتكأ مرة أخرى على السيارة.

شعرت به، لذلك عاجلته رغبة في امتصاص غضبه واستدرار عطفه بقولها: «الملجأ أرضه سلاسل في الأقدام، وسقفه أغلال في الأعناق، وهواؤه يحبس أنفاسي كأنما أصّعد في السماء، ولم أدر ماذا جنيت، فلم أجد إجابة غير قولي: فكم من زهرة عُوقبتْ لا تدري يوما إثمها!»

استدارت هي الأخرى هذه المرة تحدق به، لتستشرف ما بداخله، فتأكد لها أن الكلمات لم تؤثر فيه، بل ازداد  منه زفير الأعماق ضيقا وغضبا.

فقالت له كلمات أخرى رغبة في تحطيم الصخرة التي تتمركز في صدره وتلين بعد أن اتكأت بظهرها على السيارة مرة أخرى: «وما كتمَ أنفاسي واختلجتْ فيه جوارحي وتململتْ فيه روحي أكثر من تردد سؤال يجلدني في كل ذرة من كياني كله، لماذا رماني أهلي؟»

وأنّت أنين المصاب الجريح، وانهمرت الدموع وجسدها يرتجف وهي تحاول أن تصل إلى الحقيقة بطرح أسئلة أخرى على نفسها: «هل أنا بشرٌ من طينة غير طينة آدم؟ لعلي مررت بمراحل نموي من بداية النطفة حتى إكساء لحمي في رحم شيطان مارد، فطردتُ من أرض البشر لأحيا في عالم الشياطين، ويكأنّ نفسي عفّ عنها كل مَن في الأرض وكل مَن في السماء؟»

سكت برهة، ثم التفتت إليه مرة أخرى فوجدت أوداجه تنتفخ، مدفوعة من طوفان غضب جارف فسألته: «كل مَن في الملجأ يشهد لي بخلقي الرفيع وجمالي المنقطع النظير، هذا أنا، فما قولك؟»

لم يجبها، وظل متصلبا غاضبا، بيد أن الدهشة زالت عنه، هو يحاول أن يستجمع قواه محدثا نفسه: كيف أواجه هذه الحثالة بنت الزناة.

شعرت ما يدور برأسه، فتماسكتْ، تعرت عندئذٍ من ثياب الألم واليأس وارتدت ثوب العزيمة والأمل، فقالت: «لكني كنتُ أبث العزيمة في نفسي خوفا من أن يقتلني اليأس، فكثير ما كنتُ أقول: لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس، وكنتُ أبحث عن الأمل في ثنايا فاه الشمس المشرقة، وفي حياة الأرض المهتزة المربوّة من سقيا السماء بعد أن كان قد مزق أحشاءها الجفاف.»

دارت عيناها عليه وهي تنكر موقفه في نفسها، لذلك قالت وهي تهزه من ساعديه: «لابد أن نحيا بالأمل، ليس كل الناس رؤوس شياطين، وليس كل من يعوي من الطامعين، وليس كل من يزأر من المتوحشين، وأنت أكبر دليل.»

لم يعلق أيضا.

عادت ووقفت بجانبه يائسة، واتكأت على سيارته وقالت بصوت منخفض: «لذلك خرجت من الملجأ لأكسر رُغام اليأس والتشاؤم وأُعلو راية الأمل والتفاؤل، ووجدتها فيكَ، فما قولك؟»

سكتت برهة ثم صرخت بترديد نفس السؤال.

لكن لا مجيب.

فاستدارت وهزته مرة أخرى من ساعديه ورددت على مسامعه نفس السؤال.

ظل ساكنا أيضا، وشعرت حينها بأن غضبه ينفجر من معين الغيظ والحنق عليها، وقد صدقت مشاعرها بالفعل، فقد تبدل حاله تماما بالفعل، وخرج عن سكونه وتحول إلى بركان ثائر، رفع رأسه مستنكفاً، فاغرا فاه كي يتمكن من قذف كم هائل من كلمات لاذعة وارتفع صوت كالخوار: «أنا أتزوجكِ يا بنت الملاجئ، إني من أصول راسخات كالجبال وأنتِ من أصول خيوط عنكبوت هوت من قديم بزفرة نملة ضالة، اغربي عن وجهي يا بنت الزواني.»

وصفعها على وجهها، صفعة باليمين والأخرى باليسرى.

***

أسرعت في عدوها حتى أعياها الركض فهدأت من خطاها وقالت لنفسها مستعبرة: «مجتمع كالتماثيل الصماء، يسبحون بحمد التقاليد العمياء، تقاليد توارثها الأبناء عن الأجداد، آفة القرن وكل القرون، تقاليد جسدوها تماثيل في نفوسهم ففريق عبدوها طواعية وفريق ذلت لها أعناقهم فعبدوها كرها، وكنت أنا أحد قرابين آلهتهم، فيا ويل أمثالي من هؤلاء المكفوفيّ الأبصار، يا ويلي، وويل كل الضعفاء.»

وظلت تلتفت يمينا ويسارا بقلب فارغ ووجه شاحب تتأمل في كل من حولها وتقول: «مجتمع يحب الجمال وإنْ كان زائفًا، والمظاهر ولو كانتْ كاذبة، والمناصب ولو كانتْ طاغية، والعائلات ولو كانوا جبابرة، والأبنية العالية ولو كانتْ هاوية.»

وبدأ يبلغ منها التعب حتى توقفت تماما عن الركض وسارت تترنح وهي تسير، قالت: «التهمتني تماثيلهم، وستظلُّ تلتهم إن لمْ تستيقظ ضمائرنا، أو تستيقظ ضمائر رُعاتنا ومسئولينا.»

وعادت تجهش بالبكاء وهي تتذكر سبب جراحها الذي انفجر منذ لحظات،  تذكرت ما قال مدير الملجأ لها: «وجدكِ رجل شحّاذ على باب مسجد تصرخين من الجوع والعطش، فجاءني وقال: «خذْ هذا المولود يا "بيه"، ارعه واعتني به، فإني رجلٌ لا أكاد أحمل نفسي، فإني أجوع أكثر مما أشبع، وأتعرّى أكثر مما أكتسي، ولا أبيتُ إلا على جوانب الطُرقات، وها أنتَ ترى عاهتي، وولّى مستاء وقد أجهش بالبكاء.»

لم تدر بنفسها بضع لحظات حيث أخذتها غفوة السكارى، رأت أمامها الزهور تعوي عواء الذئاب، وتسير نحوها وهي تزأر زئير الأسود الجائعة، فانتبهت لها فنهضت وعاودت الفرار وقد عاد إليها وعيها وقالت: «ماذا كنتُ أرى خلفي رباه.»

وواصلت السير وهي تتأمل بحزن بالغ وتقول: «ما أراه أمامي ما هم إلا أشباح الإنسانيّة، وظلام النفوس الساديّة، وضحكات السخرية ذات الأصوات الساخرة الفاترة المتأفّفة، وحضارات من خيوط العنكبوت تسكن الحدائق قبل اليباب، وسمعتُ أقبح عواء، وفزعتُ من زمرة أسود ملكية، وتصافّتْ الأفاعي لتفحّ في فمي سُمّاً ناقعاً.»

***

وفجأة رأت أمامها خمسة من رجال يدلعون ألسنتهم على جسور شفاههم، ويتحسسون قضبانهم وينظرون إليها نظرات شغف، وبعضهم كان يعضّ بأسنانه العلوية على شفته السفلى، وسمعت أحدهم يقول: «أليست هذه فتاة الملجأ؟»

أجابه أحدهم: «نعم هي بجسدها وجمالها.»

قالوا: «إذن، فجسدها مباح.»

وهجموا عليها ينهشون جسدها نهشا، كأنهم مجموعة من الأسود تأكل فريستها بعد أن نجحت في الإيقاع بها.

واغتصبوها واحدا واحدا ولم يعبأوا بالمارة، حيث إن نظرتهم لها كنظرتهم هم لها، لحم رخيص مستباح.

ولما انتهوا منها بعد التناوب واحد بعد الآخر ضربوها وهم يشيرون لها ناحية الملجأ ويقولون: «امضي الآن يا بنت الملاجئ.»

***

وسارت تترنح، حتى إنها لم تستطع السير إلا اتكاءً على جدران المباني، تستغيث بالملجأ، فلما كانت على مقربة منه سقطت من الإعياء، حاولت النهوض فلم تستطع، فزحفت، زحفت بقوة رغبة في النجاة، وما بين فخذيها يؤلمها، ودم فرجها قد لطخ حوضها، نظرتْ إليه، وقالت بأسى بالغ: «أَظْمَؤُوا شهواتهم على انفجار خاتمها.»

***

قابلها المدير فزعاً وقال: «ماذا حدث يا روضة؟ وما هذا الدم الذي يلطخ ثوبك؟ ومَن مزق ثوبك؟»

قد بلغ بها الإعياء إلى حد جفّ فيه حلقها، فرفعت يدها اليمنى وهي تلف أصابعها نحو نافذة حجرتها كأنها تلوذ به وتقول بشق الأنفس: «احملني إلى الداخل.»

فلما حملها وانتهى بها إلى سريرها جلس بجانبها بوجه فزع، وكرر سؤاله السابق.

أجابته: «الآن علمتُ لِمَ رماني أهلي، الآن آمنت أنّ الفقراء يقتتاون رفات العظام، وأن الضعفاء يستقوون من الوهم والسراب، وأن الحق توارى خلف السحاب، وأن العدل هو عدل أصحاب القوة والسلطان، والباطل هم كل أصحاب الفقر والضعف.»

قال: «قلتُ لكِ ذلك من قبل ولم تصدقيني.»

وظلّ ينظر إليها وكلتا عينيه تذرفان الدمع ذرفا، أما هي فقد كانت تكلم نفسها وهي تتحسس بطنها: «تُرى، كم حملت الأرض من أجنة باسم روضة، أو روضتين أو ثلاث، أو عددا لا يحصى منها؟ لعلني كنتُ بذرة تبرعمت من فرج أمي نتيجة ذئاب مثل الذين اغتصبوني، آه من شوادن الغزلان التي خرجت من صلب ظهور الذئاب.»

نظرتْ إليه بوحه شحب شحوبا غريبا، والدمع قد لطخ وجهها البريء، وقالت: «هذا زمان انقلبت فيه الموازين، فباتت الحرية خلف القضبان، والحبس في الفضاء الفسيح، والآن باطن الأرض أولى بي من ظهرها.»

قالتها وسكنتْ إلى الأبد.

***

قصة قصيرة

إبراهيم أمين مؤمن - مصر

أما بعد

مازلت أشتاقك

ولاشيء يهون علي

هي نار أشعلها

تأكل نفسها

وأجد كل شيء

باقياً تحتها

كفينيق

ينهض بكل عنفوان

جناحاه

يحددان المسافة

ما بين

قلبي وقلبك

يظلانها

كغيمة

لأبقى دائماً في انتظار البشارة

ستمطر حباً ولو بعد حين

وإني أحبك

تعرف أكثر مني

وتزدادُ خوفاً

كلما ابتعدت أو اقتربت

وسيان حبك لي والعاصفة

تأتي جسوراً

تحتل كل المواقع

تغير المعالم

وتمضي

أسميك الرجل الخراب

بلا اي سحنة

حضورك محنة

غيابك محنة

أعدو على ممرات الوجع

أعد الجراح

لنصل جديد

لنص مليء

بشؤون صغيرة

قتلها التجاهل

يؤرق عاشقين

في طور البراءة

على هيئة خوف

يقض المضاجع

أسميك الرجل الخراب

لك ألف ظل وظل

ووجهك الذي أنكرته المرايا

تبخر

كفزع يجول في أنحاء المدينة

حيناً كعاصفة

وآخرَ

مثل جوقة موت

تنهض من توابيت قديمة

وأنا وحدي أغني

سأذهب يوماً إلى حتفي

وحيدة

بلا شؤون صغيرة*

لا تثير انتباهك

ولكنها الآن كل حياتي ...

***

أريج محمد أحمد - السودان

..............

* شؤون صغيرة عنوان قصيدة للشاعر نزار قباني

 

نوال*:

فيما أنت قلقاً

تنتظر ساعة عودتي

وعيناك ترقبان الباب

مد بصرك سترى هناك

جسدي

مصلوباً على باب

مسجد

ونافورة عطر، أحببته

تفوح تحت رأسي المقطوع

وسحابة حمائم بيضاء

تبسط اجنحتها فوقي

*

وسترى في الأفق البعيد

آلاف السومريين يشقون طريقهم

بين اعواد القصب

ها هم وصلوا الى نينوى

انحنوا على قدمي العاريتين

غسلوهما برحيق القداح

وبمياه الفرات

ترنموا حزانى بمراثي عشتار

كما حزن جلجاميش على

أنكيدو

وحين ذرفوا دموعهم سخية

أرتفعت جثتي فوق المياه

***

* أشواق

هؤلاء القتلة يا أختاه

قذى قبيح في العيون

قالوا لي، نمن عليك بعفو

وبعمر جديد..

حين يصير حبر الاقلام دما عبيطا

وأوراق الكتب المدرسية اكفانا

بيضا

وتلاميذ الفصل فرقة إعدام

فتذكرت حين انقلب الماء فرحا

فأخترت الفرح

بحياة آخرى

*

يا اختاه

ما صرخاتهم "الله اكبر"

إلا عواء ذئاب جائعة،

بليل بهيم

كجباههم السود

*

يوماً ما، ربما كان صدفة

إلتقينا انت وانا

عند منعطف شارع

وكنا نحث الخطى

لمكان العمل:

أنت لمستشفاك

وأنا الى مدرستي

وربما تبادلنا تحية الصباح

ولكن أكنت تعلمين

أننا سنلتقي مرة أخرى

على موعد هذه المرة

في طريق الشهادة!

***

صالح البياتي – استراليا

........................

* الشهيدة نوال بولص، الطبيبة في المستشفى الأهلي في الموصل، قطعوا رأسها، ومثلوا بجسدها، وعلقوها من شعرها على باب مسجد النبي شيت.

* الشهيدة اشواق ابراهيم النعيمي، كاتبة باحثة في السرد، مشرفة تربوية، اختصاص شؤون ادبية، عضو اتحاد الكتاب والأدباء في العراق، حكم عليها بالأعدام رميا رميا بالرصاص وسط مدينة الموصل ، صباح يوم

الخميس 10/ 12/ 2015، بعد قرار المحكمة الشرعية الداعشية الذي اتهمها بالخيانة، لأنها لم تستجب لأمرهم بتدريس مناهجهم التكفيرية في مدارس المحافظة.

 

من دون يدين

 لم يذهب إلى قارئة الكف شأنه شأن كل فقد عاد من الحرب بلا يدين!!.

**

قصة حلم

معرض السيارات

ذهبت لأحد المعارض غرض شراء سيارة،ف ترك لي صاحب المعرض حرية التجوال في الساحة المليئة بالسيارات،. قال لي: قُـدْ أيّة سيارة تعجبك ولا تفكر بالثمن. دهشت للمنظر.. حقّا سيارات فاخرة فخمة من علامات تجارية راقية معروفة. مارسيدس.. بورش.. فولكس فاغن.. شفر.. بيجو... وأنواع أخرى لا تراود مخيلتي إلا في الأحلام.. وقفت أمام سيارة أمريكية.. لم أتردد كونها ثقيلة تكلفني وقودا مضاعفا.. ومن حسن حظّي أن الباب ظل مغلقا.. حاولت بجهد فتحه لكنه استعصى.. تحولت إلى سيارة مارسيدس.. وفي نيتي أن أغتنم الفرصة، لعل صاحب المعرض خصّ أول من يدخل معرضه بسيارة هدية، ولم يكن أحد هناك غيري، غير أن باب السيارة بقي مغلقا.. لم أتعب نفسي. السيارات كثيرة، وقفت أمام أوبل والغريب في الأمر أن بابها استعصى أيضا..

فوكسل..

كراون

تويونا

ميني

سكودا

أمريكي.. ألماني.. إنكليزي.. سويدي فولفو.. يا للتعاسة كلما هممت بفتح باب وجدته مغلقا.. دفعني يأسي إلى أن ألتفت إلى صاحب المعرض الذي مازال جالسا في مكانه ولعله سمع ندائي من خلف الزجاج الشفاف، فأشار من دون أن يلتفت نحوي إلى زاوية منسية من زوايا المعرض، أسرعت كأن الوقت يحاصرني وماتزال هناك رغبة تحثّني على أن أجد سيارة لها باب يطاوعني.

هناك في تلك الزاوية المنسية، واجهتني سيارتي القديمة المتهالكة التي طالما فكرت أن أرميها في أقرب منفى للهياكل القديمة.

كان بابها مفتوحا وبدت تطاوعني مثل حيوان أليف.

**

قصّة حلم أخرى

المسيرة الصامتة

تلك الليلة - ليلة الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982 - نمت متأخرا فراودني حلم غريب الملامح، رأيت الملوك والرؤوساء والأمراء العرب، يسيرون في تظاهرة صامتة.

كل شئ صامت.

هدوء تام.

الشارع نفسه خال من المارة والسيارات. المحلات مغلقة الأبواب.

وقفت وحدي أراقب من بعيد.

كان الرئيس الصومالي محمد زياد بري يرقص في المسيرة ويصرخ: دون أن يلتفت إليه أحد: "رحم الله والديه الذي ضيّع خصيةّ".

الغريب أني بعد سنوات من الحلم التقيت ابنة أحمد آدم وزير خارجية الصومال زمن الرئيس محمد زياد بري لذي هتف في التظاهرة الصامتة وجدتها مثلي تطلب اللجوء.

***

د. قصي الشيخ عسكر

لا أحد يراك

وأنت تدخل الليل وحيدا

بكامل موتك..

تقلب ليلك على

جمر الحرير والمخمل..

تملأ رأسك بوسائد أنيقة

محشوة بالكلام..

تضاجع أشباحا عقيمة.. و

تهرب من قصيدة تشير إليك

بكل أصابعها..

الى قصيدة

مبتورة  الأصابع..

لا أحد يراك..

وأنت

تسحب اسمك من ظلال

أسمائهم..

وتبقى وحيدا..

تسند ظهرك

على ظهر

وحدتك..

خمس و أربعون عاما..

وكل يوم يمر ينهش نصفك

وحين ينتصف الليل يكملك..

ظلك المنقوع في

فنجان قهوة..

تارة تغمسه..

وطورا يغمسك..  ولا

تكتفيان

من المرارة..

ربما..

لن ترضى عنك البدايات

ولا النهايات..

حتى تنشطر

الى ألف ألف  قصيدة..

وتخرج من شهيقك الأخير

بنصف نبضة..

خمس وأربعون عاما..

وأنت لا تعرف

من أنت من

بين كل أقنعتك..

لا أحد يراك.. ولا..

خنجر يباغت توقعاتك

ويطعنك من الأمام..

لتموت وجها لوجه

امام  الحقيقة..

خمسة و أربعون عاما..

وأنت  ترفع صلواتك

للآهة..

تتضرع  لها أن تخرجك

من وهم  نبؤتك..

تتوسل لها أن توقظ حواسك

من نومها..

لعل الليل يغادر خزانتك

ويسحب الشمس

من ضفيرتها..

خمسة وأربعون عاما..

لم يحدث أن  اكتمل  العيد ليلة في

أحلامك..

وحين تدحرج القمر..

لم يعكس  شيئا

على مراياه

سوى دمعة..

ولا أحد رآها..

ولا احد رآك..

ولا أحد رأى كيف

شهدت الالهة..

أنك قد

صمت  لخمسة وأربعين عاما..

***

بقلم: وفاء كريم

اِضربي بسوط الغياب

و أوجعي

واحرقي بالهجر

زوايا مرتعي

دون الحطب

تموج النار به

صرخات روح

عجَّ بها مسمعي

شربتُ الفراق

بكأس الصمت

اجرعه وحيدًا

والنفس لم تكن معي

اقتات بصدفةٍ

الوذُ بها

من بؤس وداعٍ

مِن مَصنعي

سئمتُ حرفًا

باكيا حزِنا

نبذت السطر

هجرتُ مضجعي

وصرت اجول

في كل شارع

ثمل الخُطى

سيّال مدمعي

ساقني الدرب

الى حيث اللقى

الفيته قفر

مؤنسه النَعي

عدتُ الى داري

اعرج الخُطى

عدتُ الى الحرف

أُكمِلْ مطلعي

لأسطر اماطلْ

في اكمالها

إن كملت حينها

يُعلَن مصرعي

***

ايهاب عنان سنجاري

كاتب وشاعر / العراق

أغمضتْ عيْنيْها بعد أنْ بلّلَها المطر.. كانتْ تفتحهما بين الحين والآخر؛ نِصف فتحة، ثمَّ لا تلبث أن تعود إلى الحال السابق..

أُصْبوحة اليوم؛ تشِي بقصِيدَة شِعْر؛ ستنْظمُها رِياحٌ لطيفة بِقَوافٍ من أوْراقِ الخريف الأصْفر وبأوْزانٍ من هَدير الموج الأبْيض.. البَرُّ والبحْرُ غارِقان في طقوس التّهْليل.. قطراتُ الشتاء؛ بدأتْ تُداعِبُ الشّجر والحجر، وتختلط برغْوة المْوج وبحبّات الرّمْل.. يعلو التَّسْبيح بيْن السّماء والأرْض على وَقْعِ ُموسيقى كوْنِية، تسْتعْذِبُها الرُّوحُ المفْتونَة بسِحْرِ الطبيعَة..

يطولُ استِقْرارُ الحمامة فوق العَمود الكهربائي.. لا شيء يُزْعِجُها.. وَحْدةٌ ماتِعَةٌ، أحْلامٌ مِغْناطيسية تجْتذِبُها إلى مَلكوتٍ مُتَعَالٍ.. هناك؛ حيث الصّفْوُ المأمول والملاذ المنشود.. من نافذة الغُرْفَة؛ تتأمّلُ الفتاةُ سكون الحمامة، ثمّ تعود فتُوَزِّع نظراتها بين العمود الذي تعْتَليه الحمامة وبيْن الأرْض وهي تتحمّلُ كلّ هذا الدّكّ..! سيْلُ المَرْكبات.. كثافةُ المباني.. ضجيجُ البشر وهمْ يتعقّبون الحياة إلى ما لا نهاية.. يا إلهي.. كلُّ هذا الهَوس..؟ مِنْ أجْلِ ماذا..؟ وبماذا..؟! تتناسلُ الاستفْهامات في زمنٍ قدْ تجاوز كل الاستِفْهامات ولمْ يبقَ سوى التّمَنّيات المُعَلّقة على أقواس المُستحِيلات..!

نظرتْ إلى الحمامة، تمنّتْ لوْ أنها نزلتْ بنافذة غرفتها.. ستُطْعِمُها..ستسْقيها..ورُبّما تتعوّد الحمامة على المكان الجديد، فتطير إليْه بين الفينة والأخْرى.. ربّما ستبْني عُشّاً في رُكْنٍ منْ أرْكان النَّافذة الواسِعة.. طرِبَتْ "مختارية" لهذه الفكرة، نسيتْ نفسها وحوّلتْ عيْنيْها عن الحمامة وبدأتْ تتأمّلُ منظراً آخرَ مِنْ بَعِيد..

تحت العمود الكهربائي..

طِفلٌ بِعُمْرِ اثنتيْ عشر سنة؛ بخطواتٍ مُتَّئدة؛ يتّجهُ نحو العَمود، يحْملُ كيساً ثقيلاً فوق ظهره؛ يُمْسِكه بيد، وباليد الأخرى يحْمل قطعة كرتون سميكة على شكل مستطيل. وكأنّ الطفل يأتي إلى هاهُنا لأوّلِ مرّة.. يُدقِّقُ النّظر في المكان، ينظر يميناً وشِمالاً، يرْفع عيْنيْه إلى السّماء وكأنّه يبحث عنْ شيء.. يكاد الكيس يتدحْرج مِنْ على ظهْره، يعودُ ليخْفض عيْنيْه.. الأرض ندية بزخات المطر السابقة.. ومع ذلك يبسط الطفل قطعة الكرتون ويُنْزِلُ الكيس من على ظهره، ويبدأ في إخراج أشيائه.. يُرتّبُها فوق الكارتون بعناية ملحوظة. "مُختارية"؛ من نافذتها الواسعة في الطابق الثاني من العمارة؛ تستطيع أن ترى المعروضات بوُضوح.. مناديل ورقية، بضعة جوارب نسائية ورجالية، قطع صابون الاستحمام، مناشف صغيرة الحجم بألوانٍ مُخْتلفة، عُلَب دُهنية للأقدام المُشقّقَة، وأشياء أخرى دقيقة.. جلس الولد فوق الكيس بعد أن أفرغه والمارّة مِنْ حواليْه؛ بيْن رائح وعائد، وبين متوقّف عند بسطة الكارتون، يتأمّل المعروضات؛ علّه يُصادف غرضا مطلوباً؛ يعْفيهِ زحام السوق الأسبوعي.. تنتفض "مُخْتارية" على صوت أختها "عبّاسِيَة" وهي تُناديها من أجلِ الذهاب إلى ورشة الخياطة.

الفتاتان تمْتلكان هذه الورْشة؛ مُنْذ سنوات.. تُشغِّلُ ثماني فتياتٍ في صنف الخياطة التقليدية الجميلة، ألبسة الأعراس وغيرها من المناسبات السّارّة. الأناملُ الفنّانة تحيكُ الموروث الشعبي باحترافية لافتة؛ أساسُها الذّوْقُ المُمَيّز وحُبُّ المِهْنة؛ عندما تُصْبِحُ المهنة رسالة، تجْلوها رغبة عميقة في الِاحْتِفاء ب: "الأصيل" وترْسِيخِه في الذَّاكرة الجَمَاعِية.

تترأسُ الأخْتانِ الورْشة؛ وتبْدُلان جُهوداً مُعْتبَرة مِنْ أجْلِ اسْتمْراِريتِهَا.. خرَجَتا من المنزل، توقّفتْ "مُختارية" قُبَالَةَ الطفْل تحْت عمُود الكهْرَباء؛ وكأنّها تريدُ أنْ تشْترِيَ شيْئاً.. انْتَبَهَتْ  "عباسية" إلى حرَكة أخْتِها وطلبتْ مِنْها أنْ تؤجِّلَ الِاقْتِناءَ إلى ما بعْد العودة من الورْشَة.. أذْعنتِ الفتاةُ لأمْرِ أخْتِها وهي تُحَدّثُ نفسَها " ليْتهُ يَظلُّ هُنا إلى غايَة المَسَاء.." لمْ تكنْ ترغب في اقتناء شيء بِعَيْنه.. كانتْ تودُّ إسْعادَ الطفل بِحُجّة الِاقْتِناء.. سيَفْرَحُ لا محالة؛ عنْدما يلمسُ إقبالَ المارّة عَلى سِلْعَتِه..

أنينُ القُماش تحْتَ وَقْعِ الإبَر..

قبْل أنْ تدْخُلا الورْشة؛ سمِعَتِ الأختان ضجيجاً غيرَ عادٍ.. هرْوَلَتا.. المُشْرفة على البنات؛ في زاويةٍ تَقْضِمُ أظافرها والتّوتُّرُ يكسو وجهَها.. البناتُ مُكتئبات؛ يتحلّقْنَ حول آلات الخياطة وإبَرُها تثقُبُ الأقمشة بسُرْعة جُنونِية..! البنات يُحاوِلن التّحكّم في الآلات؛ لكن لا يُفْلِحْن.. حركة الإبر تتسارع، والثوْبُ ينْسَلّ.. الخيوط تتطاير في الهواء، التّمَزُّقُ يتّسِع.. الأنينُ يتصاعد تحت سِياط الإبَر وهي تجْلِدُ القماش.. الذّهولُ يُغْرِقُ الجميع.. الأفواهُ صامِتة والآذانُ صاغِية.. لا أحَدَ يُصَدّق.. لا أحَدَ يفْهَم.. لا أحَد يتَقبّل..

تلتفتُ "عباسية" إلى العدّاد الكهربائي؛ تُسْرِعُ نحْوَه، تضغط على الأزْرَارِ القاطِعَة؛ يتوقّفُ ضجيجُ الآلات، تتجمّدُ حركة الإِبَر، بيْنما تظلُّ أعْيُنُها الضّيّقة شاخصة نحو القُماش وكأنّها تتوعّده بالمزيد من التّمْزيق..! تُهرْوِلُ "مُختارية" تّجاهَ المُشْرِفة على البنات، تحاولُ أنْ تفهم منها ما حدث.. تتجمّعُ مِنْ حوْلها باقي الفتيات والذّهُولُ يلجمُ الأفواه.. بعْدَ بُرْهة؛ تنْطِقُ المُشْرِفة "نجاة" بكلمات مُتَقَطِّعاتٍ وهي تشيرُ إلى إحْدَى الآلات بأنامل مرتجفة.. ترْوي مشهد الصباح وعيناها لا تُفارقان الآلة.. " عندما شغَّلْتُها في بداية الصباح؛ لاحظتُ تباطؤاً غريباً في عمل الإبَر وهي تخيط الأقمشة.. فحَصْتُها، وَجَدْتُها ما تزالُ صالحة للاستعمال. وشيئاً فشيْئاً بدأ التّباطؤ يزْدَادُ، فهَرَعْتُ إلى اسْتبْدالِ الإبَر بأخرى جديدة؛ غير أنّ المُفاجأة كانتْ معَ هذا الاسْتِبْدال.. خُيِّلَ إليَّ أنّي أسمع صوْتاً تُغَلِّفُهُ البحّة.. تسمّرْتُ في مكاني وأرْهَفْتُ السّمع.."

حديثُ الأعْيُنِ الضَّيِّقة..!

" تعِبْنا منْ خِياطة أقْمشة للبشر.. تقيُّحُ الرّوح يُغَطّي البدن..! نُفضِّلُ خياطة أكْفانٍ لأحْقادِ البشر.. ! أكْفان لِغدْر البشر.. أكْفان لِهمَجِية البشر.. للِدّمار.. للخيْبات المتعاقبات.. أكفان للمكر.. للخداع.. أكفان لِخُبْثِ الطبائع.. للخيانات وهي تجْلد القلوب الطيبة، للرّذيلة وهي تمُدُّ الجسور لتقطع أنوار الفضيلة.. نخيط الأقمشة لِزينة الأبدان وأين زينة النّفوس.. أين جوهر الضّمائر.. أين التّسامي، أين التسامح، أين الرّحمة، أين النّخوة.. لِمَنْ نخيط هذه الأقمشة..؟ لِمَنْ..؟ لأجْسادٍ مُنَمّقة وأرْواح مُخَرّبة.. الجُلودُ مُغَطّاة؛ والنّواصي غاطسة في صهاريج التّقيّح..! سنُمَزّق وسنُمَزّق وسنُمَرِّرُ الرّسالة إلى بقية الإبَر في الورْشاتِ الأخْرى؛ حتى القُماش سيَهْرُبُ مِنَ البشر.. سيتْرُكُهُ عارِياً؛ مثلما يتعَرّى شجرُ الخريف.."

كانتْ "نجاة" تروي حديث الإبر؛ وقدْ بدأتْ تستعيدُ هدوءها وعلامة استفهام تقفز بين عيْنيْها:" تُرى؛ لو كانتْ وحدها في هذه الورشة، هلْ كانتْ ستبقى صامدة وسط عتْمة الغرابة..؟ وَمَنْ كان سيُصدِّقُ حكْيَها..؟ سيقولون لا محالة: "الِمسْكينة تُعانِي منْ مسّ..! المِسْكينة تتخيّل.. الِمسْكينة أصابَها خَرَفٌ مُبَكِّر.."! ما أكْثرَ التّأويلات وما أسْهَلها !

اِرْتأتِ الأختان "عبّاسية" و"مُختارية" ضرورة إغلاق الورشة لِيوْميْن كامليْن؛ حتّى يتمَّ تدخُّلُ مُهنْدِس الصّيانة. قرّرتا تسْريحَ البنات والعوْدة إلى البيْت.. طِوال الطريق؛ كانتا تسْتعِيدانِ وَاقِعَة اليوْم.. هل صحيح ما قالتْه "نجاة" ؟ ثُمّ كيف ُيمْكنُ تسْليم الطلبيات في الوقْتِ المُحَدّد..؟ وهلْ سيفهمُ الزبائن تبْريراً كهذا..!

تهلّل وجْهُ "مُختارية" وهي تلْمحُ الطفل.. إنه ما يزالُ في مكانه وِبيدِه اليُمْنى فطيرة، وأمامه قارورة ماء صغيرة؛ تقدّمتْ نحْوهُ؛ تأمّلتْ ما تبقّى من المعروضات، شعُرتْ بالحَرَج وأختُها تُكرِّرُ على مسامعها: " لا شيْء هنا تحْتاجِينَهُ.. فلْنذْهبْ.." ردّتْ "مُختارية" بِامْتعاض دون أن تنظر إلى أختها:" إذْهَبي أنْتِ.. سَأشْترِي مِشْطاً وعُلبَة دبابيس، وقدْ أجِدُ الجوارِب القطنية التي تُناسِبُ أقْدامَ أمِّنا.." انْحنتْ تتفحّصُ الأشياء.. قفز الطفلُ إلى جِوارِها وقدْ عزَّ عليْه أنْ تنْحني الفتاةُ لتلْتقِطَ ما وقع عليْه الِاخْتيار. " دَعِيني يا خالة؛ أساعِدك.." أشارتْ بأصابعها إلى ما ترْغبُ في اقْتنائه، جهّز الطفلُ المطلوب ووَضعَهُ داخلَ كيسٍ بْلاسْتيكي صغير، ثمّ قدّمهُ للفتاة والفرْحَة تُنيرُ مُحيّاهُ.. سلّمَتْه النّقود، رَبتَتْ على كتفه وهي تدْعو له بالحِفْظ.. تابعَها الطفلُ بعيْنيْه المُتوَهّجتيْن وهو يتمنّى أن يرْسلَ اللهُ إليْه مَنْ يشتري منه الأشياءَ القليلةَ المُتبقِّية..

استلمتِ الحاجّة "أُمَيْمَة" الجوارب وهي تُمْطِرُ ابْنتها بِأدْعية الرّضا والفلاح.. مضتِ الليلة كلّها؛ لا حديث فيها إلّا عن الإبر المتمرِّدة، كانت الحاجة تُشارك بِهَزِّ رأسِها قبل أنْ تسْتسْلِمَ لِإغْفاءَاتٍ مُتَقطّعات.. عدمُ الفهْم أحْياناً ؛ يعْفيك سوءَ التّقديرات..

حلّ الصباح، فتحتْ "مُختارية" نافذة غُرْفتها، نظرتْ إلى أعلى العمود، لمْ تجد الحمامة.. فكّرتْ.. سأجلبُ بعضا من الخبز وأتركه في زاوية النافذة، رُبّما تراهُ أثناءَ عوْدتِها. ظلت تراقب العمود بين الفينة والأخرى طوال الصباح؛ إلى أنْ حلَّ وقتُ الظهيرة.. صادفتْها  تُرفْرِفُ فوق العمود.. شعُرَتْ بطرب عجيب وهي تتأمّلُ رفْرَفَتَها، اقتنعتْ بأنّها ستنزلُ يوما ما ضيْفا على هذه النافذة..

خيْبة في السّلة..!

تبْدو السّلّة ممْلوءَة، نقية، مُزرْكشة مِنْ إحْدى الجِهات بخيوط صوفية رقيقة، متعدّدة الألوان.. الجهة الأخرى من الدّوم الرّفيع.. ربّما ذهب صاحبها أوْ صاحبتُها لاقْتناء أشياء أخرى، ولِثِقَلِها تُركتْ في هذه الزاوية من السّوق الكبير.. رُبّما أوْصَى تارِكُهَا أحَدَ أعْوان التُّجار؛ بِالِانْتباهِ إليْها؛ بعْد أنْ سلّمَهُ بضْعَة دنانير، فَقَبِلَ؛ وعنْدما طال الوقت؛ نسيَ أمر السلّة وراح يُساعد في نقل أكياس الخُضر والفواكه؛ أمَلا في الحصولِ على بضعة دنانير أخريات..  لصُّ السّوق "مسعود"؛ يتجوّلُ بين الزبائن بحذائه الرياضي الخفيف.. يتفحّصُ الوجوه، يتمعّنُ الجيوب، غليونه بين شفتيْه، هاتفُهُ مُلْتصق بأذنه اليُمنى.. يُبْعِد الغليون تارة ليتحدّث.. ثمّ لا يلبث أن يُعيدَهُ إلى مكانه ليسْمع.. وهو يُنْهي جولتَه الأولى؛ لمح السلّة الأنيقة في الرّكن. يَمْضي وقتٌ طويل وهو يُراقب المكان.. يغْتَنِمُ فرصة شِجار بين تاجريْن، يمشي بهدوء، يأخذ السلّة، يتأمّلُ حزمة النّعناع الكبيرة التي تُغَطي مُحْتويات السّلّة.. نعْناع أخضر، تتصاعد رائحته الجميلة لتقتحم تجاويف الأنف.. مُتْعَةُ الوجدان والعَين معاً.. يُغادر السوق، يمتطي سيارة أجرة.. في مقعَدِهِ الخَلْفي؛ يبْدأ في تفْتيش السّلّة.. يُزيحُ حزمة النّعْناع.. يصرخ وقد أذهله الموْجود.." ما هذا؟!  موْلود..؟!!" يتوقّف السائق؛ ينْزلانِ من السيارة، يحمل اللص السّلّة، يضعُها على الأرْض، يمُدُّ يَديْه ليُخْرِج المولود؛ غير أنّ سائق الأجرة يمْنَعُه: " لا تفعلْ شيْئا.. لا تلْمَسْهُ.. سنذهب به إلى الشُّرْطة.."

في مقرِّ الشُّرْطة؛ لمْ يكن الاعترافُ بنية السّرقة؛ صَعْباً على "مسعود".. "أنا لصّ سوق وليس لصَّ بشر..!" لمْ يكنِ التحقيق طويلا مُتْعِبا.. ف "مسعود" من أصْحاب السّوابق في مجال السرقات الخفيفة وَسِجِلّهُ موْجودٌ في أرْشيف الأمْن..

بكى اللصّ بين يديْ المُحقّق وهو يُردّد في صدقٍ بادٍ: " لقدْ سرقتُ السلة كعادتي؛ وأنا أجهلُ ما بداخلها.." لمْ يكنْ بكاء "مسعود" خوفا من العقوبة، ولا خوفا من تهمة ثقيلة مثل هذه.. كان بُكاءَ تأثُّرٍ.. كان بُكاء شفقة، بُكاء حسرة على قلوب قاسية.. ساعتَها عاش "مسعود" لحظة الأسى بكلّ جوارحه.. بأمْرٍ مِن الضّابِط ؛ تقدّمت مُساعِدة أمْنِية، أخْرَجَتِ الرّضيعَ من السّلة.. وهي ترفعُهُ؛ لَمَحَتْ ورقة مطوية في قعر السلة. أشارتْ بِعيْنيْها إلى حيث الورقة، نظر المحقق إلى حيث أشارتْ، رفع الورقة وقرأ: " قبل ترْكهِ؛ أشْرَبْتُهُ مُنوِّماً حتى لا يسْتيْقِظ قبْل الأوَان..!"

وضع المُحقِّقُ رأسَهُ بيْن يديْه وغاص في تفكيره.. فجْأة انْتَبهَ وصوْتُ المُساعِدة الأمْنِية يعلو ويُكرِّر: " سيّدي.. لقدْ بدأ الرّضيعُ يتحرّك.. أنْظرْ.. !" الجسمُ الصّغير يهْتزُّ كلّه.. الأصابع الصغيرة في حجم عود الثّقاب؛ تتشابك، ثمّ تعود لتسبح في الهواء.. العينان تنْفتحان بصعوبة، ثمّ تنْغلقان وكأنّ ضوء الغُرْفة أزعجهما.. حركة الجسم تزداد، تخرج القدَمان من تحْتِ الغطاء الصّوفي وتُلامِسان ذراع المُساعِدة الأمْنيَة، قدَمَانِ في حَجْم حبّة ثمر.. يتثاءبُ الرّضيع ويسْتعدّ لِفرْض وُجودِه على الجَميع.. ! يتعالى صوت بكائه.. يكتبُ المحقّق تقريرهُ في الحين..يُسلّمُهُ للجهة المعنية، يُؤْخَذُ الرّضيعُ إلى دارِ الأيْتام.. ينْهار "مسعود" بيْن يديْ الشرطي وهو يقودهُ نحْوَ النِّظارَة..

يَا خَالة..!

" منذ ستّة أشهر فقط؛ علِمْتُ بقصّة تواجُدي في المَلجَأ.. أخْبَرَني مُدير الدّار بعْد إلْحاحٍ مُتواصِلٍ منّي، وأخذ وَعْداً منّي: أنْ أنسى الموضوع تماماً. رغم وُجود مدرسة تابعة للملجأ؛ لمْ أُفْلِحْ في الدّراسة، استشْعَرْتُ ساعات الدرس ثقيلة على نفسي.. المعلّمة تتحدّثُ عن الأخلاق.. عن العدالة.. عن الأخوّة.. عن الأحلام الجميلة.. عن الآداب العامّة..عن ضرورة الكفاح في الحياة.. عن الاعتماد على النّفس.. المعلّمة تتحدّثُ عن كلِّ شيء؛ إلّا عن ظلمِنا..!

استأذنْتُ من المدير للخروج من الملجأ.. لم يقبلْ في بداية الأمر واعتبر ذلك مُجازَفة، غير أنّ حُسْن سلوكي الذي يشهد به جميع مَنْ في الدار؛ جعلَهُ يقْبَلُ على مَضض.. وكان شرطه؛ أنْ أعود كل مساء للمبيت في الملجأ وإلا سيُخْبِر الشرطة بأنّي هربْتُ من الدّار. خرجتُ إلى الشارع الواسع.. أبْحَثُ عن رِزْقي.. عنْ.. وُجُودي إنْ كان لي وُجود.. لمْ أكنْ أُحْسِنُ عملاً عدا مهنة التّنْظيف، نظّفْتُ حوانيت الدّبّاغين والنّجّارين والعَطّارين والحدّادين والورّاقين، غسلْتُ صناديق بائعي السمك، غسلتُ واجِهات المحلات التجارية؛ إلى أنْ جمعْتُ مبلغا أعانَني على فتْحِ مشروع بيْعٍ للأشياء الخفيفة؛ وهو ما تريْنه يا خالة.."

كان "أحمد" الطفل؛ يقصُّ حكايتَه والعائلة مُتَحلّقة مِنْ حوله.. "مُخْتارية" وأخواتها. فقد طلبتْ منه في إحْدى الأمْسيات؛ أن يحملَ معها بعض المشتريات إلى الطابق الثاني؛ بعد أنْ نزلتْ من سيارة أجرة أمام باب العمارة.. كان "أحمد" على وَشك الانْصِراف.. فقدْ جمع ما تبقّى من المعروضات القليلة داخل كيس صغير؛ وَضَعَهُ تحت إبْطِه؛ وتأهّب للمغادرة. نادتْهُ، سارَعَ إلى مُساعَدَتِها، ومِنْ يوْمِها تعرّفَ على جميع أفْرَاد العائلة.. سيتعوّدُ عليْهمْ وسيتعوّدون عليْه.. كانت المناسبة عندهم؛ هي عودة الأخت الكبيرة "أمّ معاذ" من البقاع المُقَدّسة.. لذلك اضطرّتْ "مختارية" إلى الاستعانة بهِ في حمل أغراض تجهيزات هذا الحدث السّعيد..عاش الفرْحَة معَهُمْ.. عاش الدِّفءَ لأوّل مرّة.. استنشقتْ رِئتاهُ رَحيقَ الوُجود الذي خرج يبْحث عنه يوم فضّلَ اكتشاف الشارِع.. وألغى مِنْ حِسابَاتِه كلّ الموَانِع التي اعْتبرَها سِجْناً اسْتِثنائِيا في دَارِ الأيتام..

كانتِ الحاجّة "أُمَيْمَة" توصي بناتها دائماً بتفقّده.. وكثيراً ما طلبتْ منهن دعْوَتَهُ إلى تناول الغذاء معهم؛ فإذا تعذّرتِ الاستجابة للدعوة بسبب البسْطة والسلع المعروضة فوقها؛ أمَرَتْهُنّ بأخذ الطعام إليْه وهو في مكانه.. لمْ يعُدْ وحيداً.. هناك مَنْ يُفكِّرُ فيه، هناك مَنْ يتفقّدُهُ، أصبحتْ هذه العائلة بالنسبة إليْه؛ "مِنْحة" وَضعتْها الأقدارُ في حياته..

مِسكُ الحُرُوف..

بعد سنة كاملة من تربّصها الطويل بالخارج؛ تعود الأختُ الوُسْطى "حكيمة" المُتخَصِّصَة في الدراسات الِاسْتشْرَاقِية إلى البلَد؛ على أمل التّدريس في إحْدى الجامعات الوطنية.. وُعود التوظيف تتبخّر.. تلجأ إلى إحدى الشركات الخاصّة؛ فتتوَظّفُ  كنائبِ مُدير؛ في الوقت الذي كان للمدير شهادة أدْنى مِنْ شهَادتِها..! اعتبرتْ هذا العمل مُؤقّتاً، وبدأتْ تملأ فراغها في نهاية الأسْبوع بالكتابة القصصية؛ دون أنْ يُنْسيها ذلك؛ ضرورة تقديم ملفّ التّوظيف في مجال اختصاصها؛ كلّما تناهى إليْها خبَرُ فتح التوظيفات عن طريق المسابقات..

كانتْ "حكيمة" تعرف قصة "أحمد" عن طريق الرسائل والصور التي تبَادلتْها مع العائلة خلال سنة التّربّص بالخارج؛ كمْ عزَّ عليْها أنْ ينقطع الصغير عن التّعْليم في سنّ مبكرة.. ها هي اليوم؛ تتعرّفُ عليْه عنْ كثب، تلمس ذكاءه وطموحه، وتعتزم مُساعدتَه. يقضي "أحمد" الفترة الصباحية في الشارع قبالة العمارة؛ يُمارس تجارته الصغيرة- كما كان يسميها – وفي المساء يُواظبُ على الحصص التعليمية التي خصّصَتْها له "حكيمة" في بيت العائلة.. كان عملها في الشركة؛ يبدأ في الساعة الثامنة صباحاً ويتوقّف عند حدود الثالثة والنصف، تمرُّ عليْه؛ فتجدُهُ بانتظارها وقدْ جمع أشياءَهُ المتبقية.. يدخلان الدّار، رائحة القهوة التي تُحضِّرُها "عبّاسية"؛ تُنْعِشُ الدّماغ.. رائحة هذا البيْت تسْكنُ ضُلوعَه، وهو يكبر شيئا فشيئاً؛ حتّى أصبح شابا فاستأذن منْ مدير الملجأ، ولم يعُدْ يبيت هناك كما كان.. ولكنه في الوقت ذاته؛ لمْ يغْفَلْ عن زيارة الأيتام الجُدُد؛ حتّى أنّهُ كان كثيراً ما يحْمِلُ إليْهِمْ بعض الحاجيات التي لمْ يَطلْها البيْع. سعِد مديرُ الدّار وهو يلمس هذه الأخلاق الكريمة لدى "أحمد" وتمنّى له كلّ الخيِر.

ليالي الورْشة..

بعْد أنْ شارَكَهُمْ أسراره وأحلامَه، وبعْد أنْ تغذّتْ روحُهُ بِقِيَمِهِمْ ونقاوة قلوبِهِمْ، شدّتْهُ حِبالُ الودّ إليْهم.. فراح يفرح لأفراحِهِمْ ويحْزن لأحْزانِهِم، يسألُ عن غائبهِمْ، ويطمئنُّ على الحاضر منهمْ..فيفوز بثقتهم وتقترح عليْه الحاجّة "أميمة" أنْ يبيتَ في الورشة؛ بدلاً من الملجأ. تقوم "مُخْتارية" و"عبّاسية" بتجْهيز اللازم؛ فتختاران مكانا فارغاً في الورشة؛ وتدعوانه إلى مُساعَدَتِهِما في نقل الفراش والغطاء والمدفأة الكهربائية إلى حيث المبيت.. تمْنحُهُ "حكيمة" مكتباً صغيراً يعودُ إلى أيامِ طفولتها وكرْسِيا عتيقاً، يستخْدِمُهُما للقراءة وتلخيص ما يقرأ؛ حسب أوامر أستاذته "حكيمة". قبل قدوم البنات العاملات في الورشة؛ يُغادِرُ المكان إلى بيْت الحاجّة "أميْمة"، يحْتسِي قهْوَتَه بالفطائرِ اللذيذة التي تُعِدّها "عباسية" يوْمياً للعائلة.. يُسلّمُ المفتاح للحاجّة مخافة أنْ يضيعَ منه، ثمّ ينزلُ إلى الشارع؛ يتسوّق ويبيع والدّنْيا مِنْ حواليْه بطعْمٍ جديد..

كان يجد في حصص التّعَلُّم الغذاء العقلي والرّوحي.. ف: "حكيمة" تبذلُ قُصارى جُهْدِها من أجلِ تحْبيب الدّرْس إليْه.. لمَسَ صدْقَها ونُبْلَ هدفها؛ فعكف على التّحْصيل والقلبُ البريءُ يمْتنُّ لهَذا المَلاك الذي سخّرهُ اللهُ لإنارَة درْبِه. شيئاً فشيْئاً؛ يتمكن من المشاركة في امتحانات التكوين العِلمي الحُرّ فيُتابع دراستَهُ بواسطة نظام "المُراسَلَة".. يكْبُرُ حماسُهُ وهو يقطف ثمرة اجْتهاده.. نتائجُه الحسنة؛ تُفْرِحُ الجَميع.. يدخل الجامعة ويكتشف عالَما جديداً.. عالم التّخصّصات على أوْسع نطاق.. يخْتارُ شعْبة الآداب، يرْوِي ظمَأهُ بمُلازمَتِه للمكتبة. يتذوّق رحيق الخيال وهو يجوب به عوالم الفكر الإنْسَاني الرّاقي، ويحطّ به الرّحال على عتبة عيون الإبداع في مختلف العصور.

في إحدى الليالي الباردات وهو يستعدُّ للنّوم؛ بعد أنْ أمْضى وَقْتا طويلا في القراءة؛ سمِعَ جلبة في الخارج، تلاها ارتفاع أصواتٍ مُخْتلطة؛ شقّتْ سكون الليل.. ارتدى معطفهُ وخرج مُسْرِعا يستطلع الأمر.. متسكّعون يتشاجرون مع اثنيْن مِنْ مُوزِّعي المُخدّرات؛ والسلاحُ الأبيض يُغازِلُ العتْمة.. بدون تفكير؛ أخرج هاتفه من جيب معطفه وبدأ يتصلُ بالشرطة. لمَحَهُ أحَدُهُمْ، هجم عليْهِ بضربة سكّين؛ أصابتْ أحَد كتِفيْهِ.. ظلّ في مكانه ينزف حتى وقتٍ متأخّر.. حين مرّتْ دورية المُراقبة الليلية؛ كان الهاتف بيده وهو مُغْمَى عليْه.. تبيّنوا أنه كان بصدد الاتّصال.. نُقِلَ إلى المُسْتشْفى.

باب الورشة مفتوحٌ، تحرّيات الأمن؛ تتوصّلُ إلى مالكي الورْشة. يطرقون بابهمْ.. ينْهارُ الجميع.. الحاجّة "أميْمة"؛ تبكي وهي تُرَدّد: "قليل الحظ.. ماذا يُريدون منه..؟!" أما البنات فكنّ يقْطَعْنَ البهو العريض؛ ذهاباً وإياباً دون وَعْي.. لا "مُختارية" ولا "عبّاسية" يخطر ببالهما اللحاق به إلى المستشْفى في هذا الليْلِ الدّامِس.. تهرع "حكيمة" إلى هاتفها، تطلب سيارة أجرة، تُرْشِده إلى عنوان البيت وتلبس ثيابها الصوفية استعدادا للخروج. رُبع ساعة وتصل سيارة الأجرة؛ البِنْتانِ تُطلان من النافذة والحاجّة "أميْمة"؛ تسأل في قلق وعصبية: " هلْ ركِبتْ أختُكُما..؟" تُطَمْئِنانِها وتجلسانِ القُرْفصاء في حسْرةٍ تُلْجِمُ الأفواه..

رغم رباطة جأشها، رغم قوة صبرها؛ لمْ تتمكّنْ "حكيمة" من التّحَكّم في دمْعِها.. يتأثّرُ السائق لحالها، فيحُثُّها على التّفاؤل والإكثار من الدّعاء..

مِنَحُ الزّمَن عجيبة..!

بضعة أسابيع؛ كانتْ كافية ليعود "أحمد" إلى حياته الطبيعية.. فبعد مغادرته المُسْتشْفى؛ تُقْسِم الحاجة "أُمَيْمة" ألا تتركه يبيتُ في الورْشة؛ على الأقلّ وهو في طور النّقاهة. يُلَبّي طلبها لمدّة أسبوعٍ فقط، ثمّ يعود إلى مكان مبيته. في هذه الأثناء؛ تُسْتَدْعى "حكيمة" إلى الوظيفة في الجامعة.. تعُمُّ الفرْحةُ البيْت، يتقاسَمُ معَهُمْ سعادةَ اللحظة.. تُقيمُ "أمّ معاذ" حفلا بهيجاً احتفاء بِتَحقُّقِ حُلم أخْتها "حكيمة" وتيمّنا بِنَجاةِ "أحمد" من الموْت. وهي تُقدّم استقالتها لمدير الشركة؛ تتوسّط "حكيمة" لأحمد من أجل توْظيفه في أيّ منْصبٍ كان.. يعِدُها المُديرُ خيْراً خاصة وهو يرى شهادة الشابّ الجامعية ويسمعُ شهادة "حكيمة" في الشاب الأمين الخلوق. بعد شهر؛ أُسْتُدْعِيَ للعمل في أحد المكاتب التابعة للشركة خارج البلْدة..  مَنْ كان يظنّ أن هذه النّقْلة من حياة إلى حياة أخرى؛ ستخْلق مشْهدا استثنائياً يُوثِّق زمن المُكاشفة.. ستجمعه روابط الصّحْبة مع أحد زملاء العمل في الشركة، وبمُرورِ الأيّام؛ تتطوّرُ الصُّحْبَة إلى صداقة عميقة، أصبحا لا يفترقان، ومِمّا عزّز تقارُبَهُما أنّ الشركة؛ خصّصتْ لِعامِليها القادمين من خارج المنطقة؛ شُقَقا صغيرة في عمارة واحدة؛ قريبة من مكان العمل. يظلان مع بعض طوال الوقت، لا يفترقان إلا إذا ذهب "أحمد" لتفقّد الحاجة "أميْمة" بين الفينة والأخرى. عندما سأله "عصام" عن سبب علاقته بهذه الحاجّة؛ لمْ يجِدْ "أحمد" بُدّاً من سرْد حكايته منذ النّشأة في دار الأيتام إلى غاية تعرّفه على عائلة الحاجة "أميْمة".. كان "عصام" يستمع إليْهِ وقد انتابتْهُ دهشة لمْ يستطعْ إخفاءها.. وفلتَ منْ لسانه السؤالُ المُفْزِع: " مَنِ الذي وضعك في الميتم؟!" اِبتلع "أحمد" ريقه، أشاح بوجْهِه واختصر الكلام: " أنا اِبْنُ السّلّة..!! تركوني في السوق الأسبوعي.. خيّبْتُ أمل اللصّ الذي سرق السّلّة، فأخذني إلى مركز الأمن، ومِنْ ثمَّ؛ سلّموني إلى ملجأ الأيتام، وقدْ أخبرني مديرُ الدّار بقصتي عندما بلغتُ العاشرة من عمري بعد أن ألححتُ عليْه ورَجوْتُهُ.."

لمْ يسْتَطِعْ "عصام" أنْ يضبِط نفسه.. انتفختْ أوْداجُهُ وانهمرتْ دمعة حارّة على خدّه الأيمن وبدأ يُتَمْتِم: "السلّة..السلة.. السّوق.. السّوق.. تلك الأصبع الزائدة في القدَمِ اليُسْرى..!" ذُهِل "أحمد" وآذانُهُ تلتقط الكلماتِ المُبَعْثَرَة في ثنايا لحظة الميلاد الجديد.. كان "عصام" يحكي بنبْرة الموجوع المسرور في نفس الوقت: " قبل وَفاتِها بأيام؛ أمرتْني أمّي أنْ آتيها بصندوقها الحديدي الأثري المُغَطّى بقماشٍ حريري في رُكْنٍ من خزانة ملابسها، وضعْتُهُ أمامها، رَأيْتُها تلتقط مفتاحا صغيراً من وسط مزهريتها المُفضّلة على كل أثاث البيت وتحفه. المزهرية أعرِفُها منذ بدأتُ أُدْرِكُ الأشياء.. لا أحدَ يلمسُها ما عداها.. فتحتْ أمّي "كريمة" الصندوق وأخرجتْ منه رسالة تبدو قديمة حسب اصْفِرار الورَق، أشاحتْ بِوجْهِها وطلبتْ منّي أنْ أقرأها.. وأنا أفتحها؛ ظننتُها وَصِية أو ما شابه.. فكُلّنا نعلم أنّ المرض الخبيث نهش جسد أمّي وأنّها تعيش لحظاتها الأخيرة. قرأتُ والحروف تتغلغلُ في داخلي؛ فأُحِسُّها إبَراً تنْغرزُ في عقلي وقلْبي.. كِدْتُ أفْقِدُ توازُني فأصرخ في وجْهِها، كِدْتُ أصبُّ نيران غضبي في وجْهِها الهزيل الشّاحب.. سقطتُ على الأريكة عند قدَمَيْ سريرها وبكيت.. بكيت.. أرادتْ أن تعتدل في جلْستها لتتحدّث أو لتشرح.. انتبهْتُ إلى حركة يدها؛ فإذا بها تُشيرُ أنْ: " أكْمِلْ القراءة.." بقية الحروف؛ تُطوِّحُ بي في غُيومِ كرْبٍ شديد يفلق الحجر..

اشتغلتْ أمّي كمديرة طبخ في أحد البيوت البورجوازية وهي في زهرة شبابها، كانتْ قد تخرّجتْ من مدرسة الطبخ وقدّمتْ ملفّها للعمل في أحد الفنادق أو المطاعم الكبيرة في البلدة، وبعد مدة؛ حصلتْ على العمل في مطعم؛ غير أنّها لم تستمِر هناك؛ حيث اقترح عليْها أحد المُرْتادين من البورجوازيين الكبار؛ أنْ تتولى مهمة الطبخ لضيوفه من أصحاب الصفقات؛ بعد أنِ استأذن من صديقه مالك المطعم، ووعدها بأنْ يُضاعف لها الأجر الذي تحصلُ عليْه في مكان عملها. بعد تفكيرٍ طويل؛ قرّرتْ الانتقال إلى العمل في قصر البورجوازي، فاتّصل صاحب المطعم بالقصر وأخبَرهم بتلبية الطلب.

استلمتِ العمل؛ وأمانيها تتصاعد مع كلّ راتب تقبِضُه: كرسي مُتحرّك لوالدها، غسالة ثياب لوالدتها مثل بقية الجارات، سرير مُريح لأخيها الذي يُتابع دراسته في ظروف بائسة.. سيرتدي ملابس جديدة مثل أقرانه في المناسبات، ستدْعمه بالدّروس الخصوصية في الموادّ الأساسية، فتختار له أجود المُعَلّمين وأكثرهم شهرة، ستشتري له خزانة جميلة من الخشب المنقوش؛ يُرتّبُ فيها أشياءهُ ويُخفي فيها مصروفه اليومي الذي يأخذه من أخته.. ستُغيّرُ أثاث البيْت؛ فقد أكلهُ البِلى منذ سنوات ولمْ يعُدْ ينفع.. ستُحقّقُ رغبة أختها في التسجيل بدورات تكوينية للحلاقة العصرية؛ يُكلّفها ذلك مصاريف مرتفعة حيث تشتري لها ما يلزم من الأجهزة والإكسسوارات المطلوبة.. كلّ هذه الأماني تحقّقتْ بفضل تفانيها في عملها وبفضل طيبة العائلة التي اشتغلتْ عندها، حتّى أنّ ربّة القصر؛ كانت كثيرا ما تناديها لمُجالستها والاستئناس بأحاديثها المشوّقة عن عوالم الطبخ وقصص الطبّاخين وقد يتشعّبُ الحديث بينهما؛ فتنتقلان إلى مواضيع أخرى مثل الاجتماع والسياسة والرياضة والفنّ وما شابه.. تمرّ الأيام؛ فتتعرّف "كريمة" على أخ زوجة صاحب القصر العائد من ديار الغربة. تنشأ بينهما علاقة؛ فيُقرّرُ الزواج منها بعد أن أخبرتْه بحمْلها منه.. وكأنّ الخطيئة تأبى إلا أنْ تطفو على السّطح.. سيموت "توفيق" في حادث سيارة بعد أنْ كلفه صهره بالتوجه إلى أحد مصانع العائلة؛ لِمُعايَنة الشّحْن نحْو المِيناء. كانتْ "سُكيْنة" أختُه؛ تعلم كل شيء عن علاقته ب: "كريمة" فقد أخذها معه لِخطبة الفتاة من والديْها، ثمّ طلب منها أنْ تُجهِّزَ كل ما يلزم؛ اسْتِعْداداً للعُرْس.. غير أنّ أجلَهُ سبقه، واستبدل تجهيزات العرس بتجهيزات الجنازة.. فحساباتُ الأقدار؛ تتجاوزُ حسابات الأحلام..!!

مع مرور الأيام؛ يبدأ بطنُ "كريمة" في البُروز.. تُدبّرُ أختُ المرحوم أمْرها حيث تُرْسلها إلى مزرعة العائلة خارج المدينة.. هناك ستهتمّ بها العائلة المُكلّفة بالعمل في المزرعة. قبل ذلك؛ تزور "كريمة" عائلتها وتُخْبِرُهُمْ أنها ستُرافق إحدى بنات صاحب القصر للعلاج خارج البلاد، وأنّ غيابها قد يطول حتى تُشْفى المريضة. كانتْ هذه فكرة "سُكيْنة" حتى لا ينفضح الأمر.. خطّطتْ أنْ يتربّى المولود في تلك المزرعة، فهو ابنُ أخيها ولا يُمْكِنُها التّخلّي عنه. غير أنّ الحسابات الجديدة؛ ستُلْغيها الأقدار مرة أخرى.. قبْل الولادة بليْلتيْن فقط؛ تتوفّى السيدة "سُكيْنة" بسكتة قلبية على إثر خبر سقوط المروحية العسكرية التي كان قد امتطاها ابنُها في إحدى الحِصص التّدريبية..

طقوس الجنازات؛ ستحْفرُ خنْدَقَها في قلب "كريمة".. ففي ساعة سوداء؛ غابت كلّ الحلول الممكنة، ولمْ يعُدْ من الجائز البقاء في المزرعة ولا الاحتفاظ بالمولود.. كانت تتعجّب من وجود إصبع زائدة في أحد قدَمَيْه..! خمّنتْ : "رُبّما ستكون هذه الإصبع الزائدة رحمة من الله.. قد تكون هي العلامة التي تُعينُ على التعرّف عليْه يوما ما.." ثم تركتْهُ لأقْدارِه في سلّة؛ بالسّوق الأسبوعي..

تعود "كريمة" إلى عملها في القصر، تستوحشُ المكان وقدْ خلا من أحبّائها: "سُكيْنة" و"توفيق".. بعد سنوات؛ يقترِحُ عليها صاحب القصر – وهو الذي علِمَ قصّتها عن طريق زوجته سُكيْنة- يقترح عليها الزّواج من أحد أصدقائه بعد أنْ تكفّل هو بإخباره عنْ ماضيها مع صهره المرحوم "توفيق". وافق الرّجلُ وهو المُحْتاج إلى رعاية خاصة في سِنِّهِ المُتقدّمة وظروفه الصعبة. لقد هجرتْهُ زوجته السابقة حين أتْعبَها مرَضُه وكثرةُ تدخلات أهله في حياتهما بسبب عدم قدرتها على الإنْجاب رغم طول مُدّة الزّواج؛ ففضّلتِ الانْفِصال عنه.. تزوّجتْه "كريمة" دون رغبة في الزواج.. وانتقلت إلى بيتها الجديد. أدّتْ ما عليْها تُّجاه زوجها الطّيّب، خدمتْهُ، حرصتْ على أوقات أدويته ومواعيد فحوصاته.. بعد سنتيْن؛ تُنْجِبُ "عصام".. يترعرع في أحضان أسرة مثالية؛ أسرة سعيدة؛ لولا النّغص الذي كان يهزم قلب "كريمة"؛ فتبكي وحرقة التخلي عن ابنها الأول؛ تُهشِّمُ ضلوعَها.."

بكى الأخوان.. طلبا المغفرة لأمّهما وقرّرا زيارة قبرها في نهاية الأسبوع..

فوق العمود الكهربائي..

كانتْ "مختارية" تراقب الحمامة الجديدة منْ نافذتها.. سارعتْ إلى وضع بعض الخبز في زاوية من النافذة؛ ثمّ ذهبتْ لتفتح الباب على إثْرِ طرقات متتاليات.. تُفاجَأُ والشّابّان أمامَها؛ بينما صوت الحاجّة "أُميْمة"؛ يعلو ويستفسر: " مَنِ الذي طرق الباب..؟" يصيحُ "أحمد" وهو على العتبة: " أنا "أحمد" يا أمّي "أميْمة".. أحمِلُ لكِ مفاجأة.." تهلّل وجه الحاجّة وهي تسمع صوت "أحمد"..

كان غذاءً فاخراً؛ أعدّتْهُ البنات؛ بطلبٍ من الحاجّة.. وكانتْ قصة "الأقدار" مُشوِّقة؛ ستتخذ منها "حكيمة" موضوعاً جديداً لكتاباتها الرِّوائية..

في الصباح؛ تُزيحُ "مختارية" الستائر كعادتها؛ وقبل أن تفتح زجاج النافذة؛ تُبْصر حمامة بألوانٍ زاهية؛ تحمل بمنقارها أعوادا؛ بعد أنْ وضعتْ الحشائش والريش والقشّ وبعض الأغصان الصغيرة في إحدى زوايا النافذة العريضة.. تبْتهِج الفتاةُ وتُفضّل أنْ تتريّث؛ لنْ تفتح النافذة حتى لا تُزْعِجَ الضيْفة الجَديدة.. إنّها بِصَددِ بِناءِ عُشّها..

"زيْنب"؛ هذا الصّباح..

عبر أمواج الأثير؛ يتسلّلُ صوت الإعلامية المتألّقة إلى القلوب؛ ليُعْلِنَ عن موضوع جلسة اليوم: "الرواية النسوية وخصوصياتها".. كان الحوار ثقافيا ممتعا؛ ناوش عوالم السّردي النسوي وقارب إشكالاته.. "زينب"؛ بِرِقّتها، بخِفةِ رُوحِها، بِحماسِها، بِنشاطها؛ تتعمّقُ مع الروائية المبْدعة "حكيمة" في النّقاش، تُثْرِيان الجلْسة، تتدخّلُ ثلة من مُسْتَمِعي الإذاعة المحلية، تتسع الآراء النقدية، تُسْتَحْضَرُ النظريات في الإبداع الإنساني ككلٍّ؛ بعيداً عن مسألة التّصنيف.. ينجح البرنامج.. بِنبرَاتها العذْبة؛ تُعْلِنُ الإعْلامية المُتألّقة؛ نهاية الوقت المسْموح به.. تبدأ نشرة الأخبار المُفصّلة؛ تُقدّمُها إحدى زميلات "زينب"..

***

شميسة غربي/ سيدي بلعباس/ الجزائر

لا عليك أن تلومَ أحداً

لو حشّد لكَ عبارات نابية، الليل

وقذفكَ بها، كلما نأت معانيكَ عنه

اختطف عظامك البرد

مضى بك الإرث المشاغب

ونجى من فرحك الأسى

لم تكنْ تضاريسك هي الأخرى موجة تتهجى الريح

في هذي البلاد الملعونة

اذا ما حطّتْ ضحكتك الأليفة

واعترفتْ بسذاجتها، عند نهاية السطر

وهي تتلو خارطة آلامكَ وهواجسكَ

عباراتكَ الغامضة التي مزّقها الغبن

جرفت الأيام إشاراتها الجارحة

موسيقى شتراوس و هايدن وفيروز لم تعُد تهمُك،

ذخائر العمر الباهتة التي انحسرَ ايقاعها

لم تعُدْ هي الأخرى كافية للمضي إلى تيه جديد

كشفتْ أحلامك الشحيحة حقيقة واحدة

هي أنك ستضاف كرقمٍ صريح بين أقرانك

وان ما جنيته من كتابة قصيدة على أمل أن تقتفي أثرك

ما هي سوى أظلاف تحفر في أنقاض وافتراضات

ربما سينجيك السرّ الذي سافر إلى قلبك البعيد

الحبر الغامق الذي تركته ينتقم لك على طاولة الحياة

المدن المجاورة التي انطفأ فيها كل شيء

سوى ثكنات، تزينك بإشارة ماكرة

على بعد زهرة ميتة من جراحك

لا تسقط حيرانَ ....

لا تذُبْ في سُكرتكَ كالأبله

ابتسم على شغافِ الذاكرة والكذب والذل

والوعد الذي بينه وبين الجمال مسافة خبث

ابتسامة تختصر بها لوحة سريالية

لا تشبه ما اقترفه دالي من حماقات

ليبقى هنا الجدار مضاء  إذنْ

يعانقُ الفراغ،

متطلباتك،

رائحة الكلمات وعربدة القواميس.

النجمة النائمة تهتف من بعيد :

يحيا الحُبّ و قراءة الكفّ

ما لهذا الرمل من صروف

من أساطير وخيانات

من وحشة تهب المعنى زمناً آخر للعزلةِ

من ريح لاهبة عطشى تلهثُ

توقظ أبجدية كاملة للحزنِ

وفوضى تعبث بالخيالِ

ضراوة تجعلك تكابد حلما مُجنّحا

أو ربما واقعاً رثّاً

سيترك وراءه طوائفَ ممزقة وملوكاً صرعى.

***

زياد السامرائي

ارخبيل الحب قد يداهمه الاشرار

ازيحوا

عن مرايا رؤاكم

وامانيكم

واحلامكم

لون الشوك

العوسج

وثرثرة الرمل

التراب

والغبار

والتي تبدو

كعمود

الخبث المستحكم

مطارد لمدارات

البرق الريح والمطر

ولاماني الهداهد

القبرات والفراشات

فافيقوا افيقوا

ان ارخبيل الحب

قد يداهمه

الاشرار الحمقى

انا لم الق شباكي

في البحر العائج

الا من اجل

اصطياد القرش

الابيض

ولم انصب فخاخي

الا من اجل اصطياد

الحداءات

الشواهين

والبزاة

فافيقوا افيقوا

ايها الاحبة

وغنوا غنوا

مع الايل

والغزلان

اغنيات البرق

والريح

واغنيات المطر.

***

سالم الياس مدالو

 

مايا قامت حلفت بعيونا تحمينا

زلزالْ يدمِّر فينا

عشّاقْ بْيبكوا ماضينا

مايا قامت حلفت بعيونا تحمينا

مايا شفيت تا تشفي الحاضر

من قهرو يشفينا

نحنا مين

والأرض شقَت منَّا عْنَاوينا

نحنا مين

والأرض سرقت منَّا غوالينا

مايا سمعت عن زلزالا بكيت

مايا صرخت و بدمعاتا همّت سألت

أيُّوب لساتو عبيحمي دودة صبرو؟!

ولَّا الموت لاحق همُّو بغدرو؟!

مايا رجعت نامت تا تحمي بكرا

مايا حلمت إنُّو حبَّا باقي فوق الذكرى

مايا نسيت عيسى المصلوب

صارت سيرتها هادا الشعب المنكوب

مايا نسيت عدرا المثلى

صارت قداما هي الأم الثكلى

بردان و ناسي اسمو

مضيع بيتو و شكلو و كسمو

و بيطلعلك واحد بصَّار

يا روحي حملك بالقنطار

وبتطلعلك من قلب الفنجان

كذبة كبرى متل الجان

زلزالك عايش جوَّاتك

خلِّي فكرك أكبر من سحباتك

و تا تصلي راجع ركعاتك

بس لا تنس بالرجعة عقلاتك

مايا قهرت هالزلزال

عودوا يا شعبي المختار

مايا كسرت هالتمثال

قوموا يا شعبي المحتار

***

بقلم: الشاعر ياسين الرزوق زيوس

الخميس 23\2\2023

 

يقولون لي: لماذا لا تنشر ما تكتبه على الفيسبوك؟

أقول:

أنا لا أتجرأ

على نشر قصائدي

على أوراق تذروها الرياح

أخاف أنّ أحداً يَسرُقها !

فأنا لستُ نزاراً من آل القباني

ولا محموداً من آل درويش

ولا واحدا من رجالٍ يَعرفهُم زماني

وقصائدي ... يا أصدقائي

ليست قصائدَ حُبٍ

ولا حتى حِكاية

من حكاياتِ الغرامْ

قصائدي .. يا سادتي

كلِماتُ ودٍ

تحمل وجَعي وشَوقي

إلى بلدي الجَريح ِ

أرسلها  كُلَّ صَباح ٍ

نحوَ شرق المُتوسّطِ

مَعَ  سُحُبِ  الغمامْ .

***

بقلم: إسماعيل مكارم

كراسنودار 2016

القَلْبُ

وَطِّنْ جِراحَكَ يا قلبْ..

وحَدَكَ في الشَّــتات،

وَحَدَكَ في العــراق،

وَحَدكَ في نبضِكَ تَحْيـــا،

وحَدَك قلبُ امرأةٍ – طِفـلةْ

عانَقَتْهُ دُنيا من خَـــيــْبــَةْ.

**

2 - الـنَّهدُ

حَمَامٌ مقـرور ْ

بلا ريشٍ ولا عُشٍّ

في العَـتَمَةِ مهجورْ.

إنّهُ الطّفلُ أبوهُ مفقودْ،

أمسَ عيناهُ تسألُني:

يا أُمي مَتَى أبي يعودْ؟

أبوكَ الحياةُ يا وَلدي

كلُّها عَــنْكَ في صُدودْ.

**

3- الـيَـدُ

بارِدةٌ رَقِـيـْقَةٌ

كَــوَرَقَةِ لَـبْلاَبٍ

في زَهْـرِيَّةِ السيدةِ المُطلَّقةِ،

وَضَعَـتْها في رُكنِ المَطْبَخِ،

ترمقُ جمالَها نظراتُها العَجْلَى،

وَلَنْ تَـمُسَها.

**

4- هِي

هِي والنِّسيانُ

تَسْتَبـِقُ الموعِـدْ

بلحظاتٍ عَجْلَى

تُحدِّقُ في صفحةِ روحِها

يوجِعُها لَحْنِي، إذْ يبقى طَرِيًّا،

تَرْمِيه بعيدًا كي يتبدّدْ.

بنوبَةٍ نأيٍ إليَّ تغتالُ فرحتَها الآنيّة،

تَصحو منها قائلةً:

الأقدارُ تُسَدِّدْ.

**

5- الذِّكْرَى

ترشُّ عينيَّ

بِـوَجْهِها الذي مهما مُتُ سَيَحْيا

فِـــــيَّ.

إبَرٌ مِن ملامِحها آنَ كانت تصفو

هذِي هَدْهَدَتِي اللَّيلِيّة.

**

6 - انْتِـظَارُ الحقيقة

مَتَى انتظَرْتُها؟

حِينَ احترَقَتْ آخرُ الآمال

في قَـفَـصِ الوَطَنِ.

حينَ احتسيتُ حليبًا مُملّحًا بالدَّمعِ

آخرَ صباحاتٍ في سونغ جيانغ والآن.

حينَ أُزيّنُ وَجهي

أمامَ المرآةِ بِرَمادِ الأُغنياتْ.

حينَ أُبْصِرُ فِتنتي، وسرُّها اللاشيءُ ألوانُه كِذْبَاتْ.

**

7 - الزُّور

لحظةُ قوله أحبُّكِ،

وما أن تنتهي اللحظةُ يبدأ قدرُ الحياة،

لحظةُ عمراً يرميني إلى قاعِ روحِهِ،

ثُمّ يَمسكُ بيَدِي

كما يمسكُ كيسَ نِفايات!!

لحظة يسطعُ عريهُ شعاعًا مِن الغيبِ

فَيُطْفِئه بيقينهِ أَنَّه هُراء.

لحظة يحبو حنيني إليهِ

ويراهُ شَوْكًا نابتًا على قارِعةِ المُحال

لحظة قُبلة ما تُضاهيها أبجدياتُ الكلام

ثُمّ تصير جُرْحًا علينا أن نخيطَه بالحَرام.

حينَ يرنُّ هاتِفُ شِعْـري عليه

يجدُّه مشغولًا بِتَافِهات الأيام

أعوامٌ اقـتَرَبْنا وَذُبْنَا بلا غايةٍ،

وأعوامٌ ستأتي قرارُه بيننا الزُّؤام.

**

8- المَدينةُ والصَّدِيقَةُ

شَنْغَهاي البَعيدةُ

علّمتني البُـــكــاءْ.

هي ألا يحين للحزنِ انطفاء.

شنغهايُ الصَّفْصَافَةُ كانت أبجديةَ الشعور،

هي شُعَلُ الكآبَةِ آنَ يهطلُ المساءْ.

شنغهاي عنقودُ التَّيهِ في الزمنِ الراهِنِ،

هي تُعانِدُ نفسي

وتستكين في ظلماتِها بلا انتهاءْ.

**

9- الحُبُّ

إيمانُكِ الأعمى بِكَرْكَرَةِ الحياة،

رَمْسُ أُمِّكِ الذي حملتِهِ إلى بغدادَ

ثُمّ الصِّينَ،

آملةً منه السلامَ والأمنياتْ.

حُلٌمٌ عنّي ابتعدَ

وآخَرٌ يُبحرُ بمهجتي

ضدَّ ما تُريد.

نَجمةٌ التحَفَتْ سَماءَ تَمَرّدي

ثُمّ هَوَت إلى قاعِ الأشياءِ والأعباءِ.

مُمَزَّقةُ السَّنا لِمامها

خَطْفَةٌ

ودَمْعَةٌ سَمَّيْتُها أَنــــا

وَجْهُها لِغيرها

وطَبعها للنارِ وجَمْرِها

وقلبُها لجوهرِها،

واللاشيء سحابةٌ لابِثَةٌ بروحِها،

إذِن، أسائلها أينَ فيها أنا؟

وَلِـــمَ أَحْبَبتُها؟

**

10- دُنْيا

أَفَّـاكَـةٌ آمنتُ بِصِدْقِي بِها

ثلاثينَ وثمان سَنَةْ.

رويدًا رويدًا حَمَلَتْني مع الرِيحِ القَاصيةِ،

وَقَضَتْ: مَثاوِيكِ أَنْ تَشْحَبي

فِي روحي

أَنْ تَصِيري

لَهَبًا خَانَتْهُ الجَذْوَةْ

أو يومًا يتلو يومًا

بلا أثرٍ غيرَ العَبْرَةْ.

***

د. سحر شبر

١٤/٢/٢٠٢٣

إنني في منتصف شباط الشتوي أحاول أن أخرج قلمي إلى سطح ورق... أحاول أن أنقذ حرفاً من تحت أنقاض الحطام....

إنني أتمسك بحزمة من الأبجدية لتعينني على الوقوف بعد ذاك التعثر الضبابي وتلك الهزات الإرتدادية  التي تناثرت على إثرها تلك الصلابة التي أوهمتك بها....

أحاول أن أمسك بضوء حرف يضيء تلك العتمة الخارجة من قبو الأيام الباهتة....

كنت قد وعدتك أن أعزف بفرشاتي لحن فراشات الربيع.. ولكن تلك الغيمة القاتمة التي زلزلت نبضي وقلمي وكذا عزفي أطاحت بفرحي...

أريد أن أخرج حرفاً إلى تلك الحقول الرطبة المكتضة بزهرة عباد الشمس.. وإلى أوراقي البيضاء التي تكسوها الثلوج لتنصهر كدفئ موقد في تعداد الرمق الأخير لفصل الحنين....

وعدتك أن تعكس كتاباتي ملامح وجهك وحضورك وفصلك الذي  ينوب عنك في كل مرة...

وأن أغرس مفردة تحت ظل شجرة البرتقال لتهديك رائحة الأرصفة الجامدة.....

إنني أجلس مقابل هذا الخراب وهذا الضجيج الذي يصم الآذان في محاولة يائسة من إخماد الصوت الآتي من الأعماق، ومحاولة إستعادة هدوء هرب من قبضة النفس....

إنني أبحث عن أبجدية للإيجار بنكهة القهوة وطعم السكاكر الملونة التي أحشو بها جيب معطفي الصغير...

وكتابة نص أعيد فيه روعة الأشياء العالقة في أحاديثنا...

إنني أبحث عن عفوية الأشياء من بين ركام الحياة قبل أن تتجمد الأقلام الحبرية بإنحدار مخيف...

عندما كنت أخرج بقلمي إلى حقل سطري وأجلس على حافة الجرف الورقي كنت مؤثثة بترف الشعور، وكأنني أرتشف الكتابة على مهل متعمد...

عندما كنت أسترق النظر إلى أحلامي الذاهبة إلى البعيد كنت أحاول أن أتشبث بالسراب الذي كان كالوجود الحقيقي الثابت....

إن الأجواء الكتابية التي تجوب الريف الورقي وتهمس بأن ثمة حلماً يكبر في رحم الورق بلا صدع.

***

مريم الشكيلية - سلطنة عُمان

الحدث يقع على رأسك كالصاعقة، الجميع يبكون بصوت عال، وانت جفت لديك الدموع، رحلت من كانت بقربك تتعاونان معا على مآسي الحياة وأهوالها، تشتركان في مواجهة الصعاب الكثيرة، والمسرات النادرة، مرضها العسير لم يجعلها تفقد الأمل، وظلت الابتسامة مرسومة على محياها وهي تصارع الآلام الكبيرة، وأنت تنظرين إليها بإعجاب، مقتدية بقوتها،تراجعين معها عيادات الأطباء الخصوصيين والمستشفيات الحكومية، ويجرون لها التحليلات الكثيرة واصفين الدواء، تمتلئ بالعزيمة على عدم السماح للمرض أن يفترس الإرادة، ترفض الأوجاع الجارية لاستيطان الجسد والقضاء على مقاومة الروح، تراجعين معها الأطباء وأنت معجبة بابتسامتها الواثقة وضحكتها المتواصلة الهازئة بالعراقيل، تعتني بك رغم مرضها الخبيث، وتقوم بمساعدتك بتحمل الأعباء المختلفة،تمدك بالقوة، تحاولين أن تبعدي فكرة رحيلها الدائم الوشيك،

- مرضها صعب والأمل في بقائها ضعيف!

من يقف بجانبك وقد بعد عنك الأحباب وسافر الأهل والأصحاب،وبقيتما وحيدتين في معترك الحياة تصارعان حوادثها الأليمة بنضالكما الكبير..

- الضعف يستولي على قلبها، والمعدة استقرت بها الجراثيم، ولم تعد قادرة على استقبال الطعام..

تذهبين بها إلى الأطباء في داخل البلاد وخارجها، وأنت تأملين أن يجد احدهم الدواء الشافي لمعاناتها المستمرة وألمها الممض، لم تكن تصرخ مشتكية من الآلام المبرحة، بل تضحك باستمرار، وتستبدل بالصرخة ضحكة متواصلة لإبعاد شبح المرض المستقر بالجسد، روحها قوية، تتناسين تعبك الشديد وأمراضك، تستمدين القوة من إصرارها على تحدي الأوجاع،والانتصار على نتائج المرض، كلاكما تجد سعادتها مع الأخرى وتنهلان من منبع ثر من الحنان

- معدتها ضعيفة، سنحاول ان نستخرج الماء، ليتمكن الغذاء من إرواء جسدها الظاميء

يأتيك صوتها واهنا، فلا تدعين المخاوف تفترس يقينك ان العلاج سوف يكون بمقدور الطبيب

تهرعين بها الى المستشفى علهم ينجحون في الحصول على العلاج المأمول، لم يجدوا الماء هناك، بل بقع من الدماء، استيطان الداء الخبيث رغم عمليتي استئصال الثدي، يتمدد المرض الى خلايا الجسم، ولم تعد وصفات الأطباء قادرة على منع زحفه المستمر، تنظرين الى الباب بلهفة، علّ المداوي يأتيك بالخبر السار، يفتح الباب، ويقول كلمات لاتتمكنين من استيعاب معناها، الجارة كانت تحبها وتحترم صفاتها،ينطلق منها صوت البكاء عاليا، ماذا جرى؟ ولماذا البكاء والنحيب؟ إنها عزيزتك الغالية، وهل تذهب دون وداع؟ لاتصدقين الخبر

تسارع جارتك الى الاتصال بالمعارف والأحباب، تنبئهم بالخبر الفاجع، يأتون تباعا لتعزيتك..

الجميع يوالون الصراخ، أحقا يحبونها كحبك أنت؟، تجف عندك القدرة على البكاء، تفقدين صوتك، وتجدين قدميك عاجزتين عن حملك، يحيط بك الحاضرون، محاولين ان يعينوك على مصابك الأليم، لا تصدقين ما حل بك، هل رحلت حقا؟ ولم يعد بمقدورك أن تكوني معها، من سيبقى معك، من تبثينه شكواك من عقوق الناس وغدر الزمان، وجفاف الأنهار من مائها العذب،من يستطيع أن يقف بجانبك، تستمعين إلى همومه ويصغي إلى معاناتك، محاولا تخفيف الجراح، وجهها امامك مازال مبتسما معبرا عن ارادته القوية في التصدي للصعاب.

المصاب أليم، تنظرين إلى الوجوه، التي غشيها الحزن، فجعتهم الحادثة، مشاعرهم صادقة، الجميع سيهرعون الى منازلهم،بعد يومين، من يقف معك، هل ستكونين وحيدة، والغربة تملأ أيامك وتفترس لياليك، وأنت مهيضة الجناح، تحاولين الوقوف، لا تلبي رغبتك قدماك، ما عادتا تأتمران بما يحمله رأسك من أمنيات، يا رب رحمتك من لك بهذا العالم؟ شقيقتك رحلت، لا تتحملين نظرات الإشفاق، تعاودين المحاولة، تسقطين على الأرض، نظرات الإشفاق تنهمر عليك، لعنات تصفع مشاعرك، تصممين على الانتصار، ينتظرك السقوط مرة أخرى مكشرا عن أنيابه الهازئة، تمتد إليك الأيادي، تتجملين بالصبر، تطل عليك بابتسامتها الواثقة ونظرتها الحنون، أليس الأجدر بك أن تتسلحي بالقوة التي كانت تبثك إياها، فلتحاولي مرات آخر .. تهطل دموعك، تخفف عنك كثافة الأحزان، تمتد إليك احد الأيادي، تمسكين بها لحظة، تشكرين صاحب اليد المساعدة، وتواصلين المسير وحدك.

***

صبيحة شبر

13 آب 2010

 

تقف القصيدة على حافة

أصابعي

تتعلق في قشة

لتنجو من الغرق

في حبري

لا أحد يدفعها

لا ظل ينزع قميصه

الرمادي

ليثير شهواتها

المجنونة

لا قلب يضخها في نبض

سريع

غير منتظم..

و لا لغة تتجرد من نياشينها

و أوسمتها

لتجلس معها

جلسة ودية

على أغنية و فنجان

قهوة..

تقف هكذا وحيدة

ضائعة ..

على أعتاب شجن عابر

تحتار بين البقاء والعودة

تعلق في القلب ككلمة

جارحة..

كحزن عميق

او كرصاصة لا تعرف

من أين أتت..

تجاور صمتها

في صمت

تبحث عن وجه يشبه

أمنية قديمة

ترتديه ..

و لكن وجوه العابرين

الفضفاضة.. الخالية

من الأمنيات

لا تناسب

مقاسات جسمها..

و حين تختنق

في عنق الوقت

الطويل.. تذوب..

كنهايات حلم

تحت الضوء..

ثم

تمحو بصماتها عن أصابعي

و تعود ..

و هي تجر أذيال خيبتها

خالية من كل أسماء الإشارة

البعيدة و القريبة..

و لكن

كل أصابعها تشير

إليك..

***

بقلم: وفاء كريم

 

مِن أهْدابِ النَّرجِسِ سُرقَت أَحْلامِي

من طَوق ِ البَنفسَجِ اغْتيلَتْ لهَفاتي

ارتَعَشَت عَصافيرُ حُنجرتِي

وهُناكَ على المقعَدِ الأسْمَر

ما زالَ ثَوبِي يَقطرُ دَماً

وأُمنياتي جاثِيَةً لتُقبِّلَ المطر

*

كُلَّما أُمَشِّطُ الشمسَ ..

يَقُطعّونَ أَصابعِي!!

كلَّما أُغازلُ  شَفةَ القمر ..

يَئِدُونَ أُنوثَتِي!!

وفي كلِّ مَرَّةٍ أتحَدَّى الريحَ ..

يطعنونني برُمحٍ وثَنيّ !!

يبدو لي أنَ الصباحَ بلوريٌ

أنّ الحُلمَ مُباحٌ

والليلَ طَليقُ الآهاتِ

فَتَبتَسِمُ في جسديَ الجراحُ

تَحُطّ الغادرينيا على شُرُفاتي

وتَتَساءَلُ روحي

أَمَا للفرحِ من شَهقَةٍ أَخيرَةْ؟

وللمَلائكةِ عرسٌ في السماءِ

هل سَتَحتَفِلُ الأَرضُ ٍبيوم ٍ  للسلامِ؟

هل سَيُصَفِّقُ الرِّبيعُ للنصرِ؟

*

عُذراً لأَنني أَحلَمُ...

عُذراً لأنَني قَبَّلتُ الشمسَ

أنا زهرَةُ هَواءِ, أنْفاسُ ماء

ونَبْضُ حُريَّة وبَقاء...

سأبْقى أَحْلَمُ..

رَغمَ أَنْفِ الأَعَاصيرِ

وأعْشَقُ قَوسَ قُزَح

بُعثْتُ زرقاءَ اليَمامَةِ

عَمّدْنِي  يا مطرُ ...

عَمّدْنِي يا مطرُ ...

***

سلوى فرح - كندا

 

يَقظةُ الروحِ ونورُ الفِكرةِ

زمنٌ بانَ بحَجْمِ اللحْظةِ

*

مَن أنا فيها وهلْ فيها أنا

يا وَجيعَ القلبِ عندَ الصَحْوةِ

*

وسَراباً بينَ طيّاتِ الرؤى

هلْ وأدْناها بتُرْبِ الغَفلةِ؟

*

دامَتِ الدنيا شِراعاً تائِهاً

يَتماهى بمَصيرِ المَوْجةِ

*

هكذا نحنُ أتينا نحْوَها

ولبثنا بخيامِ الوَمْضَةِ

*

لا تقلْ عِشنا ولكنْ إنّنا

برَحاها كجَريشِ الحَبَّةِ

*

طحَنتنا , خَبَزَتْنا نارُها

أكَلتنا بوعاءِ الآفةِ

*

مِنْ ترابٍ لترابٍ سِفْرُها

وكذا فحْوى خِتامِ القِصَةِ

*

يا أريباً قد تَسامى وارْتقى

وتَهاوى في كهوفِ الشِدّةِ

*

أمْعَنَ الفِكرُ بحالٍ أوْردَتْ

كلُّ شيئٍ لحَضيضِ النقطةِ

*

ما لنا فيها خيارٌ صائِبٌ

كمْ أصابَتْ بسلاحِ القُدْرةِ

*

ضعفاءٌ بؤساءٌ كلنا

وابْتلينا بادِّعاءِ القوةِ

*

مثلُ خلقٍ يتبارى فَوْقَها

نَجْتَنيها بمَعيلِ الكُثرةِ

*

آيةُ المَخلوقِ مَرهونٌ بها

وأسيرٌ بقيودِ الدَوْرَةِ

*

طفحَ الكَيْلُ وما كالتْ لنا

غيرَ حَيْفٍ مِنْ بَلاءِ السَطوَةِ

*

إنّها أمٌّ رَؤومٌ أرْضَعَتْ

وحشَ غَدرٍ آدميَ الطلعَةِ

*

نهْرُها الأجْيالُ دفّاقُ الهَوى

وبهِ الخَلقُ بحَجمِ القَطرةِ

*

فلماذا بصُراخٍ بَدْؤها

وخِتامٌ بظلامِ الحُفرَةِ

*

سألتْ روحٌ وطاشتْ لبّها

وتهاوَتْ كطريحِ الصَرْعَةِ

*

أيّها المَوْتُ العزومُ المُفتدى

عندكَ الآنامُ أشْهى الأكلةِ

*

كمْ طُمِرْنا برَغيبٍ لاهِبٍ

وانْتَهيْنا لرَصيْفِ الرِحْلةِ!!

***

د. صادق السامرائي

1\9\2019

من حيث لا يتوقع حدثت المعجزة التي بدلت كل شيء، كان ذلك عقب زيارة ابن عمه المخرج التلفزيوني عبد السميع أول أمس، تغدى معهم ملوخية وأرانب، وبينما هو يأكل التفت اليه واللقمة في منتصف الطريق بين يده وفمه وقال له:" تيجي تمثل معي يا بهاء؟". هز بهاء رأسه بالموافقة من دون تفكير، أما أمه فبانت عليها علامات الفرح المفاجئ وقالت بلهفة وفرح:" آه والنبي يا عبده". أردف عبد السميع وهو يدفع اللقمة إلى فمه:" بهاء صغير وشكله لطيف". تطلعت أمه إليه بفخر، بينما غمره الاستياء من كلمة " صغير". صحيح أنه في الثالثة عشرة لكنه ليس هذا " الصغير"، وكيف يكون وقد خفق قلبه بالحب منذ أسبوع حين لمح منى وهي تهبط على درج السلم من الطابق الثاني حيث تسكن. حينئذاك تطلع اليها وأحس في لحظة أن حريقا شب فيه وأحال كيانه مادة أخرى فلم يعد يتعرف إلى نفسه. لقد اضطرب وقلق منذ أن رآها تمشي بخفة رشيقة وشعرها الذهبي يتماوج فوق كتفيها، وبعد ذلك يقولون: " صغير ولطيف" ؟! هل يتقلب في الليل صغير وهو يرى منى تتأرجح على أطراف رموشه إلى أن يقول لها: " أحبك يامنى"؟ وأخذ يراقبها من فرجة ستارة الردهة حين تزورهم، وهي جالسة مع أخواته. ينظر إليها ويتساءل كيف تشع منها كل هذه السعادة؟ ارتج قلبه لكنه لم يجرؤ على مصارحتها بما يحسه، وظل كلما صادفها يتطلع اليها صامتا، بلهفة، ولأن العشاق كما سمع يكتبون الشعر- فقد كتب قصيدة صغيرة من بيتين اثنين: "منى شعرها ذهب.. وقلبي معها ذهب"، وتعهد أمام نفسه باستكمالها في ما بعد لتصبح أكبر. لكن ها هي المعجزة تقع ويدعوه ابن عمه إلى التمثيل، وتجرى الأحداث في اتجاه آخر.

فجر اليوم التالي، كان ينتظر أن يذهب إلى التلفزيون. استيقظت أمه مبكرا، تغسل وجهه وتكوي البنطلون والقميص وتراجع تسريحة شعره أمام المرآة. أخيرا دق جرس الباب وظهر شخص يسأل: "الأستاذ بهاء موجود؟"، فتقدم من خلف فستان أمه، وتطلع إليه المندوب نادما أنه قال " الأستاذ" ثم صحبه إلى مبنى التلفزيون. في الطريق أوضح له: " المفروض أننا نصور ناس يروحون ويجيئون في طرقة داخل مستشفى، وأنت ستمشي في الطرقة وبجوارك رجل كبير يسألك:ححجرة رقم 8؟ تجيبه: لاء . حجرة 14. فاهم ؟". هز بهاء رأسه أنه فهم.

صعدا إلى المبنى. وفي الاستديو أجلسوه على كرسي خلف ديكورات المشهد وجاءه أحدهم بكوب عصير برتقال. بعد قليل أشار إليه مساعد المخرج أن يستعد لأداء دوره، وما لبث أحدهم أن دفعه من كتفه الى الطرقة تحت ضوء كشافات النور ومعه الرجل الكبير. بعد عدة خطوات مال الرجل يسأله: "حجرة رقم 8؟". هنا طقت في دماغ بهاء أن عبد السميع المخرج ابن عمه وكثيرا ما يتغدى عندهم، فكيف يقتصر دور في التمثيلية على كلمتين؟!. لذلك كبر بهاء الدور مؤكدا ما يقوله بحركات يديه وحواجبه وتلعيب رقبته: " لاء يا عم. ليست حجرة 8، هو كان هناك لما كانت حالته صعبة، لكن عندما تحسن نقلوه بعد ذلك إلى.."، وبينما بهاء يسترسل هبطت عليه من كابينة أعلى الاستديو صيحة المخرج: "ستوب. وقف". وصاح مساعد المخرج في بهاء:" هما كلمتان وبس. أنت مرور فقط. منظر يعني. نعيد المشهد". اشتغلت الكاميرات مجددا ودخل بهاء إلى الممر مكسور الخاطر ولفظ الكلمتين محبطا: " حجرة 14". بعدها قاموا بتوصيله إلى البيت في تاكسي. طرق الباب وما إن فتحت أمه حتى تلقفته بين أحضانها بفرح تقبله مهنئة تستفسر منه عما جرى، لكنه كان مغتما حتى أنه لم يسمعها تقول له: " المسلسل سيذاع الساعة الخامسة اليوم". تظاهر بهاء بالنوم لكي لا يشهد الحلقة، ولم يخطر له أن لحظة ظهوره السريعة على الشاشة ستكون المعجزة التي تغير كل شيء، لكنه عرف ذلك في اليوم التالي حين صادف منى على الدرج وفوجئ بها تستوقفه، وتمسك به من كتفيه وقد فتحت عينيها بدهشة وفرح وهي تصيح: "معقول يا بهاء؟ معقول؟! أنا شفتك في التلفزيون! كنت جميل جدا في الممر". لم يصدق أن التي تقف أمامه وتحدثه منى. تجمد أمامها متمنيا أن يمسك بيدها، وقد خطر له أن هذه هي اللحظة المواتية فشد رقبته لأعلى وتمتم يتواضع بصوت وقور:  " هو دور بسيط.. للبداية". هزته من مرفقيه تصيح: " لا يا بهاء.. كنت حلو قوي، وماشي بثقة وعظمة. ستكون نجما كبيرا.. يا سلام..يا سلام"، ثم هرولت تواصل الهبوط الى مخرج العمارة. الآن أحب بهاء لحظة العبور السريعة في المشهد، فقد أصبحت المعجزة التي قربته من منى. في الليل ظل يردد على مسامعها قصيدته الصغيرة " منى شعرها ذهب.. وقلبي معها ذهب".

بانقضاء شهر كبس عليه الاستعداد للامتحانات فلم ير منى طويلا إلى أن فوجئ أول أمس بزغاريد في فضاء السلالم. صعد إلى الطابق الثاني ورأى على باب شقة منى مصابيح ملونة معلقة، وأمام الباب زحمة من البنات والرجال. استفسر فقيل له إنها خطوبة منى! ولم ينقض نصف عام إلا وكانت منى قد تركت شقة أهلها ولم يعد بهاء يراها. اعتاد غيابها في العام الأول، ولم يرها سوى مرة بالمصادفة وهي تصعد لزيارة أمها، لكنه لم يلمح في عينيها السعادة البكر التي كانت تضحك بها وهي تداري فمها بيدها، وتباعدت في الليل مرات ظهورها، وإن كانت من وقت لآخر تمشي في ذاكرته من دون صوت، فيعيش حلما مبهما. ولم يبق من القصة سوى بيتين من قصيدة صغيرة.

***

د. أحمد الخميسي

قاص وكاتب صحفي مصري

ومضات (1)

لم أكن احب قط عبد الناصر فقد كان عمري اثني عشر عاما حين حدث انقلاب شباط عام ١٩٦٣ المدعوم منه وكنت اسمع واعي السباب والشتائم التي كان يكيلها القادة وسياسيين أحبهم.

لابد أن اذكر ذلك فالاسطر السابقة تصلح لتكون مقدمة لنومي المبكر البارحة الساعة الثامنة نمت على غير عادتي فحلمت تلك الليلة أني رجعت شابا  وانني في منزل عبد الناصر لم ادخل داخل البيت كنت في الحديقة الواسعة ورأيت اولاده الصغار يلعبون على بساط جميل من الحشاش اللادمعة الخضراء خمنت ان عمره ٥١ عاما وقد نسيت وقتها أني ولدت عام ١٩٥١ كان نشيطا متفائلا طلب من أولاده ان يدخلوا المنزل وحين انصرفوا  قلت له سيادة الرئيس مارأيك أن اجري معك مقابلة؟.

فقال مبتسما  اذن يمكن ان نذهب إلى منزل حسين رياض

تفاءلت خيرا بجوابه ونسيت أن الممثل حسبن رياض مات منذ عقود.

ذهبنا مسرعين الى بيته وجدنا الباب مفتوحا فعبرنا من دهليز إلى غرفة كل أثاثها فخم  تعلوه الرهبة على طراز القرن التاسع عشر ويشبع في الغرفة جو أشبه بالخافت قال هنا نجري المقابلة وخلال دقائق اندفع من الممر  حسين رياياض .كان البرم  يلوح على وجهه قال هذه الغرفة لا تليق بكما فانصعت لأمره وخرجت.

لم آتردد او أنتظر الرئيس خرجت من الغرفة الى حيث الصحو والشارع الواسع.

***

د. قصي الشيخ عسكر

....................

ملاحظة:

في الصباح حين استيقظت اتصلت بصديقي الناقد والمترجم الأديب صالح الرزوق حكيت له الحلم فقال يصلح أن يكون قصة وحكى لي حلما غريبا آخر

تعَلّمتُ

أن أمسك القلم

يمينًا..

والعشق يسارًا..

*

وأنت مُمْسِك

الهواء .. حتى

بنواجذك

*

أين انت مني

ومن نفسك ؟

*

أضعتَ بوصلة

الهوى

في مَصَبِّ أحلامٍ

خاوية

في قعر الغواية

*

شمعة بريئة

اوقدتُها في

ظلمة رؤياك

*

فأطفأتَها

باستدارة ظهرك

متوجهًا

الى قاع التيه

ظنًا أنه الهُدى ..

*

ضياع في يباب

السنين ..

تشطب أيامًا

ليست

بحسبان الرزنامة ..

*

تتشبث بظلِ

صنم ..

*

تقود نبضك

عكس تيار

الحب ..

*

متى ستتعلم

أن اليسارَ .. قلبٌ

لا انقلاب ..

***

ايهاب عنان سنجاري

كاتب وشاعر / العراق

 

مُهْدَاةٌ إِلَى صَدِيقَتِي الشاعرة اللبنانية

كريستين افرام

***

حَبِيبَتِي أَنْتِ كُلُّ عُمْرِي

وَأَنْتِ إِشْرَاقَةٌ بِصَدْرِي

*

وَأَنْتِ شِعْرٌ وَأَنْتِ نَثْرٌ

يَخْتَالُ فِي رِقَّةٍ وَيَسْرِي

*

وَأَنْتِ تَرْنِيمَةُ اللَّيَالِي

 وَأَنْتِ حُبُّ الدُّنَا بِفَجْرِي

*

تَصَوَّرِي كَمْ أَرَدْتُ حُبِّي

بِنَبْضِ قَلْبِي دُخُولَ قَصْرِي

*

أَضُمُّ تَغْرِيدَةً وَأَمْضِي

بِقَلْبِكِ انْسَابَ عِنْدَ بَحْرِي

*

وَأَحْضُنُ الْحُبَّ بِاحْتِفَالٍ

يُقَامُ بِالسَّعْدِ عِنْدَ نَهْرِي

*

أَسْقِيكِ يَا وَرْدَةً تَجَلَّتْ

بِمِسْكِ طِيبٍ وَفَوْحِ عِطْرِي

*

وَأَنْتِ أُمْنِيَّةٌ بِعُمْقِي

وَأَنْتِ سَاقِي وَأَنْتِ جِذْرِي

*

وَأَنْتِ شَمْسٌ أَثْرَتْ بِنَائِي

دَوَاةُ قَلْبِي وَنَبْضُ حِبْرِي

*

إِبْدَاعُ طَيَّارَةٍ تُنَادِي

هَمْسَ اللَّيَالِي بِنُور ذِكْرِي

*

يَا أَنْتِ يَا حُبَّنَا الْمُفَدَّى

يَا كَنْزَ حُبٍّ لَهَى بِتِبْرِي

*

يَا أَنْتِ يَا شَهْدَنَا الْمُصَفَّى

مَلِيكَةٌ كَبَّرَتْ لِنَصْرِي

***

د. محسن عبد المعطي

شاعر وروائي مصري

...................

هذه القصيدة الجميلة من بحر البسيط المجزوء

العروض مجزوء مقطوع مخبون والضرب مجزوء مقطوع مخبون

مُسْتَفْعِلُن فَاعِلُنْ فَعُولُنْ  مُسْتَفْعِلُن فَاعِلُنْ فَعُولُنْ

مثل:

يَا أَنْتِ يَا حُبَّنَا الْمُفَدَّىيَا كَنْزَ حُبٍّ لَهَى بِتِبْرِي

يَا أَنْتِ يَا {مُسْتَفْعِلُن}حُبَّنَا الْ {فَاعِلُنْ}مُفَدَّى{فَعُولُنْ }يَا كَنْزَ حُبْ{ مُسْتَفْعِلُن} بِنْلَهَى{ فَاعِلُنْ} بِتِبْرِي{فَعُولُنْ}

ويسمى هذا الوزن الجميل مخلع البسيط

 

ضائقة الوجع والألم

من نحافة ومرض

تشكو (موناليزا):

هل من مقبلٍ

هل من كفيل

هل من مُطبّب؟

(أنا من هتفتْ الأرض لها وَجْدا)

مرضي، حزني، بكائي...

آه على البيطري!

طردني، أهانني، أفجعني...

(لا علاج، لا حياة، لا أمل!)

انكسر دمعي صوتا في المدى

وفاض يمتزج من نبع النحافة وصهد هزال العضلات

يتساقط رذاذ الثعلبة،

لدغات البراغيث،

من جلدي وعرقي...

ها أنا أشرب من فَرْوِ الرثاء شقاء

حمى وسعالا...

ربي إني أدعوكَ فاستجب!

أنتما أيها الملكان..

(إنا بشرناكما صدقة، خيرا، إحسانا)

كونا بالقطة (موناليزا)

عونا

حنانا

وشفاء

اسكن أيها الألم

بنداء من سميع عليم

من رب رحيم

عاشتْ (موناليزا)

سعادة، دفئا، ونعيما

لم تنكسر،

لم تستسلم،

لم تركع،

قوية الكبرياء

مجادلة بيطري الندامه!

عجبا لهذي العلامه!

لن يجود الزمان بعذراءٍ مثلِها

فكم أعيتها الأوجاع فالتأمت!

-ألا يحق لكل إنسيٍّ الدعاء لها؟-

فكم أرهقتها الآلام فصبرتْ!

-ألا يحق لكل قط أن يباركها؟-

عاشتْ (موناليزا)

سعادة، دفئا، ونعيما

في (بوغاز) البسمات

في حضن الرحمات

في دنيا الكلمات.

***

بقلم:  محمد الشاوي

أكاديمي وناقد فني

أرسلت الشمس وسط جزر من الغيوم القطنية المتناثرة شعاعاً أضاء واجهات المحال التجارية بلونها القرمزي. نزل من غرفته الواقعة في الطابق الثالث وهو يركض على السلالم ويقفز بنقلات سريعة بحيث يخطو سلمين مع كل خطوة، حتى خرج الى الشارع واختلط مع صخب السيارات وحركة المارة، يدس يديه عميقا في جيبه وكأنه يبحث عن شيء تذكره للتو. استقل هادي كالعادة الحافلة رقم ٢٨ ذاهبا الى العمل.

جلس في مقعده متأملا، ومن جوف الحافلة اخترقت نظراته زجاجة النافذة، لتحوم في فضاء الكون باحثة في ادغال الامازون الكثيفة تحت سماء مفتوحة، ذلك الكنز الغائب القابع في بئر النسيان. انهمرت عليه المشاعر وأحاطتَه هالة من الذكريات المضيئة والموجعة معا.

شعر بإحساس متجدد ولا شك لقائه الأول بها وهي مستندة الى حاجز طويل تحت النجوم الساهرة وأكاليل الزهور المتناثرة في ساحة الحمراء ذات مساء قبل أعوام. كان يعيش سفرات العشق المترعة بالآمال والطموحات، وبذل أقصى ما لديه من أجل الحفاظ على أواصر تلك النبتة الفتية التي بدأت تنمو وتكبر في أحشائهما.

وفي ذلك اللقاء الدافئ الممتلئ بحنين الشوق وارتواء ضوء القمر، طافت على شفتيها ابتسامة عذبة وفي عيونها برقت ضياء زاهي كعبير القرنفل الذي ينعش الأنفاس، وشعرها الكستنائي كان يتماوج في الهواء. احتسى خمر العشق من نهديها، وانتشى من سكر أريجها حتى ثمالة الكأس.

كان صفير الريح في تلك الساعة، عند منتصف الليل يقلق الطيور في أعشاشها، وفجأة ارتفع حفيف الأجنحة مخترقة أغصان الأشجار، ومخلفة وراءها سقوط بعض الأوراق الذابلة. احساس أليم كسحابة سوداء تواري القمر عن الطلوع. هل كان يجهل شيئا خافياً حول عاطفتها؟ تدحرج سؤال الى ذاكرته ثقيلا.

مرافئ الحياة ليست مفروشة بالورود، فالطريق وعرة والعقبات هرمة، وفي خطواتها تنبثق عبء لا مرئي يجعلك ان تفكر بجهد أكبر عند الخطوة القادمة، ان تلتمس جهدا عظيما لردع كل ما يحول الإدراك في تحقيق أمنياتك وتطلعاتك.

وفجأة داهمه الفراق في لحظة الوداع الحزين، عندما اختفى ضوء القمر في ليلة باردة تخنقه الدجى، وعلى أوراق الأشجار تجمدت قطرات الندى، أتعبه الانتظار وهو في تأمل مخيب من ظهور النجمة المتوارية القاصدة سبيلها نحو مضجعه كي تخفف عنه وطأة الاكتئاب وتنير من حوله الظلام.

وصلت الحافلة إلى محطتها المحددة وتوقف الذهن عن إرسال جولات الذكريات. فُتحتْ باب الحافلة، وطأتْ قدمه الأرض وساد الضجيج ثانية.

***

كفاح الزهاوي

عيناكِ طَنْجَرَتَا عجينْ

ورأسُك ِملحّةٌ مُدَوّرةْ

وخدّك ِلحوحةٌ "مُشَفَّتَةْ"*

بزنجبيل ِ قاطِرةْ

تَحِنُّ للزبادي والحقينْ!

*

حبيبتي ..

قد مرَّ عيد الحبِّ دون قُبلة ٍ ..

أو وردة ٍ ..

أو بذلةِ

فلتقبلي مني إذاً عُذري

وأسمى مودتي

بكلِ حرف ٍ- من حروفي - عابق ٍ

وكل حب ٍ- في فؤادي - صادق ٍ

وسامحيني إنْ أنا

أخفيتُ عنك ِ أنني

قد بعتُ حتى دابَّتي

ولم يَعُدْ معي سِوى

خمسينَ هما ً

في فؤادي عاكِفين ْ

*

وسامِحيني كل حينْ

لأنني موظف ٌ

لاأمتلك حق إسبرين ْ!

ولتفخَري بي أنني

على ظروفي ِ هذه لم أَسْتَكِنْ

ولن أكون أبداً

لهُمْ ظهيراً..أومَدينْ:

صُهْبُ السِّبال ِ المُجرِمينْ

وهيئة ..المُؤمْرَكين ْ

والآبِقونَ ..

القانِعونَ

السافلونَ

المُفلِسونْ

من انبطاح ٍعاجلٍ

إلى انبطاحٍ آجلٍ

دنيا ..ودين ْ!؟

حبيبتي..عمَّ الظلام ُ بيتنا

فلتشعلي صباحنا في ليلنا

فالكهرباء ُ أُقْعِدَت ْ لحينْ!؟

والديزل الملعون والبنزين

والغاز اللعينْ

لا زالوا في تسارُع ٍ...

وفي جنون ٍ صاعِد ٍ...

بنارهم ْ ..

كم نصطلي يا (منقِذونْ)!

فماذا أنتم فاعِلون ْ؟

هل تُخْرجونا من جحيم نارهمْ؟

أم تتركونا عُرْضة ً للدائِنين ْ؟

أو فُرْ جة ً للشامِتين ْ؟

أو لعبة ً في كف حيتان السمينْ!

*

حبيبتي..لا تسخري مني

اذا مشيتُ حافياً ..

مُبهذلاً ..

بشبشب ٍ مُقَطَّع ٍ

وبنطلون ٍ قاحِل ٍ مُرَقّع ٍ

على شميز ٍ أغبر ٍ حزين ْ

*

فنحن ُ منذ (خمسة ٍ)

في حالة ٍ با ئسة ٍ

تشكوإلى الله المعينْ !؟

*

تدهورتْ أوضاعنا

وضِعنا في فراغِنا

ترثي لنا كل الدُنا

يرثينا في كتاب ِ أُمِّه ِالجنينْ !

*

لاسمنَ.. لاصابونَ

لاحليب.. لازُبده

ولاحلوى عَسلْ

*

لاثوم..لابسباس.. لاطماط

لادَقّوس.. لاحُلبهْ

ولافحْل بصلْ

*

لا طُعْم.. لا إِدَام..

لاطبيخ..لابطاط..لاسَلْتهْ

ولا شيء بدلْ

*

لا أرز .. لاشايَ

ولا"ثِخْلال"* طحينْ!

"القعْسُ"* حلّ ضيفنا

فقرقرتْ "أمغالنا"*

ونمناجائعين!

فماذا لونشدنا(حَتْفَ أَنفِنا)..

وماذا لوأكلنا دون رحمة ٍ أطفالنا..

كي لايجوعوا ..

أويعيشوا خائفينْ!؟

*

حبيبتي..

أقولها حبيبتي

وأعترف بأنك ِ حبيبتي

لأنك ِ حبيبتي

وحُبُّك ِ يقينْ !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

16/3/2017

..............

* مُشَفَّتَة: عامية تعني: مهروسة بمرق أوحقين

* ثِخْلال: عامية تعني: النزر اليسير من الدقيق

* أمغال: عامية تعني: أمعاء

* القَعْس: انعدام الودك والسِبْغ

 

زرناك لكنَّ العيونَ تقولُ:

لم يشتفِ بَعدُ الفؤادُ عليلُ

*

زرع الزمانُ بأضلعي آهاته

وأذاقنا ما لم يذقه خليلُ

*

اشتاقُ أن ألقاك كل هنيهةٍ

عيني عليك  متى يحينُ وُصُولُ؟

*

ما كنتُ معتقدًا بأنَّك راحلٌ

وبأنّ بُعدكَ يا بُنيَّ يطولُ

*

كنا نحضّر للزفافِ أمورَنا

فرحين، يسبقُ خطونا التهليلُ

*

عجبا كبرتَ،  وكنتَ طفلًا حالمًا

ومضيتَ لا رزءٌ  ولا تضليلُ

*

كم كنت منتظرا نجوم مجرتي

حلَّ الظلام، ولم يُضِئْ قنديلُ

*

يا طول ليلي بعده، يا خيبتي

أنّي لهجر أحبتي لخجولُ

*

ساجٍ على بابي أحدثُ خافقي

لا ردَّ يأتي منك أو تعليلُ

*

ولدي أصارعُ  كلَّ يومٍ خيبتي

وألومُ نفسي والملامُ طويلُ

*

واقول (لو)؛ لكنَّ هذا الـ(لو) تخ

ذلني، ولم يأتِ بها محصولُ

*

في كلِّ زاويةٍ سمعتُ ضجيجَهُ

ويقولُ إنَّ رجوعَه مأمولُ

*

لكنّ صوتا يأتي منه ويدعي

من قال انّا نلتقي لعذولُ

*

فعلام هذا الصمتُ يقتلُ بهجتي

وتحيطُنِي أنّى نظرتُ طلولُ

*

وفقدتُ بعدَ الفقدِ كلَّ مسرةٍ

فأنا  وحزني قاتلٌ وقتيلُ

*

وشطبت  تاريخًا ضفرتُ سنينَهُ

وبذلتُ ماءَ الوجهِ وهو نبيلُ

*

يا ليتَ ذاك الطيفَ كان سحابةً

مرّتْ وياليتَ الهمومَ تزولُ

*

ليتَ الزمانَ يعودُ بعدَ قطيعةٍ

ويعودُ ذاك الزهوُ، وهو يقولُ:

*

ابدًا سابقى بينكم وعليكمُ

منّي سلامُ اللهِ والتّهليلُ

***

د. جاسم الخالدي

دٓعْ عنكٓ فذلكةٓ الكلامِ ولمعَها

غُصْ في لِجاجِ النصّ ِ

وابحثْ عن لآلئهِ

وعن دُرٓرِ المعاني والجمالِ

الكامناِتِ بقعرهِ

واطمحْ لمرجانِ المشاعرْ…

ما كان تصفيفُ الكلام ورصّهُ

في قالَبِ الوزنِ المهيّأ

أو على غٓبٓش ِ الغموض ِ

أوِ ابتذالُ القافياتِ المقحماتِ

يُعدّ شعرًا، إن خلا من دهشةٍ

تسبيكٓ ثمّ تفكُّ أسركٓ

كي تحلّقٓ في الفضاءِ الرّحبِ

منتشيًا …كطائرْ

***

د. عناد جابر

أعملْتُ حرفي بنارِ الحبِّ فاحتَرَقا

وانساق ليلي يناجي الهمَّ والأرقا

*

ما كنْتُ أحسَبُ أنّ الشّوقَ يقذِفُني

بينَ الرّموشِ فأغدو الحِبرَ والوَرَقا

*

أشكو إليكِ غرامًا ظلَّ يجلدُني

والنّارُ تلسعُ قلبًا بالهوى وَثِقا

*

والوجدُ يكوي بالهجرانِ أوردتي

والشّوق يُزهرُ من أعماقِهِ حَبَقا

*

أشكو ولكن رغم الحزنِ يُمطرني

قلبي الجريحُ بدِينِ الحبِّ قد نَطَقا

*

أشكو إليكِ وأنّى رُحتُ شاغَلَني

طيفٌ بكلِّ سماءٍ رُمتُها بَرَقا

*

ما حيلَتي وأنا عيناكِ تأسِرُني

والحبُّ نحوَكَ شقَّ الدّربَ فانفَلَقَا

*

ما حيلتي وإليكِ الشّوقُ يسحبني

والحبُّ دونَكِ في أحزانه اختَنقا

*

كلُّ الجهاتِ تعودُ إليكِ تأخذُني

والعشقُ يرسمُ نحوَ الحلوةِ الطُّرُقا

*

ما لي أجدّد يا عمري مبايعتي

والقلبُ يبحرُ في أحزانِهِ قلقا

*

أنتِ المصير إليكِ الشّوقُ يكتُبُني

والحبُّ يُزهرُ في بستانكم عَبِقا

*

حاولْتُ غيرَكِ ألقى في الهوى فإذا

بالقلبِ ذابَ.. من الأحزانِ قد شَهقا

*

حاولْتُ غيرَكِ علّ الحبَّ يتركُني

حاولْتُ لكنْ قَلبي فيكِ قد عَلِقا

*

حاولْتُ غيرَكِ لكنْ دونَ فائدةٍ

أنّى اتّجهْتُ إليكِ القلبُ قد خَفَقا

*

كم كنْتُ أحسَبُ أنّي في الهوى بطلٌ

حتّى رأيتُ شموخي فيكِ قد غَرِقا

*

مهما الفُراقُ فإنّي فيكِ مُنحصِرٌ

ألقى غرامي قويًّا كلّما عَتِقا

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

 

قررت هذه الساعة أن تضعي حدا لمعاناتك الطويلة وتعبك المستمر، صبرك فاق الحد و نضالك يسير في طريق مسدود، لا كلمة عرفان ولا نظرة من عين، تشعرك إن إيثارك اللامحدود لم يكن عبثا وان حبك آتى بعض أكله، هذه الساعة فقط تمتلكين القوة التي طالما حلمت بها، وتقهرين ضعفك ... لمَ الاستسلام ؟ولمَ يتواصل معك نزيف القهر، وماذا جنيت من سهرك الليالي الطوال بجانب سريرها تعتنين بها، الأمهات يحلمن أن يكبر الأولاد وتنمو البنات ليتمتعن بالحياة وقد أزهرت الشجرة المعطاء، وأينعت ثمارا من زهرات جميلة، تمنح شذاها الجميل فماذا تنتظرين أنت ؟ تحملت أوجاع الحمل وتعذبت أثناء الولادة، وسهرت بجانب المهد ليالي طوال تأملين أن تثمر جهودك بكلمة شكر او نظرة حنان، أو لفتة محبة،تنسيك كل ما قمت به من جهود، هذه اللحظة تقررين أن تتناسى كل تعبك المضني، فالحياة جدير بها الأقوياء، أما المساكين الضعفاء فلا يستحقون أن يعيشوا، ولدت قطعة من اللحم لا تملك الأحاسيس الخمسة، انتظرت أن تعبر عن مشاعر، ان يرتسم على محياها معنى، انتظارك طال بلا فائدة، وجهها مبهم،فمها المفتوح دائما يطالب بالمزيد من الطعام، تلتهم ما تقدمين لها بدقائق، وتفتح فمها من جديد، حتى مضغ الطعام لا تعرفه، تعبت وبلغت معاناتك حدا لا يمكنك المواصلة، أنت إنسانة، هرب منك زوجك وابناك، وخاصمتك ابنتك قائلة ان زوجها لايفهم ترددك السقيم هذا،طالبوك جميعهم أن تضعي حدا لهذه الحياة العسيرة التي تكتوين بنارها، وأنت وحدك المسؤولة عن هذا الاستمرار، عطفك يقف حائلا دون تحقيق ما يريدون، هي قطعة لحم لا تشعر ولا تنطق، حتى كلمة ماما التي حلمت بها وناضلت وتحملت كل الصعاب من اجلها، لم تعرف كيف تقولها، مخلوق فريد لا يملك القدرة على شيء، الطفل حديث الولادة يضحك حين تناغينه وتلعبين معه، يتعرف الى أمه من بين العديد من الناس، ضاعت أحلامك سدى وخابت آمالك،وغادرك الزوج والابناء آملين منك ان تقرري وأد معاناتك المستمرة، كي يعودوا إلى عشك الدافيء الحاني..

لا صعوبة في تنفيذ ما اعتزمت عليه، تبتعدين عن مكان نومها، وتحاولين الخروج من المنزل، مهامك كثيرة وعليك انجازها بين شراء الحاجات الضرورية ومتطلبات المعيشة، كثر دائنوك ولم تعد وظيفتك قادرة على الوفاء، بمتطلبات الفم المفتوح، فم نهم لا يشبع ولا يرتوي، تظلين تضعين فيه ما عندك من لقم فيزدردها طالبا منك المزيد، أين يمكنك الهروب؟ لعنة حلت عليك وكنت تظنينها نعمة،تنسيك تعب الأيام وسهد الليالي الطوال، حرمت نفسك من الكثير، ومنحتها عن طيب خاطر، تحبسين نفسك في المنزل، رغبة في تنفيذ ما تطلب منك، لا تعرف الكلام ولا تستطيع المشي، عيناها خاليتان من التعبير،لا يبدو عليها معرفة من تكونين، تفتح فاها، تطلب منك المزيد وأنت متأهبة للطاعة، لا تعرفين ما العمل

- اخرجي سيدتي من المنزل، وامكثي هناك ساعات ولا تعودي قبل يوم كامل..

هل حقا حان وقت الخلاص ؟ وهل تستطيعين فعلا أن تنفذي ما أشار به عليك الطبيب، كلهم نصحوك بإنقاذ نفسك من براثن هذا المخلوق الغريب، الأمل ما فتيء يداعب خيالك، من يدريك لعل الطب يتقدم،ويكون قادرا على إنقاذها مما تعاني منه من تخلف،وضمور الأحاسيس، من يعرف ماذا تخبئ لك الأيام ؟ لم يطاوعك قلبك على الإقدام،على فعل يأباه لك القلب وترفضه العواطف، ولكن أي قلب هذا وأنت ظمأى لمن تناديك بماما، وقد بذلت من اجلها كل ما تستطيعين،وهرب زوجك واولادك ومعارفك وأصدقاؤك، طالبين منك التسلح ببعض شجاعة يتطلبها الموقف السليم

قررت هذه اللحظات ان تنقذي نفسك وان تبدئي من جديد، لعل الشمل يلتم،والجرح الغائر في الأعماق يندمل، والخيبات المتلاحقة تبرأ أسقامها المعشعشة في الروح، لا يتطلب الأمر جهودا فوق العادة، وسوف تنقذينها أيضا مما هي فيه، فلا نفع فيها.

- فكري بالأيام سيدتي، ماذا يمكنها ان تفعل حين يحل بك مكروه ؟ ستظل وحيدة، إنها عاجزة عن أي شيء .

تستمعين الى النصائح،تنهمر عليك من كل الجهات، وصراعك رهيب،ليس بمقدورك أن تبتي بالأمر، لماذا لم يقم بهذا العمل زوجك او ابنتك ؟ اوابناك الغائبان ؟ولماذا تركوك وحدك مع هذه المهمة الشاقة ؟

أعباء الحياة تشتد صعوبتها عليك، وأنت وحيدة مع مخلوق لا يعي شيئا ويطالبك بإطعامه باستمرار

- قلبك مريض، رعايتها والقيام بكل أمورها وتنظيف ما تحتها، يتعب قلبك ويضعفك ..

- كوني قوية ونفذي ما اشرنا به عليك

تنظرين إليها، خالية من كل صفات الإنسان، كتلة ليست متناسقة تأكل بشراهة..

- إنها مخلوق غريب، توجد بنسبة واحد بالمليون

- ستعذبك، تفترس قدرتك، تقضي على طاقتك، ليس لديك الخيار

تسيرين في الشوارع المتعددة، شارع يفضي بك إلى آخر، قلبك يفكر بها، هل يمكنك الاستمرار في عمل ما قررت القيام به، وقلبك هل تستطيعين إسكاته، الحيرة تستبد بك، هجرك الجميع، أدركوا ألا نفع يرتجى، الطب عاجز، وإمكانات الشفاء مستحيلة، وقد خلت المخلوقة من أي رغبة، تمضي الساعات طويلة كئيبة، هل تواصلين؟

***

صبيحة شبر

16 آب 2010

 

 

منذ ضياع فلسطين

ونحن ننتظر لمن لا يلأتي

الكل يكذب على الكل

ومؤامرات داخلية وخارجية

وعنتريات متملقة

كثرة الاسلحة في الثكنات

وكثرة الهزائم على الجبهات

حتما اننا فقاعات لا تجيد الرقص

صرنا نبحث عن بنادق فارغة

لحشو الافواه الجائعة

ومع مرور الوقت

وجدنا انفسنا

في غرفة العنايات الفائقة

نعاني من نزيف فصيلة دم نادرة

وخوفا من قسوة الطقس

ننتظر من الربيع

ان يزور غاباتنا المتوحشة

*

قبل ان يحين المخاض

ندلوا بدلونا

نلقي بصنارتنا

نصوب بندقيتنا

نحو اهداف تشابهت علينا

ثم نروض انفسنا

على ركوب الامواج الغادرة

ونبحربعيدا نحو شواطئ

لا ترغب فينا

ونقول لانفسنا:

ليست كل الطحالب

تشبه الاسماك

وكل الحلول

ليست بيد المد والجزر

فنحن نغزل

والزعيم يلبس

*

نسامر اوجاعنا

حول مدفأة عامرة بالجمر

ونعبث بأوتار

مشدودة في عنق عود

هل نحن بخير فعلا؟

***

بن يونس ماجن

مثقلة بالحزن منفضة السجائر

لا أعقابَ سجائر تلسعها

لا بعض رمادْ

تبقى، عالمها المنفى:

رفَ مهجور

قد تحملها يوما ما كف

لمكان آخر  كي تشعر بالنار تلامسها

ولزوجة بعض الأعقاب.

2

أتنفس في

كل صباح

حرفا أبديا

يمليه علي اسمك

3

عيناك طالعتا الوجود  

فكن سرا مبهما

*

حتى السراب بفتنة  

أخشيت يقتلني الظما؟

4

هل تسمعينه إنّه يتودد

وبشعره وصلاته  يتعبد

*

أنفاسه بشذا البخور تعطرت

ويضجّ من فرط النذور المعبد

*

تسنحضر الساعات بعض ظنونه

حتى يخال بأنّ بابك موصد

*

قد كان يأمل أن يهيم  بلفتة

فغدا ضحية فتنة  تتجدّد (لا تخمد)

*

ألِفَ المحال وهام في أوهامه

ليقال عنه شاعر متفرد

*

ماذا يضيرك لو عطفت بنظرة

تنفي الشكوك لما به يأتي الغد

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

في نصوص اليوم